فاضل خلف.. قصة مُبكِّرة

فاضل خلف.. قصة مُبكِّرة

أجد‭ ‬في‭ ‬الجلوس‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬الكويتي‭ ‬فاضل‭ ‬خلف‭ ‬أنسًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لما‭ ‬تستدعيه‭ ‬ذاكرته‭ ‬من‭ ‬نادر‭ ‬الحوادث،‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬أبطالها‭ ‬أعلام‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والكويت‭ ‬وغيرهما،‭ ‬ولكن‭ ‬لدأب‭ ‬كبير‭ ‬وحرص‭ ‬أكبر‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬عصره‭. ‬لا‭ ‬يؤرخ‭ ‬فاضل‭ ‬خلف‭ ‬لسني‭ ‬ميلاده‭ ‬بالقصائد‭ ‬الحولية‭ ‬وحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬يؤسس‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬توثيق‭ ‬ما‭ ‬غفل‭ ‬عنه‭ ‬أكاديميون،‭ ‬ليكتشف،‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر،‭ ‬شاعرًا‭ ‬مجهولا،‭ ‬أو‭ ‬يدون،‭ ‬بين‭ ‬مقالة‭ ‬وأخرى،‭ ‬سيرة‭ ‬منسية‭. ‬

ارتبط فاضل خلف بمجلة العربي، ولم يكن رباطهما هو أن تنشر المجلة قصائده ومقالاته وحسب، بل أراه يكرر على مسامعي حكايات تربطه بقراء المجلة أيضا، منها أنه كان في زيارة علاجية بالعاصمة البريطانية، وقد أذيع الخبر فجاءته تعوده قارئة مغاربية، صادف أن قرأت إحدى قصائده عن جمال الدين الأفغاني، على صفحات «العربي»، وأصبحت «لندن» جسرًا آنذاك بين أديب مجلة العربي وقارئتها. وكلما سمعتُ المطرب الكويتي عبدالله الرويشد يغني «لندن» نسيت الصور المصاحبة للأغنية، وتذكرت الفتاة المغاربية تدخل حاملة الورد، إلى الغرفة البيضاء الصافية كابتسامته، فيظنها الشاعر ابنته (سميرة)؛ الطبيبة المرافقة له، في البداية، ليكتشف أنها معجبته، وأن والدها أحب الأفغاني فعاشت قصيدة فاضل خلف في بيتهم بفضله، والتي يقول في مطلعها:

‮«‬لمْ‭ ‬يخشَ‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬سوى‭ ‬ربِّه

فسار،‭ ‬كالإعصار،‭ ‬في‭ ‬دربه‮»‬‭.‬

لكن هذا الشاعر، يخفي وراءه بالمثل قاصا، حيث ظهرت له سردية مبكرة ونادرة بعنوان «سر المطلقة» في زاوية «القصة» بالعدد الأول من مجلة «الإيمان» (يناير / كانون الثاني 1953م)، وهي القصة الأولى التي سبقت نشر مجموعتيه القصصيتين؛ الأولى «أحلام الشباب» في 1955م، والثانية «أصابع العروس» في 1989م.

ولـ «الإيمان» حكاية لا تختلف عن حكاية فاضل خلف كاتبا للقصة القصيرة. لأننا إذا كنا نحتفلُ في مجلة العربي بذكرى صدورها في ديسمبر من كل عام، حيث صدر عددها الأول مطلع ديسمبر 1958، فإن إرهاصاتها في الصحافة الثقافية بالكويت كانت حاضرة على نحو كبير.

بداية، انطلقت «العربي» لتكون جسرًا بين أبناء الوطن الواحد، ولهذا جاء باب استطلاعاتها، الذي يحمل عنوان «اعرف وطنك أيها العربي»، سابقة صحفية حيث انتقل القارئ في المشرق والمغرب إلى القاصي والداني في البلدان العربية. لكن بذرة هذه المادة الصحفية التي ميزت مجلة العربي، لأكثر من 55 عامًا، كانت حاضرة في «الإيمان»، المجلة الشهرية التي صدرت مطلع يناير 1953م، لسان النادي الثقافي القومي بالكويت، وضمت في أسرة تحريرها الشاعر أحمد السقاف، وأحمد الخطيب، ويوسف إبراهيم الغانم، ويوسف مشاري، ولا يدهشنا أن نربط بين «العربي» و«الإيمان»، مثلما لا يدهشنا اليوم أن نجد الرابط نفسه بين الاستطلاعات المبكرة لمجلة العربي: «اعرف وطنك أيها العربي»، وبين الباب الذي جاءت مفردات عنوانه قريبة بشكل مثير: بلادك أيها العربي، وزارت به «الإيمان» الشارقة وأخواتها (مايو 1953)، والبلاد السعيدة (يونيو 1953)، والأردن (سبتمبر 1953)، والضفة الغربية (أكتوبر 1953)، والجزائر (ديسمبر 1953)، ومراكش (يناير 1954)، وعدن (فبراير 1954)، وسورية (مارس 1954)، ولبنان (أبريل 1954)، والعراق (مايو 1954)، واللواء السليب (أبريل 1954)، وفلسطين (1955). 

بل إن فكرة «العدد الممتاز» التي كانت «العربي» تستهل به كل سنة جديدة، كانت فكرة متحققة في مجلة «الإيمان»؛ إذ صدر العدد الحادي عشر، مطلع يناير 1954. وكان العدد الممتاز من «الإيمان» الصادر في ذلك التاريخ مكرسا من قلم التحرير لفكرة «العروبة». أما الملمح الثالث، للتشابه بين «الإيمان» و«العربي»، بعد التعريف بالوطن العربي، والاستطلاعات المحلية المصورة، هو الاستطلاعات العالمية. والطريف أن نشر هذه السلسلة تحت عنوان «هذا الكون» سبق مجلة العربي كثيرًا، إذ إن «العربي» اكتفت في العقدين الأولين بالبلدان والمدن العربية، ثم انطلقت إلى العالم الإسلامي، بعدها عرفت الطريق إلى بلدان العالم بعد نحو ربع القرن من تأسيسها. والفارق هو أن «الإيمان» كانت تترجم، عن «ناشيونال جيوجرافيك»، و«ريدرز دايجست»، و«لايف»، فيما كانت استطلاعات «العربي» بأقلام وعدسات كتابها وفنانيها. 

ومثلما قدمت لنا «الإيمان» بذرة مجلة العربي، قدمت لنا بذرة الأديب «القاص» فاضل خلف قبل 61 سنة!

تبدأ قصة «سر المطلقة» بعتبة الزمن، إنها النقطة الفارقة في حياة كل منا، تبدل حال لحال، أو سنة لأخرى: «سيكون غدًا اليوم الأول من السنة الجديدة، وبذلك سيقلب الزمن صفحة جديدة من صفحات التاريخ، وسيتفاءل الناس خيرًا بعد أن ذاقوا الأمرّين في سنواتهم الماضيات. وفي هذه الليلة بالذات ينتظر بعض الناس طلوع الفجر وهم بين سامر وشادٍ، وينتظر بعضهم طلوع الفجر بين محزون ومسهد. أما الأولون فأولئك هم المنعمون الذين هم في لذائذهم سادرون. وأما الآخرون فهم المحزونون الذين مسّهم الضر ونابهم الأذى فراحوا يساهرون الليل ويناجون الفجر بقلوب مكلومة وعيون ساهرة». سنكتشف إذن، مع المشهد الأول، أن الكاتب لا ينقل إلينا صورة وحسب، وإنما هو يسجل إيقاعا، وما اتزان شطري الكتابة، وسجع المفردات وتجانسها وتقابلها، إلا لاتكائه على الشاعر داخله، وكأن القصة تقول: لقد كتبني شاعر! لا يتركنا فاضل خلف نجري وراء التشبيهات، ونسرح في الوصف، بل يباغتنا بصوت المتكلمة، التي اختارها مثقفة متعلمة، لكن مصيرها ليس ما يستحق المثقف المتعلم، وكأنه يشكو ضمنيا مجتمعًا أو أسرة تعيش الفتاة في كنفها:

«كتب عليَّ في سجل الحياة أن أكون من الطبقة الثانية. وما أمرّ شكواي، وأقسى لياليّ. لقد كتب عليَّ الشقاء وأنا بعد في ربيع العمر وريعان الشباب، أنا الفتاة المتعلمة التي سهرت على طلب العلم حتى بلغت ما بلغت من شأني. وهأنذا الآن أتلفت حواليَّ فلا أرى سوى العواصف الهوج تعصف عن يميني وشمالي، والخط الأسود يلاحقني كما يلاحق الذئب الجائع فريسته الضعيفة، ونظرات الناس المليئة بالازدراء، توجه إليّ في غدوّي ورواحي. وسأكون صريحة في كلامي، صادقة في تعبيري».

في قصة فاضل خلف سنقرأ كيف بدأ الخاطبون  على اختلاف طبقاتهم يطلبون يدي الفتاة، منذ بلغت الثالثة عشرة وأهلها يمانعون ويماطلون حتى بلغت الثامنة عشرة، وعندها بدأ الخاطبون يمتنعون عن طلب يديها، ولاسيما بعد أن هدأ الجمال، وأخذت الفتنة تتوارى ليحل محلها الحزن والكآبة. إذ إن كل فتاة يسرها أن تُزف إلى شريك حياتها قبل أن تعشش الأمراض النفسية في قلبها الهادئ الخفّاق. ولاسيما بعد أن ترى الشباب يتهافتون عليها ويخطبونها، بينما أهلها سادرون في أحلامهم اللذيذة لا يعلمون من أمر فتاتهم شيئًا، لا يعلمون عن قلقها ولا يعلمون عن حنينها إلى الزوج المنتظر، ولا يشعرون بآمالها وأحلامها، ومن ثم يقودونها إلى هوة سحيقة من اليأس والقنوط - ما لها من قرار، فلا ينتبهون إلا وابنتهم قد مسّها طائف من الجنون، أو هصرها المرض بأنيابه القاتلة».

ولا شك في أننا إذا قرأنا قصة فاضل خلف من منظور اجتماعي، لاكتشفنا ما وراء السطور من حقائق ارتبطت بالمجتمع قبل ستة عقود: فهناك طبقات، وزواج مبكر، وأسر لا تستمتع إلى همس صدور بناتها، وهناك كذلك فتيات يخفين ويضمرن أمنيات وأحلاما، لا يستطعن إلى كشفها سبيلا. ولا ننسى أن كاتب القصة آنذاك كان في إدارة معارف الكويت، ولا شك في أن قصصا كثيرة مماثلة كانت ترسم مشاهدها على أسماعه، وقد استقى منها ما ألهمه قصته النادرة:

«مرت الأيام تترى وبلغت العشرين، وانقطع الخاطبون، وبدأت أشعر بالكراهية نحو أهلي بصفتهم السبب المباشر، في هدم مستقبلي، وصرت ألمّح لهم إلى الأمر بعد أن رأوا شحوبي واكتئابي. ولم يكن في مقدورهم أن يتلافوا ما فات بعد أن استشرى المرض وتفاقم الخطب. ولكنهم على كل حال عرضوني على الأطباء. وأخذ هؤلاء في علاجي مدة طويلة، والداء يستفحل والدواء لا يجدي. وأخيرًا قرر أحدهم أن فتاتهم في حاجة إلى شيء واحد وهو العش الزوجي الهادئ، وحينئذ فحسب اهتدى أهلي إلى الدواء الناجح. أما أنا فابتسمت لأني كنت أعرف هذا الدواء منذ سنوات. ولكن هل كان باستطاعتي أن أصرح لهم بذلك؟ وهل كانوا يغفرون لي صراحتي؟»

بعد فوات الأوان يلتفت الأهل إلى فتاتهم وإذا بروضها قد خلا من الخاطبين، وإذا بالمرض ينهش جسمها وعقلها وقلبها. وكيف يخطب الناس فتاة مريضة؟ وهل من المعقول أن يخطب شاب فتاة أحلامه وهي تدنو إلى القبر وتودع أحلام الشباب؟ وتمر سنتان ليجيء خاطب جديد، خاطب خلّف وراءه ستين سنة من سنوات حياته. واستُشرتُ في الأمر، ووافقت على مضض، ولا راد لقضاء الله. 

يقول فاضل خلف: 

«وتم الزواج. وكتب في سجل الزمن أنني أصبحت ربة بيت. عجبًا!! أنا الفتاة المتعلمة الجميلة التي كان الشباب يتسابقون لخطبتي منذ سنوات - أتزوج شيخًا في الستين من العمر؟ أنا التي، كانت تمازحني جارتي أم فهد بقولها «هنيئًا لك يا منيرة بهذا الجمال الرائع، ولن يتزوجك إلا أحد المثقفين من الشباب، وكنت أسر لسماع هذه العبارة وأمثالها، وهي ترسل من لسان أم فهد. ولكن لم يكن في الحسبان ما كان».

لا شك في أن الثورة الاجتماعية التي نهضت بدولة الكويت، حتى قبيل إعلان استقلالها في 1961م، كان وراءها تلك الآراء الحرة التي مهدت عبر رجالات الفكر، ومبدعي الأدب، ومنشئي الصحافة للمرأة أن تخرج للحياة مشاركة في بنائها. 

إنني في هذه السطور أنسج طريقا لا مرئيا بين فاضل خلف، و«العربي» و«الإيمان»، وأرى أن ثلاثتهم اجتمعوا واتفقوا على أن يعطوا المرأة حقها، وأن يدفعوا للأمام مسيرتها، فكم قرأنا على صفحات «الإيمان» تشجيعا لها دفاعا عن تعليمها والارتقاء بتربيتها ودعما لبعثاتها التعليمية، مثلما صافحنا في «العربي» المرأة تتصدر الغلاف ممثلة لبلدها، عاملة في كل مجال، فهي العالمة والأديبة والفنانة، وهي الطالبة والرياضية، بالمثل.  وقد سعى فاضل خلف، وكوكبة جيله، إلى أن يعطى الشباب حقه، فها هي بطلة قصته الأولى تقرر الكارثة في تفاوت كبير يهدد الاستقرار وبناء الأسرة:

«فالآمال التي تدور في نفسي تختلف اختلافًا عظيمًا عن الآمال التي تدور في نفسه، والأشياء التي تعجبني تختلف عن تلك التي تعجبه». لهذا تمنى الزيجة بالفشل وتمر الأيام والعروس متبرّمة من حياتها، ثائرة على التقاليد. وزاد مرضها عما كان عليه قبل الزواج، وأخذت تلمِّح لزوجها إلى الانفصال:

«وجاء يوم أسود، أجريت فيه مراسيم الطلاق، يوم أسود سطرت فيه نهاية فتاة لو تبصَّر أهلها قليلاً لكانت في دنياها سعيدة مطمئنة البال. وبذلك تحطم القلب. وتلاشى الأمل. وصوح الروض. ومهما يكن من أمر فإنني فقدت كل شيء بعد حادثة الطلاق ما عدا الإيمان.. الإيمان بالله العظيم». ولا تخلو القصة المبكرة من تلك النزعة الأخلاقية الإصلاحية، وتنتهي بالاستسلام للقدر، في الخاتمة ، لكن ذلك لا يعني اليأس، فقد ثارت الفتاة على وضعها، وهي عزباء، وهي زوجة لمسن، ثورة أسلمتها للمربع الأول، حيث فقد الكثير وبقي ما تعده أفضل مما فقدته كله: الإيمان.

ها هو يقبل الآن علينا، كما يفعل مطلع كل شهر، حيث يحرص الشاعر فاضل خلف على توطيد علاقته بمجلة العربي، ليس بالنشر فيها، ولكنه، وإيمانا بدورها سفيرا ثقافيا لبلاده، يتابع إرسال مجموعة منها إلى ابنه سفير دولة الكويت، سواء حين كان في جمهورية البوسنة والهرسك، أو وهو في جمهورية السنغال، وكأنه يرسل قصيدة حب إلى قراء «العربي» في البلاد البعيدة، وهو الإيمان بأن هناك قارئا، أو قارئة، تنتظر تلك الرسالة .