400 سنـــــة علـــــى رحيلــــه هل كان شكسبير من أصول عربية؟

400 سنـــــة علـــــى رحيلــــه هل كان شكسبير من أصول عربية؟

قد يبدو عنوان المقال غريباً للوهلة الأولى، إذ أي صلة يمكن أن يعقدها الباحث بين الشاعر والمسرحي الإنجليزي وليم شكسبير، الذي عاش في القرن السادس عشر وبين العرب، وهو لم يزر البلاد العربية يوماً، ولم يكن يعرف العربية أصلا، ولم يطلع بالتالي على ما خلّفه العرب من تراث ليتأثر به أو ليحذو حذوه؟

 إن هذا الشاعر والمسرحي الإنجليزي لم يكن مجرد واحد من الشعراء والمسرحيين الإنجليز، بل كان فخر «الصناعة» الأدبية الإنجليزية عبر التاريخ، مثله مثل المتنبي عند العرب، أو جوته عند الألمان، أو هيغو عند الفرنسيين. ولا شك في أن الإنجليز لو بلغهم أن العرب ينازعونهم شكسبير، ويدّعون عروبته، لفقدوا عقولهم، ونسبوا هذا الادّعاء إلى العنجهية والغرور، ولتساءلوا: وهل كثير على إنجلترا أن تنجب شاعراً ومسرحياً عظيماً مثل شكسبير وهي التي أنجبت عدداً كبيراً من الأدباء والشعراء الكبار في تاريخها؟ فإذا استيقظوا من التعجب والاستغراب عادوا إلى التفاخر بأعظم كاتب في تاريخهم، وتذكروا كلمة أديبهم الكبير الآخر برنارد شو، التي يقول فيها إن الإنجليز لو خُيّروا بين شكسبير والهند لاختاروا شكسبير حتماً!
إلى هذه الدرجة بلغ ويبلغ تعلُّق الإنجليز بأغلى «درّة» في التاج البريطاني، وفي تاج أدبهم على الخصوص. فإلى اليوم لايزال شكسبير «بطل» الأدب والشعر الأول عند الإنجليز، وإلى اليوم لم يشبع الباحثون والدارسون في بلاده من دراسته، بل إنهم يكادون يشترطون على كل طالب في كليات الآداب عندهم أن يكتب بحثاً لم يسبق إليه أحد حول جانب من جوانب هذه الشخصية الأدبية الفذّة، التي لا يمر عليها الزمن أبداً بنظرهم.
ولكن على الرغم من هذا الاهتمام الكبير الذي يحيط به الإنجليز كاتبهم الأول، كما على الرغم من أنهم لم يفصلوا حتى الساعة في ما إذا كان شخص اسمه وليم شكسبير قد وجد عندهم بالفعل، وما إذا كانت الأعمال الأدبية المنسوبة إليه هي من صنع شخص أو أشخاص آخرين، فإن للعرب كلمة في الموضوع قد تبدو غريبة أو غير فاصلة، ولكنها جديرة بأن يُستمع إليها. فالعرب، وبإيجاز، يرون أن شكسبير لم يكن إنجليزياً، وإنما كان عربي الأرومة. قال ذلك باحثون عرب كثيرون، منهم الدكتور صفاء خلوصي، الذي نشر عام 1978 بمجلة مجمع اللغة العربية بدمشق بحثاً بهذا المعنى، حاول فيه فصل شكسبير عن بيئته الإنجليزية. ولكن هناك باحثين آخرين، عرباً وأجانب، لا يقولون بما قال به صفاء خلوصي، وإنما يرون أن شكسبير «مرّ» بالتراث العربي بصورة من الصور عندما وضع أشعاره ومسرحياته، بدليل وجود ما لا يُحصى من الأدلة والشواهد على هذا «المرور» والتأثر. فهو وإن لم يتأكد أحد من إثبات «عروبة» تسري في دمه، فلا شك في وجود «عروبة ثقافية» تسري في أدبه. وحول هذه العروبة الثقافية كتبوا ما لا يُحصى من الصفحات التي نادراً ما التفت الباحثون الإنجليز إليها.
فشكسبير عندهم هو فخر أدبهم، كما ذكرنا، ولا مانع عندهم من وجود «مؤثرات أجنبية» في ما كتب، لأن التأثر والتأثير من القوانين الأدبية التي لا ينجح في الإفلات منها أي أديب من الأدباء مهما كان حجمه ومهما بلغت عظمته. ولكن أن يكون شكسبير غير إنجليزي، فهذا أمر لا يُصدّق أبداً بنظرهم.

الشيخ زبير!
الباحثون العرب الذين يؤكدون عروبة شكسبير كشخص، اختلفوا حول البلد العربي الذي خرج منه. فالدكتور كمال أبوديب، وهو ناقد سوري يعمل أستاذاً في جامعة لندن، يذهب إلى أن شكسبير سوري الأصل، وأنه من قرية سورية مجاورة لبلدة صافيتا الواقعة على الساحل السوري، واسمه الحقيقي «الشيخ زبير».
ويقدّم كمال أبوديب اقتراحاً يقضي بأن يتمّ إجراء بحث حول المادة المتعلقة بمنطقة البحر المتوسط، وبشكل خاص المنطقة العربية، في أعمال شكسبير. فمثلاً تدور مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» في مصر، ومسرحية «بريكلس» حول أمير في سورية. وتدور مسرحية «تاجر البندقية» في إيطاليا، وكذلك مسرحية «روميو وجولييت». أما «عطيل» بطل المسرحية التي تحمل هذا الاسم، فهو شخصية عربية.
ويتساءل أبوديب: هل كان أمراً عادياً في إنجلترا، في القرن السادس عشر، وقبل بناء الإمبراطورية، أن يملك شاعر إنجليزي كل هذا القدر من المعرفة عن هذه المناطق النائية من العالم، ويهتم بها كل هذا الاهتمام ويستخدمها في شعره ومسرحه الموجّهين إلى جمهور إنجليزي يعيش في جزيرة بعيدة معزولة يغطّيها الضباب، حديثة العهد نسبياً بالخروج من أغوار القرون الوسطى.
ولكن الدكتور صفاء خلوصي، وهو عراقي، ينسب شكسبير إلى بلده العراق لا إلى سورية كما نسبه أبوديب السوري. فقد رأى أن والد شكسبير أو جدّه، من أهالي البصرة في العراق لا من أهالي قرية تقع قرب صافيتا السورية، ولكنه يتفق مع أبوديب في أن اسم شكسبير العربي هو «الشيخ زبير»، ويعتبر أن كلمة شكسبير ليس لها معنى في اللغة الإنجليزية ومعاجمها.

شكسبير العراقي!
ولكن للباحثين المصريين رأياً آخر حول البلد الذي هاجر منه شكسبير إلى بريطانيا، هو أو أبوه أو جدّه. فهم يرون أن شكسبير مصري من أصول نوبية مهاجرة إلى الغرب في وقت سابق، لنبوغ شكسبير وظهوره في الحياة الثقافية في بلاده. وهم يقولون إن اللقب الحقيقي لعائلة شكسبير حينما كانوا بمنطقة «بلاّنة» النوبية في مصر قبل هجرتهم إلى بلاد الإنجليز كان «الشيخ زبير»، وإن بعضاً من بقايا العائلة لايزال موجوداً في المنطقة نفسها. وهذا اللقب، أي «الشيخ زبير» تم دمجه وتحويره هناك طبقاً للثقافة الإنجليزية المولعة بالاختصار، وسهولة النطق، إلى شكسبير.
ومما يؤكد في نظر الباحثين العرب «الجنسية العربية» لشكسبير أن مجلة «كانتري لايف» البريطانية نشرت مرة «بورتريه» قالت إنه صورة شخصية للشاعر والمسرحي الإنجليزي الأشهر وليم شكسبير، رُسمت له في أثناء حياته. ويرى المدقق في هذه الصورة أن هذا «البورتريه» يظهر شاباً له لحية ويضع على رأسه تاج غار على الطراز الروماني ويمسك في يده ثمرة ذرة عثر عليها عالم النباتات والمؤرخ مارك غريفيث. كما يبدو الوجه الشاحب الطولي المرسوم وجهاً مختلفاً تماماً عن الصورة المرسومة لشكسبير بعد ذلك. هذا الوجه الطولي يحمل سمات الوجه العربي بما يفتح الباب للحديث عن الآراء المختلفة التي رأت أن شكسبير من أصول عربية.

عروبة ثقافية
ولكن شكسبير إذا كان قد صمت عن أصله العربي كشخص، فقد أفصح في أعماله الشعرية والمسرحية عن «عروبة ثقافية» يحار الباحث المعاصر، عربياً كان أو غير عربي، في تفسيرها، وفي كيفية تسرّبها إليه في الوقت الذي كانت فيه إنجلترا لم تدخل بعد عصر الاستعمار ولم يكن أسطولها أو جيوشها تذرع البحار والمحيطات. ففي تلك الفترة التي عاش فيها شكسبير، كانت إنجلترا كما وصفها كمال أبوديب جزيرة نائية منعزلة، كما لم تكن الثقافة فيها مزدهرة. فكيف أمكن هذا المثقف النابه أن يكتب ما كتب عن العرب والشرق لو أن زاده المعرفي كان محلياً صرفاً؟
إذا بدأنا بالسونيتات الشكسبيرية، وهي من أجلّ ما كتبه شكسبير، لمسنا مدى التأثير العربي فيها.
بعض الباحثين يرى أن هذه السونيتات ليست سوى النسخة الشكسبيرية من الموشحات الأندلسية. وقد أثبت الباحثون الغربيون خصوصاً، انتقال أوزان الشعر العربي الأندلسي والموشحات الأندلسية، إلى البلدان الأوربية، حتى بعد زوال الوجود العربي من إسبانيا.
وإذا تفحّصنا مسرحيات شكسبير الشهيرة، مثل «عطيل»، و«تاجر البندقية» و«العاصفة»، فسنجد عناصر عربية كثيرة كمّا ونوعاً. فـ«عطيل» تدور حول مغربي نبيل يخنق زوجته «ديدمونة»، لظنه الخاطئ بأنها تخونه، وحين يتحقق له خطأ ظنونه يقتل نفسه تكفيراً عن خطيئته. ويرى دارسو التراث الشكسبيري أن هذه المسرحية تشبه بصورة من الصور حكاية «قمر الزمان ومعشوقته». بل إن بعضهم يرى أن اسم «عطيل» قد يكون تصحيفاً لاسم عبيدالله الجوهري بطل إحدى حكايات «ألف ليلة وليلة». وفي حكاية هذا الجوهري تتماثل الخاتمة مع خاتمة المسرحية الشكسبيرية: فكلا البطلين، عطيل شكسبير، والجوهري في حكاية «قمر الزمان»، يخنق زوجته بسبب الظن بالخيانة. بل إن الجوهري يخنق زوجته وجاريتها أيضاً. غير أن الفارق هو أن ديدمونة لم تكن خائنة، في حين أن زوجة الجوهري كانت تخونه بالفعل بمساعدة جاريتها. ويقول البروفيسور آربري، وهو مستشرق بريطاني بارز، إن شكسبير كان متأثراً إلى حد كبير بحكايات «ألف ليلة وليلة» حين نسج مسرحية عطيل.
وليست مسرحية «تاجر البندقية» ببعيدة عن أصول حكايات ألف ليلة وليلة. ففي رأي بعض الدارسين تشبه هذه المسرحية حكاية «مسرور التاجر وزين المواصف»، غير أن خاتمة اليهودي في ألف ليلة وليلة أشدّ هولاً من مصير اليهودي في مسرحية شكسبير.
وإذا تتبّعنا القصص والمسرحيات الشكسبيرية الأخرى، عثرنا على كثير من العناصر العربية. فمسرحية «هنري السادس» تكاد تكون عربية الأصول لامتلائها بالمجازات والاستعارات العربية، وحتى بمضامين أشعار عربية. يقول «سافواك» فيها: «ليست الأرض بغيتي، فلو كنت هناك لغدا القفر الموحش أهلاً ونسيباً»، وهذا شبيه بالبيت العربي المشهور: 
وما حبُّ الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
ولا شك في أن الثقافة العربية كانت قد انتشرت في كثير من أنحاء أوربا حين بدأ وليم شكسبير كتابة أشعاره ومسرحياته. وقد تم هذا الانتقال بوسائل مختلفة، منها الحملات الإسلامية العثمانية، والرحالة الأوربيون الذين عبروا البحر وتنقّلوا في شمال إفريقيا، ووصلوا إلى فلسطين والشام والعراق، لنقل آثار الحضارة العربية الإسلامية إلى بلدانهم. وأغلب الظن أن شكسبير كان مطلعاً على الكتب التي سجلت تلك الرحلات، وعلى الكتب التي استقدمها هؤلاء الرحّالة معهم.
ويستطيع قارئ مسرحياته أن يعثر على إشارات كثيرة إلى العرب والأماكن العربية، الأمر الذي يدل على أنه كان على معرفة بالعالم العربي. ففي مسرحية «أنطونيو وكليوباترا» يذكر العراق وسورية، ويذكر أحد ملوك العرب في مسرحية «يوليوس قيصر»، وفي مسرحية «كوريولانوس» يشير إلى السيف العربي ومواطنه.
ثمة أدلة كثيرة، كما رأينا، على «عروبة» ما تسري في أعمال شكسبير، وربما سرت في دمه بعد 400 سنة على رحيله، ولم يعد من الممكن العثور على آثار تتصل بأصله أو أصوله. أما في ما يتعلق بالمؤثرات العربية في أعماله، فهناك ما لا يحصى من الأدلة على تأثره بالثقافة العربية القديمة، وفي طليعتها الأثر الخالد «ألف ليلة وليلة». ولكن المؤثرات، مهما كانت، لا تنهض وحدها دليلاً على أن كاتباً ما كان عيالاً على أدب أجنبي لمجرد أنه تأثر بجوانب في هذا الأدب. فالتأثر والتأثير قانون معروف في كل الآداب خضع له كبار الأدباء. ولا شك في أن شكسبير لو ثبت اطلاعه على كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي لم يكن قد نُقل في زمانه إلى الإنجليزية، لاستفاد منه استفادة عظيمة. ويبدو أنه اطلع على حكايات كثيرة فيه، بدليل وجود تشابه بين مسرحيات له وبين حكاياته. المهم أن يتابع «الأدب المقارن» رحلته الشائقة هذه مع أدب شكسبير وأن يضيف إليها أدلة جديدة تعزز وجهة النظر القائلة بوجود عروبة ما في ذاته أو في أدبه.
ولكن علينا الحذر من الوقوع في المبالغات التي تقضي على رصانة الأبحاث وعلميتها. فشكسبير كاتب وشاعر إنجليزي انتفع بسوق الثقافة الذي تيسّر له في عصره، وليس أي شيء آخر. الخوارزمي يقول: «المرء حيث يوجد لا حيث يولد، حيث يثبت لا حيث ينبت»، وهو معيار إذا أخضعنا له «هوية» شكسبير الشخصية والثقافية، تأكدت إنجليزيته وضعف أي افتراض آخر حول هذه الهوية. وعندها لا يمكن أن ينهض تأثره بأي أدب أجنبي، دليلاً دامغاً على كونه يستبطن أي هوية أخرى ■