باليه كارمن

باليه كارمن

لم تلبث قصة «كارمن» للكاتب الفرنسيّ  بروسبير  ميريميه P. Mérimée بعد النجاح الباهر الذي لقيته في حضورها الأوبراليّ بتوقيع الموسيقار الشهير جورج بيزيه G. Bizet، أن انتقلت إلى عالم الباليه، حيث تغيب الكلمة وتحضر الإشارة والحركة، فكان أن قُدّمت في عرضٍ جريء ومميّز لمصمِم الرقص الفرنسيّ رولان بوتي Roland Petit سنة 1949، الذي سنحاول استجلاء بعض جماليّاته من خلال ما يأتي:

يبدأ هذا العرضُ بمنظر عام لمبنى، نفهم أنه مصنع التبغ بتتبّعنا الكتابات المخطوطة على جداره الخارجي، والمنطمسة في أغلبها عدا كلمة تبغ Tabacos، يتحلّق حوله مجموعةٌ من الرجال، ينتظرون بفارغ الصبر خروج الفتيات العاملات، اللواتي يُقبلن بعد لحظاتٍ على الإيقاع نفسه الذي مرّ بنا في الأوبرا «La cloche a sonné»، ويضفن إيحاءً ثانياً بمهنتهنّ عن طريق السجائر الكثيرة التي يدخنّها، ويتنافس الرجالُ في إشعالها لهنّ.  
وبالعودة إلى المرجع الأوبراليّ، فإنّ كارمن ليست بعيدةً عنّا: ستأتي في أيّ لحظة، لا لتنشد الهابانيرا بإغراءٍ كما عوّدتنا، بل تظهر بهيئةٍ غاضبةٍ جدّاً، وقد انهمكت في مشاجرتها الشهيرة مع زميلتها، حيث تشتبكان رقصاً، وتهاجم الواحدة منهما نظيرتها بقسوة، وفي اللحظة التي تهمّ فيها بإدماء غريمتها، يقبل خوسيه الأرستقراطيّ - كما يوحي هندامه - ويمنعها، فلا تردّ عليه بغير ابتسامةٍ واعدةٍ بكثير، وتختفي وراء الكواليس.
وعبثا يحاول البحث عنها، فلايني يلاحق أيّ وجهٍ أنثويّ يراه، عساه يكون وجهها دون جدوى، وهنا يأتي دورُ الهابانيرا، التي يصدح لحنُها العذبُ، فنتوقع حضور كارمن أخيراً، ولكنّنا نُفاجأ بخوسيه وقد قلب الأدوارَ تماماً، فأخذ يرقصها بنفسه، ليكون هو المنادي لا المنادى عليه، يرافقه جمهورُ الرجال والنساء الحاضرين، مردّدين اللازمة الشهيرة «الحب طفلٌ غجريّ» Lamour est enfant de bohême، في لفتةٍ تجديديّةٍ تتداخل فيها فنيّاتُ الباليه مع فنّيات الغناء، وتتحوّل مجموعة الراقصين إلى كورسٍ مصغّرٍ، تتلاحم أصواتُه الندائيّة على بساطتها مع حركات خوسيه التعبيريّة، فتؤتي ثمرتها المرتقبَة أخيراً، بظهور كارمن التي طال انتظارها، ممّا يعيدنا إلى أجواء القصة، وما عمدت إليه من حيلٍ أنثويّةٍ ماكرةٍ، أمعنت من خلالها في التخفيّ والاختباء والمراوغة والكذب، وهو نفسه ما تحقّق في هذا العرض، ولكن عن طريق الحركة وتعابير الوجه والإيماء.  
تعود كارمن إذن، وعلى أنغام السيغيديل تبدأ قصة حبّهما، ولا يفوّت بوتي فرصة الإلماح إلى طبيعة الوسط الذي تعيش فيه وأصدقاؤها؛ وسط الغشّ والسرقة، والاحتيال، فلا يكفّ اثنان منهما (1) عن محاولة نشل محفظة خوسيه، ولا يتركانه إلا بعد أن يتمكنا من ذلك في غمرة انتشائه هو بحبّه الوليد، وسعادته الفائضة.
وما نلحظه في هذا السياق أنّ كارمن منحته حبّها، لأنّ مزاجها العام كان ميّالاً إليه، وليس لأنّها تودّ ردَّ جميله حين تركها تفلت من إمكان السجن جزاء فعلتها في حقّ زميلتها؛ فلم يكن في هذا العرض ما يوحي بانتماء خوسيه إلى صفوف الجنديّة والحراسة، ولم تكن كارمن قد تمكنت من إيذاء صاحبتها، فقد سحبها قبل أن تفعل، ممّا يرصد نقطة افتراقٍ جوهريّة عن المرجعيْن: الأدبيّ والأوبراليّ. 
غير أنّ هذا لا يلغي الوشائج الكثيرة بين هذه الحقول الإبداعيّة، سواء كان هذا عن طريق بناء الحدث أو ملامح الشخوص، أو حتى بعض التفاصيل الجزئيّة الباهتة ظاهريّاً، كما جاء في القصة مثلا عن انهماك كارمن في إحدى لحظات حنقها على خوسيه في تقشير برتقالةٍ طازجة، وأكلها (2). وهو ما تكرّر في هذا العرض، حيث نراها تلتهم برتقالةً أيضا، ولكنْ في لحظة صفاءٍ نادرة وانسجام مع العشيق، وليس في لحظة كدر، مع أنّ الدارج عادةً هو أن يكون التفاح لازمة الحب والإغراء لا البرتقال، وهو ما يؤكد بصمة المرجع الأدبيّ وأثرها. 
أمّا استدراج خوسيه إلى بؤرة الإجرام، فتمّ بكثيرٍ من الاقتصاد والتركيز، فلم تكن الفسحة كافيةً لإقحام ذاك الشجار العنيف مع أحد المنافسين، كما في القصة والأوبرا، وينتهي باضطراره إلى هجر مهنته والالتحاق بعالم كارمن، بل تمّ باقتضابٍ وإيجازٍ، اقتحم معه ثلاثة أشخاصٍ، رجلان وامرأةٌ من أفراد العصابة، مخدعَ الحبيبيْن، وبقليلٍ من الإيماءات المغرية من كارمن تخلّى هو عن كلِ شيء وتبعها هي ورفاقها، ليُختزَل مشهد السفر والرحيل في حيلةٍ بسيطةٍ، تمثلت في رداءٍ أسود ينسدل ويغطي أفرادَ العصابة المنحنين، ليبدو رأسُ كارمن مرتفعاً وموحياً بأنّها تركب حصاناً، يخبّ بها وينقلها إلى مكانٍ بعيدٍ نستوحي بعدَه من خفوت الإضاءة، وتغيّر الديكور، حيث يختفي سريرُ العاشقيْن وجدران غرفتهما الموشحة بالمراوح؛ ولا يطالعنا سوى منظر عربةٍ مهملةٍ معطوبة، ممّا يوحي بأجواء الخراب، والإهمال، وهي أجواء المنشقّين عن القانون وملامح أوكارهم، التي يزيدها الظلامُ وحشةً وغموضا.  
هناك يرتكب خوسيه جريمته الأولى، بقتل أحد العابرين، الذي يسطو اللصوصُ على أمواله، ويهربون تاركينه في غاية البؤس والذهول، غير مصدّقٍ ما اقترفته يداه، ولم يكن هذا إلا بانتقاء موسيقى مقطع أوراق الحظ Et Maintenant, parlez mes belles، ممّا يعمّق الطابع القدَريّ في مغامرة خوسيه ومحنته المقبلة. 
وهو ما يطالعنا في المقطع الأخير، وقد وقّعه إيقاعيّاً مارش المصارعين Marche des Toréadors، الذي شكّل افتتاحَ الأوبرا، وطالعنا من خلاله وللمرة الأولى إسكاميللو، تحيط به المعجباتُ وتحاول كلُّ واحدةٍ منهنّ التودّد إليه والتفرّد عن غيرها، فيهملهنّ جميعاً، ولا يلتفت إلى غير كارمن، التي تأسره بإعراضها عنه، وبابتسامتها الغامضة، وثوبها الأسود، المحاكي سوادَ الثور؛ خصمه وغريمه اللدود. 
وهو نفسه السواد الذي سيستفزّ خوسيه القادم حسبما يبدو متحفزاً للانتقام، ودون كثير انتظارٍ تنشب أمام أنظارنا مصارعتان متوازيتان، إحداهما خفيّة، بين الثور وإسكاميللو، يتابعها الجمهورُ بحماسٍ، والثانية ظاهرة، بين كارمن وخوسيه، لا يتابعها ولا ينتبه إليها أحدٌ عدانا نحن متلقي هذا العرض. 
تختفي الموسيقى في هذا المقطع، ولا نسمع سوى صوت طبولٍ مرعبٍ، ورتيبٍ، على إيقاعه يشتبك الخصمان، ويتناطحان، ولا تكاد تمضي سوى بضع دقائق، حتّى يتمكن خوسيه من غريمته، ويغمد في قلبها خنجرَه، وما إن تقع مسلمةً النفَسَ الأخير حتى ترتفع صيحاتُ الإعجاب في الجهة الثانية، وتتناثر القبعاتُ السوداءُ ابتهاجا بانتصار إسكاميللو، وسحقه الثورَ، وهو نفسه ختامُ القصة والأوبرا المتطرّف في عنفه ودموّيّته .