البياتي وقمر شيراز

البياتي وقمر شيراز

طغى حبي لشعر السياب على حبي لشعر مجايليه جميعًا في العراق، وفي مقدمتهم نازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي. ربما كان للصحبة الجميلة/ المريرة معه في عامه الأخير، راقدًا على سرير ضيق بالمستشفى الأميري في الكويت، ومتابعتي لذُبالة حياته الأخيرة وهي تنطفئ يومًا بعد يوم، ولإصراره على الإبداع الشعري الذي نتخاطفه منه كل صباح في زياراتنا اليومية له، وقد أملاه على ممرضته، فاختلطت الكلمات والأخطاء. ربما كان لهذه الصحبة التي عاشها معي علي السبتي وناجي علوش تأثيرها في اكتشاف عوالم هذا الشاعر الفذّ، ومعايشة قصائده عن قرب، وتأمل رحلة العذاب التي عاشها متنقلًا بين بيروت ودَرمْ والكويت، والتعرف على أسرار لغته ومعمار قصائده، حيث تقبع كلاسيكيته الباذخة، تتقد في أبهاء قصيدة الشعر الجديد، التي كانت ما تزال هشة تتحسس طريقها، وتنزع إلى العصرية ولغة الطريق التي ترفَّع عنها السياب، ليشيد هذا النموذج الفذ لقصيدة الشعر الحر، الشعر الجديد، متحدِّيًا النَّفس الكلاسيكيّ في الشعر العربي، ومُشعلاً ناره المقدسة في قصائده المدهشة. 
أجل، كان شعر السياب يباعد بيني وبين شعر البياتي الذي كانت قصائد دواوينه الأولى تضج بالنقمة والشتائم والهجائيات، وكأنها محرقة أشعلها في كل الكون من حوله، لعله يفتح لوجود جديد بوابة تقتحمها الشمس ويسكنها ربيع هارب من شباك المنفى. وحين فتحت عيني ذات يوم على قصيدته أغنية زرقاء لفيروز، أدركت كم ظلمته وكنت بعيدًا عن وجدانه الحقيقي وعن جوهره، وهو يقول:
افتحي النافذة الزرقاء للشمسِ
فأحلى أغنيةَ
في حكايات بلادي
خضّبت وهي تجوب الأودية
بدم البلبل أوتار المغني
يا عبير الأودية
في ربيع الأغنية
افتحي للشمس بوابة سجني
ليرى العالم جرحي
صامتا، كالليل، في صحراء ملح
ليرى العالم شعبي
صامدًا في وجه أعداء الحياة
رائعًا كالأغنيات
حاملًا، كالأرض، في أحشائه، بذرة خصب
مُثقلًا بالورد والأشعار في ليلة حب
إنه أغنيتي الأولى وزادي وصباحي
وعزائي في الكفاحِ
ورفيقي في السلاحِ
إنه شعبي فحسبي
يا عبير الأودية
في ربيع الأغنية
افتحي للبلبل
في طريق الجبلِ
كوّة في الأغنياتِ
ليرى العالم منها صرخاتي
***
إنها رحلتنا في عالم الإنسان عبر الكلماتِ
فافتحي الكوة للشمس، وغنِّي للحياةِ

قلت لنفسي: أين هذا الشعر الرائق الصافي من قوله عن المخبر؟: 
السيد البرميل
قفاه بطنه، وبطنه قفاه، ذرِب اللسان
يحفظ شعر المتنبي، ويقول الشعر أحيانا بلا أوزان
لكنه يخطئ في الإملاء والإعراب
يلقط في عيونه الحروف والخطوط والأرقام
يحصي نقود العابرين، وهي في جيوبهم تنقص أو تزداد 
يعيد ما يقوله أو قاله الإمام 
في خطبة الجمعة أو في مأتم يقام
يتقن فن الكذب والتزوير في الأحكام
***
ثم كانت أيام، وانهمر تاريخ. حين وجدت أنفاسي لاهثة تحاول اللحاق بالبياتي في مرحلة نافذة العمق، مكتملة البهاء، مروّية بالشاعرية المتدفقة وهو يعانق أفق شيراز. وكأنما قمر هذه المدينة أعاد تشكيله ونبضه وانطلاقات خياله وتجسيد حلمه. وكأنما يؤكد البياتي أن لكل شاعر شيرازه، وأنه - على عتبات شيرازه - قد هدأ واستقر وباح وغنَّى وتهيأ ليوم الرحيل، والقمر الشيرازي الأخضر يفتنه ويشدُّه ويحاوره، فهنا الوطن الذي يعبده، وهنا يتمنى الإقامة والموت.
يقول البياتي في قصيدته الفاتنة: «قمر شيراز»:

- 1 -
أجرح قلبي، أسقي من دمه شعري، تتألق جوهرة في قاع النهر الإنساني، تطير فراشات حُمرٌ، تولد من شعري، امرأة حاملة قمرًا شيرازيًّا في سنبلة من ذهب مضفورا، يتوهج في عينيها عسل الغابات وحزن النار الأبدية، تنبت أجنحة في الليل لها، لتوقظ شمسًا نائمة في حبّات العرق المتلألئ، فوق جبين العاشق، في حزن الألوان المخبوءة في اللوحات: امرأة حاملة قمرا شيرازيا، في الليل تطير، تحاصر نومي، تجرح قلبي، تسقي من دمه شعري، أتعبد فيها: فأرى مدنًا غارقة في قاع النهر النابع من عينيها، يتوهج سحر عسليٌّ يقتل من يدنو، أو يرنو، أو يسبح ضدّ التيار. أرى كل نساء العالم في واحدة تولد من شِعري، أتملّكها أسكن فيها، أعبدها، أصرخ في وجه الليل، ولكن جناحي يتكسّرُ فوق الألوان المخبوءة في اللوحات.

- 2 -
مجنونًا بالنهر النابع من عينيها
بالعسل الناريّ المتوهج في نهر النار
أسبح ضدّ التيار.

- 3 -
أكتب تاريخ الأنهار
أبدؤه بطيورِ الحبّ وبالنهر الذهبيّ الأشجار

- 4 -
بدمي يغتسل العشاق
وبشعري يبني الغرباء
في المنفى «شيراز»

- 5 -
أتملكها، أسكن فيها
أعبدُها
أرسم في ريشتها مدنًا فاضلة يتعبد فيها 
الشعراء

- 6 -
مجنونًا بالنهر النابع من عينيْها
بالسيل الجامح والفيضان 
باللهبِ المفترس الجوعان
أسبح من غير وصول للشاطئ، أغرقُ سكران

- 7 -
«أفرد أجنحتي وأطير إليها في منتصف الليل، أراها نائمة تحلم بالقمر الشيرازيّ الأخضر فوق البوابات الحجرية يبكي، يتدلىّ من أغصان حديقتها ويظل وحيدًا يتعبد فيها، ما كان يكون. حياتي كانت في الأرض غيابًا وحضورًا تملؤه الوحشة والترحال وأشباح الموتى. كوني أيتها الـمُشربة الوجنة بالتوت الأحمر والورد الجبليّ الأبيض، زادي في هذه الرحلة. كوني آخر منفى وطنٍ، أعبدهُ، أسكن فيه وأموت». 

- 8 -
قولي للحب «نعم» أو قولي «لا»

- 9 -
قولي: ارحل، فسأرحل في الحال
قولي «أهواك»
أو قولي «لا أهواك»
-10-
قنديلا ذهبٍ عيناكِ
ويداكِ شراعان
-11-
أخفي فاجعة تحت قناع الكلمات، أقول لجرحي «لا تبرأ»، ولحزني «لا تبرد» وأقول «اغتسلوا بدمي» للعشاق. 

-12-
«تلتهم النار النارَ وتخبو أحزان العشاق الرحّل في صحراء الحب وتبقى «شيراز»، ونبقى نرحل في الليل إليها محترقين بنار الحزن الأبدية، تنبت أجنحة في الفجر لنا، فنطيرُ، ولكنّا قبل وصول الركب إليها، نتملّكها، نسكن فيها، ونعود».

-13-
وجدوني عند ينابيع النور قتيلا، وفمي بالتوت «الأحمر والورد الجبلي الأبيض مصبوغا، وجناحي مغروسا في النور».
هذه هي شيراز في عُمق شاعرية البياتي، وهذا هو البياتي شهيد الرحلة إلى «شيراز»، المدينة الأبدية، التي نبحث عنها ، ونستشهد عند بابها، ويظل الحلم يسكن الشعراء من بعده، ويغويهم بمدينة الحلم «شيراز».
في فضاء عالم هذه الشاعرية الرحبة، وهذا الوجد الصوفيّ المتوهج، وهذه السكينة التي تسبق الرحيل والاستشهاد، تتجلى جماليات شعر البياتي في أوج تألقه وشموخه، لم يرحل شاعر عربي مثله، في الزمان والمكان. ولم تكتحل عينا شاعر عربي - كما اكتحلت عيناه - بالعواصم والمدن والأوطان، ولم يرتطم بالأرصفة شاعر عربي مثله، عرف عذاب الغربة والمنفى، وذاق مرارة الوحشة والتوحد، وتقلب في كل الأجواء وكلّ الأحوال، صانعًا من الفريدة في تخوم الكون معادلًا لحياته الإنسانية البائسة الفقيرة، وثراءً لوجدانه المفعم بالتجارب والخبرات، والمقامات والأحوال، يتبدَّد حينًا ويتجمع حينًا آخر، وينفتح مرة وينغلق أخرى، لكن صاحبه يرى ما لا نراه، ويتكشف له من حقائق الحياة ما لا يتكشف لنا، ويتاح له من فيض البؤس والنعيم - معًا - ما لم نذقه نحن، ولا حلمنا به على هذه الصورة المتفردة البديعة. هذا الأفق «الشيرازي» في شعر البياتي يضيف لشعره من الفتوحات والتجليات ما لم يتح لغيره من مجايليه، وهو أفق متحقق بالاكتمال: في العمر والخبرة والعرفان، ومنفتح على تطلعات هذه الفرشاة الشعرية النّهمة، ترسم وتصوّر وتلوّن، وتضفي على رؤاها شيئًا من جاذبية ما لا يُرى، وبعضًا من أقباس نورانية يضيء بها شعره. 
من هنا، يمكننا أن نتفهم كيمياء المقطع الذي استوقف البياتي من شعر ناظم حكمت، فجعله مفتتحًا لديوانه «قمر شيراز»:
إني أستنشق الهواء العذب الخارج من فمك
وأتأمل كل يوم في جمالك
وأمنيتي هي أن أسمع صوتك الحبيب
الذي يشبه حفيف ريح الشمال
إن الحب سيعيد الشباب إلى أطرافي
أعطني يدك التي تُمسك بروحك
وسوف أحتضنها وأعيش بها
نادني باسمي مرة أخرى وإلى الأبد
لن يصدر نداؤك أبدًا بلا إجابة عنه
(صلوات وجدت مكتوبة على لوح ذهبي تحت قدم مومياء، وقد أزيل اسم كاتبها).
وقال لي:
إنك ستحترق بنار صوتك
وستغدو رمادا
مثل كريم
الذي احترق بحبه
(من قصيدة «مثل كريم» لناظم حكمت)
وفي واحدة من قصائد ديوانه «قمر شيراز» عنوانها: «أولد وأحترق بحبي»، يقول البياتي:

- 1 -
تستيقظ  «لارا» في ذاكرتي: قطًّا تتريًّا، يتربص بي، يتمطى، يتثاءب، يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم. أراها في قاع جحيم المدن القطبية تشنقني بضفائرها، وتعلّقني مثل الأرنب فوق الحائط مشدودًا في خيط دموعي. أصرخ: «لارا»، أعدو خلف الريح وخلف قطارات الليل وأسأل عاملة المقهى، لا يدري أحد، أمضي تحت الثلج وحيدًا، أبكي حبي العاثر في كلّ مقاهي العالم والحانات.

- 2 -
في لوحات «اللوفر» والأيقونات
في أحزان عيون الملكات
في سحر المعبودات
كانت «لارا» تثوى تحت قناع الموت الذهبي، وتحت شعاع النور الغارق في اللوحات تدعوني، فأقرب وجهي منها، محمومًا أبكي لكن يدًا تمتدّ، فتمسح كلّ اللوحات أو تغطي كل الأيقونات
تاركة فوق قناع الموت الذهبيّ بصيصًا من نورٍ لنهار مات

- 3 -
«لارا» رحلت
«لارا» انتحرت
قال البواب وقالت جارتها، وانخرطت ببكاء حار 
قالت أخرى: لا يدري أحد، حتى الشيطان 

- 4 -
أرمي قنبلة تحت قطار الليل المشحون بأوراق خريف في ذاكرتي، أزحف بين الموتى، أتلمّس دربي في أوحال حقول لم تحرث، أستنجد بالحرس الليلي لأوقف في ذاكرتي هذا الحب المفترس الأعمى، هذا النور الأسود، محموما أبكي تحت المطر المتساقط، أطلق في الفجر على نفسي النار. 

- 5 -
منفيًّا في ذاكرتي
محبوسًا في الكلمات
أشرد تحت الأمطار
أصرخ: «لارا»
فتجيب الريح المذعورة: «لارا»

- 6 -
في قصر الحمراء
في غرفات حريم الملك الشقراوات
أسمع عودا شرقيا، وبكاءَ غزال
أدنو مبهورا من هالات الحرف العربيّ المضفور بآلاف الأزهار
أسمع آهات
كانت «لارا» تحت الأقمار السبعة والنور الوهّاج 
تدعوني فأقرّب وجهي منها، محمومًا أبكي، 
لكنّ يدي تمتدّ، فتقذفني في بئر الظلمات 
تاركة فوق السجادة قيثاري
وبصيصا من نورٍ لنهارٍ مات!

- 7 -
«لم تترك عنوانا»
قال مدير المسرح وهو يمطُّ الكلمات

- 8 -
تسقط في غابات البحر الأسود أوراق الأشجار
تنطفئ الأضواء ويرتحل العشاق
وأظلّ أنا وحدي، أبحث عنها، محموما أبكي تحت الأمطار.

- 9 -
أصرخُ: «لارا»
فتجيب الريح المذعورة: «لارا» في 
كوخ الصياد.

- 10 -
أرسم صورتها فوق الثلج
فيشتعل اللون الأخضر في عينيها
والعسليُّ الداكن، يدنو فمها الكرزيُّ
 الدافئُ من وجهي، تلتحم الأدبي بعناقٍ أبديٍّ،
 لكن يدًا تمتدُّ، فتمسح صورتها، 
تاركة فوق اللون المقتول بصيصا 
من نورٍ لنهار مات

-11-
شمس حياتي غابت. لا يدري أحد.
الحب وجود أعمى ووحيد. ما من أحدٍ 
يعرف في هذا المنفى أحدًا، الكلّ وحيد. 
قلب العالم من حجرٍ في هذا المنفى - 
الملكوت.
ونختتم هذه الرحلة الشعرية الثرية مع ديوان عبدالوهاب البياتي «قمر شيراز» الذي يمثل واحدة من ذرى شاعريته وقممها الشامخة المتعددة، لكنه بين كلّ هذه القمم ينفرد بضوءٍ سرمديٍّ لا يغيب، نختتمها بقصيدة عنوانها «الموت والقنديل» يقول فيها:

- 1 -
صيحاتك كانت فأس الحطاب الموغل في غابات اللغة العذراء، وكانت مَلِكًا أسطوريًّا. يحكم في مملكة العقل الباطن والأصقاع الوثنية، حيث الموسيقى والسحر الأسود والجنس، وحيث الثورة والموت. قناع الملك الأسطوري الممتقع الوجه وراء زجاج نوافذ قصر الصيف، وكانت عربات الحرب الآشورية تحت الأبراج المحروقة، كانت صيحاتك صوت نبي يبكي تحت الأبراج المهدومة شعبًا مُستلبًا مهزوما، كانت برقًا أحمر في مدن العشق أضاء تماثيل الربّات وقاع الآبار المهجورة. كانت صيحاتك صيحاتي وأنا أتسلق أسوار المدن الأرضية، أرحل تحت الثلج، أواصل موتى في الأصقاع الوثنية، حيث الموسيقى والثورة والحب.

- 2 -
لغة الأسطورة
تسكن في فأس الحطاب الموغل في غابات اللغة العذراء
فلماذا رحل الملك الأسطوريّ الحطاب؟

 - 3 -
مات مُغنّي الأزهار البرية
مات مغني النار
مات مغني عربات الحرب الآشورية تحت الأسوار.

- 4 -
صيحاتك كانت صيحاتي
فلماذا نتبارى في هذا المضمار؟
فسباق البشر الفانين، هنا، أتعبني
وصراع الأقدار

 - 5 -
كان الروم أمام، وسوى الروم ورائي، وأنا كنت
 أميل على سيفي منتحرًا تحت الثلج، وقبل أفول 
النجم القطبي وراء الأبراج
فلماذا سيف الدولة ولّى الأدبار؟
(في هذا المقطع تضمين من قول المتنبي يمدح سيف الدولة الحمداني:
وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ
فعلى أيّ جانبيْكَ تميلُ؟)

 - 6 -
ها أنذا عارٍ عُريَ سماء الصحراء
حزين حزن حصانٍ غجريًّ
مسكونٌ بالنار

 - 7 -
وطني المنفي
منفايَ الكلمات

 - 8 -
صار وجودي شكلًا
والشكل وجودًا في اللغة العذراء!
ويبقى صوت البياتي، شاعر العراق المنفيّ، يعانق في جواره صوت «الجواهري» شاعر العراق الأكبر، يضمهما معًا ثرى «دمشق» وعبق العروبة الجريحة في عصر الشتات ■