من الاحتفالات الشعبية المصرية «موكب الدوسة»

 من الاحتفالات الشعبية المصرية «موكب الدوسة»

تغلغل التصوف في مصر  إبان العصر  العثماني في شتى نواحي الحياة، وتزايدت أعداد الطرق الصوفية؛ فوفد إلى مصر عدد من الطرق الصوفية كالطريقة «المولوية» و«البكتاشية»، فضلاً عن الطرق الصوفية المصرية، كالطريقة «الرفاعية» والتي تفرعت عنها طائفة «الدراويش السعدية» المعروفة بأعلامها وعمائمها الخضراء.

انتسبت إلى تلك الطرق الصوفية طوائف من مختلف طبقات المجتمع المصري، ويرجع ذلك إلى وطأة الظروف الاقتصادية والاجتماعية، التي ساهمت في اشتداد التيار الصوفي في تلك الفترة. وقد حرص المتصوفة وعامة أهل مصر إبان حُكم محمد علي باشا (1805-1842م) للمحروسة على الاحتفال بالمناسبات الدينية المختلفة بإقامة الموالد، وبالأخص الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وكان ثمة احتفال شعبي مصري، وطقس متمم لمظاهر الاحتفاء بمولد خاتم المرسلين يُعرف بـ «موكب الدوسة».

الطقوس الاحتفالية
اشتُق اسم هذا الموكب من الفعل «داس»، ويقصد به الوطء بالأقدام، وتعد الدوسة نوعاً من الطقوس الاحتفالية، يقوم بمقتضاها شيخ الطريقة السعدية في المولد النبوي، وبعض الاحتفالات الدينية بالمرور بحصانه على أجساد أتباعه من الدراويش في موكب مهيب، دون أن يظهر على الراقدين أي تعبير عن الألم، كرمز لكرامات الصوفية السعدية، وإظهار القوة والبأس لدراويش الطريقة. ويُرجح أن «الدوسة» ظهرت في مصر بعدما وفد إلى مصر الشيخ «يونس السعدي الشيباني» - المدفون في قرافة باب النصر بالقاهرة- وشق العاصمة راكباً جواده، ومر على قوارير زجاجية فلم تنكسر، فصّدق أتباع الشيخ المذكور في كراماته، وبالمبدأ ذاته؛ قاموا لاحقاً بابتداع موكب يمر فيه شيخ الطريقة السعدية على الدراويش من دون أن ينتابهم مكروه.
وقد لفت موكب الدوسة انتباه الرحّالة والمستشرقين لغرابة طقوسه، وارتباطه بمظاهر الحفل الديني الشعبي. ولم يقم هذا الاحتفال سوى بالعاصمة، ولم يسمع به أهل الريف أو صعيد مصر. وقد اقترن موكب الدوسة بميدان الأزبكية؛ موضع الاحتفال المشهود بالمولد النبوي، بالقرب من منزل الشيخ البكري، نقيب الأشراف، وشيخ شيوخ الطرق الصوفية بمصر. وكان يُعد له مبكراً بفرش الحُصر والبُسط، وإقامة الخيام للدراويش، وبحضور الحواة وبائعي الحلوى. ويعد المستشرق الإنجليزي الأصل، المصري الهوى إدوارد وليم لين أهم من وصف موكب الدوسة؛ فقد عاين الاحتفاء بالمولد النبوي عام 1834م، ووصف بكلماته طقوس المشهد الاحتفالي بكافة مظاهره الشعبية، فأشار إلى شهود العامة لموكب الدوسة في اليوم السابق لليلة المولد بالأزبكية، وخروج شيخ الطريقة السعدية، محمد المنزلاوي، قبل الموكب متجهاً من مسجد الإمام حسين، نحو منزل الشيخ البكري، يصاحبه نفر عظيم من أتباعه الدراويش ومن عامة أهل مصر.
وكانت الاستعدادات قائمةً على قدم وساق، بحضور جمع غفير من الطرق الصوفية، وأهل مصر من المسلمين والمسيحيين على السواء؛ فالحُصر مفروشة على مسافة ثلاثمائة متر، تغطيها أجساد الدراويش المتلاصقة، وجهوهم إلى الأرض، وأرجلهم ممدودة، وأذرعهم تحت جباههم، وهم في هذه الأثناء يذكرون الله. وقد مر مجموعة من الدراويش الحفاة على ظهور إخوانهم المستلقين أرضاً، إيذاناً ببداية الموكب، حيث جاء الشيخ وبدأ يخطو بحصانه بخطوة واثقة على ظهور الدراويش، يقوده شخصان، يطأ أحدهما الدراويش المنبطحين فوق أرجلهم أحياناً، ويمر الآخر فوق رؤوسهم، ثم هتف المشاهدون بصوت ممدود: اللـــــــــــــــه!

 شواهد المؤرخين
وقد ذكر «لين» أن غالبية الدراويش لم يصابوا بسوء؛ بل وثب كل منهم واقفاً بعدما مر الحصان عليه! نظراً لكرامات شيوخ السعدية التي منحت الدراويش «قوة خارقة» مكنتهم من تحمّل مرور الحصان على أجسادهم من دون أن يلحقهم الأذى!
كما وصف الطبيب الفرنسي «كلوت بك» في كتابه البارز «لمحة عامة إلى مصر» ما شاهده إبان موكب الدوسة، وتحدث عنه بشيء من التفصيل، واصفاً الاستعدادات العظيمة التي تسبق الاحتفاء بالمولد النبوي، ومبالغة الصوفية السعدية في إظهار الأبهة والعظمة، باعتبارهم محور هذه الاحتفالية الشعبية الدينية. وقد رأى «كلوت بك» نحو مائتين من الدراويش منكبين على وجوههم فوق الأرض، وكأن أجسادهم صارت سجادة بشرية! لا يلبث الشيخ البكري بالمرور عليها ممتطياً جواده، يتبعه بعض مريديه سائرين عليها، والعامة مصطفون على الجانبين يكبرون ويباركون!
ويبرز المؤرخ إلياس الأيوبي قسوة هذه البدعة المشينة المعروفة بالدوسة إبان عهد الخديو إسماعيل باشا (1863-1879م) في طيات كتابه قائلاً: «فوق صفوف الدراويش المنطرحين أرضاً، فرغ المنوط به أمر ملاحظتهم من تصييرهم تماماً إلى حال الشارع المرصوف، الذي لا يبرز فيه حجر عن المستوى العام، فيدوسهم بلا مبالاة، تطقطق أعضاء من تطقطق أعضاؤه، وتنخلع عظام من تنخلع عظامه، ويتهشم من يتهشم. فما يصاب بأذى إلا من قل إيمانه، أو ثقلت كفة آثامه، على ما هو في اعتقادهم الذي ورثوه عن الجاهلين!».
ولما كان طقس الدوسة أبعد ما يكون عن الثقافة الصوفية في الإسلام، ويمثل انحرافاً فكرياً للاعتقاد في كرامة شيخ الطريقة، التي تحجب الضرر عن الدراويش المتمددين على الأرض، فضلاً عما يترتب على هذه الأفعال من ضحايا؛ فقد بدأت أصوات عدة تعلو معلنةً رفضها لهذه الممارسة القاسية، وبخاصة بعض القناصل الأوربيين. وقد حاول «إسماعيل» إبطال بدعة الدوسة، إلا أنه لم يتمكن من القضاء على هذه الاحتفالية الشعبية، لمعارضة مشايخ الطرق الصوفية، وعلى رأسها الطريقة السعدية. لكن مجهوداته في هذا السبيل إن لم تثمر في عهده؛ فقد مهدت الطريق لمن سيخلفه من حُكّام الأسرة العلوية.
وأشار المؤرخ الإنجليزي ألفريد بتلر في كتابه «الحياة في البلاط الملكي المصري» في غير موضع إلى استهجان الخديو توفيق (1879-1892م) من موكب الدوسة، وما يصاحبه من مظاهر أودت بحياة كثير من الدراويش، بيد أنه لم يكن ليقدر على إلغائها بقرار مباشر؛ خوفاً من غضب أتباع الطرق الصوفية، وكان عاقداً عزمه على إلغائها بشكل تدريجي. وقد أشار أحمد شفيق باشا، رئيس الديوان الخديوي إبّان عهد توفيق في مذكراته، إلى أن إبطال هذه البدعة الشعبية جاء على يد الخديو توفيق. فبعد مرور بضع سنوات، مات الفرس المخصص لاحتفال الدوسة، ثم لقي الشيخ البكري وشيخ الطريقة السعدية حتفهما تباعاً، فبدأ توفيق باتخاذ إجراءات فاعلة في هذا الشأن، بنقل مقر احتفال المولد النبوي إلى أرض فضاء بالعباسية، ثم أصدر أمراً عام 1880م بإلغاء الدوسة بالاتفاق مع شيوخ الأزهر الشريف. وفي العام التالي، أي 1881م، تولى شيخ جديد من بيت الشيوخ البكرية نقابة الأشراف، ووافق الخديو توفيق في مساعيه لإبطال موكب الدوسة، فيما احتج مريدو الطرق الصوفية لفترة. وما لبث هذا الاحتفال الشعبي المتطرف أن اختفى تماماً، بعد أن كان ركناً ركيناً في الاحتفال بالمولد النبوي لما يقرب من قرنين من الزمان، في تقليد مخز لا يمت للدين الإسلامي أو مظاهر الاحتفاء بميلاد خاتم المرسلين بأي صلة .