د. صالح العلي... المؤرخ ومنهجه كتابة التاريخ مسؤولية ورسالة

د. صالح العلي... المؤرخ ومنهجه كتابة التاريخ مسؤولية ورسالة

إذا كان لنا أن نختصر سيرة رجل التاريخ د. صالح أحمد العلي، فسنقول عنه إنّه من أساطين المؤرخين العرب، بل وواحد من شيوخهم الكبار، فهو مؤرخ، ومربٍّ، وباحث من الطراز الأول، وكان آخر ما تولاه من مناصب مواقع علمية، رئاسته المجمع العلمي العراقي (أعلى هيئة أكاديمية علمية عراقية). وفي عام 1989 فاز بجائزة الملك فيصل العالمية، وجاء في حيثيات منحه الجائزة أن «د. العلي يستحق الجائزة لتفوقه الرائع على جميع المؤرخين العرب والمسلمين في غزارة وجودة ما أنتج من دراسات رائدة ومعتمدة».

عَرفتُه منذ أن كنتُ طالباً في قسم التاريخ بكلية التربية إبان ستينيات القرن الماضي، واقتربتُ منه في دراستي العليا، حيث كان يرأس قسم التاريخ بكلية الآداب، جامعة بغداد، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، وقد أُعجبتُ به، وبفكره الوقاد، وبحرصه، وجديته، ونظرته الثاقبة لأحداث التاريخ، وفوق هذا وذاك صدقه، وتواضعه، وحبه لطلبته وزملائه، وثقافته الموسوعية التي أفدنا منها كثيراً.
أكمل دراسته في جامعة أكسفورد، وحصل على الدكتوراه سنة 1949، وكانت أطروحته بعنوان «التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة في القرن الأول الهجري»، وكان أستاذه المشرف فيها المستشرق الإنجليزي المعروف السير هاملتون جب Gibb. درّس في جامعات عربية وعالمية عديدة، منها جامعة هارفارد (1956 - 1957)، وحرر في موسوعات عالمية منها الموسوعة البريطانية ودائرة المعارف الإسلامية. وله من الكتب «محاضرات في تاريخ العرب»، و«دراسات في تطور الحركة الفكرية في صدر الإسلام»، ومن كتبه كذلك «الدولة في عهد الرسول» (في جزأين). وله أيضاً «المعالم العمرانية في مكة المكرّمة». وإلى جانب ذلك نشر بحوثاً تصب في مجال اهتمامه هذا، كما ترجم كتباً عديدة، منها محاضرات المؤرخ البريطاني المعروف ستيفن رونسيمان عن «المدنية البيزنطية والحروب الصليبية»، وكتاب لأرنست رامزاور بعنوان «تركيا الفتاة»، وكتاب لروزنتال بعنوان «علم التاريخ عند المسلمين».
ومن هاملتون جب أخذ منهجية البحث التي تميز بها المستشرقون، والتي تعتمد على التركيز والتعمّق في تحليل النصوص التاريخية. وكما كتب، فإن من أبرز ما تعلمه من أستاذه المستشرق جب هو «الاهتمام بالأسلوب وطريقة عرض الفكرة؛ فقد درَّبه مشرفه على الاقتصاد في الأسلوب من خلال ثلاثة أمور: التركيز، والتنظيم، والدقة: مقدمات وعرض ونتائج».
يرفض د. العلي الأحكام المسبقة عند كتابة التاريخ. وتقوم فلسفته في تفسير التاريخ على أساس أن لكل حادثة تاريخية أسباباً متعددة ودوافع معقدة، كما أن نتائج كل حادثة قد تباين نتائج غيرها، فقد تكون نتائجها متعددة، أو محدودة، كبيرة أو بعيدة المدى، بعضها ظاهر سهل إدراكه، وبعضها خفي يتطلب ذكاء وفطنة لكشفه وإظهاره. 
وهو إذ ركز على القرون الثلاثة الأولى للهجرة، فلأنها، كما رآها، تمثّل أوج إبداعات العقلية العربية، والأدلة المتوافرة تتركز على المصرين الرئيسيين، البصرة والكوفة، ومن بعدهما بغداد؛ وكتاباته مستقاة من منظور عروبي واضح، لكنه كثيراً ما كان يؤكد إبراز دور الإسلام في قيادة العرب لصوغ مشروعهم الحضاري الذي رافق مشروعهم السياسي المتمثل في الدولة العربية الإسلامية، حيث تكامل المشروعان مع بعضهما البعض، وصاغا صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإنساني. 
كان د. العلي، وهو يكتب التاريخ، يرفض أن تكون كتاباته أسيرة دراسات المؤرخين السابقين أو المستشرقين أو من يقرأون التاريخ الإسلامي قراءة دينية بحتة. وقد أدرك ذلك عندما قال إنه في كتابه «محاضرات في تاريخ العرب»، الذي صدر عام 1955، لم يسعَ، وهو يعرض للدعوة الإسلامية في مكة، إلى دراسة «العقيدة الإسلامية»، لأن ذلك، بحسب رأيه، من اختصاص الباحثين في علم العقائد. أما واجب المؤرخ فينحصر في دراسة تاريخ نشوء العقائد، وتطورها، وانتشارها. 
كما يؤكد أن دراسة التاريخ لا تستهدف التمجيد أو سرد الفضائل، وأن عرض الحقائق التاريخية وحده كاف لأن يكشف عن عظمة الإسلام، وإبداعه الأسمى الحضارة العربية الإسلامية.
في بحثه الموسوم «تفسير التاريخ» الذي نشره في كراس يحمل الاسم نفسه مع د. عبدالعزيز الدوري وآخرين سنة 1964، يحاول أن يميز بين الاهتمام بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية وأثرها في حركة التاريخ، وبين التفسير الماركسي للتاريخ، ويقول إن أي مؤرخ لا يستطيع أن يتجاهل العوامل الاقتصادية والاجتماعية، لأنها هي التي تحرك التاريخ، بينما التفسير الماركسي يضع الحوادث التاريخية في قالب محدد ويفسرها لكي تتلاءم مع ما يريد أن يصل إليه دعاة هذا التفسير، هذا فضلاً عن أن التفسير الماركسي للتاريخ يبسط التجربة الإنسانية ويعجز عن إدراك درجة تعقيدها، فالإنسان هو «الجزيئة» التي تكون التاريخ وتعقيد الشخصية في سلوكياتها وتصرفاتها ودوافعها الظاهرة والباطنة والشعورية واللاشعورية، وذلك كلّه يقف عائقاً أمام الإقرار بتفسير أحادي للتاريخ. وقال، وهو يشرح تأثيرات الفلسفة الطبيعية على الفكر الأوربي الحديث، إن الأخطر في الأمر هو محاولة تطبيق التفسيرات الطبيعية والعلمية البحتة على دراسة العلوم الإنسانية ومنها التاريخ. ويأتي بالأسباب، ومنها أننا لا نستطيع اختبار حوادث التاريخ أو ملامستها أو إخضاعها للتجربة المختبرية، كما أن المواد الخاضعة للدراسة في العلوم الطبيعية مواد جامدة لا تدرس بواطنها ودخائلها. أما المواد التي يدرسها التاريخ فهي كائنات حية تنم عن إحساس وشعور وإدراك باطني وتفكير. وفي الدراسة الطبيعية يمكن التجرد التام وتجنب التأثير الشخصي للدارس، أما في دراسة التاريخ فمن الصعب أن يتحقق ذلك.
 ومما قاله أيضاً إن المؤرخ يتأثر بأوضاعه الذهنية في الحكم على الأشياء، إما لعوامل شخصية من حب أو كره، وإما لاتجاهات فكرية معينة سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية، وهذا من أهم الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف المؤرخين في كتاباتهم ونتائج بحوثهم، على الرغم من اعتمادهم المصادر ذاتها.
 وكما يقول المؤرخ الإيطالي بنديتو كروتشه «فالتاريخ كله تاريخ معاصر»؛ ومعنى هذا أن المؤرخ لابدّ أن يعكس نزعاته وآراءه على ما يكتب وفق منظور عصره.
ويخلص د. العلي في بحثه إلى إقرار حقيقة مهمة هي أن افتراق التاريخ عن العلوم الطبيعية ينبغي ألا يبخسه مكانته أو عناية الباحثين بدراسته، فهو يدرس الإنسان على حقيقته، وهو السبيل إلى معرفة عادات الأمة وتقاليدها والعناصر المقومة لها، التي تكسبها شخصيتها الحضارية، ولابدّ للمؤرخ أن تكون له رؤيته وفلسفته وطريقته التي يتميز بها، وهذا من حقه، وألا يصبح فاقداً أهم مظاهر الإنسانية وطابعها المميز. وعلى مثل هذا قامت رؤية جديدة للتاريخ العربي الإسلامي قوامها الاهتمام بالتفاصيل الاجتماعية والاقتصادية للسيرة النبوية، وكانت تلك الرؤية قد تجسدت في سلسلة من الدراسات القيمة التي تميزت برقيّ المعالجة وعمقها وبالمستوى الرفيع للاستقصاء والسعي إلى تقديم الجديد. ومما كتب في هذا المجال بحثه الأول الموسوم «خطط المدينة المنورة» الذي نشره سنة 1956 والثاني عن «أحكام الرسول محمد [، في الأراضي المفتوحة»، سنة 1957.  

نحو تاريخ عام للعرب 
يعد د. العلي من المؤرخين القلائل الذين أرادوا أن يكتبوا تاريخاً عاما للعرب، وقد وضع دراسة تحمل هذا العنوان «كتابة تاريخ عام للعرب… أهميتها وبعض مشاكلها» سنة 1992، وفيها وضع خلاصة مشروعه في قراءة التاريخ العربي الإسلامي وكتابته، ومما قاله «إن التاريخ الذي نبحثه، هو ما تعتقد بصحته من المعلومات التي ذكرتها المصادر عن الحوادث والأحوال؛ فمعلوماتنا عنه غير مباشرة، وإنما عن طريق المصادر وأبرزها المدونات المكتوبة التي قد تكون غير دقيقة أو غير شاملة، مما يجعلها تتطلب جهدا لفهمها ومعرفة الصحيح منها وتقدير ترابطها ومدى أهميتها وآثارها على مجرى الحوادث المتزامنة معها أو التالية لها». 
يقيناً أنه كان يدرك أن التاريخ هو دراسة نشاط الإنسان في الماضي، وأن البحث التاريخي – بحد ذاته – هو عملية عقلية، والباحث يجتهد ليقدم الصورة التي يراها عن الماضي اعتماداً على ما توافر لديه من المصادر والمراجع التي لابد أن تكون رواياتها متوافقة مع أحكام العقل المتزن النفاذ. وفي هذا كله كان حريصاً الحرص كله على تطبيق قواعد النقد العلمي لاستخلاص الحقائق، وتثبيت الصحيح من المصادر التي نُشرت، والدراسات التي أنجزت في مواضيع متعددة الجوانب لأحداث كثيرة في مناطق كثيرة، وخلال أزمنة متواصلة، مما يجعلها - أي هذه الكتب العامة - تكفي لتكوين فكرة سليمة مقبولة عن المجريات العامة، للتطور، ولا يخفى أن تصوير التطور العام لتاريخ العرب يفيد من التقدم الواسع الذي حدث في دراسة عدد من العلوم الإنسانية المتعلقة بنشاط البشر وسلوكهم بما في ذلك علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وعلم السكان، والجغرافية، والإحصاء. 
وفي كتاباته التاريخية، كان يؤكد أن الدراسات التاريخية الشاملة للتاريخ العربي ينبغي أن يتعدد المساهمون فيها والمؤثرون في سيرها؛ لذا يقتضي عدم قصر البحث على صنف واحد من الناس، وإنما تشمل الملوك والحكام، وكذلك حركة الشعوب والجماعات، وتطور حياة الجماهير والعامة وما يتصل بهم مع عدم إهمال دور الأفراد على أن نتحاشى المبالغة في توسيع أو إضعاف دور كل منها. فالعنصر الأساس في الكتاب العام الشامل هو مراعاة التوازن بين الأجزاء ليكون تاريخ الأمة بجمهورها، ورجالها، وحضارتها التي ظهرت منذ أزمنة سحيقة، ومرت عليها تطورات وأحداث كثيرة مع الاحتفاظ خلال ذلك بخصائص وسمات مميزة تنسجم مع الكل العام لكيانها.
وكان، وهو يقرأ التاريخ ويكتبه، يرى أن ثمة علامات فارقة في مجراه العام لا يمكن تخطيها وتجاوزها، وخاصة من بعد ظهور الإسلام والهجرة النبوية حتى يومنا هذا، ومنها توضيح معالم الإسلام، وتنظيم المجتمع، وتثبيت أسس الدولة في زمن الرسول الكريم محمد [، وتوسعها، وتنظيم إدارتها الذي يبدأ بخلافتي أبي بكر وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، وتثبيت التنظيمات السياسية، والإدارية، والتوجهات الفكرية التي تكون خلافة عمر بن عبدالعزيز بداية متميزة لها، وتأسيس بغداد، والازدهار الحضاري والعلمي الذي تظهر بداياته في زمن خلافة أبي جعفر المنصور، وتمتد إلى مجيء المأمون، ونمو المدن، وتنظيم دراسة العلوم العربية الإسلامية، وتوسع الانفتاح على الثقافات الأجنبية، وتشجيع الترجمة، وتأسيس بيت الحكمة، وهي التي تبدأ بعصر المأمون ومن ثم إعادة التنظيم الإداري لدواوين الخلافة في بغداد، وكذلك في إدارة الأقاليم والأمصار وما رافق ذلك من تنامي الحياة الاقتصادية وتزايد الثروات وهي تبدأ بخلافة المعتضد. وبعدها بدأ الوهن يدب في جسم الدولة بسيطرة البويهيين، وتدهور نظم الإدارة، والحياة الاقتصادية، والإدارية والعسكرية، وصولاً إلى تحديات الغرب في أواخر القرن التاسع عشر، ومحاولات غزو أطراف الوطن العربي، وزيادة الاتصال الاقتصادي والاجتماعي والفكري وآثار ذلك كله على ما سمي بـ «النهضة العربية»، وتنامي الحركة القومية العربية، وزوال هيمنة الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتنامي هيمنة الغرب على الوطن العربي نتيجة اتفاقية سايكس - بيكو (1916)، وظهور الدول القطرية، وتأسيس جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتطورات التي شهدتها البلاد العربية. ولا ينسى أن يُذكّر قارئه بأن السبيل الأمثل للعرب في طموحهم للنمو الحضاري هو الانفتاح والحرية السليمة في التفكير بذاتهم وعرض أفكارهم في ما يجب أن ينجز لبناء حضارة حية متنامية تأخذ بنظر الاعتبار، قبل كل شيء، مصالحهم، ومستقبل أجيالهم، وعدم الركون إلى رد الفعل، وتلقي الضربات، ومواجهة التحديات، وهذا لا يكون إلا على وفق مشروع وحدوي أصيل يأخذ بنظر الاعتبار الصالح من الموروث، والمستجد وتنسيقه ضمن وحدة ظاهرية عامة تخيم على التنوعات، وتعمل على انسجامها مع التيار العام المعبر عن كيان الأمة، وخصوصيتها، ودورها في التقدم الإنساني.
ومن هنا كانت مهمة كتابة التاريخ عنده مسؤولية ورسالة .