البروفيسور تشو وي ليه: تعليم اللغة العربية في الصين لايزال يحتاج إلى مزيد من جهود التطوير
يعد البروفيسور تشو وي ليه واحداً من أبرز دارسي ومعلمي اللغة العربية وآدابها في الصين، وأحد المخلصين في نقل التراث الثقافي العربي للغة الصينية، فهو، ربما على خلاف كثيرين ممن يشاركونه التخصص في الصين، لا يتوقف عند علوم اللغة وآدابها فقط، بل يرى أن هذا الاهتمام باللغة العربية لا بد أن يوازيه جهد كبير آخر لفهم الثقافة العربية؛ بما يقتضيه ذلك من فهم للظواهر الاجتماعية والظروف السياسية والقوانين وعلوم الإدارة وغيرها من مجالات.
وقد قدم جهداً بارزاً في نقل العديد من الأعمال التراثية العربية إلى الصينية، وكذلك من النصوص المعاصرة، وبينها كتاب «البحث عن آفاق أرحب... مختارات من القصة الكويتية المعاصرة»، من إعداد الدكتور مرسل العجمي، الذي صدر عن سلسلة كتاب العربي في احتفالها بيوبيلها الذهبي. وقد حصل المستعرب الصيني قبل فترة وجيزة على جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة، وسبقها عدد آخر من الجوائز والتكريمات من مؤسسات عربية ثقافية، وارتأينا أن نبدأ هذا الحوار من الجائزة قبل أن نعرج على قضايا اللغة والتبادل الثقافي العربي - الصيني.
< البروفيسور «تشو وي ليه»، أو إذا سمحت لي أن أناديك باسمك العربي «عبدالجبار»، لقد نلت أخيراً جائزة كبيرة على مؤلفاتك في مجال اللغة العربية وعلى أعمالك الكثيرة في مجال تعريف أهل الصين بالتراث العربي، وتعريف العرب بالفكر الصيني... هل لك أن تشرح لنا ماهية هذه الجائزة؟ وتصف لنا شعورك عندما تلقيت خبر حصولك عليها؟
- بالفعل شعرت بالفرح والفخر عندما بلغني خبر فوزي بجائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز (رحمه الله) العالمية للترجمة. لقد سبق لي أن حصلت على شهادات عدة للتقدير من الجانب العربي، مثل وزارة التعليم العالي المصرية والمجلس الأعلى للثقافة، وجائزة مجلس التعاون لسفراء دول الخليج العربية في بكين، إلا أنّ هذه الجائزة تمثل في نظري أعلى مستوى في مجال الترجمة للمحيط الثقافي العربي، وأوسع تأثيراً على الصعيدين الإقليمي والعالمي، كما تتمتع بالسمعة الطيبة لدى العلماء العرب وكبار المستعربين الأجانب.
لقد أرسلت مختارات من أعمال الترجمة التي نشرتها، وهي بعنوان «بصمات العمر» (3 مجلدات) وتتعلق مواضيعها بالتاريخ والجغرافيا والأدب والفنون والعلوم الاجتماعية، وقُمت بترجمتها ومتابعة طباعتها طوال عشراتٍ من السنين. وقد تشرفت بترشيحٍ قوي من الطرفين الصيني والسعودي رسمياً وعلمياً. وبالمناسبة، أتقدم بأسمى آيات الشكر والامتنان إلى السفير الصيني لي تشين وين بالرياض، والسفير السعودي يحيى الزيد، وكبار المفكرين السعوديين، مثل الأمين العام لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية د. يحيى بن جنيد، ورئيس مدينة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للعلوم والتكنولوجيا السابق
د. محمد السويل، والأساتذة الصينيين المتخصّصين بالترجمة. فالشرف بنيل الجائزة لا يعود إليّ شخصياً فقط، وإنما ينتمي إلى الصين وجميع المستعربين الصينيين.
< في نظرك، هل تكفي مثل هذه الجوائز وحدها في النهوض بالفكر العربي وبالثقافة العربية ونشرهما في الأوساط الثقافية العالمية؟ وإذا كان هناك من أعمال أخرى يجب القيام بها في هذا المجال، فما هي برأيك، وكيف يمكن تنفيذها؟
- هذا السؤال حول النهوض بالفكر العربي والثقافة العربية ونشرهما في الأوساط الثقافية العالمية، يتكوّن من جزأين: كيفية النهوض بهما، والطريقة الفعالة لنشرهما في العالم.
من المعترف به عالمياً أنّ الفكر العربي كنزٌ نفيس للمجتمع البشري قديماً وحديثاً، فهو من أهم مُكوّنات النهضة العربية التي ظلت الأمة العربية تسعى إلى تحقيقها جيلاً بعد جيل، بل صار يحتل مكانة ملحوظة في مواد السباق الدولي لبناء قوة الدول العربية الناعمة بين دول العالم. لذا يتوقف النهوض بالفكر والثقافة أولاً على إرادة صاحبهما - الدول العربية حكومة ومؤسسات ومفكرين وعلماء - وتخطيطه ودعمه. ومن دواعي سرورنا أننا لاحظنا، خاصة منذ دخول القرن الجديد، أن بعض الدول العربية قد أعارت الاهتمام المتزايد ببناء قوتها الناعمة من خلال إقامة معرض الكتاب الدولي والأسبوع الثقافي العربي ومهرجان الجنادرية للثقافة والتراث، ومهرجان القاهرة للأفلام السينمائية، وإنشاء جوائز شتى مثل الجائزة العالمية للترجمة التي حصلت عليها، وجائزة الشيخ زايد الإماراتية للكتاب، إضافة إلى الملتقى الدولي للترجمة الذي أقيم بالقاهرة وقد شاركت فيه بصفتي أحد المُكرّمين الأجانب العشرة في الاحتفال بصدور الألف الأول من المشروع القومي للترجمة عام 2006.
إن كل هذه الجهود المبذولة من الدول العربية تستحق بلا شك التشجيع الإيجابي والتقدير البالغ، فهي تصبّ في مصلحة نشر الفكر العربي والثقافة العربية في العالم.
على وجه العموم، يعتمد نشر الفكر العربي والثقافة العربية في الأوساط العلمية العالمية أساساً على المستعربين الأجانب، وخصوصاً مستعربي الدول الكبرى، إذا اتخذنا تعريف المستعرب على أنه «عالم ثقة في كل ما يتصل بالعرب وبلاد العرب أو اللغة العربية والأدب العربي». وفي الواقع قام المستعربون الغربيون بدورٍ كبيرٍ في هذا المجال عبر التاريخ.
وبدأ المستعربون الصينيون يهتمون بترجمة الأعمال العربية منذ زمن غير وجيز، بهدف سد حاجة الحياة الدينية إلى المسلمين الصينيين وزيادة فهم الحضارة العربية الإسلامية من أجل التبادل الثقافي بين الصين والعرب. وبذلك تراكم تدريجياً رصيدٌ علمي يتجسد في الأبحاث وأعمال الترجمة.
وتنقسم المؤلفات العربية المترجمة للصينية إلى نوعين، أولهما يتضمّن معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري، وسائر أمهات الكتب العربية الكلاسيكية، مثل «فجر الإسلام»، و«ضحى الإسلام»، و«ظهر الإسلام»، و«رحلة ابن بطوطة»، و«مقدمة ابن خلدون»، و«المعلقات»، و«البخلاء»، و«الأدب الكبير والأدب الصغير»، و«المقامات».
أما النوع الثاني فينتسب إلى مجال الأدب. إن المؤلفات العربية المترجمة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية قليلة أو نادرة، لأنّ الصينيين شأنهم شأن العرب اعتادوا في بحوثهم العلمية على المراجع والمصادر الغربية، كما أنّ المستعربين الصينيين لا يعرفون في الغالب الأعمال العربية الممتازة لتقديمها إلى العلماء الصينيين. ونتمنى من الطرف العربي دائماً أنْ يقيم جوانب نشاط دورية لتقويم أعماله الفكرية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، وأنْ يرشّح أفضلها للأوساط الثقافية العالمية. وسبق أن نشرنا «البحث عن آفاق أرحب... مختارات من القصة الكويتية المعاصرة»، وقد تمّ ذلك من خلال مشاركتي في حفل اليوبيل الذهبي لإنشاء مجلة «العربي» (يناير 2008). والآن، في الوقت الذي طرحت حكومة الصين فيه المشروع الاستراتيجي لبناء طريق الحرير الجديد البري والبحري، نزيد اهتمامنا بالبحوث والدراسات لأحوال الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط في مختلف الميادين. إذا كانت هناك أعمال عربية ممتازة فكرياً أو نظرياً ومرشحة من قبل أمثالكم أو من المؤسسات الفكرية والثقافية العربية، فيطيب لنا أن ننظر فيها بالنظرة الإيجابية والجدية، ويمكن أن نترجمها إذا تلاءمت مع احتياجاتنا البحثية والظروف الداخلية الصينية.
باختصار، يجب على الطرفين الصيني والعربي أنْ يُعزّزا معاً التبادل الثقافي والتواصل الإنساني. وعلى أي حال، نحن والعرب نمثل أقدم حضارتين مُهمّتين في العالم، ويمكن لكل منا أن يقتبس ذكاءً وحكمةً وخبرةً من حضارة الطرف الآخر وتجاربه التطبيقية المفيدة. وإني شخصياً أرغب في أنْ نبقى نحن المستعربين الصينيين مع أمثالكم من كبار المفكرين العرب على الاتصال الدائم والتواصل العلمي لزيادة معرفتنا بالأعمال العربية الفكرية والعلمية الجديدة من أجل تطوير وتعميق الصداقة التقليدية بيننا.
< صحيح تماماً. نحن نمثل أكبر وأقدم حضارتين بشريتين بالمضمون الإنساني كما بالتاريخ الطويل. والمعروف أنّ العلاقات بين الصين والعالم العربي والإسلامي قديمة وعريقة، وهي لاتزال قائمة حتى يومنا هذا. وهي لم تكن ترتبط فحسب بمجال التبادل العلمي والفكري والثقافي، بل كانت تدخل كذلك في إطار التجارة والصناعة، لكن، أنْ يتبوّأ شخصٌ مثلك أرفع مستويات المعرفة والتبحر في تاريخ التراث العربي، فهذا أمر يدعو إلى الكثير من الإعجاب والتقدير. كيف بدأت مسيرتك في رحاب العربية ولغة الضاد؟ وما الظروف أو الأسباب التي جعلتك تُقبِل على دراسة الحضارة العربية والتبحّر في آدابها وعلومها؟
- الحق معكم في الحديث عن العلاقات الصينية - العربية التي كانت تربط أمّتيْنا عن طريق الحرير براً وبحراً. وفي العهد الحديث، أقامت جمهورية الصين الشعبية العلاقات الرسمية مع كل البلاد العربية، وتشهد علاقاتنا الثنائية تطوراً سريعاً ومتواصلاً على أساس المبادئ الخمسة للتعايش السلمي، وتستمر في اللحاق بتقدّم العصر والتكيّف مع التغيّر الهائل الطارئ على نظام العالم السياسي والاقتصادي، حتى أنشئ عام 2004 منتدى التعاون بين الصين والدول العربية، ثم وصلت هذه العلاقات عام 2010 إلى مستوى التعاون الاستراتيجي الشامل في مختلف الميادين، سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً وتعليمياً وإعلامياً. كل هذه الحقائق التاريخية والأهداف الواقعية تحثّ المستعربين الصينيين على أنْ يبذلوا جهودهم لتنمية هذه العلاقات الودية والمهمة وتعميقها.
لعلّي الآن أُعتبر من أكبر المستعربين الصينيين العاملين سناً. أتذكر حين دخلت جامعة بكين للالتحاق بقسم اللغة العربية قبل 55 سنة، كنت أحمل الهدف والشعور بالمسؤولية نفسيهما اللذين أحملهما اليوم، ألا وهما تطوير العلاقات الودية بين الصين والدول العربية، وزيادة المعرفة والتفاهم المتبادل بين شعبينا. بعد أن تمتعت بتزكية من ناظر مدرستي في شنغهاي، سمعت في حفلة استقبال الطلبة الجدد كلمة الترحيب التي ألقاها عميد كلية اللغات الشرقية د. جي شيان لين، وهو أشهر المستشرقين الصينيين، ومتخصص بالسنسكريتية والدراسات الهندية. قال: تُعدّ اللغة العربية أصعب اللغات الأجنبية بالنسبة إلى الصينيين، ولكنّ وطننا الصيني في حاجة ماسّة إلى كفاءاتٍ تجيدها. ومن حسن الحظ انضممت إلى صف اللغة العربية المكون من 15 زميلاً من بين 150 طالباً جعلوا من اللغة العربية أول خياراتهم. وكنت سعيداً أيضاً أني تعلمت طوال أعوام الدراسات الخمسة على أيدي مدرسين ممتازين برئاسة الأستاذ الكبير محمد مكين (1906 - 1978)، وهو المترجم الأول لمعاني القرآن الكريم باللغة الصينية الفصحى.
اللغة العربية في نظري جميلة رنانة، لبقة معبّرة، لكنها صعبة في النطق والصرف والنحو، وفي الاستيعاب شفوياً وكتابياً. أما الحضارة العربية والتراث العربي فهما بمنزلة الخِضَم من المعارف والعلوم، يمكن للمرء أن يرتشف منه سلسبيل العرفان، ولكن يستحيل معه أن يعرف حدوداً له. لذا كنت ومازلت أحب هذه اللغة، وأعمل منذ دخولي إلى الجامعة على دراسة الحضارة العربية بما فيها الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية. وهذه مهمة جليلة.
في غمضة عين، ها قد مضت الخمسون عاماً في حياتي الجامعية وأنا أدرّس العربية وأستعملها. وقد عملت بها بعض الأعمال المفيدة لوطني ولتطوير العلاقات الصينية - العربية، ولكنّ هناك أعمالاً أكثر وأهم لم أستطع إنجازها، وأنا أنتظر أنْ يتحملها الجيلُ الناشئ من المستعربين الصينيين، وأرى أنهم سيتفوّقون عليّ وعلى جيلنا.
كانت اللغة العربية تُستعمل في الصين في التعليم الديني المسجدي لمدةٍ طويلة عبر التاريخ، ودخلت إلى الجامعة لأول مرة بفضل الأستاذ محمد مكين، الذي تفرّغ لدراسة العربية والعلوم الإسلامية بجامعة الأزهر لثماني سنوات، وهو أنشأ في جامعة بكين عام 1946 قسماً للّغة العربية. وكان هو وزملاؤه في هيئة التدريس يبذلون جهوداً جهيدة لتربية الطلبة المستعربين، حتى تم إعداد مجموعاتٍ من الأكفاء توزّعوا في مناصب دبلوماسية، وتجارية، وإعلامية، وتعليمية... لكن لم يكن في حسباننا اندلاع «الثورة الثقافية» التي ابتدأت عام 1966 ودامت حوالي عشر سنوات، تعرّض فيها المثقفون لأنواع التّهم الباطلة والعذابات الأليمة حتى توقفت الجامعات عن قبول الطلبة، ووقعتْ في حالة جمود غير طبيعية، وكان لا يُمكن لأيّ فرد في تلك الأيام المُستعصية التفكير أو الحديث في بناء التخصّصات الجامعية.
بعد التخلص من هذه الثورة على الثقافة، استأنفت الصين سيرها في طريق التحديث السليم، وبدأت تنتهج سياسة الإصلاح والانفتاح على الخارج. ومن ثم طرأ على مصير المثقفين الصينيين التغير الجذري، إذ أصبح زمام أمورهم في أيديهم، وتبعاً لذلك أتيحت لي أيضاً الفرصة لاستكمال الدراسات في جامعة القاهرة من ضمن الدفعة الأولى للمدرسين المبعوثين للخارج عام 1978، ثم اشتغلت بالتدريس في شنغهاي 13 سنة. بعدها، ولأكثر من 30 سنة من بداية ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن، مارست، من ناحية، أعمال التدريس والبحوث والترجمة والإشراف على شؤون تحرير مجلة «العالم العربي» (أنشئت عام 1980 وعُدّل اسمها إلى «دراسات العالم العربي» عام 2005). ومن ناحيةٍ أخرى، توليت بعض المناصب الإدارية والعلمية، منها عميد الكلية ورئيس أكاديمية العلوم الاجتماعية ومدير معهد الدراسات، ونائب رئيس جمعيات علمية صينية عدة، مثل مجمع اللغة العربية وجمعية بحوث الأدب العربي وجمعية دراسات الشرق الأوسط. بذلك عملت على بناء تخصص اللغة العربية والارتقاء به إلى المستوى المطلوب حسب المواصفات والمقاييس المرسومة من قبل الوزارة والمعمول بها دولياً.
وفي النصف الأخير من تسعينيات القرن الماضي، انتخبتُ رئيساً لفرقة الإرشاد لتدريس اللغة العربية تحت قيادة وزارة التعليم، وتمكنت من تنظيم كل أقسام اللغة العربية المنتشرة في الجامعات، فوضعتُ «منهج تعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية» (صدر في جزأين)، و«جدول المفردات» الملحق لهذا المنهج، وصدرا عام 2000، بينما ظهرت مجموعات متنوعة من الكتب المدرسية للعربية في بكين وشنغهاي، وحصلت بعض الجامعات على حق منح الدكتوراه وما بعد الدكتوراه، وبذلك انتقل اهتمام الأساتذة والطلبة من الإلمام باللغة العربية وحدها إلى دراسة الحضارة العربية والتبحّر في آدابها وعلومها، وذلك تماشياً مع حاجاتهم في رسائل الماجستير والدكتوراه ومشاريعهم البحثية. وهذا ليس بأمرٍ طبيعي فقط، بل يعكس الاتجاه الحتمي لتطور اللغة العربية باعتبارها تخصصاً علمياً في الجامعات الصينية.
في أثناء تلك المسيرة، قُمت بدوْر المُشارك والمُدبّر والمنظم بجهودي الفردية الممكنة. ومما يستدعي سرورنا وارتياحنا أنّ تخصُّص العربية في جامعتنا وصل إلى درجة الامتياز في شنغهاي (أي مستوى المحافظة والوزارة) عام 2001، ثم ارتقى إلى مستوى الدولة عام 2007. أما في مجال البحوث والدراسات، فقد نجح معهدنا، «معهد دراسات الشرق الأوسط»، في تقدير الخبراء تقويمهم، وصار في عداد المراكز والمعاهد المحورية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعات الصينية، وذلك بموافقة وزارة التعليم عام 2000. ربما يمكن القول هنا إن المستعربين الصينيين وأنا فرد منهم قد أدّوا واجبهم قدر المستطاع.
< من المعروف عنك أنك تتميز عن سائر المستعربين الصينيين الكبار بأنك لا تحصر اهتماماتك باللغة العربية وآدابها وحدها، بل توسّعت في سبر أغوار الثقافة العربية برمتها، أدباً وسياسة ومجتمعاً. هل لك أن تصف لنا الجوانب الأساسية التي لفتت انتباهك في الحضارة العربية والتي تودّ أن تدعو الدارسين الصينيين المستعربين إلى الاهتمام بها أكثر من غيرها؟ ولماذا؟
- لا يزال تخصّص اللغة العربية في الصين بحاجة إلى بذل الجهود المستمرة في سبيل تعديل منهج تعليمها وتحسين طرق تدريسها بالاستفادة من العقل الإلكتروني والإنترنت. والواقع أن الهدف من تربية طلبة اللغة العربية في أهم الجامعات الصينية قد تحوّل من مجرد المترجم الكفء إلى إعداد كفاءة دولية تجمع بين إجادة العربية والاقتدار على ممارسة الدراسات والبحث في الشؤون العربية. فمن الضروري أن يتوسع اهتمامُ المستعربين الصينيين من اللغة العربية وآدابها وحدها إلى الثقافة العربية المتعددة المجالات والعلوم العربية الخاصة، لكي يتلاءموا مع متطلبات المجتمع الصيني المتطوّرة في مجالات الأدب العربي أو التاريخ أو علم الاجتماع، أو العلاقات الدولية، أو الإعلام والاتصال، أو الاقتصاد والتجارة والمالية، أو علم القانون والإدارة... وإلا تأخّروا هم أو عددٌ متزايد منهم عن حاجة سوق التشغيل المتغيّر في الصين.
أما مواضيع الحضارة العربية التي تهمنا فهي كثيرة متعدّدة. وهي يمكن أن تنقسم إلى قسمين، أولهما يتصف بصفة البنية التحتية لبناء دراسات الشرق الأوسط ذات الخصائص الصينية، ومهماته، مثلاً التنظيم المستمر للمترجمين الأكفاء لترجمة أمهات الكتب العربية الكلاسيكية، وكذلك إكمال سلسلة «المجتمع والثقافة للدول الشرق أوسطية المعاصرة» التي طبعنا منها حتى الآن عشرة مجلدات، وننتظر مواصلة العمل في المجلدات الأخرى، وخصوصاً تلك المتعلقة بالمغرب العربي. بالإضافة إلى تنظيم ترجمة كتب موثقة عن تاريخ كل دولة من الدول العربية.
ويتضمن القسمُ الثاني البحوث والدراسات التطبيقية في المسائل الواقعية والملفات الساخنة في الشرق الأوسط، مثل وسطية الإسلام والتيارات الفكرية السائدة في العالم العربي، ومكافحة التطرف الديني، وتغير المعادلة الجيوسياسية والجيواقتصادية في المنطقة، والصحافة والأجهزة الإعلامية. وقد لاحظتُ بسرور أن بعض المستعربين الصينيين قد أخذوا بعين الاعتبار أعمال البحوث والدراسات، وباشروا بمشروعات بحثية عدة على مستوى الدولة والوزارة، ولكن الأرقام الإحصائية طوال هذه السنوات الأخيرة تُبيّن أن أغلبية المشروعات البحثية الخاصة بالشرق الأوسط تحمّلها الباحثون غير المستعربين، مما يدلّ على أن هناك آفاقاً أرحب يمكن للمستعربين الباحثين أن يسعوا إليها من خلال رفع قدرتهم البحثية.
< من خلال تجربتك الكبيرة التي تنوف على نصف قرن في مجال الاستعراب، وخصوصاً من خلال عملك في ترجمة التراث العربي والتعريف به في الأوساط الثقافية والعلمية في الصين، كيف تقيّم الصورة التي يرى الإنسان الصيني العادي بها الإنسان العربي عموماً والحضارة العربية خصوصاً؟
- ظللت أؤمن من بداية تعلُّم اللغة العربية حتى الآن أنّ الشعب الصيني يكنّ المشاعر الطيبة تجاه الشعب العربي. هذه المشاعر تُبنى على الصداقة التاريخية التقليدية وعلى التبادل والتواصل بين الأمتين الصينية والعربية، كما تعود إلى المُعاناة المشتركة في تعرضهما للعدوان والاحتلال والاستعمار الخارجي في العصر الحديث. شخصياً أشعر دائماً من خلال الاختلاط والتواصل مع الأصدقاء العرب -مفكرين، أدباء، دبلوماسيين، إعلاميين، أساتذة وطلبة - بأن الشعب العربي طيب الطبع كريم الخلق سهل المعاملة والتفاهم، وجدير بالاحترام والتبادل والتعاون. خلاصة القول إنّ صورة العرب إيجابية في نظري ونظر الإنسان الصيني العادي، فهو يعدّ الثقافة العربية جزءاً لا يتجزأ من الثروة القيمة المهمة للمجتمع البشري. إلا أنّ مستوى التبادل والتعارف بين الصين والعرب عموماً لا يمكن أن يقارن بالمستوى الحالي بينها وبين دول الآسيان أو الدول الأوربية، فضلاً عن الولايات المتحدة وروسيا واليابان. على أي حال، أعتقد أن ما أقدر عليه الآن هو دفع المستعربين وتشجيعهم ليهتموا بترجمة التراث العربي وروائع المؤلفات العلمية العربية المعاصرة والتعريف بها في الأوساط الثقافية والعلمية، مما يزيد معرفة القارئ الصيني بها تدريجياً.
< كانت العلاقات بين المسلمين العرب وبلاد الصين قوية جداً في الماضي، في جميع المجالات، وعلى الأخص على الصعيدين الثقافي والتجاري. وخير دليل على ذلك وجود عدد كبير من المسلمين هناك. لكن اليوم، كيف ترى هذه العلاقة؟ ولكي تتوطد أواصر الصداقة العربية - الصينية في المستقبل، ماذا يجب في نظرك أن يفعل المستعربون الصينيون والعرب المهتمون بالدراسات الصينية؟
- صدقتم، في الصين الكثير من المسلمين يضمّ عشر أقليات قومية ويبلغ تعدادهم الإجمالي حوالي 23 مليون نسمة. وكان النوابغُ المثقفون منهم أوائل المستعربين بالذات. واليوم صار كثيرٌ من المسلمين البارزين يتولون مناصب مهمة في مختلف القطاعات. وفي مجال الاستعراب، انبثق منهم أيضاً نخبة بالتتابع من الأساتذة والمترجمين، مثل الأستاذ محمد مكين والأستاذ عبدالرحمن ناتشونغ والأستاذ إسماعيل ما جين بونغ (المترجم لرحلة ابن بطوطة) والأستاذ علي لي تشين تشونغ (المترجم لمقدمة ابن خلدون) والأستاذ المساعد حبيب الله جي شوه يي والأستاذ أحمد لطيف دينغ جونغ (المترجميْن لصحيح البخاري)، وبعضهم كرّس حياته لهذا العمل الجليل، وبعضهم الآخر مازال يجتهد بدأب في مثل هذا العمل مع المستعربين غير المسلمين.
أما فيما يتعلق بتوطيد أواصر الصداقة الصينية - العربية في المستقبل، فلا يكفي أن يقوم المستعربون الصينيون بدورهم. أولاً، لأنه يجب على كل دولة أن تطبق خطة التنمية (2014 - 2024) وبرامج العمل (2014 - 2016) المنصوص عليهما في الوثيقة الملحقة التي أجيزت في الاجتماع الوزاري السادس لمنتدى التعاون الصيني - العربي في 5 يونيو 2014. وثانياً، لا يمكن أن ينفصل تطويرُ الصداقة بيننا عن جهود طرفينا. ونحن المستعربون نأمل دائماً أن يتحمّس الطرف العربي ويستجيب لمشروعات العمل المحددة في إطار منتدى التعاون الصيني - العربي. وما يشجعني أننا لاحظنا اهتمام الدول العربية بالصينية منذ بداية القرن الجديد، فأُسِّس بضعة عشر معهداً كونفوشيوسيا وقسم للّغة الصينية من المشرق إلى المغرب. وبدأ يزداد عدد الطلبة الوافدين العرب في الصين والعلماء العرب المهتمين بالدراسات الصينية سنة بعد أخرى، ويحتمل أن ينبثق منهم عددٌ من المطّلعين على لغة الصين وحضارتها وشؤونها العلمية والثقافية مع مرور الزمن ■