الفرق بين اللغة واللهجة.. دراسة سوسيولسانية

الفرق بين اللغة واللهجة.. دراسة سوسيولسانية

أصبح‭ ‬السؤال‭ ‬اللغوي‭ ‬جزءا‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬النقاش‭ ‬العمومي‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول،‭ ‬بسبب‭ ‬ارتباطه‭ ‬بسؤال‭ ‬الهوية‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬همّا‭ ‬يشغل‭ ‬بال‭ ‬الكثيرين‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬لأسباب‭ ‬متعددة‭ ‬أهمها‭ ‬العولمة‭ ‬المتوحشة‭ ‬الزاحفة‭ ‬بلا‭ ‬رحمة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الخصوصيات‭ ‬دون‭ ‬استثناء،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الخصوصيات‭ ‬اللغوية‭. ‬ولقد‭ ‬تعددت‭ ‬الأجوبة‭ ‬حول‭ ‬علاقة‭ ‬اللغة‭ ‬بالهوية‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬لكن‭ ‬الإجابات‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬تحيد‭ ‬عن‭ ‬جادة‭ ‬الصواب،‭ ‬بسبب‭ ‬هيمنة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الجدل‭ ‬والسجال‭ ‬غير‭ ‬المؤسس‭ ‬علميا‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬ثار‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬ضرورة‭ ‬اعتماد‭ ‬اللهجة‭ ‬المغربية‭ ‬لغة‭ ‬للتواصل‭ ‬والتعليم‭ ‬والإعلام،‭ ‬وعقدت‭ ‬ندوات‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬وانتشر،‭ ‬تبعا‭ ‬لذلك،‭ ‬هذاالمستوى‭ ‬اللغوي‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشغلها‭ ‬العربية‭ ‬الفصيحة،‭ ‬كالإعلام‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والإشهار‭ ‬والفضاءات‭ ‬العامة‭... ‬والملاحظ‭ ‬أن‭ ‬المدافعين‭ ‬عن‭ ‬التدريج‭ ‬أو‭ ‬التلهيج‭ ‬نادرا‭ ‬ما‭ ‬يتوفقون‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬دقيق‭ ‬لمفهوم‭ ‬اللهجة،‭ ‬وكذا‭ ‬شروط‭ ‬انتقالها‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬اللغة‭. ‬لهذا‭ ‬سنحاول‭ ‬أن‭ ‬نجيب‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الإشكالات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن،‭ ‬لنكشف‭ ‬خطأ‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬التصورات‭. ‬فماذا‭ ‬نعني‭ ‬عندما‭ ‬نقول‭ ‬عن‭ ‬منوعة‭ ‬لغوية‭ ‬ما‭ ‬إنها‭ ‬لهجة‭ ‬ونقول‭ ‬عن‭ ‬أخرى‭ ‬إنها‭ ‬لغة؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬المعايير‭ ‬التي‭ ‬تمكن‭ ‬اللهجة‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬وضعيتها‭ ‬والانتقال‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬اللغة؟

إن المتصفح للمعاجم العربية القديمة لا يكاد يظفر بتعريف واضح لمصطلح «اللهجة»، حيث لا نعثر على مدخل «ل.هـ.ج» في كثير منها، وربما عثرنا على بعض الآراء التي تضع كلمة «اللّهجة» مرادفة لكلمة «اللُّغة» أو «اللسان». جاء في مختار الصحاح للرازي: «واللهجة بوزن البهجة اللسان، وقد تفتح هاؤه يقال: هو فصيح اللّهَجة واللهجة». وكثيرا ما نقرأ في مصنفاتهم قولهم هذه لغة رديئة، وهذه لغة قبيلة كذا ...

لكن معاجم عربية أخرى استدركت هذا الأمر، وعرضت لبعض المعاني اللغوية للجذر «ل.هـ.ج.» فقد جاء في القاموس المحيط للفيروزبادي ما نصه: «ومن ذلك قولهم لهج الفصيل ثدي أمه: إذا رضعها ولَهْوجَ اللّحم وتَلَهْوَجَهُ إذا طبخه ولم ينضجه، ولَهِجَ به كفرح أغري به، وأَلْهَجَ زيد إذا لهجت فصاله برضاع أمهاتها، واللهجة ويحرك اللسان، والْهَاجَ الهيجاجا اختلط، وعينه اختلط بها النعاس، واللبن خثر حتى يختلط بعضه ببعض...ولهوج أمره لم يبرمه، والشواء لم ينضجه... والمُلَهَّجُ كمحمّد من ينام ويعجز عن العمل». 

وجاء في معجم أساس البلاغة للزمخشري: «إن اللهجة مرادفة للحن». وخصص معجم «لسان العرب» عدة صفحات استعرض فيها، كعادته، مختلف معاني الكلمات المؤلفة من هذه المادة/ الأصل، ومن بين هذه المعاني قوله: «واللّهجة واللهجة طرف اللسان. واللهجة واللهجة: جرس الكلام، والفتح الأعلى. ويقال: فلان فصيح اللّهجة واللهجة، وهي لغته التي جبل عليها فاعتادها ونشأ عليها... ولهوج الشيء: خلطه. ولهوج الأمر: لم يحكمه ولم يبرمه..».

والمعلوم أن ابن منظور 630هـ -711هـ قد حرص، كما فعل غيره، على جمع المادة اللغوية كما تم تدوينها وضبطها منذ بداية عصر التدوين. وهذا يعني أن المعاني التي تحملها كلمة لهجة قد استقرت دلالتها على الشكل الذي وصلت معه إلى عصر التدوين، والتي يمكن أن نستخلص منها أمورا ثلاثة تخص مفهوم اللهجة في التراث العربي القديم وهي:

أ- طريقة الاكتساب: فاللهجة هي اللغة الأم التي جبل عليها الطفل وتعلمها في محيطه الأسري والاجتماعي دون أي تدخل مقصود. 

ب- الطبيعة التكوينية: اللهجة خليط غير منسجم من اللغات واللهجات.

ج- القيمة الاجتماعية: اللهجة منوعة ناقصة لم تنضج بعد وترادف اللحن. 

أما أول معجم عربي معاصر استعمل مدخل اللهجة فهو «المعجم الوسيط»، حيث جاء فيه: «اللهجة اللسان أو طرفه. ولغة الإنسان التي جبل عليها فاعتادها. يقال: فلان فصيح اللهجة، وصادق اللهجة. وطريقة من طرق الأداء في اللغة وجرس الكلام». ثم تواصلت التعريفات خاصة مع بداية الاهتمام باللهجات في الدرس اللغوي العربي الحديث في بداية الأربعينيات من القرن العشرين على يد اللسانيين الوصفيين، وخاصة جيل الرواد، أمثال إبراهيم أنيس وتمام حسان. وصحب هذه الدراسات اللهجية نضج التصور لمفهوم اللهجة التي عرفت بأنها: «مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك أفراد هذه البيئة في هذه الصفات». وينبغي الإشارة، في هذا السياق إلى أن دعوة علم اللغة الحديث إلى دراسة اللغة المحكية (اللهجات) يجب ألا تفسر على أنها دعوة لتكريس تلك اللغة لغة أدبية، بل هدفها التعرف على مختلف خصائصها وتراكيبها، بوصفها ظواهر لغوية قائمة، ولهذا يقع دعاة العامية في خطأ كبير حين يتذرعون بعلم اللغة ودعوته إلى دراسة العامية، فهذا العلم إنما يدعو إلى دراسة لغات محكية أو لهجات دونما إشارة- ولو بسيطة- إلى ضرورة إحلال هذه العاميات أو اللهجات محل الفصحى.

 

بلاغة‭ ‬الدارجة

أما في الثقافة الغربية فقد أخذ البحث في اللهجات يشق مساره منذ أن نشر دانتي الإيطالي كتابه «بلاغة الدارجة» ثم ازدهر في بداية القرن التاسع عشر الميلادي، على يد باحثين لغويين كبار أمثال فرانز بوب ولاندبرج... وأصبح يشكل أحد أهم مباحث علم اللغة العام General linguistics. وقد أشار دوسوسير إلى صعوبة وضع معايير صارمة للتمييز بين اللغة واللهجة حيث يقول: «من الصعب تحديد الاختلاف بين اللغة واللهجة، خصوصا أنه غالبا ما يطلق على اللهجة اسم لغة لأنها أنتجت أدبا». ومع ذلك حاول الكثير من الباحثين القيام بهذا التمييز. فقد وضع بيل «Bell» (1976) معايير من قبيل المعيارية والحيوية والتاريخية والاستقلالية والاختصار والامتزاج والواقعية:

- المعيارية: يقصد بها أن اللغة لها وظيفة تجميع وتوحيد عدد من المتكلمين الذين يتحدثون بمنوعات أخرى مختلفة.

- الحيوية: تعني وجود مجموعة حية من المتكلمين.

- التاريخية: تعني أن اللغة لها تاريخ عريق وأنها خضعت للتطور، ولم تنشأ بطريقة اصطناعية.

- الاستقلالية: تعني أن هذه اللغة مستقلة عن اللغات الأخرى بشكل كبير.

- الاختصار: يشير هذا المصطلح إلى حقيقة أنه قد ينظر إلى تنوع لغوي معين على أنه تنوع فرعي، أكثر من كونه كيانا مستقلا.

- الامتزاج: يشير إلى إحساس المتكلمين بمدى نقاء النوع اللغوي الذي يتكلمونه.

- الواقعية: يشير إلى الشعور الذي يحس به المتكلمون بأن هناك متكلما «حسنا» وآخر «قبيحا».

يلاحظ افتقار هذه المعايير إلى الدقة، فإن كانت اللهجة تفتقر إلى المعيارية فهي، في المقابل، منوعة تتمتع بالحيوية والتاريخية.

ويرى البعض أن الاختلاف بين اللغة واللهجة هواختلاف في المقياس (Size)، أي أن اللغة أوسع من اللهجة، فهي تشتمل على وحدات أكثر عددا من تلكم الموجودة في اللهجة.

بالإضافة إلى ذلك هناك معيار الهيبة Prestige. فاللغة لها هيبة تفتقر إليها اللهجة. فإذا أخذنا بهذا المفهوم فسنقول إن الإنجليزية المعيار ليست لهجة على الإطلاق، بل هي لغة. بينما تلكم التي لا تستعمل في المقامات الشكلية فهي لهجات.

لكننا نعتبر أن معيار « المقياس» ليس واردا في هذا المجال، إذ يمكن أن تكون الوحدات في اللهجة أكثر منها في اللغة في ما يتعلق بشئون الحياة اليومية (المرتع الخصب الذي تنشط فيه اللهجات) كما هي الحال في العربية مثلا. يقول الأستاذ واحي: «وقد لاحظ هذا الأمر.. المهتمون بشئون العربية، إذ أشاروا إلى فقر العامية بالنسبة إلى الفصيحة فيما له علاقة بشئون الفكر والثقافة الراقية. كما لاحظوا في المقابل فقر الفصيحة بالنسبة إلى العامية في كل ما له علاقة بشئون الحياة العادية من حرف وصنائع وأدوات وأنشطة اقتصادية، وكل ما يتصل بالمحيط الطبيعي».

وتحدث باحثون آخرون عن معيارين هما: «التفاهم: Mutuel intelligibility» والملكية الأدبية «possession of latterture». يعني المعيار الأول أن المتكلمين بالمنوعتين (اللغة واللهجة) يستطيعان التواصل والتفاهم. أما المعيار الثاني فيشترط في اللغة أن يكون لها مخزون أدبي معتبر. ويذهب مارتيني مذهبا استبطانيا فيرى أن ما يجمع اللغة واللهجة هو ذلكم الإحساس المشترك communsens بوجود لغة مشتركة، فالمتكلمون ينظرون إلى اللغة المشتركة والنمط المحلى على أنهما مجرد أسلوبين للغة واحدة وليسا نمطين لغويين مختلفين.

 

معيار‭ ‬التفاهم

لقد تنبه الباحثون إلى أن المعيار الأول تعترضه بعض الصعوبات. يقول ترادجيل Trudgill: «يبدو أن معيار التفاهم إلى جانب المعايير اللغوية الصرفة الأخرى أقل أهمية من العوامل السياسية والثقافية في التمييز بين اللغة واللهجة...».

ويرى أن المتكلمين بالدنماركية والسويدية والنرويجية يستطيعون التفاهم دون أن يمنعهم ذلك، بسبب الحدود الجغرافية والسياسية، من الاعتقاد بأنها لغات مستقلة. وفي السياق نفسه يرى الناجي (1992) «أن مفهوم التفاهم مفهوم نسبي لأن هناك منوعات في الإنجليزية غالبا ما لا يوجد بينها تفاهم، لكننا لا نعتبرها ألبتة لغات مستقلة، كما هي الحال بين إنجليزية نيويورك وإنجليزية كوكني cockney».

أما المعيار الثاني فهو ناقص أيضا. فالدارجة المغربية مثلا بالرغم من كونها لهجة، فهي تزخر بإرث أدبي كبير من زجل وأمثال وملحون... يقول الأستاذ الناجي: «إن هذا المعيار غير كاف لأن كل المنوعات حتى البدائية منها تمتلك بعض الأنواع الأدبية سواء كانت شفوية أو كتابية أو هما معا».

وذهب اتكينسون Atkinson (1982) إلى أن معيار التفريق بين اللغة واللهجة لا يستند إلى معايير لسانية صرفة، بل يستند بالأساس إلى معايير سوسيولسانية، أي إلى القيم الرمزية التي تحظى بها المنوعات في السوق اللغوية. يقول: «إن التعارض بين اللغة واللهجة يتوقف على الهيبة والاعتبار، وهذا يرتبط غالبا بجوانب سياسية أوعرقية».

وينحو الأستاذ الناجي المنحى نفسه، حيث يرى أن: «مصطلح اللهجة مصطلح نسبي، ويمكن لمنوعة رفيعة أن تعتبر «لهجة» إذا فقدت الهيبة والدعم السياسي، أو تعتبر لغة إذا حملت بعض الهيبة والقوة السياسية».

أمام هذا التباين الكبير بين الدارسين في وضع معايير واضحة يمكن أن نحدد أربع خصائص نراها كافية في الوقت الراهن للتمييز بين اللغة واللهجة وهي:

التقعيد والمعيرة: فلا وجود للغة دون وجود وصف كاف لنحوها وبلاغتها وإملائها، وكتب تضبط هذه الفعاليات.

الإرث الأدبي والعلمي: لا يمكن للهجة أن تصل إلى مصاف اللغات دون رصيد أدبي وعلمي معتبر يمكن المجتمع المتحدث بها من الانتقال من المعرفة الشفهية إلى المعرفة العالمة.

الدعم السياسي: لا يمكن للهجة أن تتحول إلى لغة دون دعم سياسي من لدن الطبقة السياسية والاقتصادية والفكرية.

 

اللهجات‭ ‬المغربية‭ ‬واللغة‭ ‬العربية

بعد هذا التحديد ننتقل إلى صلب موضوعنا الذي يتمحور حول العلاقة بين اللهجات المغربية واللغة العربية الفصحى، وإمكان استبدال هذه بتلك. لكن قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من فهم الشروط السوسيولسانية التي تسمح بانتقال اللهجات عموما إلى مستوى اللغات، والتي نجملها تبعا لهادسون (1980) في:

1- الانتقاء: ويعني اختيار منوعة ما لتصبح لغة معيارية، وهذا الانتقاء إما أن يكون انتقاء لمنوعة لها امتيازات سياسية أو اقتصادية، كما يمكن أن يكون جمعا لمجموعة من المنوعات، أو يمكن أن يتم اختيار منوعة ليست ملكا لأي مجموعة كما هي حال «العبرية» في إسرائيل؟ و«البهاسا» في إندونيسيا.

2- المعيرة: تعني خضوع اللغة لعملية تقعيد تهم كل الجوانب اللغوية.

3- التأهيل الوظيفي: يقصد بها استعمال المنوعة في كل الوظائف التي لها ارتباط بالمؤسسات الحكومية والبحوث العلمية والمجالات الأدبية.

4- المقبولية: تعني أن المنوعة لا يمكن أن تصبح معيارية إلا بقبول المجموعة اللغوية لها كوسم للوحدة النفسية والسياسية أي كلغة وطنية.

إن وضع اللهجات المغربية على ضوء هذه المعايير يكشف حجم الصعوبة التي يمكن أن تصاحب هذه العملية. فالمعيار الأول الخاص بالانتقاء يتطلب اختيار عامية مغربية معينة لها امتيازات سياسية أو اقتصادية، وهو ما لا تملكه أي منوعة لهجية في المغرب. فالجبلية والحسانية والمدينية والبدوية لا تمتلك أي مميزات خاصة تؤهلها لإلغاء اللهجات الأخرى. أما إذا قررنا جمع كل هذه المنوعات للخروج بلغة موحدة فسنسقط مرة أخرى في الازدواجية اللغوية، لأن هذه اللغة المصطنعة لن يتحدث بها أي متكلم مغربي في بيته. أما اختيار منوعة ليست ملكا لأي مجموعة، فهذا الأمر لا يمكن أن ينطبق إلا على العربية الفصحى، لأنها ليست لغة أمّا لأي مغربي، بل يكتسبها الجميع وفق النسق نفسه في المؤسسات التربوية والإعلامية. مع العلم أن الكثير من الدراسات اللسانية أنجزت حول اللهجة المغربية، ووفق اتجاهات ومدارس لسانية مختلفة (وصفية، وظيفية، توليدية..)، لكنها لم تستطع أن تخرج بنحو قار وموحد لهذه اللهجة.

أما بخصوص المعيار الثاني (التقعيد)، فيتطلب وضع كتب قواعد ومعاجم وكتب مدرسية لكل لهجة على حدة، فاللجهة الجبلية التي مركزها مدينة طنجة وما يتفرع عنها من لهيجات هي غير اللهجة المدينية السائدة في مدن تطوان وفاس والرباط، وهما غير اللهجات البدوية السائدة في الدار البيضاء ومراكش...، وهي غير اللهجة الحسانية السائدة في أقاليمنا الصحراوية. كما يفترض ذلك القيام بترجمة كل ما كتب بالعربية الفصحى أو باللغات الأجنبية في مجالات مختلفة علمية وأدبية ودينية إلى الدارجة المغربية (وهذا الأمر أعتقد أنه صعب جدا، إن لم يكن مستحيلا، بسبب كلفته المادية التي تتطلب ميزانيات ضخمة جدا، بالإضافة إلى ضرورة توفير جيش من المترجمين، وسنوات طويلة من العمل) لأن المتعلم لا يقرأ فقط في المقرر المدرسي، بل للتعليم امتدادات في المراجع والمصادر، خاصة في مجتمع يطمح إلى ولوج مجتمع المعرفة. كما يفترض الانتقال من الفصحى إلى الدارجة في المجالات الإدارية والتعليمية وإعداد معاجم المصطلحات العملية والتقنية.

ونضيف إلى المعايير السابقة التي وضعها هادسون معيارين جديدين هما الإمكانات الحضارية والمؤهلات البنيوية من جهة، والدعم السياسي من جهة أخرى. حيث إن إحلال لهجة محل لغة ما لا يحصل في الغالب، إلا عندما تفقد الثانية مقوماتها الحضارية والدينية وقدرتها على العطاء العلمي والأدبي، وهو ما لا تفتقر إليه العربية الفصحى.

إن ظاهرة انتقال اللهجات إلى مستوى اللغات ليست ظاهرة حديثة، ويمكننا في هذا الصدد تقديم العديد من الأدلة من تاريخ اللغات، ومن بعض السياقات المعاصرة كما هي حال اللهجات المتفرعة عن السامية الأم (العربية والعبرية...) والكثير من اللغات الأوربية الحديثة المتفرعة عن اللغة الهندوأوربية أو المتفرعة عن اللغة اللاتينية (الفرنسية، الإسبانية، الإيطالية...) ومن الأدلة المعاصرة على هذه الحالة ما عرفته اليونان حديثا من انتقال لهجة «الديموتيكي» إلى مرتبة اللغة الرسمية عوض «الكاتارفوزا»، حيث اتخذتها دولة اليونان لغة رسمية سنة (1967)، وأدمجتها في الإدارة والتعليم، كما ترجمت إليها الكتاب المقدس.. وكذلك فعلت الهند التي رقّت بعض لهجاتها إلى مستوى اللغة، كما حصل مع «الهندية» التي أصبحت تزاحم الإنجليزية في المؤسسات التعليمية والإدارية، بعدما ظلت ردحا من الزمان لغة الوظائف الهامشية والفولكلورية. ومع ذلك ينبغي التنبيه إلى أن هذه الظاهرة عرفت تراجعا ملحوظا في السنوات الأخيرة، وهو ما يستحق الوقوف عنده لمعرفة ملابساته والبحث في أسبابه. 

إن ما يثير الملاحظة في أغلب الحالات، أهمية الدعم السياسي لهذا الانتقال، بحيث يمكن للغة أيضا أن تصبح لهجة، إذا فقدت الدعم السياسي كما حدث للإنجليزية السكوتلاندية. تقول سوزان رومين في هذا الصدد: «إن العوامل السياسية
والاجتماعية هي المسئولة عن ترشيح إحدى المنوعات لتصبح لغة معيارية». ومع ذلك لابد من الإشارة الى أن اللهجات عموما، وبسبب ارتباطها باليومي والمعيش، تفتقر في كثير من المواقف، وخاصة ذات الطابع الفكري والعلمي والأدبي، إلى الدقة في التعبير، فتجد هذا الانتقال المفاجئ من مستوى عامي إلى مستوى فصيح، كلما تغيرت سياقات الكلام، كموضوع الحديث ونوعية المخاطبين... وهو ما أكدته الكثير من الأبحاث السوسيولسانية، التي أنجزت في سياقات لغوية مختلفة.

لقد تنبّه هؤلاء الباحثون إلى أن التفرقة المقامة بين اللهجات واللغات هي ذات طبيعة سياسية وثقافية وليست أبدا لسانية، وهي وجهة نظر لسانية قيل فيها إن ما يعتبر لغة ليس في الحقيقة إلا لهجة، بالصدفة التاريخية أعطيت لها الأهمية سياسيا وثقافيا، فأصبح يطلق عليها لغة. بينما التي لم تنط بها هذه المهمة الرسمية فقيل عنها إنها لهجات».

أما مسألة الاعتبار والدعم السياسي، فيلاحظ افتقار اللهجات، على امتداد تاريخها الطويل، إلى أي اهتمام سياسي أو ثقافي، بل اكتفت بلعب دور التواصل الأفقي في المواقف اليومية والحميمية، وإن كان الدستور المغربي الجديد قد أشار إلى ضرورة الاهتمام بالمنوعات اللهجية باعتبارها إرثا ثقافيا لكل المغاربة، فنحن نعتقد أن هذا الاهتمام لن يرقى إلى حملها إلى مصاف اللغات بسبب عوائق بنيوية عديدة. 

يبقى أخيرا شرط الإمكانات الحضارية والمؤهلات الداخلية، حيث يمكن التأكيد على أن انسحاب اللهجات من ميدان العلم والمعرفة والثقافة العالمة عطل قدراتها، وحرمها من فرصة التطور والارتقاء، وجعل نسقها الداخلي مليئا بالثغرات، بسبب كثرة الاقتراض الذي أنهك بنيتها الداخلية، وخاصة في المناطق الحضرية، بالإضافة إلى أن هاجس التواصل السريع والآني ساهم في تغييب الحس الجمالي عن كثير من ظواهرها اللغوية. أما اللغة الفصحى فهي تمتلك كل المقومات وتقوم بكل الأدوار الأفقية والعمودية في الفضاء اللغوي المغربي، فهي لغة حية مقعّدة مقبولة من لدن العامة والخاصة، تحظى بامتيازات سياسية معتبرة، وتملك من المؤهلات العلمية والحضارية والثقافية ما جعل منها لغة حضارة سادت العالم لقرون طويلة ويمكّنها من استعادة الريادة في عالم تتقلب فيه اللغات صعودا ونزولا في سلم التحضر .