ثغرة خطيرة في الذاكرة العربية... نسيان تعددية وغنى مصادر الثقافة

ثغرة خطيرة في الذاكرة العربية... نسيان تعددية وغنى مصادر الثقافة

يبدو أكثر وأكثر أن تطور الثقافة العربية في العقود الأخيرة يؤدي إلى نوع من التصحر الناتج عن عوامل عدة، ومنها بشكل خاص ذوبان هذه الثقافة في مناقشات حادة حول الدين الإسلامي بين نظرة معتدلة إليه ونظرة متشددة وراديكالية. وقد اجتاحت القضايا الدينية معظم الحيّز العقلي والثقافي والسياسي للمجتمعات العربية.

إن هذا التطور الخطير ناتج عن وطأة وسائل الإعلام العربية والغربية على هذه الأمور، وكذلك أعمال أكاديمية الطابع من قبل عدد كبير من المثقفين العرب والغربيين. أضف إلى ذلك العديد من المؤلفات العربية التي تعيدنا إلى الماضي، مثل الكتابات حول الفتنة الكبرى وحول الخلافات الدينية والعقيدية التي برزت في القرون الأولى من نشر الديانة الإسلامية ومدارسها الفقهية المتعددة؛ أو المؤلفات التي تسعى إلى تبيان ماهية العقل العربي وتكوينه، وكأنه عقل جامد يعتمد بشكل شبه حصري على رؤية دينية إلى العالم.
وقد نتج عن ذلك نوع من الانقطاع في الذاكرة العربية أدّى إلى نسيان المصادر المتعددة للثقافة العربية وغنى وتنوع الفكر العربي، سواء خلال فترة القرون الأولى من تألق الحضارة العربية الإسلامية أو في عصرنا الحديث منذ أن أدرك العرب الهوة العميقة بين التقدم الكبير الحاصل في أوربا وتأخر المجتمعات العربية والإسلامية تقنياً وعلمياً وحضارياً. فهذه الثغرة في الذاكرة هي مزدوجة إذن، الأولى تعود إلى تنكُّر تعدد مصادر الفكر العربي، والثانية تتعلق بنسيان حركة النهضة العربية البرّاقة، التي بدأت مع كتابات الشيخ رفاعة الطهطاوي وتواصلت مع عديد من المفكرين العرب من كل الاتجاهات الفكرية.

الجذور المتعدّدة للثقافة العربية وغنى الفكر السياسي العربي المعاصر
أودّ التذكير أولاً بأن جذور الثقافة العربية تكمن في الشعر العربي، وفي ثراء اللغة العربية وعبقريتها. ولايزال الشعر نواة الثقافة العربية إلى يومنا هذا. ومشاهير الشعراء العرب القدامى والجدد يكرَّمون ويُحتفى بهم في كل مكان في المجتمعات العربية. وينبغي الإشارة أيضاً إلى أن العرب كانوا تجّاراً لهم مكانتهم واتصالاتهم بالحضارتين الفارسية والبيزنطية. ولم يقتصر حضور هؤلاء التجَّار على شبه الجزيرة العربية، بل شمل سورية وبلاد ما بين النهرين. وهناك عدد من القبائل العربية التي تحوّلت إلى اليهودية أو النصرانية. لكنّ الفتوحات العربية في القرن السابع تحت راية الدِّين الإسلامي التوحيدي الجديد استطاعت «تعريب» بلاد المشرق، حيث حافظت شرائح سكانية كبيرة على انتماءاتها المسيحية واليهودية والزرادشتية ولم تعتنق الإسلام. ومع أنّ الفاتحين العرب نشروا الإسلام في شمال إفريقيا، فقد حافظت قبائل بربرية كثيرة على لغتها الخاصة، وبالتالي لم تستعرب. بعبارة أدقّ، لم يكن العرب مجموعة منغلقة تميّزت بنمط حياة بدوية على سبيل الحصر، بل كانوا أناساً ملمّين بالعالم الكبير الذي عاشوا فيه.
عندما أقيمت الخلافتان المتتاليتان الأموية (661-750م)، والعبّاسية (750-1258م)، شرّع الخلفاءُ العرب أبواب الخلافتين أمام التأثيرات الثقافية الرئيسة التي وُجدت حولهما، ودمجتا المسيحيين واليهود في المجتمع الإسلامي الجديد الذي كان في طور النشوء. بل إنّهم شرّعوا أبواب الخلافتين أمام التأثيرات الهندية والصينية من خلال توسّع التجارة العربية. والشيء الذي يمكننا وصفه بالحضارة العربية الإسلامية التي ازدهرت فيها العلومُ الطبيعية والفلسفة والتاريخ وعلوم الفلك والجغرافياوالأنثروبولوجيا إنما كان نتاج تفاعل عميق بين النخبة العربية والواقع المعرفي القائم في الحضارات الكبرى الأخرى. وأضحت العربيةُ اللغةَ المشتركة لجميع المفكّرين على اختلاف أصولهم الإثنية، ورجال الدِّين، بالإضافة إلى العلماء. وكان العرب على إلمام قوي باللغة الآرامية السريانية بخاصّة، وبالمعارف السائدة في أغلب بلاد المشرق وبلاد ما بين النهرين. 
وليس هنا المجال للتذكير بعظمة المفكرين الكبار والعلماء في شتى أنواع المعرفة البشرية في هذه الحقبة المجيدة من تاريخنا العربي، حيث تفاعل في ما بينهم علماء من جميع الجنسيات والمجتمعات وبشكل خاص إلى جانب العرب، الفرس والأتراك الذين برعوا جميعاً في علم الكلام والفلك والطب والرياضيات والجغرافيا والتاريخ البشري والمنطق والفلسفة والسياسة. في حينه كان العلماء العرب مع زملائهم من الفرس والأتراك في طليعة التطور الحضاري خاصة بالمقارنة مع أوربا، بالإضافة إلى عدد من الشعراء الكبار والكتابات الصوفية الطابع. 
هذا يدلّ بما لا لبس فيه على أن العقل العربي في ذلك الحين كان في غاية الانفتاح والإبداع، ولذلك سادت اللغة العربية المتطورة والغنية للغاية كلغة علم اعتمدها مثقفو ومفكرو الشعوب الأخرى التي اعتنقت الديانة الإسلامية أو حتى بالنسبة إلى مثقفي أوربا الذين درسوا اللغة العربية للاستفادة من العلوم والفنون التي كانت تحملها.
لذلك عندما نشهد التقوقع والانغلاق الكبيرين اللذين أصابا الحيّز الثقافي - السياسي - الديني في العديد من المجتمعات العربية، وحالة التزمّت الذي يأخذ أشكالاً دموية في حروب أهلية تتميز بموجات إرهابية قلّ نظيرها، نتساءل بقلق كبير حول هذا الانهيار الهائل في مقومات الذاكرة العربية وما هو مصدره؟

نسيان مكونات النهضة العربية الحديثة وتجاهل غنى الفكر والثقافة الوضعيين العربيين
تركز الفكر العربي الحديث منذ حملة نابليون بونابرت على مصر في أواخر القرن الثامن عشر على القضايا الرئيسة التالية: ما هو سبب تخلّف المجتمعات العربية وضعفها؟ ما هي هُويتنا؟ لماذا نحن متفرّقون وعاجزون عن بناء أمّة عصرية متماسكة تحظى باحترام الأمم الأخرى؟ لاتزال هذه الأسئلة الرئيسة الثلاثة التي ميّزت كلّ المؤلّفات السياسية منذ بداية القرن التاسع عشر موضوع البحث عن الذات إلى يومنا هذا. والحوادث التي وقعت أخيراً منذ بداية سنة 2011 زادت الموضوع إلحاحاً. لكن بقي الردّ على تلك القضايا السياسية والثقافية الرئيسة الثلاث المذكورة هنا سبب انقسام حادّ في الحياة الفكرية العربية في الوقت عينه.
والحقيقة أننا إلى اليوم لم نصل إلى اقتناع مشترك حول الإجابة عن التساؤلات الثلاثة المذكورة. وعلى سبيل المثال فإن الاتفاق الذي حصل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بأن ما يجمع العرب هو قومية واحدة مبنية على لغة مشتركة وتاريخ مشترك قد تمّت ضعضعته بتضخيم عنصر الهوية الدينية على حساب الهوية القومية الثقافية اللغوية، وصعود شعار «الإسلام هو الحلّ» كشعار مبسط جامع أدّى إلى مزيد من الفتن في ما بين العرب وساهم في ذوبان الشخصية الثقافية العربية في شعارات عقيدية دينية الطابع، وتعاظم المظاهر الخارجية للتديّن. 
أما بالنسبة إلى البحث عن أسباب تخلُّف المجتمعات العربية اقتصادياً واجتماعياً، فقد كان الاتفاق على أن الاستعمار المتحالف بقوى الإقطاع المحلي هو سبب التخلف وتجب معالجته بسياسات اقتصادية واجتماعية جريئة تكسر الحلقة المفرغة للتخلف، وقد كان عديد من الاتجاهات الفكرية والعملية يميل نحو إجراءات اشتراكية الطابع من أجل تحقيق تنمية شاملة تُخرج الجماهير الفقيرة من تهميشها لتدخل في المساهمة في بناء الوطن وإخراجه من التخلف. 
أما البحث عن أسباب التفرقة في ما بين الأنظمة العربية، وبالتالي العجز عن بناء أمة عصرية متماسكة تحظى باحترام الأمم الأخرى، فقد كانت الاتجاهات الفكرية تصبّ جميعها في تحقيق الحدّ الأدنى من التنسيق بين الأقطار العربية في مجال السياسة الخارجية، خاصة عبر تقوية أجهزة الجامعة العربية المختلفة مجابهةً لجهود القوى الاستعمارية القديمة لبسط أنواع جديدة من الهيمنة السياسية والاقتصادية على الدول العربية. وقد أصبحت الولايات المتحدة قوة جديدة لم يكن هاجسها إلاّ محاربة الاتحاد السوفييتي وكذلك الأفكار القومية والتقدمّية التي كانت تنتشر بسرعة في كل العالم الثالث. جدير بالذكر هنا أن العالم العربي حينذاك كان إحدى الركائز الأساسية لحركة عدم الانحياز وأبطالها رئيس وزراء الهند نهرو، ورئيس يوغسلافيا تيتو، والرئيس المصري جمال عبدالناصر.
وقد تمّت محاربة قوميات العالم الثالث الصاعدة واتجاهاتها التحررية والاشتراكية بأساليب عديدة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها من الدول الأوربية، فأصبحت كتلة الدول الغربية هذه المتجمعة بالحلف الأطلسي تعمل ليلاً ونهاراً على بث التفرقة بين الدول العربية. وقد نتج عن هذه الجهود تقسيم المجموعة العربية إلى دول «معتدلة» ودول «راديكالية»، تحظى الكتلة الأولى برعاية ومساندة متواصلة، بينما تواجه الكتلة الثانية بشتى أساليب العداء ومحاولات زعزعة استقرارها الداخلي. أضف إلى ذلك التنافس بين رؤساء الدول العربية لتزعُّم مجموعة الدول العربية، ما أدى إلى محاولات متكررة فاشلة لتجارب الوحدة بين دولتين عربيتين أو أكثر.
وفي هذه الأجواء المضطربة شهدت الساحة العربية صعود حركات الإسلام السياسي، وتمّ أيضاً إنشاء منظمة الدول الإسلامية والمؤسسات الثقافية والاقتصادية المتفرعة عنها، وهي أصبحت تزاحم كلاً من جامعة الدول العربية وحركة عدم الانحياز اللتين كانتا تتميزان بثقافة سياسية وضعية لا تستنجد بالأديان وبالقيم الدينية. وقد شهدت الساحة الفكرية العربية بالتدريج صعود تيارات فكرية تدعو إلى وحدة الشعوب الإسلامية وعودة الدين الإسلامي كمخزون رئيس للهوية على حساب الفكر القومي الحديث، وعلى رأسها فكرة القومية العربية الوضعية التي لا تتنكر إلى أهمية الديانة الإسلامية في التاريخ العربي المشترك والوعي الجماعي، إنما لا تجعل منه العامل الحصري للهوية، الذي يقصي العوامل الأخرى الوضعية في تكوين الأمم. 
في هذا السياق أصبح بعض من الإعلام العربي وعديد من الدراسات الأكاديمية، سواء في الدول الغربية أو العالم العربي، يبرز بشكل مثير ومتكرر الأفكار الراديكالية الدينية الإسلامية الطابع لكل من سيد قطب وابن تيمية وأبي العلاء المودودي، ما أدى إلى إقصاء الفكر الإسلامي لكبار الفقهاء المسلمين العرب، مثل الشيخ رفاعة الطهطاوي، والإمام محمد عبده، وعبدالرحمن الكواكبي، والشيخ أحمد أمين  والشيخ بن باديس، والأمير عبدالقادر الجزائري، فضلاً عن جمال الدين الأفغاني، والأمير شكيب أرسلان،  وجميعهم عملوا وناضلوا من أجل التوفيق بين الحداثة والقيم الدينية الإسلامية، وكان لهم أكبر الأثر في موجة التحديث للبنى المؤسساتية في المجتمعات العربية ودولها.
وجدت هذه الحركة الحداثية عديداً من الأتباع في المجتمع، ممّن لم يتلقّ تعليماً دينياً من المسلمين والمسيحيين على السواء، كما في مصر وسورية ولبنان والعراق. وفي هذا الصدد، يمكن للمرء الاستدلال بشخصيات مؤثّرة، مثل أحمد لطفي السيّد، وهو مفكّر مصري كبير، أدخل تحسينات جوهرية على الصحافة المصرية، وكان بالغ التأثير بتطلّعاته الحداثية والعلمانية. لكن ذاع صيت كثير من المفكّرين الآخرين، من المسلمين والمسيحيين، في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

تطوّر فكر نقدي عربي في مواجهة إخفاقات العرب
على أثر النكبات المتتالية التي أصابت المجموعة العربية، وبشكل خاص العجز العسكري الهائل، الذي ظهر على أثر الحرب العربية - الإسرائيلية في عام 1967، واحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية في كل من مصر وسورية، ظهر فكر نقدي عربي غني. وقد برزت هذه المدرسة الفكرية بقوة عقب إخفاقين عربيَّين مدوّيَين، أولهما إخفاق أولى تجارب الوحدة التي لم تدم طويلاً بين مصر وسورية (1958-1961م)، والتي اعتُبرت بدايةً لحركة وحدة عربية كبرى تزيل الحدود التي فرضتها اتّفاقية «سايكس بيكو» في سنة 1916م. أما الإخفاق الثاني فقد ظهر في الهزيمة العسكرية النكراء التي نزلت بالعرب في حربهم مع إسرائيل في سنة 1967، والتي أفضت إلى استيلائها على شبه جزيرة سيناء المصرية، وعلى مرتفعات الجولان السورية، وعلى الضفة الغربية الفلسطينية التي كانت خاضعة للإدارة الأردنية. لقد أفسح هذان الحدثان المأساويان المجال أمام توجيه انتقادات حادّة من  عدد من المفكّرين العرب، بعضهم منتمٍ إلى مدرسة الفكر الماركسي ومدرسة الفكر القومي. أعدّ هؤلاء دراسات وكتباً كثيرة قوّموا فيها الأسباب الرئيسة لعجز العرب عن تحقيق الوحدة أمام تحدّيات عديدة واجهتها المنطقة العربية. وحدّدوا تلك التحدّيات بأنها الإخفاق في مواجهة احتلال دولة إسرائيل الحديثة لفلسطين، وفي مساعدة الفلسطينيين على استرجاع ولو جزء من الأراضي التي خسروها في حرب عام 1967م، والفشل في مواجهة سياسات الاستعماريين الجدد التي انتهجتها الولاياتُ المتّحدة وحلفاؤها، والفشل في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متسارعة. 
شجبت هذه المدرسة السياساتِ الفاشلة التي انتهجتها الانقلابات العسكرية كما حصل في مصر وسورية والعراق، والتي عُلّقت عليها آمال كبيرة. وقد رأى بعض هؤلاء، من أمثال جلال صادق العظم، أن المشكلة الرئيسة تكمن في الدور السلبي الذي بقيت المؤسسات الدينية تقوم به في الدول العربية، وهو ما يحول دون نموّ الطاقات والقدرات العربية وإسهامها في مكافحة التخلّف. ورأى آخرون، من أمثال ياسين الحافظ، ومهدي عامل، وهو مفكّر لبناني لامع اغتيل في سنة 1987، أنّ العامل الرئيس الذي أدّى إلى إخفاق المجتمعات العربية كان إخضاع «البرجوازية الصغيرة» الحديثة للبرجوازية المحلّية الأعلى مقاماً بسبب الثورات التي قادها ضبّاط عسكريون. 
يظهر أن ياسين الحافظ ومهدي عامل تأثّرا بمؤلفات فرانتز فانون، وهو طبيب وعالم نفساني من جزر «الأنتيل» التي استعمرها الفرنسيون، والذي التحق بجبهة التحرير الوطني الجزائرية. أسهب فانون في كتابه Les damnés de la terre (المعذبون في الأرض) في وصف أخطار ما بعد التحرّر والحصول على الاستقلال. إذ تكهّن بأن القيادات الجديدة في تلك الدول ستستسلم لإغراء تقليد سلوك أسيادها المستعمِرين السابقين وتتحوّل بسهولة إلى حلفاء لهم. ولذلك أوصى ببقاء تلك القيادات الجديدة قريبة من الجماهير الشعبية، وبخاصّة سكان المناطق الريفية كونهم الخزّان الأمثل للسير في الطريق المؤدّي إلى الاستقلال الحقيقي والتغيير الاجتماعي ونصرة المحرومين. وحذّر من سوء استغلال التقاليد المتحجّرة لإبقاء الجماهير تحت السيطرة، وهو ما يجعلها تعبيراً فولكلورياً للهُويّة. 
ويمكن الإتيان على ذكر عديد من المفكّرين العلمانيين هنا، لاسيما الشاعر السوري الشهير أدونيس (الذي انتقده مهدي عامل لمقاربته الجوهرانية تجاه الدِّين الإسلامي)، وسمير أمين، العالم الاقتصادي المصري الأصل، وكثير من الوطنيين الحداثيين العرب غير الماركسيين، مثل عبدالله عبدالدايم وقسطنطين زريق، وهما مفكّران سوريان عظيما التأثير. المفكّر المؤثّر الآخر هو المغربي عبدالله العروي المجاهر بماركسيته، الذي حلّل بذكاء الفجوة المتكررة بين التغيّرات التي تشهدها الحياة الفكرية الغربية والتغيّرات اللاحقة التي شهدها الفكر العربي ونظرته إلى العالم تحت تأثير التغيرات الفكرية الأوربية. يرى العروي أنه لا يمكن للحياة الفكرية العربية أن تقضي على هذا التخلف بالشكل المناسب على صعيد الحداثة إلاّ باعتماد نظرة عالمية مبنية على النزعة التاريخانية الماركسية.
وبالعودة إلى موضوع إخفاق المجتمعات العربية في الانخراط في تنمية اقتصادية متسارعة في سبعينيات القرن الماضي، شكّك عدد من الخبراء الاقتصاديين العرب في اعتماد الاقتصادات العربية المتعاظم على ريع النفط. كما شكّكوا في تصدير القوة العاملة الماهرة وغير الماهرة إلى خارج الوطن العربي، والميل إلى زيادة استهلاك الكماليات وإهمال سكّان المناطق الريفية والقدرة الزراعية على إنتاج الغذاء للاستهلاك المحلّي، بالإضافة إلى الإخفاق في تحصيل العلوم والتكنولوجيا، وبالتالي شدّة الاعتماد على الواردات من المكائن والمعدات الصناعية. نشير في هذا السياق إلى الراحل يوسف الصايغ، أحد أشهر الخبراء الاقتصاديين العرب، الذي ألّف كتاب «محددات التنمية الاقتصادية العربية» (The determinants of Arab Economic Development) في سنة 1978. لايزال هذا الكتاب أبلغ وأسهب وصف لإخفاقات السياسات الحكومية في العالم العربي. كما ألّف الصايغ كتيّباً قيّماً في سنة 1961 بعنوان «الخبز مع الكرامة» Bread with Dignity، لخّص فيه القضايا الاجتماعية الاقتصادية الأساسية في المجتمعات العربية. وعلى ضوء التظاهرات الشعبية العارمة التي شهدها معظم المجتمعات العربية في سنة 2011، التي طالبت بتوفير العدد الكافي من فرص العمل، وتأمين العدالة الاجتماعية، والحرّيات السياسية ومحاربة الفساد، تُظهر مقالة الصايغ التي نُشرت قبل سنين كثيرة من حدوث الاضطرابات الاجتماعية مدى بُعْد نظر الكاتب. وحلّل أنطوان زحلان، وهو خبير اقتصادي فلسطيني آخر وعالم فيزيائي، بكثير من التفصيل الأسباب العديدة لإخفاق المجتمعات العربية وحكوماتها في فهم القضايا المتصلة بالاستحواذ على العلوم والتكنولوجيا وتوطينها محلياً. 

الإقلاع عن مناقشة لا نهاية لها للأمور الدينية والعودة إلى مناقشات أسباب الفشل العربي الذريع في تملّك وتوطين العلم والتكنولوجيا
لقد آن الأوان للالتفات إلى القضايا المتّصلة بتعاظم الإخفاقات الاجتماعية والاقتصادية في أغلب الدول العربية على صعيد استيعاب العلوم والتكنولوجيا، والتصنيع والمناشط الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية، واشتمال أفقر الطبقات السكانية وتمكينها. إن الملايين من الشباب العرب العاطلين عن العمل والمهمَّشين في مجتمعاتهم يشكّلون بيئة محلية سلبية يمكن أن تتيح للمنظمات العنيفة والإرهابية تجنيدهم. وفي هذا الخصوص لابدّ من التذكير بأن المنطقة العربية تعاني أسوأ معدلات البطالة من بين سكّان سائر المناطق في العالم، وبخاصّة العنصر الشاب. وعلى الرغم من ثراء بعض الدول العربية، لم يُبذَل شيء لتصحيح أنماط اختلال التوازن الاجتماعي وتأمين فرص عمل لائقة وبأعداد كافية. وبوجود عدد كبير من العرب من أصحاب الملايين، يصبح الوضع أشدّ خزياً. هذا هو سبب وجوب إيلاء القضايا المتّصلة بهذه الإخفاقات اهتماماً فكرياً أكبر بكثير، خاصة بالمقارنة بالنجاحات في مناطق أخرى في العالم الثالث في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. لقد عانت دول أخرى غير الدول العربية من عدوان القوى الاستعمارية الغربية، لكنها نجحت في استيعاب العلوم والتكنولوجيات الحديثة وأضحت اقتصادات دينامية ومبتكِرة (كوريا الجنوبية، تايوان، الصين، سنغافورة، بل واليابان في القرن التاسع عشر). كما أنها تخلّت عن علاقات الحبّ /الكراهية الملتبسة مع العالم الغربي، وتكاملت مع الحداثة العالمية التي أشاعتها المجتمعات الغربية في سياق ديناميات العولمة الاقتصادية. 
لذلك، ينبغي أن يصبح التحقيق في أسباب وكيفية إخفاء وطمس غنى وتعدد الثقافة والفكر العربي المعاصر ولجم النزعة الحداثوية في المجتمعات العربية قضيةً مركزية في الدراسات الأكاديمية عن العالم العربي. القضية الأخرى هي ضرورة قيام الباحثين العرب بالتقليل من اهتمامهم بالعلاقات بين العرب والمجتمعات والثقافات الغربية، ليتسنّى لهم التركيز على دراسة عملية التحديث الناجحة للمجتمعات الآسيوية والأمريكية اللاتينية الأكثر دينامية. وهناك بالتأكيد دروس كثيرة يمكن تعلّمها من تجاربهم. غير أن قلّة قليلة من المفكّرين درستها حتى هذه الساعة. وأنا أرى أن الوقت قد حان لتعديل الأجندة الأكاديمية المتّصلة بالعالم العربي للخروج من المناقشات العقيمة التي تركّز على الديانة الإسلامية، ذلك أن الدين وتفسيراته المتنوّعة ليست ظاهرة جامدة، بل هي تتطور وتتغير حسب الظروف التاريخية، وإذا كان الدين مصدراً من مصادر تطور الفكر، فهو لا يمكن أن يكون بديلاً عن النسيج المتعدد الأطراف للفكر والثقافة.
لذلك، «العقل العربي» ليس عقلاً لاهوتياً إقصائياً. وهو قد شهد على مرّ التاريخ تغيّرات كثيرة؛ وثقافته سواء الإسلامية أو التي سبقت الإسلام مبنية على طرائق متنوّعة للتعبير عن الذات، بدءاً بالشعر وانتهاءً بالفلسفة والموسيقى والرسم والأدب بكل أشكاله، لذلك فإن اختزاله بعقل ديني لاهوتي هو مجرّد سخافة ■