فاضل خلف... الكتابة رسالة جيل التنوير

فاضل خلف... الكتابة رسالة جيل التنوير

‮«‬سيقلب‭ ‬الزمن‭ ‬يا‭ ‬صاحبي‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬صفحتك‭ ‬الثالثة‭ ‬والعشرين،‭ ‬ولست‭ ‬تدري‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يدري‭ ‬إلا‭ ‬الله‭ ‬ما‭ ‬تخبئه‭ ‬لك‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة‭ ‬بين‭ ‬طياتها‭. (...)‬‮»‬‭. ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬أولى‭ ‬عبارات‭ ‬مقال‭ ‬نشره‭ ‬فاضل‭ ‬خلف‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬من‭ ‬الأعماق‮»‬‭ ‬في‭ ‬العدد‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬البعثة‮»‬‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬أبريل‭ ‬1950‭. ‬

انشغل‭ ‬فاضل‭ ‬خلف‭ ‬المولود‭ ‬عام‭ ‬1927‭ ‬منذ‭ ‬حداثته‭ ‬بالقراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬ومقاله‭ ‬الذي‭ ‬نشره‭ ‬في‭ ‬البعثة،‭ ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬الثالثة‭ ‬والعشرين‭ ‬ربيعا‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الانشغال،‭ ‬الذي‭ ‬اختلق‭ ‬فيه‭ ‬حوارا‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬ليناقش‭ ‬فيه‭ ‬قلق‭ ‬الأديب‭ ‬ويقول‭ ‬له‭: ‬‮«‬خير‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تحطم‭ ‬هذه‭ ‬الأغلال‭ ‬التي‭ ‬فرضتها‭ ‬على‭ ‬نفسك،‭ ‬وتنشر‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬تجاربك‭ ‬التي‭ ‬سهرت‭ ‬عليها‭ ‬سنوات،‭ ‬وكيف‭ ‬يعرفك‭ ‬الناس‭ ‬يا‭ ‬صاحبي‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬آثارك؟‮»‬

هكذا يمضي فاضل خلف في طريق الأدب ينهل في طفولته من مؤلفات ازدهرت بها مكتبة البيت التي حظيت برعاية والده. يقرأ في القصص والنوادر قبل أن يتقدم خطوات ويتعلم اللغة الإنجليزية لتكون أداة إضافية لسعة الاطلاع ومن ثم الكتابة والترجمة أيضا. مبكرا يبدأ فاضل خلف رحلة الحياة مع الكتاب الذي يضعه في مرتبة خيار الأصدقاء، وفي الثالثة والعشرين من عمره يكتب مقالته تلك، ويصنف فيها مختلف الأصدقاء لينتهي بالعبارة التالية «هؤلاء هم الأصدقاء، فهل تفضلهم على كتبك الحبيبة؟ احتفظ بكتبك واقذف هؤلاء (...) وسر في الطريق (...) وعندما يخلو بالك للإنتاج ويصفو ذهنك للعمل (...) تكون سنتك الجديدة خيرا من سنواتك الماضية». فاضل خلف جعل من القراءة والكتابة هدفا، وربما اعتبر هجر الأصدقاء جائزا أما ترك الكتاب فهو أمر جائر، وكأننا به يسير وفق منهاج أحمد شوقي الذي قال حين اختار الكتاب:

أَنا‭ ‬مَن‭ ‬بَدَّلَ‭ ‬بِالكُتبِ‭ ‬الصِحابا

لَم‭ ‬أَجِد‭ ‬لي‭ ‬وافِياً‭ ‬إِلّا‭ ‬الكِتابا

 

القراءة‭... ‬بداية‭ ‬الطريق

لقد عززت قراءاته غزارة إنتاجه, فطرق أبواب القصة، وقرض الشعر, واتجه إلى الترجمة وكتب المقال وساهم في تأسيس مجلة «كاظمة» وساهم في الإذاعة الكويتية وإذاعة الهيئة البريطانية.

وعن شغفه بالكتب والقراءة يذكر فاضل خلف أنه بعد نشوء الحرب العالمية الثانية عانت الكويت من شح المواد الأساسية، وعُمم نظام توزيع المواد الغذائية على المواطنين بالبطاقة التموينية، فعمل مع آخرين متطوعا لمساعدة موظفي الدولة في إدارة التموين وكتابة الحصص من المواد، حيث كان ممن تم اختيارهم لحسن خطه في الكتابة. يذكر الأستاذ خلف أن الأمر كان صيفا، ما ساعد على استغلال مدرسة المباركية كمركز حتى جلاء الأزمة. انقضت تلك الفترة وعاد إلى روتين يومه الذي يقضي جله في المكتبة، حيث انتظرته مفاجأة يتحدث عنها ويقول: «لما كان المرحوم حمد الرجيب (1922-1998) على علم بعلاقتي بالمكتبة لم يتكلف كثيرا في البحث عني، وذات يوم وأنا في المكتبة الإنجيلية جاءني وسلمني ظرفا وجدت فيه ستين روبية قدمتها الدولة نظير عملي في التموين». يضيف فاضل خلف: «في تلك الفترة شكَّل المبلغ ثروة، ما حدا بي لأن أسرع بها إلى البيت، حيث عمت الفرحة فعلَت زغاريد والدتي بينما صامت جدتي ثلاثة أيام متتالية. أعادت لي والدتي عشرين روبية أو نحوها وحالا ذهبت بها مسرعا إلى مكتبة الرويح أشتري دواوين شعر وكتبا أخرى مستعملة. القراءة فتحت أمامي دائما آفاقا جديدة، وكان معروفا عني وجودي المستمر في إحدى المكتبتين: مكتبة المعارف أو المكتبة الإنجيلية التي أدارها السيد يعقوب شماس ووفَّر فيها المطبوعات والدوريات باللغة الإنجليزية».  

 

الخاطرة‭ ‬وخطوات‭ ‬الكتابة‭ ‬الأولى

عاش فاضل خلف في بيئة يتنقل فيها بين المكتبة العربية والإنجليزية، وفي أجواء سادها تعايش ملحوظ بين الثقافات، ليبدأ في منتصف الأربعينيات بنشر خواطره وهو يشير إلى ذلك في مقدمة ديوانه «كاظمة وأخواتها»، حين يشير إلى مجموعة شعرية كتبها في مقتبل العمر فيقول: «ولهذه المجموعة الشعرية وعنوانها «باقة من الورد» قصة بدأت فصولها سنة 1948. فقط كنت قبل هذا التاريخ بـــثـــلاث ســــنـوات أنشر خواطري الأدبية، من تعقيب أو قصة أو مقالة في الصحف العربية في العراق ومصر ولبنان». بذلك نجد أن فاضل خلف بدأ نشر مقالاته وآرائه منتصف الخمسينيات، وكأنه أراد بذلك أن يحجز له مقطورة في قطار الثقافة في الكويت, ويتهيأ ليكون رمزا من رموز الثقافة التي قادت الأدب فيها، وابن جيل برع في مواجهة التحديات. 

 كان أول التحديات التي قابلته، وهو لم يتجاوز السابعة عشرة، اضطراره إلى التخلي عن بعثة رُشح لها، وعوضا عن إكمال الدراسة في مصر ظل في الكويت ليعمل معلما في المدرسة الشرقية يُعين والده في إعالة الأسرة الكبيرة. تغلب على مسئولياته في الحياة، ولم يتخل عن شغفه بالكتابة وبالقراءة سواء بالعربية أو الإنجليزية، وخلال فترة عمله معلما في مدرسة الصباح تواصل مع أكثر من مجلة وكتب أكثر من قصة. في يناير 1950 نشر في مجلة «البعثة» قصة «المؤامرة»، وفي العام نفسه نشرت له مجلة «الكويت»، التي أعاد إصدارها يعقوب عبدالعزيز الرشيد، قصة «المُـنقذ». 

«المُـنـقـذ» نص أعيد نشره تحت عنوان «الأشباح» عام 1955 ضمن مجموعة قصصية عنوانها «أحلام الشباب»، و«الأشباح» قصة يمكن اعتبارها نموذجا للتحديات التي حاول المثقف الكويتي مواجهتها. هذه التحديات خاصة بمواجهة أفكار يتوارثها المجتمع فتسيطر على إرادته وتتحكم في رؤيته، ومن هذا المنطلق التحق فاضل خلف بركْب مؤلفين وظفوا الكتابة لتكون أداة لتنوير المجتمع. إن مقارنة «الأشباح» بنص «منيرة» الذي كتبه خالد الفرج (1898- 1954) في عشرينيات القرن الماضي، يضعنا أمام كاتبين انتقد كلاهما الأفكار المتوارثة ومعتقدات تؤمن بالغيبيات مع غياب العقل. خالد الفرج في قصته نقد لجوء المرأة اليائسة إلى من ادعى عمل المعجزات لتتمكن من الحمل، وهو كمؤلف جعل طريق المرأة لمقابلة ذلك المشعوذ يمر عبر غابة وظلمة، وصرنا نراها بين «أدغال الأشجار وأوحال المستنقعات». لقد حوَّل الفرج ذلك الطريق إلى أرض جهالة وطأتها المرأة وكادت تضيع فيها، وكذلك فعل فاضل خلف في نهاية قصته، وهو عندما أراد الإشارة إلى سوءة توارث الأفكار دون التحقق منها، وضع المجتمع وجها لوجه أمام الجهل في الصورة التالية «وتقدموا جميعا وأزاحوا الغطاء عن الجثة، ولم يلبثوا أن تراجعوا مدهوشين، وكل منهم يعض شفته السفلى لغرابة ما رأى.. إذ لم يكن العفريت سوى امرأة يعرفونها جميعا وهي تسكن بالقرب من الحفرة». 

 

الكتابة‭ ‬واختيار‭ ‬التنوير‭ ‬طريقًا‭ ‬

فاضل خلف نموذج لجيل طرق باب الكتابة الأدبية لتكون مدخلا إلى جمال اللغة وفضاء للتعبير عن طموح نحو التغيير ورفض واقع سلبي، وهو عندما جمع بين كتابة المقالة وتأليف القصة ساهم في تشكيل نخبة من الكويتيين الذين حملوا لواء التنوير من خلال الأدب. في وقت كانت حرية الاختيار محدودة في ما تآزر أكثر من كاتب لتناول مشكلة التزام الشاب بتوجهات عائلته ورغبات الأهل على حساب طموحاته، فكتب فاضل خلف في العام 1954 قصة «أحلام الشباب» ونشرها في مجلة الإيمان، ومن جانبه كتب محمد مساعد الصالح (1935-2010) في العام نفسه قصة «هذا جناه أبي» ونشرها في العدد الأول من مجلة «البعثة»، ليكون موضوع القصتين انتقاد العادات الاجتماعية التي تمنع الشاب من اختيار شريكة حياته. 

فاضل خلف ومحمد مساعد الصالح وغيرهما شكلوا نموذجا لكُتاب أثروا الصحافة بالمقالات لتكون لكل منهم تجربته في القصة أيضا. محمد مساعد الصالح وجد طريقه في المقال فبرع في العمود الصحفي، بينما أعطى فاضل خلف أكثر للقصة والشعر، واستمر في سبر أسرار اللغة الأدبية وجمالياتها، ليتفق الكاتبان على جعل الكتابة وسيلة لبحث قضية تهمّ المجتمع، مؤكدين بذلك أن تطور مجتمع ما يتطلب تيارا متكاملا يـُسهم فيه بانسجام كلٌّ بقدراته وأدواته. 

بدايات فاضل خلف في الشعر والكتابة عامة تعود إلى أربعينيات القرن الماضي. وفي كتابه «أزهار الخير» الذي نشره في العام 1987 يورد مقالا عنوانه «حكايتي مع أول حفلة شاعرية في كويت الأربعينيات» يذكر أنه بدأ منذ منتصف الأربعينيات بنشر خواطره الأدبية من «قصة أو مقالة أو تعقيب في الصحف العربية، وأول جريدة نشر فيها هي جريدة «العراق» التي كانت تصدر في بغداد ثم مجلات الرسالة والكتاب في مصر والأديب والعرفان في لبنان». ويبدو أن محاولاته الأولى في الشعر لم تلق قبولا، وعن ذلك يذكر في المقال نفسه «شعري حتى ذلك الوقت، أي قبل 1948 كان لا يستقيم من ناحية الوزن، ونبهني إلى ذلك الشاعر العراقي السيد علي الهاشمي عندما زار الكويت في أول زيارة له، عام 1946 أو 1947 وقال لي إذا نظمت قصيدة فاعرضها على أحد الشعراء المعروفين، فإن كان الخلل فيها بسيطا استطاع أن يصحح ذلك الخلل (...)». 

ويبقى فاضل خلف مثابراً يكتب في الصحف ويحاول نظم القصيدة حتى تمكَّن منها وأبدع فيها، وهو ما يشير إليه المؤرخ المرحوم خالد سعود الزيد (1937-2001) في الجزء الثالث من كتابه «أدباء الكويت في قرنين»، وعندما يتناول سيرته يقول: «كنت أقرأ له في مجلة البعثة ومجلة الرائد ومجلة الإيمان، فيشدني التعرف إليه شوق مُلحّ شأن الناشئين. ولما التقيت به أطلعني على قصيدة له في تأميم القناة وأظنها «حائية» فلم تعجبني ولكني لم أكاشفه بما جال بخاطري حتى سمعت من المذياع يوما قصيدة يقرأها أحد المذيعين له في رثاء صقر الشبيب في العام الذي توفاه الله فيه، فقلت في نفسي: لقد ولد فاضل شاعرا، وكتبت إليه وهو في تونس يعمل ملحقا صحفيا أهنئه». 

اقتران الفضول بمتعة القراءة شجع فاضل خلف على أن يتعرف صحفًا مختلفة وراسل أكثر من مجلة صدرت في الكويت وخارجها. لم تقترن المتعة بالقراءة فقط، فلعبت الكتابة دورها، وعندما وجد في نفسه الرغبة في التعليق على موضوع ما، بــادر بالمراسلة فكتب إلى بريد القراء في مجلة «الرسالة» المصرية، كما نشر في غيرها مقالات وقصصا. هذه العلاقة إضافة إلى عمله كاتبا مع المرحوم سليمان العدساني وتأثره بأسلوبه في صياغة الرسائل والتحقق من سلامة الخطاب، والتحاقه بعد ذلك كمسئول للبريد في شركة إنجليزية كان لها مقر في الكويت أثَّر في شخصيته، والتجارب التي مر بها رشحته لأن يكون أحد الذين ساهموا في ولادة مجلة «كاظمة» التي بادر إلى إصدارها المرحوم أحمد السقاف وثلة من أدباء الكويت ورجالاتها في العام 1948. في هذه المجلة كتب المقال وبحث في التراث العربي ونشر ما ألَّف وترجم من قصص. 

تجربة المشاركة في تحرير وإصدار مجلة «كاظمة» ساهمت بلا شك في الزاد المعرفي الذي حظي به فاضل خلف، وهو بعد أن عمل بالتدريــس وبكتابة الرسائل ومناولة البريد وإدارته عمل في الجريدة الرسمية، وهو ما يُشير إليه في مقالة عنوانها «وجبة عشاء قادتني إلى المخفر»، حيث يتحدث عن موقف مرَّ به صيف 1955. هذه المقالة وغيرها ضمها فاضل خلف في كتاب «أزهار الخير»، ومَن يتصفح الكتاب يجد أن المقالات أصبحت مادة تاريخية وثق كاتبها ما اعتمل في نفسه وما جرى حوله، ذاكرا في صياغة أدبية، غير متكلف، ما يمر به على المستوى الشخصي والعام. من هذه مقالة عنوانها «كيف بيعَ العدد الأول من «العربي» بقطعة أرض في لندن»؟ حيث يبدأ المقال على النحو التالي: «احتفلت مجلة العربي منذ بضعة أشهر بالعيد الفضي على صدور أول عدد منها في شهر ديسمبر من العام 1958، (...) وقد كانت لي تجربة مع العدد الأول وهي واقعية (...)».

حرص فاضل خلف على كتابة التفاصيل ومعه نشعر برغبته في أن يشاركه الآخرون تجارب مرَّ بها، وما قصته وتخليه عن المائة جنيه التي ادخرها لشراء أرض في بريطانيا واضطراره لشراء بذلة بذلك المبلغ يستقبل بها خبر تسميته بلقب رسمي، إلا نموذجا نتعرف فيه على المفارقات الحياتية وما قد ينشأ عن اختلاف الثقافات وما يمكن أن يخلقه سوء التأويل في ترجمة كلمة «ســيـر» و«مستر». 

الكتابة أسرت فاضل خلف وأصبحت رفيقته الدائمة لتثمر علاقتهما عن مجموعة مؤلفات كانت أولاها مجموعة قصصية تكفل بجمع نصوصها وطبعها الناشر اللبناني محمد صادق الذي كتب في كلمته في مقدمة الكتاب «بكل فخر واعتزاز أقدم هذه المجموعة القصصية لصديقي الأستاذ فاضل خلف، ويسرني أنها أول مجموعة من نوعها لكاتب كويتي. (...) في هذه المجموعة قصص منوعة، فمنها المترجمة ومنها التاريخية ومنها قصص مستوحاة من صميم المجتمع». المجموعة القصصية صدرت تحت عنوان «أحلام الشباب» بعد أن تم جمع النصوص من مجلة «الايمان» و«البعثة» و«كاظمة» و«الكويت» إضافة إلى مجلة «الرائد» التي أصدرها نادي المعلمين آنذاك. 

الانتقال بالنصوص من المجلات وجمعها في كتاب واحد تطلَّب كما يبدو حذف مقتطفات من بعض النصوص، إضافة إلى تغيير بعض العناوين كما حدث مع قصة «الشهادة الخالدة» التي نشرت أول مرة في مجلة «الرائد» في العام 1952 وصار عنوانها «حضرة المديرة» عندما طبعت لاحقا في سياق المجموعة القصصية. في الثمانينيات لم تعد هذه المجموعة في متناول القارئ، ما حدا بالمؤرخ خالد سعود الزيد لإعادة نشرها وضمها في كتابه «أدباء الكويت في قرنين» وبالاتفاق مع المؤلف فاضل خلف أجرى تعديلات طفيفة على بعض العناوين. 

 

بين‭ ‬الكتاب‭ ‬والأثير

ويبدو أن المجموعة القصصية التي يرجح أنها طبعت في العام 1955 شجعت فاضل خلف لأن يصدر في العام التالي كتابه «في الأدب والحياة»، وبعد قراءة مستفيضة لكتابات زكي مبارك يصبح فاضل خلف أول من يضع كتابا عن تلك الشخصية الفذة، التي كانت تعرف بـ «الدكاترة زكي مبارك»، لأن له أكثر من رسالة دكتوراه، ويطبع في العام 1957 دراسة عنوانها «زكي مبارك» ليعيد طباعتها في العام 1982. لقد كان ذلك الكتاب بمنزلة بطاقة تعريف به عندما سافر في العام 1958 إلى بريطانيا. هناك قابل مصادفة أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة كامبريدج، وعندما عرَّف بنفسه رد عليه الأستاذ بأنه سبق أن تعرَّف عليه من خلال كتابه عن زكي مبارك. 

علاقة فاضل خلف بالقراءة والكتابة هي علاقة فضول يتجدد في كل مرة بصورة مغايرة، فقراءته لكتاب «الإنجليز في بلادهم» شجعته على التفكير في السفر إلى بريطانيا، والتصاقه بقاموس اللغة الإنجليزية وتعمقه في قراءة ما يتعلق بالأدب سواء المحلي والعربي أو العالمي هيآه لأن يتعاون مع الإذاعة البريطانية ليتحدث عن زكي مبارك وعن الأدب في الكويت أيضا. لم تكن تلك المرة الأولى التي يُشارك فيها فاضل خلف في برامج الإذاعة، فقد تردد اسمه في العام 1948 عندما أرسل من الكويت قصة «سكون الليل» ليفوز بالمسابقة التي نظمتها هيئة الإذاعة البريطانية في ذلك الحين. أما في إذاعة الكويت فقد شارك في «جريدة المساء» بأحاديثه عن قصص الصيف والبحر وغيرها من ذكريات. 

إخلاص فاضل خلف للكتابة جسَّد مفارقة فريدة حين أتاحت له الانتقال من واد إلى آخر. لم يكتف بالقصة والشعر، فكانت المقالة ضفة يرد إليها فيسرد عندها ذكريات يتطرق فيها إلى المواضيع الأدبية ليكون لحضوره الإنساني حاشية لابد منها. في كتابه «قراطيس مبعثرة» يضم مقالة عنوانها «على هوامش الذكريات» يكتب فيها «زرت عيادة الدكتور كرين وي في صيف 1940 بسبب أذى في الرأس، وكنت قد غبت عنه مدة طويلة. وبعد أن وصف لي الدواء سألني قائلا: أتريد أن تقرأ شيئا عن الحرب؟ لقد سقطت باريس، والألمان ربما يهاجمون بريطانيا قريبا. ثم ناولني مجلة إنجليزية مصورة وقال خذها معك فإن فيها كل شيء عن آخر أخبار الحرب. بالله ما هذا؟ سقطت باريس والألمان ربما يهاجمون بريطانيا. أولا ما هي باريس؟ لقد تذكرت.. فقد جاء في دروس الجغرافيا أنها عاصمة فرنسا. والألمان من هم؟ وخرجت من عيادته والمجلة بيدي اليمنى والدواء بيدي اليسرى. ولكن إلى أين؟ إلى حيث تحل الرموز (...)، وما شعرت إلا وأنا واقف أمام مخزن الكتاب المقدس لأسأل عن ثمن قاموس الجيب من تأليف إلياس أنطون إلياس».

 أما في مقالة «خواطر وأسمار» فهو يتحدث عن علاقته بالمذياع التي بدأت وهو في الثامنة. لم يستوعب أهميتها كثيرا، ولكن بعد خمسة أعوام صار يستجيب لها، وعن ذلك يقول «اكتشفت من الراديو أشياء كثيرة، كانت مستعصية على فهمي قبل ذلك... فقد عرفت معنى «هنا لندن» أو «هنا القاهرة» أو «هنا بغداد» وعرفت معنى الأحاديث وأخذت أستمتع فعلا بالموسيقى والأغاني...». 

أثَّرت المجلات في عطاء فاضل خلف وثقافته وحظي باشتراك لمدة عام بمجلة «المستمع العربي» الصادرة عن هيئة الإذاعة البريطانية بعد أن فازت قصته «سكون الليل» بمسابقة الهيئة في العام 1948 ليستمر في التواصل مع هذه الإذاعة التي تسلم منها رسالة في فبراير 1964 يُعلمه فيها رئيس القسم العربي بأن قصيدته فازت بالجائزة الأولى في المباراة الشعرية التي أجراها القسم العربي. القصيدة عنوانها «الإنسان وعالم الغد» وبدأت على النحو التالي: 

مـــا‭ ‬أعـجـب‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬أمـره‭ ‬

قد‭ ‬بلغ‭ ‬الذروة‭ ‬مــن‭ ‬نــــصـره

أمـر‭ ‬يــحــار‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬كُــنهـه

‭ ‬وتعجب‭ ‬الألباب‭ ‬مــن‭ ‬ســـره

فـبعــد‭ ‬أن‭ ‬كــان‭ ‬بغابــــاتـــــه

يعيش‭ ‬مثل‭ ‬الوحش‭ ‬في‭ ‬وكره

يــسيـر‭ ‬كالــــتائــه‭ ‬في‭ ‬مهمـه

لايعرف‭ ‬الـــذرة‭ ‬مـن‭ ‬أمـــره

يأوى‭ ‬مع‭ ‬اللـــيل‭ ‬إلــى‭ ‬كهـفــه

يرتـقب‭ ‬الأنوار‭ ‬مـــن‭ ‬فــجره

أصبح‭ ‬مثل‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬عزها

يــشع‭ ‬نور‭ ‬العـــلم‭ ‬من‭ ‬فكــره

رحلة فاضل خلف مع الأدب هي تاريخ حافل بالتفاصيل، وعلاقته بالكلمة جعلت من الشعر بوابة يطل بها على العالم، فيشارك في المناسبات الأدبية والدينية والوطنية، وخلال دراسته في مدينة كمبريدج في بريطانيا يلقي في العام 1958 في دار النقابة Guild Hall قصيدة عنوانها «الجزائر» يقول فيها:

حي‭ ‬البطولة‭ ‬في‭ ‬الجزائر

واسجع‭ ‬بنشيدك‭ ‬الحُـر‭ ‬الجميل‭ ‬المبدع

واكتُب‭ ‬بنور‭ ‬القلب‭ ‬أروع‭ ‬قصة

وقف‭ ‬الزمان‭ ‬حيالها‭ ‬بتـطلــع

هي‭ ‬قصة‭ ‬قد‭ ‬سطرت‭ ‬صفحاتها

سيرا‭ ‬لأمجاد‭ ‬النضال‭ ‬الأروع

هي‭ ‬ثورة‭ ‬الشعب‭ ‬العظيم‭ ‬لعزه

‭ ‬سُلبت‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬الزمان‭ ‬المفجع

نظم فاضل خلف الشعر لتكون فلسطين حاضرة في قصائده وكذلك البحرين ودمشق، إضافة إلى بورسعيد وجبل طارق، وخلال عمله في السفارة الكويتية في تونس في الفترة من 1962 إلى 1976 بقي على عهده مع القصيدة، وعندما قرر نشر ديوانه اختار «على ضفاف مَـجرَدَة» عنوانا يحتفي بتونس، وكتب عن نهرها أكثر من قصيدة ومنها واحدة عنوانها «نهر مجردة» يقول في مطلعها:

تنزل‭ ‬على‭ ‬الخضـراء‭ ‬درا‭ ‬عـسجـدا

وزدها‭ ‬على‭ ‬الأيام‭ ‬عـزا‭ ‬وســـؤددا

وعطِّر‭ ‬ثراها‭ ‬من‭ ‬معــينك‭ ‬بالــشــذا

فقط‭ ‬طبت‭ ‬في‭ ‬الآفاق‭ ‬نبعا‭ ‬وموردا

وصفق‭ ‬مع‭ ‬الشادين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مُنحنى

وحيِّ‭ ‬جموع‭ ‬الهازجين‭ ‬مُزغـــردا

وردد‭ ‬مع‭ ‬الأطيار‭ ‬في‭ ‬الدوح‭ ‬شـدوها

ورجع‭ ‬حفيف‭ ‬الغاب‭ ‬لحنا‭ ‬مُـجددا

ففي‭ ‬ضفتيك‭ ‬اليــوم‭ ‬للمـجد‭ ‬ثـــورة

بخضرتها‭ ‬تجــتث‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬أجردا

لسنوات ترقبت الكلمة لقاءها بفاضل خلف وانتظرها هو أيضا عند المرافئ لتكون مدادا لفكره وحلقة وصل بينه وبين الكتاب، وإلى اليوم مازال مستمرًا بالعطاء. وضع مجموعة مؤلفات وكتب المقالات التي وثقت لتجربته مع القراءة، فتطرقت فيها كتاباته إلى مجلة «الرسالة» التي قرأها أول مرة في العام 1943 في مكتبة مدرسة المباركية، وأشار إلى مقالات نشرها في مجلة اليقظة وصحيفة الوطن الكويتية.

 في كتابه «قراطيس مبعثرة» يعرفنا مرة برحلته إلى الجزائر في العام 1962 مشاركا باحتفالات استقلالها ومرة يصحبنا إلى إسبانيا وتارة يتطرق إلى جبل طارق وذكرياته في بريطانيا، ليبرهن على أن الكتاب هو الرفيق الأول في رحلة التنوير، فيتناول القضايا الأدبية والإنسانية والتاريخية في المؤلفات التالية: 

دراسات كويتية (1968). 

سياحات فكرية، الطبعة الأولى (1977). مجموعة مقالات. 

25 فبراير – مجموعة شعرية - (1981).

أصوات وأصداء – (1983).

قراطيس مبعثرة – (1985).

فاضل خلف، أزهار الخير، ط1، (1987).

دراسات أندلسية – ط1، (2012) .