ابتسامةُ الكاميرا

ابتسامةُ الكاميرا

مَن عاصر من جيل القرن المنقضي آلات التصوير التقليدية تلك التي يوضع فيها فيلم يشبه الإصبع السوداء الصغيرة، ويسمح بالتقاط عدد محدد من الصور التي عادة ما كانت أربعاً وعــــشرين أو ستاً وثلاثين صورة، وبعد استنفادها تُرسل إلى «استديو» متخصص في تحميض الأفلام، وتعاد بعد أيام عدة مطبوعة على الكرتون، لتُرى للمرة الأولى، يكتشف أنّ رانيا ظهرت مغمضة في الصورة التي تزامن التقاطها مع رمشة عينيها، أو هاشم تظهر عيناه مائلتين للون الأحمر، أو أنّ داليا أفسدت الصورة بحركتها المفاجئة، أو حجبت وجه أختها، أو يُكتشف في أحيان متأخرة أنّ ضوءاً ما تسرب إلى الفيلم فأفسد فيه الصور جميعها، أو أنه كان مركباً بشكل خاطئ، فالتصوير كان يحتاج إلى صبرٍ وتخطيطٍ ويحتمل المفاجآت السارة والمزعجة في آنٍ معاً.
في ذاك الوقت البعيد القريب، كان للصورة قيمة ومعنى ومناسبة، وكان الهدف من التصوير واضحاً ومحدداً ومحدوداً ينحصر في توثيق مناسبة مهمة أو استغلال لمناسبة تجتمع فيها العائلة، كالعيد أو حفلات الزواج وغيرها، ويكون المعنيون متجهزين بملابس مناسبة وبهيئة مرضية، فالصورة كانت مبعث الذكريات وموطنها، فهي تجسيد ثمين لأحداث مهمة في الحياة البسيطة والنقية من التعقيد والزخم والقرب البعيد لأبناء هذا العصر؛ فهل الصور اليوم هي موطن للذكريات أم هي صورة جلية للهاث العصر وزخمه، بحيث كادت تفقد معناها وجدواها من تعددها وتكرارها وسهولة التقاطها وكأننا في سباق لتحنيط الحياة والإمساك بالزمن المتسرب من أيدينا والهارب من أعمارها، أو في سباق للإمساك بلحظة دهشة وإدهاش في عصر تتزاحم فيه الصور والشاشات وتتوارد المعلومات وكل ما يثير المشاعر ويدهش إن كان بالإيجاب أو السلب في سيل ملون يغرق الحياة المعاصرة التي لا يتخيل أبناؤها كيف كان للصورة  خصوصيتُها وتفرّدُها؟ فلا يخطر ببال أحد أنّ صوره  ممكن أن تنتشر أو يراها الآخرون؛ فهي مرتبة في «ألبوم» مخصص لحفظها لا يراها إلا من أتيح له التصفح، وكان الاستعداد للصور يعني العناية بالهيئة وانتقاء الملابس والابتسامة والجَمعة والتجمع؛ فالصور الفردية لا تبدو مناسبة في ظل محدودية التصوير، وقليلاً ما تكون اللقطة عفوية أو خالية من الأشخاص، لأنّها مكلفة ومحسوبة بالعدد.
اليوم صارت الصورةُ بلقطة سريعة غيرَ مكلفة يمكن رؤيتها قبل الالتقاط، ويمكن تكرارها وحذفها والتعديل عليها، وأصبح من الميسور نشرها وانتشارها، والأهم من هذا كلّه أننا أصبحنا بحاجة إلى أدبيات التصوير؛ فكثيراً ما يلجأ بعض المبــــهورين بقـــــدرة الأجهزة التي يمتلكونها على التصــــوير لاستـــغلالها في مواقف غير لائقة وغير إنســانية، بغية مشاركتها مع الآخرين؛ فعند وقوع حادث اعتاد الناسُ على التجمهر للمساعدة أو للمشاهدة والفضول، وربما لرؤية التفاصيل التي يتم حبكها لاحقاً في قصة مكتملة العناصر غير منتقصة، يستمتع بقصها لآخرين تطل من عيونهم الدهشة.
واليوم مع انتــــشار ثقافة الصـــورة، بات الناسُ يزاحمون ويتـــزاحمــون لا للمساعدة، ولكن للتصوير والنشر وحصد الإعجابات والتفاعل، غير آبهين بالبعد الإنساني والاجتماعي والأخلاقي، وأصبحــــت الــــصورة نافذة يمكن لأيّ كان الإطــــلال منها عبر الوسائل التكنولوجية الحديثة والمحدثة بجنون، مغتنمين فوضى العصر لاقتناص الفرصة، فكلّ مشهد خارج عن المألوف، سواء كان طريفاً أو محرجاً أو حتى مؤلماً، يرى فيه بعضُ الاستغلاليين فسحةً للتصوير والنشر وانتظار التفاعل المرجو. 
فهل تصوير خلق الله برضاهم ومن دونه بهدف النشر يحمل بعداً أخلاقياً مقنعاً وكافياً لهؤلاء؟! 
لابد من التوصل إلى بروتوكول، أو الاتفاق على أدبيات التصوير وتقنين فوضى «الميديا» التي تكتسح عالمنا من دون ضوابط، والتي بتنا نستهلكها بشراهة ونتعامل معها أحياناً من دون مرجعية أخلاقية أو ضوابط، فهل آنَ الأوان لتحديث القوانين بما يناسب فوضى عصر الصورة ولهاث التكنولوجيا في حياتنا المعاصرة؟!
 ألا يحتاج العصر أيضاً إلى تعزيز الوازع الضميري والإنساني الذي فقد مصداقيته وحضوره الفاعل أمام سيل التكنولوجيا الجارف؟! .