رحلة ماركو بولو إلى الصين وأثرها في أوربا

رحلة ماركو بولو إلى الصين وأثرها في أوربا

شكَّلت رحلة ماركو بولو (1254 - 1324)، إلى الشرق الأقصى عامة والصين خاصةً، نقطة تحول بالغة الأهمية في ثقافة الغرب عن هذا الشرق. ومع أن الأوربيين اعتادوا، منذ أيام الرومان، على ارتداء الحرائر الصينية وتناول التوابل الهندية، إلا أنهم لم يعرفوا شيئاً عن البلاد المنتجة لهذه السلع، ولا الطرق التي سلكتها إلى الأسواق الأوربية، لأن مصادر الغرب عن الشرق، قبل ماركو، كانت مستمدة من الكتاب المقدس وما كان يرويه التجار والصليبيون من حكايات. 

خلال الحروب الصليبية، جرت اتصالات بين القوى الأوربية والمغول الذين كانوا القوة الرئيسة في آسيا خلال القرن الثالث عشر، حيث قَدِمَ قراقورم (عاصمة المغول آنذاك) سفارتان؛ الأولى عام 1245 من طرف البابا أنوسنت الرابع والثانية عام 1253 من قبل الملك الفرنسي لويس التاسع. 
وكان الهدف منهما محاولة تحويل المغول من الوثنية إلى المسيحية وإقامة تحالف بين المغول والصليبيين ضد المسلمين. ولكن لم يتحقق شيءٌ من ذلك، وبالتالي كان على الغرب أن ينتظر أحد شباب مدينة البندقية، وهو ماركو بولو، ليقوم برحلته إلى الصين ويفتح أبواب الشرق الأقصى عامةً والصين خاصةً أمام الأوربيين.

ماركو في بلاط الخان
جاءت رحلة ماركو إلى الصين في الوقت الذي انقسمت فيه الإمبراطورية المغولية، التي أسسها جنكيز خان (ت 1226)، إلى أربع ممالك هي: مملكة مغول القبجاق في شمال البحر الأسود، ومملكة مغول فارس، ومملكة آسيا الوسطى، ومملكة الخان الأعظم وموطنها الصين وعاصمتها بكين.
وتدين هذه الممالك لهذا الخان بالولاء والطاعة. وكان الخان الأعظم في أثناء رحلة ماركو إلى الصين وإقامته فيها هو قابلاي.
ولد ماركو في مدينة البندقية عام 1254، وكان والده نيقولا وعمه ماثيو قد قاما برحلتين إلى الصين، الأولى عام 1260 وكانت رحلة تجارية إلى منطقة البحر الأسود وبلاد القُرم، ولكن لم يتمكنا من العودة إلى البندقية فتوجها شرقاً إلى بُخارى، ثم إلى بلاط قابلاي خان في بكين، حيث استقبلهما بحفاوة بالغة. وعاد الشقيقان إلى البندقية عام 1269. 
وبعد عامين سافرا إلى الصين ثانيةً واصطحبا معهما في هذه الرحلة ماركو بن نيقولا. وصل آل بولو إلى بلاط قابلاي 
عام 1275 ، فرحب بهم أجمل ترحيب، واستقروا في الصين، حيث تفرغ نيقولا وماثيو للتجارة في حين تفرغ ماركو، الذي أتقن اللغة المغولية، لما يكلفه به الخان من مهام رسمية وخصوصية داخل الصين وخارجها. كما عينه حاكماً على ولاية ينغ تشاو. وأظهر ماركو خلال عمله مهارة وأمانة فائقتين لدرجة أثارت إعجاب الخان ودهشته. وبعد سبع عشرة سنة طلب آل بولو من الخان أن يأذن لهم بالعودة إلى وطنهم، إلا أنه رفض ذلك لحاجته إليهم. ولكن جاءت الفرصة عندما طلب قابلاي منهم مرافقة أميرة مغولية متجهة بحراً من مملكته للزواج من آرغون خان مملكة فارس. ووعد آل بولو قابلاي بالعودة ثانية بعد أن يقضوا فترة في البندقية. وكانت المفاجأة أن آرغون قد مات فتزوجت الأميرة ابنه ووريثه. وقبل أن يبرح آل بولو فارس جاءت الأخبار بوفاة قابلاي (1294)، فتابعوا طريقهم إلى طرابزون على البحر الأسود ثم القسطنطينية ووصلوا إلى البندقية عام 1295. 
وقد حمل آل بولو معهم عند عودتهم كميات كبيرة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة كالياقوت والعقيق والألماس والزمرد والفيروز وغيرها.
 وفي عام 1296 نشبت الحرب بين البندقية وجنوة ووقع ماركو أسيراً، وتصادف أن التقى في السجن بأسير من بيزا وهو الروائي روستي شيانو، حيث أملى عليه قصة رحلته إلى الصين وبلدان الشرق باللغة الفرنسية. وقد صاغها روستي بأسلوب روائي أخَّاذ. وأُطلق سراح ماركو عام 1299، وقبل وفاته عام 1324 وزع ثروته بين زوجته وبناته الثلاث.

مقتطفات من الرحلة
إذا كان بعض السفراء والتجار الأوربيين قد وصلوا إلى الصين قبل ماركو إلا أنه انفرد عنهم بأنه كان أول أوربي حظي بمكانة رفيعة في بلاط الخان، وأول أوربي كُلف بإدارة ولاية من ولايات الصين، وأول أوربي تعرَّف بعمق على حقائق المجتمع المغولي في الصين، وقدم صورة حية عنه في ميادين شتى، فتحدث مثلاً عن بعض عادات المغول وقال إن طعامهم هو لحوم الصيد والخيل والجمال ولا يشربون إلا حليب الأفراس. وذكر أن من أعيادهم عيد ميلاد الخان في الثامن والعشرين من سبتمبر، الذي يظهر فيه أمام الشعب في ثوب من قماش الذهب ويتلقى فيه الهدايا النفيسة من رعاياه، كما كان يرفع أبناء الديانات في الإمبراطورية صلواتهم بالدعاء له بطول العمر والعافية. ومن أعيادهم أيضاً عيد رأس السنة المغولية في أول فبراير من كل عام، ويسمى بالعيد الأبيض، لأن الخان ورعاياه يرتدون في ذلك اليوم البياض لاعتقادهم بأن هذا اللون هو علامة الحظ السعيد. ويتلقى فيه الخان الهدايا من الذهب والأحجار الكريمة والقماش الأبيض والخيول البيضاء. وأشار ماركو إلى الأديان السائدة في الإمبراطورية، وقال إن المغول كانوا وثنيين. وأكد سياسة التسامح الديني في المجتمع المغولي وأن الخانات يحترمون كل الديانات وأصحابها من مسلمين ومسيحيين ويهود ويشاركونهم أعيادهم الدينية. وقدَّم ماركو كشفاً عن ثروات الصين والبلاد التي زارها من ذهب وفضة وأحجار كريمة ومصنوعات ومزروعات.  وبيَّن مدى اهتمام الخان بالزراعة، وأنه كان يتفقد أحوال الفلاحين في أيام القحط والكوارث الطبيعية، ويُسقط الضريبة السنوية عنهم ويزودهم بالقمح والبذور. وكشف أن قابلاي كان أول من ابتكر العملة الورقية، وأنها كانت تُصنع من اللحاء الداخلي لأشجار التوت التي تستخدم أوراقها لتغذية دودة القز. وقد أُعطيت هذه العملة الشرعية والحماية كأنها مصنوعة من الذهب والفضة، وكانت تُختم بالخاتم الملكي، ويُعدُّ تزويرها جريمة عقوبتها الإعدام. وتحدَّث ماركو عن نظام البريد في الإمبرطورية، وقال إن شبكةً من الطرق كانت تربط العاصمة بالولايات، وقد شُيدت عليها محطات بريدية، والمحطة تتألف من مبانٍ ضخمة. ويُحتفظ في كل منها بأربعمائة من الخيول، حتى يتمكن العاملون في الدولة والسفراء من تبديل خيولهم المتعبة بخيول مستريحة. وقال أيضاً إنَّ من عادة الخانات أن يسلموا مبعوثيهم «اللوحة الذهبية» وعليها الخاتم الإمبراطوري. وهي تحمل أمر الخان بأن يحصل حاملها على وسائل النقل المجانية وتأمين سلامته وتزويده بالمؤن له ولأتباعه في المحطات البريدية من قبل حكام الولايات.
ومما يُؤخذ على ماركو أنه تجاهل في كتابه أهل الصين، وأن اهتمامه الأول كان الحديث عن الحكام المغول. فهو لم يذكر شيئاً عن حضارة الصين العريقة التي أفاد منها المغول أنفسهم وفي مقدمتهم قابلاي الذي تشرَّب أفضل عناصر هذه الحضارة وغدا شخصية متميزة عن أسلافه المغول بروحه الإنسانية نتيجة تأثره بالبوذية. كما يؤخذ عليه أنه لم يذكر شيئاً عما فعله أسلافه المغول، أمثال جنكيز خان وهولاكو، من دمار وخراب وسفك لدماء البشر أثناء اجتياحهم البلاد من منغوليا شرقاً إلى العراق وبلاد الشام غرباً.

أثر الرحلة في الغرب
لقد تصدَّر كتاب رحلة ماركو نداء، وربما كُتب عن لسانه، يحث فيه حكام الغرب على قراءته وجاء فيه «أيها الأباطرة والملوك والأدواق والمراكيز واللوردات والفرسان وكل من شاء من الناس معرفة تنوعات الأجناس البشرية، فضلاً عن تنوعات الممالك والولايات والأقاليم بكل أجزاء بلاد الشرق، اقرأوا هذا الكتاب من أوله لآخره فستجدون فيه أعظم وأعجب خصائص الشعوب». 
وبالفعل انتشرت أخبار هذه الرحلة انتشاراً واسعاً وأحدثت تأثيراً كبيراً في ثقافة الأوربيين وحياتهم، حيث وجدوا فيه ثروة معرفية حول تاريخ الصين والشعوب الآسيوية وجغرافيتها وتشكيلاتها الاجتماعية وتنظيماتها السياسية. كما أفادت الكنيسة الغربية من هذه الرحلة، حيث هرع المبشرون إلى الصين، اعتماداً على سياسة التسامح التي كان ينتهجها قبلاي خان، بل أصبح الراهب يوحنا كورفينو عام 1307 رئيساً لأساقفة بكين. أما التجار فقد كان حظهم أوفر، حيث انطــلقــــوا إلى المدن والأسواق التي ذكر ماركو أنها تغص بالأحجار الكريمة والذهب والفضة والتوابل والحرائر وغيرها. وقد سار هؤلاء التجار على الطرق والمسالك التي سار عليها آل بولو، وكان كتاب ماركو هو دليلهم في أسفارهم. 
كما أفاد الجغرافيون من الرحلة وقاموا بتعديل وتطوير معارفهم وخرائطهم الجغرافية عن آسيا عامة والصين خاصة، بناء على خبرات ماركو ومشاهداته.
حقيقة، لقد فتــــــحت الرحلة أبواب الشرق أمام الأوربيـــين وألهبت خـــــيال المكتــــــشفين أمثال كولومبوس وفاسكو دي جاما، الذين انطلقوا سعياً وراء كنوز الشرق وثرواته. وبذلك ربما أحيا ماركو برحلته أطماع الغرب التاريخية في هذا الشرق ومهَّد لاستعمار آسيا في العصر الحديث .