في مفهوم السِّيرة الذاتيَّة وخصائصها

في مفهوم السِّيرة الذاتيَّة  وخصائصها

بغية تحديد مفهوم السيرة الذاتية، نعود إلى كتب هذه السيرة، فنجد أنّ «ما بينها من الاختلاف أكثر ممّا بينها من الاتفاق»، ويعود ذلك إلى فرديّة العمل الأدبي؛ إذ إنَّ لكلّ عمل أدبي فرديّته، ولكلّ أديب أسلوبه. لكن الباحث عندما يسعى إلى تحديد مفهوم نوع أدبيٍّ ما، ينظر  إلى الخصائص العامَّة المشتركة، في الوقت نفسه الذي يقرّ فيه بوجود التفرُّد، ويعمل على تبيّنه، وتبيُّن تلك الخصائص التي تُتّخذ معياراً للتصنيف.

 

نبدأ بتمييز السيرة الذاتية من أنواع أدبيَّة أخرى تشترك وإيّاها في عدد من الخصائص، وأوّل هذه الأنواع المذكِّرات. ففي المذكِّرات يُعنى كاتبها بتسجيل ما يحدث، ويبدي رأيه فيه، أو يسجّل ما يجري من أحداث من منظوره، من دون أن يُعنى بأدبيَّة نصِّه، ومن دون أن يركّز على تدوين وقائع حياته، فتخرج كتابته إلى نوعٍ آخر سوى السيرة الذاتية، فكأنّه يكتب سيرة تاريخية من منظوره، وثانيها الذكريات، وفيها يسترجع كاتبها ما حدث، من دون أن يلتزم بوقائع السيرة، إذ إنّ الذاكرة هي التي تملي ما يتمّ تسجيله، وفي هذه الحالة تهيمن الأحداث الأكثر حضوراً في الذاكرة، فتتمّ كتابة انتقائية من السِّيرة، وثالثها اليوميات، وفيها يسجّل الكاتب ما يجري في أيامه من أحداث، ويعلّق عليها، ويكون هذا التسجيل متقطِّعاً، لا يشكّل بنية نصّيّة متكاملة ومتماسكة، وفي الغالب لا تتمّ العناية بأدبية النص على صَعيدَيْ البنية الكلِّية والأسلوب، ورابعها الاعترافات، وفيها يسجّل الكاتب ما يودّ أن يعترف به من أمور يودّ أن يوصلها للآخر، وقد تتضمّن الأنواع سالفة الذكر اعترافات. وهذه الاعترافات تمثّل بعض ما ينبغي أن تتضمَّنه السيرة الذاتية من أحداث ووقائع.
إنّ المذكرات والذكريات واليوميات والاعترافات أنواع من الكتابة فيها عناصر من السيرة الذاتية، وليست سيراً ذاتية، وليست سيراً، لأنّ السّيرة قصَّة حياة شخصٍ ما متميّز، تتّصف بما تتّصف به القصَّة من خصائص، في الوقت نفسه الذي تختلف فيه عنها، من حيث روايتها قصة حياة شخص معيَّن، ما يعني أنّها، في الوقت نفسه، بناء أدبي متخيَّل، وتسجيل لوقائع حياة شخص ما معيَّن، وهنا تتمثّل إشكاليتها، فكاتبها ينبغي عليه أن يجعل من التسجيل الوثائقي بناءً أدبياً متخيَّلاً ناطقاً برؤية إلى عالمه، فمن ثنائية تضاد هي: تسجيل/ تخيّل، ينبغي أن يتشكّل نصٌّ أدبي متميِّز بخصائصه التي تميّزه من أي نوعٍ أدبيٍّ، سردي آخر.
فما هي السِّيرة؟ وما خصائص السّيرة الذاتية؟

السِّيرة وأنواعها
تفيد المعاجم اللغويَّة بأنّ كلمة السّيرة تعني «الطريقة»، و«الطريقة المحمودة المستقيمة»، و«حديث الأوائل». ويفهم من هذه الكلمة، اصطلاحاً، أنّها كانت تدل على الترجمة المأثورة لحياة 
النبي محمد ([). 
يقول يحيى عبدالدايم: «ظلّت السّيرة عصوراً يقتصر استعمالها على بيان حياة الرسول ([)، ثمّ تطوّر الاستعمال، في عصور تالية، فاستعملت بمعنى حياة الشخص بصفة عامّة». ويميّز بين الترجمة الذاتية والسّيرة الذاتية، فيقول: «نرى كلمة ترجمة يجري الاصطلاح على استعمالها لتدلّ على تاريخ الحياة الموجزة للفرد، وكلمة سيرة يصطلح على استعمالها لتدلّ على التاريخ المسهب للحياة». ويضيف، فيقول: «وإذا كان السابقون - على ما نرى - يفرّقون في الاستعمال بين اللفظتين، فإنّ الاصطلاح الحديث لا يفرّق بينهما كثيراً، بل يستخدم إحداهما مرادفة للأخرى، ومن ثمّ جاء الاصطلاح المعاصر: الترجمة أو السّيرة الذاتية».
لا نوافق على ما ذهب إليه عبدالدايم في التسوية بين الترجمة والسّيرة، ونرى أنّ السّيرة بعامّة، هي قصة حياة شخص ما، وهي أنواع، منها الترجمة، وهي كما قال عبدالدايم «تاريخ الحياة الموجز للفرد»، فتقرب بذلك من التاريخ أو تكونه، ومنها السّيرة / القصًّة، وفيها تؤدَّى المادة التاريخية من منظور الراوي، في بناء متخيّل ينطق برؤية كاتبها، فتكون أدباً، أو تأمُّلاً في الوقائع يؤدَّى في بناء يقرب من الأدب أو يبتعد عنه، بمقدار قربه من إقامة البناء الأدبي المتخيّل أو بعده عنه، ومنها السّيرة / البحث، التي تتّبع منهجية علميّة في تقديم معرفة بوقائع التاريخ: تاريخ الفرد أو المجتمع وحقائقه.
ما يعني الباحث، في النص الأدبي، هو السّيرة الأدبيَّة، أي السّيرة: المتخذة ترجمة الحياة مادة أوليّة لإقامة بنائها القصصي الناطق برؤية صاحبها، وهي إمّا سيرة شعبية مثل «سيرة بني هلال» و«سيرة عنترة»...، أو سيرة ذاتية مثل «الأيام» لطه حسين، و«رحلة جبلية... رحلة صعبة»، و«الرحلة الأصعب» لفدوى طوقان، وسيرة شخص آخر، أي سيرة غيرية، مثل سيرة «جبران خليل جبران» لميخائيل نعيمة، وقد يعمد الأديب إلى كتابة سيرة ما نصًّا روائيًّا، من دون أن يعلن عن ذلك، مثل «بقايا صور» لحنا مينة.
بعد أن تعرّفنا على مفهوم السّيرة وأنواعها، نجيب عن السؤال الثاني، وهو:
ما خصائص السيرة الذاتية؟ ثمّ ما مفهومها؟
الخصيصة الأولى تتمثّل في المادَّة القصصيّة، فالمادة القصصية، في السّيرة بعامَّة، وفي السّيرة الذاتية بخاصَّة، هي وقائع حياة شخص ما معيَّن، فكاتب السّيرة الذاتية ينبغي أن يلتزم بتقديم هذه الوقائع، لا أن يقدِّم وقائع متخيّلة، أو يقحم وقائع لا علاقة عضوية لها بما يرويه، والثانية تتمثّل في الاختيار، أي اختيار وقائع يرويها من ذلك الكمّ المتشكِّل من تفاصيل كثيرة، وذلك لأنّ أي كاتب مهما بلغ مستواه من الدقَّة لا يستطيع أن يسجِّل تفاصيل الحياة جميعها، وإنّما يستطيع أن يختار. وتتمثَّل البراعة في اختيار اللحظات المهمَّة من سيرة الحياة. ونعني باللحظات المهمَّة، اللحظات المفصليَّة/المحطات، وقد يكون منها تفاصيل صغيرة دالَّة. تكشف هذه اللحظات المهمّة الواقع والرَّؤية إليه، فعندما روى طه حسين، على سبيل المثال، حادثة سعيه إلى تجاوز السِّياج، في أيّامه، في قريته، كشف عنصراً أساسياً من عناصر شخصيته الساعية إلى التجاوز، كما أنّ روايته لحادثة تناول الطعام، وتقريره ألا يتناول نوعاً معيناً منه تكشف عنصراً آخر أساساً من عناصر شخصيته، وهو احترامه لنفسه وتقديره لها، وقوّة إرادته وصلابة عزمه على تحقيق ما يريده، وهذا ما بدا واضحاً طوال مسار حياته. والثالثة، نظم هذه الوقائع في بناء سردي متكامل متماسك، تنتظم فيه عناصره لتنطق بدلالة كليّة. وهذه العناصر هي الوقائع والشخصيات والزمان والمكان. ونظمها يتحقَّق من منظور يقيم البناء السردي الناطق بالرؤية إلى العالم، هذا المنظور يحكم جمع المادة القصصيَّة، من ذكريات، ويوميات، ورسائل، ومذكرات ومدونات...، والاختيار منها وترتيبها، أي إقامة نظام سردي تترتَّب فيه الوحدات السرديّة، لتنطق بالدلالة الكليّة. وهذا المنظور يشكِّل الفضاء السيري، أي المكان الجغرافي وأشياءه، وعلاقات هذين بالشخصية، ليكون فضاءً خلاّقاً للدلالة، في الوقت نفسه الذي يؤدّي فيه وظائف المرجعيَّة، والإيهام بالصدقيّة، وتنمية السَّرد، والتشويق...، كما أنّ هذا المنظور يشكّل الشخصية، من حيث هويتها على المستويات الجسديَّة والاجتماعية والثقافية والنفسية والأخلاقية، فيحرص على أن يدل الخارج على الداخل، أي أن يشكّل الشخصية، وهي تعمل، وليس من طريق الوصف المباشر فحسب، وإنّما من طريق الحدث والحوار والعلاقات، ومن حيث موقعها ودورها، وبرنامجها السردي الذي تسعى إلى تحقيقه، تساعدها شخصيات وتناوئها شخصيات أخرى، فتخوض صراعاً، قد تُحقَّق في نهايته الإنجاز، وقد تخفق في تحقيقه، ما يعني ضرورة الصدقية في هذا الشأن.
كما أنّ المنظور هو الذي يقيم بناء زمن السّيرة. والزمن، كما هو معروف، مقياس اتفاقي ابتدعه الإنسان لينظَّم شؤون حياته، وليس كائناً حسيّاً ملموساً، وهو في النص الأدبي ذاتي لا موضوعي، أي إنساني نفسي يمثّل خبرة الفرد الذاتية وحياته الداخلية. وبناؤه هو نظام خاص، يسمّيه النقاد «حبكة»، وهذه تعني إجادة إحكام البناء، وهي تحتّم إثارة الفضول، والتشوُّق لمعرفة ما سوف يلي من أحداث. والحبكة في القصِّ تعادل الإيقاع في الشعر. وفي الغالب يكون مسار الزمن في السّيرة الذاتية خطيّاً، يمضي وفاقاً لترابط سببي مقنع، وقد يعتمد بعض كُتَّاب السيّرة المفارقة السردية، كما فعل ميخائيل نعيمة، لدى كتابته سيرة جبران خليل جبران، وهي سيرة غيرية، عندما بدأ من النهاية، من وفاة جبران في المستشفى، ثمّ عاد إلى الماضي. وإن يكن كاتب السّيرة الذاتية يعتمد المسار الخطّي، فإنّه يقيم بناء تتّسق فيه الأحداث بعضها في إثر بعض، يحكم تعاقبها مبدأ السببيَّة، وتتمثّل المفارقات السردية في اختيار الأحداث من نحو أوّل، وفي إيقاع السرد من نحو ثانٍ، وتقنيات الإيقاع كثيرة، منها ما يسرِّعه كالتلخيص، ويعني أداء أحداث زمنية طويلة في مقطع سردي قصير يلخّص ما حدث، والثغرة، وتعني تجاوز بعض المراحل في السيرة، والاكتفاء بالإشارة إليها، مثل القول: «ومرَّت سنتان...»، ومنها ما يبطئه كالمشهد، ويعني آونة زمنية قصيرة تتمثّل في مقطع نصّي طويل، يقدِّم لحظات مشحونة، ويدفع الأمور إلى الذروة. في التلخيص يصغي القارئ إلى الراوي، في المشهد يشارك القارئ، من طريق الحوار، في رؤية الشخصيات، وهي تتحرّك، وتمشي وتتكلم كأنّه في مسرح، والحوار ينبغي أن يؤدّي وظائف، منها: تنمية السرد، بيان خصائص الشخصية...، ومنها ما يوقف السرد، كالوقفة وتعني توقُّف الزمن توقُّفاً تاماً، فيتحرّك النص من دون أي حركة زمنية، وهذا يحدث في مقاطع الوصف الذي ينبغي أن يكسب السرد صدقيته، وأن يكون خلاَّقاً للمعنى. ومن هذه التقنيات الحديث الذاتي الذي يكثف السرد، فقد يسترجع، وقد يستبق، وقد يكشف.
إنّ هذه العناصر ينبغي أن تشكّل بناء كلياً، والبناء، بعامّة هو «كلّ مكوّن من عناصر متماسكة، يتوقّف كلّ منها على ما عداه، ولا يمكنه أن يكون ما هو إلاّ بفضل علاقته بما عداه».
يقام هذا البناء الكلّي من منظور قصصي، كما قلنا، أي إنّ الكاتب ينظر إلى وقائع سيرته الذاتية من موقع ما، أو من زاوية رؤية ما، فتحكم رؤيته اختيار مادَّة السيرة وانتظامها في بناءٍ ينبثق منها، وينطق بها عند اكتمال تشكُّله.
والمنظور يمثّله في العمل القصصي، الرَّاوي، وهو أداة البثِّ التي يبدعها الكاتب، ويفوِّض إليها أداء عملية القصِّ، والراوي في السيرة الذاتية، يروي بضمير المتكلِّم، بوصفه الشخصية الأساس في السيرة، وقد يحدث ويوكل الكاتب إلى راوٍ من خارج الأحداث رواية السّيرة، كما فعل طه حسين في كتاب «الأيام»، وذلك ليكسب الرواية موضوعية، فيروي بضمير الغائب، كأنّه يتحدَّث عن شخصية أخرى، ويكون هذا الراوي عليماً يعرف كلَّ شيء، ويستطيع أن يصل إلى المشاهد جميعها عبر جدران المنازل، وأن يدرك ما يدور في خلد الشخصيات ورغباتهم الدفينة، والشخصيات نفسها لا تعي ذلك, وهذا هو السرد الموضوعي، في حين أنّ الراوي/الشخصية يكون محدود المعرفة، يروي ما يتيح له موقعه أن يعرفه. وهذا يعني أنّ اختيار الراوي تحدِّده رؤية الكاتب، وهدفه من كتابة سيرته، فهل يريد تقديم ما يعرفه في حدود معرفة الراوي/ الشخصيّة، أو يريد تقديم ما يعرفه في حدود معرفة الراوي/ العليم؟ الإجابة تنطق بها رؤية الكاتب التي يشكّلها هدفه من الكتابة، فما الذي يريد قوله؟ وما الرسالة التي يريد إيصالها؟ وما الموقع الذي يريد لسيرته أن تتخذه في البنية المجتمعية؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تشكّل المنظور، وهو - أي المنظور - ما يشكّل البناء السيري.
الجدير بالذِّكر أنّ المنظور الأيديولوجي، ويعني «منظومة القيم العامَّة لرؤية العالم ذهنياً»، ينبغي ألاّ تكون مباشرة، وإنّما ينبغي أن تُستقى من النصّ السيري لدى اكتمال تشكّله، أي تؤخذ كما تبدو في النّص السيري، وليس كما يصرِّح به الكاتب، وينبغي ألا تظهر منفصلة عن السيرة، وإلاَّ غدت السيرة خطاباً، وإنما ينبغي أن تتكشَّف في دلالة كلية لدى اكتمال التشكّل.
يبقى عنصر أساس، وهو اللغة التي يقام منها البناء الأدبي السيري، فالبدهي أن تكون لغة سليمة، معجمها اللغوي مأخوذ من لغة الحياة اليوميَّة المتداولة، وقد تستخدم ألفاظاً عاميّة إن اقتضى الأمر ذلك، أو ألفاظاً أعجمية، شريطة أن تصاغ وفقاً لأنساق واشتقاقات عربية، وأن توضع بين مزدوجين، وتركيب عبارتها بسيط، ويحبَّذ استخدام التركيب القصير، الخالي من الزخرفة البديعية، والتحذلق البياني، من دون أن يعني هذا التخلي عن جمالية التعبير، والمهم أن يكون الأداء اللغوي سهلاً مباشراً، من دون تعقيد، فيأتي سرداً موضوعياً لا يخلو من ذاتية وبوح، في الحالات التي تقتضي ذلك.

مفهوم السيرة الذَّاتيَّة
يمكن، في ضوء ما سبق، الخلوص إلى تحديد مفهوم للسيرة الذاتية كما يأتي:
السّيرة الذاتية بنية قصصية يتشكّل نسيجها من عناصر هي: السرد، الوصف، الحواران: الثنائي والذاتي، الخطاب، الوثائق، تتمثّل مادتها الأوليّة/ متنها السيري في وقائع حياة شخص ما معيَّن، مجرَّدة من أي لبوس يزيِّف الحقائق، يتحوّل الراوي، من منظوره، بها إلى مبنى سيري يلتزم فيه الحقائق التاريخية في الوقت نفسه الذي يكون فيه متخيَّلاً، تتشكّل عناصره: الوقائع، الشخصيات، الزمان، المكان... في نظام متكامل متماسك، ينطق، لدى اكتمال تشكّله، بالرؤية التي صدر عنها، ما يعني أنّه استعادة قصصية لتاريخ حياة شخص ما ينطق بدلالة ويؤدَّى بلغة سليمة، سهلة، بسيطة، لا تخلو من بوحٍ شعري في الحالات التي تقتضي ذلك. وبقدر ما يكون مستوى تمثيل السيرة ثنائية الوقائع ـ الحقائق/ المبنى المتخيل بقدر ما يكون مستوى أدبيتها، وقديماً قال جوته في تقديمه لسيرته الذاتية: «أنا لم أغيِّر شيئاً يتعلق بما أعلمه، ومع ذلك لابدّ من أن أكون قد غيّرت أشياء كثيرة من غير علمي». فإعادة الحياة تكون في الغالب إعادة حقيقة، متخيَّلة، في آن تمليها الذاكرة، ويبنيها التخيّل ■