مالك حداد وشجرة صنوبر على راحة اليد... يدِه

مالك حداد وشجرة صنوبر  على راحة اليد... يدِه

من الــمفارقات أن بعضاً من أعذب نصوص الأدب العربي قد كتب بلغة غير عربية؛ كتبها مالك حداد، هذا الذي من قسنطينة؛ بقلمه الفرنسي، من منتهى ناموسه الشاعري، ومن صميم وجوده العربي، الجزائري.
كتب مالك حداد بقصد أن يهب قارئه غزالةً؛ غزالة حية، حقيقية. وكتب بخلاصة الشقاء الذي هو تبصيرٌ كما هو تنغيص. وإذ به يخط كلمةً بعد كلمة وتستوي نصوصه بادرات لم يُلحَق إليها، وإذ به تحلو بقربه اللغة وتمضي في حد ثاقب من الدقة وفريد من المطواعية، وتستوي ملهمةً ذات عدوى بلا رادٍ، وتغنِّي معه. مع لغة مالك حداد الخاصة تأتي أفكاره الخاصة التي ما من سبيل إليها إلا على ذاك النحو حصراً، فما كانت اللغة وسيلةً لغيرها؛ اللغة هي الأفكار، وأي تطفيفٍ في بناء اللغة هو تطفيفٌ في مضمونها.

 

تبدأ قصص مالك حداد محققةً ناموسه على الفور، وتمضي «مالكيةً»، وتنتهي كغصن في شجرة الصنوبر المنتصبة في راحة يده. في رواية «التلميذ والدرس» يتفشى ظهور «فضيلة»، التي هي أمٌ شابة تريد الإجهاض؛ ساعية لإسقاط جنينها المتكون لها من حبيبها «عمر»، الشاب، طالب الطب، المناضل، المقاتل في معارك التحرير الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي. وتلجأ فضيلة إلى أبيها الطبيب إيدير صالح، لكي يعاونها في «إسقاط هذا الولد»، متعللة بأن مجيئه في أثناء هذه الظروف غير المناسبة «سوف يعقد كل شيء». وتطالب فضيلة أباها إيدير كذلك بأن يخفي في بيته حبيبها عمر، المطارد والمطلوب من السلطات. هي، في الوقت نفسه، تطاعن أباها تلميحاً بالإشارة إلى أن السلطات لا تتشكك فيه لأنه غير مشارك – تخاذلاً أو خيانةً، حسبما ترى فضيلة - في النضالات التي تنخرط هي فيها مع حبيبها الثوري. والأب، إيدير، يتذوق كل كلمة تقولها ابنته وكل ما لا تقوله وكل حركة وكل معيار وكل تصرف منها، بمحبة واستيعاب أب لابنته المختلفة عنه، غير أنه يرفض فكرة ابنته لإسقاط الولد، يرفضها كإهانة فظة، قبل أي شيء. وإن يغفر فإنه، بالمطلق، لن يغفر لفضيلة وعمر وقاحة أنهما فكرا في كونه يستطيع القبول والقيام بـ«إسقاط الولد»، حتى من دون الخوض في التعقيد الكائن أصلاً بموجب أن أم «الولد» وأباه غير متزوجين. يكتب مالك حداد على لسان الأب: «الحب الذي يدعي التعقل لا يبعث فيَّ أي طمأنينة»، لكنه يكتب أيضاً: «أريد حصتي من اضطراب ابنتي». عسى ذلك هو الدرس الذي يتملاه التلميذ، ولا حول له على البوح به جهراً: «فضيلة، حينما كان يصاب إصبعك أو كنت تصابين بحرق، كنت أنفث على جرحك الصغير: «بييييففف... انتهى، انتهى الجرح الصغير»، ويكون الجرح الصغير لايزال رابضاً إلا أنك لا تعودين تتألمين. كنت أنفث فيه، وكان ذلك يعادل كل المراهم. اليوم، يا فضيلة، لم تعد في تلك الطاقة، والجرح غدا أكثر خطورة، وصارت رياح العواصف الهوجاء هي التي تنفث فيه...».

إيقاع موسيقى الحروف
يستوفي مالك حداد الإسناد الموسيقي لكل حرف يكتبه، ويكترث لإبداع السياقات الصائبة الـمهيئة للشعر الكامن والطافر في قصصه من دون أن يتكتم على حوادثها، وإن يكاد لا يبوح إلا تسريباً أو توريةً، كأنما القصة نبات ينمو ولا تتاح ملاحظة نموه إلا بعد نموه. إلى ذلك تظهر قصة سعدية التي تزوجها إيدير لأجل مواءمة اجتماعية حتمية تكاد ترقى إلى مستوى الفرض الديني. سعدية التي أهدت إيدير خصلةً من جديلتها كانت قد أحبته كرجل حبيب تشتهي أن يولدها أطفالاً، لكن إيدير أحب سعدية كأخت. كان أهل سعدية لايزالون من الـملاك القرويين الموسرين، حين كان والد إيدير يبيع أفدنة أرضه ومعصرة الزيتون الموروثة وحقل العنب، سنة بعد سنة، لتدبير نفقات دراسة إيدير للطب في باريس. في المقابل؛ لم يكن لدى آل سعدية مبعوث في مثل مقام إيدير يدرس في باريس ويرجع إلى قريته في أثناء استراحات الصيف كأنه مجدٌ يتحقق أمام الأنظار وكأنه جاهٌ بلا نظير. ومرضاةً للمشيئة الاجتماعية لم يكن غريباً أن يجد والد إيدير فسحةً أثناء احتضاره لتوصية ابنه بالزواج من سعدية. ولقد تزوجها إيدير، ثم أنجب منها فضيلة، لكنه داوم على اصطناع الانشغال عنها، إلى أن هجرها فماتت في مصحة عقلية. ستؤنبه ابنته فيما بعد وتعيره «وظللت خاوي اليدين»، فما أوخم الذنب والخسارة والعقوبة وقد باتت جميعها تغذي بعضها بعضاً من غير ما إبراء. لن ينجو إيدير، حتى لو كانت نجاته في مستطاعه، ذلك أن الحياة متصلة وابنته فضيلة قد كبرت وصارت تشهر له نذالته في حق أمها ولو بالإيماءة، ولو بالصمت، ولو بملامحها الموروثة عنها. ولايزال الوضع ذا تعقيد، إذ لا يمكن إغفال وجود جرمين، الفرنسية، زميلته في الدراسة الجامعية، ومحبوبته، التي انطلق في حبها الحب الذي يصير بوسع المرء عنده أن يطول المدى وأن «يقطف النجمات»، وقد دعي لزيارة أسرتها حيث أمضى أسبوعين، لكن جرمين لم تصارحه بأنها مخطوبة إلا بعد أن كان قد تولَّهَ فيها إلى غير رجعة، وبعد أن عرض عليها الزواج، وقتما كانت سعدية تنتظر في الجزائر أن تعلن كعروس له.

النبرة أم الكلمة؟!
الكلمات! ما الكلمات إذا لم تؤخذ في الاعتبار النبرة التي قيلت بها؟ النبرة أهم من الكلمات؛ فكيف إذاً يسوغ للمرء أن يتشكى إذا كانت الكلمات غير مسيئة كثيراً بينما النبرة هي المسيئة وهي غير المتفهمة وهي الـمهينة؟
هذا الكتاب هو عن النبرة؛ عن نبرات الابنة فضيلة، وعن خلجاتها أيضا. إننا، القراء، بعيدون، لكن أباها إيدير هو من يسمع وهو من يرى، وهو من ينقل إلينا، فيصير لنا أن نستفيق على الرعونة التي يتعامل بها الثوريان عمر وفضيلة مع الجنين، مع الحي، مع الحقيقي، ويصير لنا أن نرتاع من قلة الرشاد التي لا تبشر بما يشرح الصدور عن مستقبل الجزائر الحرة، بل تنذر بأن ذلك المستقبل هو قيد الإهدار. لن نجهل أن عمر غاضبٌ، وأن عمر حانقٌ، وأنه يمزق بطاقة انتسابه للحزب الشيوعي بعد أن اتخذ الحزب موقفاً خائباً، على خلاف المأمول منه، ولن نجهل إخبار فضيلة لأبيها بأن ثلاثة إخوة لعمر قد قضوا نحبهم في المعارك، فيتعجب أبوها، في خاطره، من إصرارها هي، فضيلة، على قتل «ولدها»؛ أهذا من أجل أن يزداد أعمامه الثلاثة قتيلاً؟! لن نجهل أبداً أن مستقبل الجزائر - على الرغم من أناشيد الاستقلال والتحرير - كان في عسر. عساه هو الدرس.
لكن، أيضاً، هذا الكتاب ليس فقط عن النبرة ولا الخلجة ولا التصارع ولا الحنين، وليس فقط عن مصير الجنين المتنازع عليه فكرياً، إنما هو إنصاتٌ هائمٌ للجزائر ولروح الجزائر وتبليغٌ عنها. الأب يسمع ويحس ابنته لكنه يتسمع، في المقابل، نبرة الجزائر، ويتشوف، في المقابل، خلجة الجزائر. ولا يني الكاتب يبث، مع حفاوته بروح قسنطينة وروح الجزائر، وطنه، حفاوته بالروح الإنسانية وقد تملصت من شـحنة الشعارات وعبوة الأيديولوجيات. هذا الكتاب يدرج حكايات، إلا أن مأثرته هي في تحري أصداء الحكايات على القلب، وهي كذلك في تقصي المشاعر التي تزوبعها أحداث الحكايات، ولولا النسغ الأساسي الأصيل الذي هو شاعرية الكاتب فيما يتقدم من كتابه وما يتأخر، ولولا إحراز الكاتب للغته الخاصة ولأسلوبه الخاص، ما استطاع الذهاب إلى ذلك الزائغ ولا إلى ذلك النفيس.
يحتفي مالك حداد بما له؛ باللقلق والصنوبر والحلزون، وتتندى بين أصابعه كؤوس الليموناده المثلجة.
كان من ضمن أنصبة الدكتور إيدير صالح أن يكون هو الطبيب المجبور بالتزام الصدق حيال إخبار صديقه وزميله الجراح روبير كوست بأن «الأمر انتهى»؛ بأن السرطان قد تمكن من إنهاء حياته؛ حياة الجراح الذي لم يتوان في الإتيان بالمعجزات لأجل جبر حيوات الآخرين. سيموت الدكتور كوست الليلة، وصديقه الدكتور إيدير سيصاحبه بخياله حتى تفاصيل مثوله بين يدي الله. سيسارع الدكتور إيدير إلى بيت أرملة صديقه لمواساتها، إلا أنه لن يرجع إلى بيته وحده بل – دونما ادعاءات ولا تبجحات - في صحبة عمر الذي كان الدكتور كوست يوفر له الإيواء والمخبأ، قبل أن يتسلم المهمة صديقه إيدير، ولو تأتى ذلك بغير توحد في الأفكار بين إيدير وعمر وبغير إلزام، ولو تأتى ذلك من باب الرأفة لا التضامن؛ إكراماً فحسب لابنته المحبوبة فضيلة، وإعمالاً لسنن صديقه الغالي كوست.
الحرب هي هي، حتى لو كانت حرب تحرير، حتى لو كانت هي حرب تحرير الجزائر. الحرب أوصدت باب التضامن وفتحت باب الشك والاتهام وجلبت الحطة. يكتب مالك: «الحرب هي أعتى ما يمكن أن يصله الإنسان من خروج عن المعنى».
هذا الكتاب هو مساءٌ. وذلك المساء كان وقدة نار على الروح، وكان إيدير شقياً ومزعزعاً عن مكانه. ما بال الجزائر بعيدة! إن الجزائر لبعيدة، وإنها لقصية مثل نجمات لا تقطف. وهذا الكتاب هو وحشة الدكتور إيدير. لقد صار راغباً في الموت، ويرتجي أن تتسلم ابنته اعتذاره: «ليس لي من عتب على السنونوة، فلا تعتبي علي إن أنا مضيت». مات صديقه وزميله الدكتور كوست، وهو يكاد يحسده على موته، ويرثي نفسه: «عند عتبات خريف عمري أجدني دون فرح، ومن دون مدعاة إلى ذلك. أضف إلى ذلك أنني أحتاط من الناس الفرحين. لا أمقتهم، أحتاط فقط؛ فهم يثيرون قلقي. اعتقدت دوماً بأن تفاؤلهم هو في مرتبة الجهل أو التجديف»، «كم أرغب في أن يكون لي اسمٌ آخر، أن أكون من جنس مغاير، أن أغير لون ذاكرتي وأوهامي. من يعلم؛ فربما عند نهاية الطريق يوفر لي الحظ الظفر بامرأة تكون في انتظاري، وأجدها جميلة، من يعلم؟»، «يا إلهي! كم هي على خطأ تلك العبارة الرائجة التي تدعي أننا لا نموت سوى مرة واحدة». لكن الوحشة تجفل من طيف العشق: «لن يكون لليلة أن تنتهي من دون أن تتدخل جرمين بطريقة أو بأخرى. أنا مستدعى من قبل جرمين، علي أن أتعود على هذه البداهة: «أنا عجوزٌ، أنا طاعنٌ في السن، وأنا أحب جرمين قبل كل شيء. حبي هو نفيٌ للزمن».

هذا الكتاب هو مساءٌ
النجوم في سماء ليل الجزائر منثورة مثل شواهد اليقين، والكاتب يتأهب للصمت أو أنه يتأهل له. «أنا مقيمٌ غير بعيد عن القطاف. أنا ميتٌ في رفقة العنب...» ■