العقاد ضاحكًا!

العقاد ضاحكًا!

‮«‬الشعور‭ ‬بالمُضحكات‭ ‬والمُبكيات‭ ‬مَلكة‭ ‬إنسانية،‭ ‬وُجِدَت‭ ‬في‭ ‬الإنسان،‭ ‬ولـم‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬الحــيوان؛‭ ‬لأنه‭ ‬يدركُ‭ ‬المُشابهة،‭ ‬ويَحسُّ‭ ‬بالتعاطف،‭ ‬ويستدعي‭ ‬الخواطر‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد‮»‬‭. (‬عباس‭ ‬العقاد‭). ‬

لم نتعود على مثل هذا العنوان الذي صدرنا به مقالنا، فقد تعودنا في المقالات التي تكتب عن العقاد - على وجه الخصوص - على عناوين أخرى من مثل: «العقاد كاتبا»، أو «العقاد شاعرا» أو «العقاد ناقدا»، وهكذا، ولكن العنوان الذي اخترناه لهذه المقالة يندر أن يأتي على هذا الوجه!

     ولكن.. على عكس ما قد يظن الكثيرون، فقد امتاز الأستاذ عباس محمود العقاد (28 يونيو 1889 - 12 مارس 1964) بقدر كبير من الإقبال على الحياة، وروح الفكاهة المرحة، والدعابة الذكية، التي كثيرا ما كان يشارك فيها، أو يرويها، أو يستمع إليها من الآخرين، سواء في صالونه أو في أي مكان آخر، يتفق فيه وجود الراوي المُناسب.

    والعقاد على الرغم من شهرته الطاغية ككاتب سياسي مرموق، وناقد أدبي صارم، وأديب ملتزم، فإنه يُفرِد كتابا للضحك والإضحاك، يؤرخ فيه لجحا ويروى عنه من نكته ومواقفه الضاحكة، ولذا فقد جعل عنوانه هكذا: «جحا الضاحك المُضحِك»! 

    كما كان العقاد - رحمه الله - متشربا بروح ابن البلد، الذي يتمتع بقدر من السخرية العذبة المحببة، ويعرف كيف يستخدمها جيدا عند اللزوم، ولاسيما حينما لا يعجبه شيء، أو عندما يتعرض لنقد واحدٍ من الناس، وهي روح مصرية أصيلة، ولعل ذلك وراء لجوئه - في كثير من الأحيان - إلى الأسلوب الساخر في بعض مقالاته وفصوله التي كان ينشرها، سواء كانت مقالات سياسية أو نقدية أو أدبية. فقد كان يلجأ أحيانا إلى أسلوب السجع كنوع من السخرية، خاصة حينما ينتقد نقدا لاذعا، من ذلك مثلا عنوان مقاله السياسي في نقد شِدَّة محمد محمود باشا وسياسته، التي عُرفت باسم السياسة أو القبضة الحديدية، تحت عنوان: «يد من حديد في ذراع من جريد»، أو في عنوان آخر حول فلسفة الملابس «حواء والأزياء»! وغيرهما. 

   كما يظهر عنصر السخرية والتناقض الذي يثير الضحك، كما يبعث أيضا على الفكر في بعض عناوينه الأخرى من مثل: «الصواريخ والشعر والحمير» (صحيفة «الأخبار» في 30/10/1963)، وعنوان مقالته في نقد الشعر الحر أو شعر التفعيلة بعنوان: «شغلة» لا تفلح.. أو لعبة لا تُسلي» (صحيفة «أخبار اليوم» في 24/6/1961)، أو «الواقعية في الشعر وفي الغيط» (صحيفة «الأخبار» في 13/3/1963)، وغيرها.

   

‮«‬خفة‭ ‬الدم‮»‬‭ ‬المصرية

    كما أنه لم ينس وهو يكتب مُؤَلَّفَه عن الزعيم سعد زغلول أن يضمنه فصلين عن الطبيعة المصرية، يذكر في أحدهما طرفا عما تتمتع به الشخصية المصرية من روح الفكاهة والمرح، واصطناع النكتة المضحكة، التي قد يكون وراءها ما وراءها من أسباب مختلفة، وقد ترمي في الوقت ذاته إلى أهداف معينة.  

    ويرى العقاد أن «الشخصية المصرية» تتمتع «بخفة الدم» الفطرية، فقد اشتهر المصري بالنكتة بين جيرانه، كما عُرف المصريون بـ«التنكيت» في الزمن القديم مثلما عرفوا  به أيضا في الزمن الحديث، حتى قيل إن الرومان حرَّموا عليهم المحاماة في محاكم الإسكندرية؛ لأنهم كانوا يغضون من هيبة القضاء الروماني بالمزاح والدعابة، في أثناء الدفاع وشرح القضايا!

    وقد عزا العقاد اللباقة وبراعة الحديث ولطف النادرة وحسن المؤانسة - التي عُرف بها المصريون - إلى قِدَم الأمة المصرية في الحضارة، وعراقتها في الآداب، كما أنها أمة مُنصرفة في أكثر الأحيان إلى السِّلم والمعيشة الوادعة. وأجدر بهذه الخصال وحدها أن تكون ينبوعا فياضا للنكتة، ولباقة التعبير في الجد والهزل على السواء.

 

القفشة‭ ‬بين‭ ‬المصريين‭ ‬والألمان

    ويعبر العقاد عن هذا أصدق تعبير حينما يقارن بين المصريين والألمان في هذا الصدد، فيقول: الحق أن العبقرية المصرية في فن «القفشة»، قليلة النظير، وقد كان أغرب ما سمعناه عن الأدباء «السُّهاة»، من أعلام الغربيين قصة «ليسنج» ملك النقاد، ولكن قفشاتنا المصرية - بغير تعصب - أبرع من قفشات الألمان. 

    فقد كان ليسنج يعود إلى منزله كل ليلة عند منتصف الليل، وحدث أنه ذهب قبل هذا الموعد ذات ليلة، وحينما دق الباب وأطلَّ عليه الخادم من النافذة قال له: إن الأستاذ لم يرجع بعد!

   فرجع الأستاذ من حيث أتى وهو يقول: طيب! سأعود في فرصة أخرى!

  ويعلق العقاد على هذا بقوله: قفشاتنا نحن أبرع وأحق بالتدوين، ولكننا نأسف لأننا لا نحفل بها ولا نجمعها، كما صنع السلف الصالح من جامعي النوادر والفكاهات، وما كان الزاد الأكبر من طرائف «العقد الفريد» لابن عبدربه، و«الأمالي» لأبي علي القالي، و«البيان والتبيين» للجاحظ، إلا من هذه البضاعة التي نسهو عنها في أدبنا الحديث. وحقيقة أمرها أنها أكثر من فكاهات: إنها صورة نفسية واجتماعية، ولمحات من العبقرية القومية، ينبغي أن نضيف تراث العصر منها إلى سائر ما تقدم من عصور.

 

من‭ ‬سهوات‭ ‬الأستاذ‭ ‬الحكيم

      ومن بعض ما استمتع به وسجله وكان يرويه الأستاذ العقاد من هذه الفكاهات والقفشات ما رواه عن زميله وصديقه الكاتب المسرحي الكبير الأستاذ توفيق الحكيم، حيث تحدث بعضهم عن سهوات الحكيم - وهو سامع - فقال: إنه كان يسهر أيام العزوبة في أحد الأندية العامة، فهبط عليه صديق يقول له بلهفة الأسف والملام: 

    يا أستاذ! أنت ساهر هنا وزوجتك تسهر في سيارة فلان إلى هذه الساعة؟

     فوثب الأستاذ وهرول إلى المنزل، وصاح بالخادم وهو يفتح له الباب في غضب لم يعهده منه قط: أين الهانم؟ أين الهانم؟

    قال الخادم دهشا: أي هانم يا بك؟

    قال الأستاذ: أي هانم؟ امرأتي يا أبلة!

   فغلبت الدهشة والضحك الخادم، وقال له وهو لا يصدق ما يسمع: ولكنك يا بك غير متزوج!

      ثم يردف العقاد: وانتقلنا إلى حديث «السهاة» المشهورين فذَكِر زميل كبير قصة الأستاذ أحمد أمين - رحمه الله - وهو في ترام مصر الجديدة وعامل التذاكر يسأله عن الاشتراك، فيُخرجُ له الساعة ويدنيها من عينيه كلما كرر السؤال.

     قال عامل التذاكر: أنا أسالك يا بك عن «الأبونيه». 

    قال الأستاذ وهو لايزال في ذهوله: وما هذا الذي تراه إذن بعينيك؟!

  

  ‬أحمد‭ ‬أمين‭ ‬يكره‭ ‬السبانخ

    ثم يسوق مُلحة أخرى من ملح الأستاذ أحمد أمين قائلا: وقيل عن الأستاذ أحمد طيب الله ثراه، إنه كان يكره السبانخ وقدموها له يوما على المائدة، فقال متأففا: ما هذا؟ سبانخ!

    قالوا: نعم ! لقد علمنا أنك تكره «الرِّجْلة» فطبخنا لك السبانخ بدلا منها.. فأقبل على الطعام يأكله باشتهاء! ثم قال شاكرا: حسنا صنعتم. أكثروا منه بعد الآن...!

   ويروي أيضا عن شاعر النيل حافظ إبراهيم بعض فكاهاته فيقول: رحم الله حافظ إبراهيم، لقد سمعته يقول عن «المنجة» أنها لا يَحسُن أن تُؤْكل إلا في حمَّام ؛ لأنه - رحمه الله - كان يُمعِنُ في أكلها حتى يُلطخ بها ثيابه، فمن شاء فليقل مع الإمام الليث: وكذلك البطيخ الذي رآه.. فرأى القوم يبطخون منه ويلطخون..!

 

بطيخ‭ ‬المتنبي‭ ‬يطيح‭ ‬بحكمته‭  

    ويحكي العقاد هذه الأفكوهة عن شاعر العربية الأكبر المتنبي، فيقول: كان أبوالطيب المتنبي حكيم الشعراء، وكان يلقي البيت من الشعر الحكيم فتتجاوب به الآفاق، ولاتزال متجاوبة به، ولن تزال. 

    إلا أنه بفضل البطيخ قد نسي الحكمة، ولجَّ في الحماقة، وأصبح سخرية الساخرين من رواة شعره الرصين. 

    كان يترفع ويتمنع، ولكنه في سبيل المال يتمرغ ويتضرع ولا يتورع! وحدث أن أميره سيف الدولة رمى في مجلسه بدرة من الدنانير، فلما رآها الشاعر الحكيم تتناثر هنا وهناك، تناثر معها لبُه وطارت وراءها حكمته، فهبط إلى الأرض يدافع الخدم ويدافعونه، ويشفق أن يفوته منها دينار يختفي تحت الحصير! 

    وسُئِل في ذلك فألقى الذنب على البطيخ، أو هكذا زعم والعُهدة عليه.

   قال الجاحظ: «وردت في صباى من الكوفة إلى بغداد، فأخذت خمسة دراهم وخرجت أمشي في السوق، فمررت برجل يبيع الفاكهة، ورأيت عنده خمسة من البطيخ باكورة، فاستحسنتها وساومته ثمنها، فازدراني وقال لي: اذهب فليس هذا من أكلك .. فتماسكت معه وقلت: أيها الرجل.. دع ما يغيظ واقصد الثمن .. فقال: عشرة دراهم! فلشدة ما جبهني به وقفت حائرا ودفعت له خمسة دراهم، فلم يقبل .. وإذا بشيخ من التجار، لم يره صاحب البطيخ حتى وثب إليه وقال: يا مولاي! ها بطيخ باكورة، هل أحمله بأمرك إلى منزلك؟ فقال الشيخ: ويحك. بكم هذا؟ فقال: بخمسة دراهم.. قال الشيخ: بل بدرهمين! .. فباعه الخمسة بدرهمين وحملها يقصد إلى داره بعد أن دعا له وهو فرحٌ مسرور .. فقلت له: يا هذا ما رأيت أعجب من جهلك.. تستام عليَّ في هذا البطيخ؟ وكنت أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم فلم تقبل، وتبيعه محمولا بدرهمين؟!

قال: فحملق في وجهى وصاح بي: اسكت! فهذا يملك مائة ألف دينار .. فتعجبت من أمره، وقلت في نفسي: إن الناس لا يكرمون إلا من ملك مائة ألف دينار، واعتمدت من وقتها أن يكون عندي مثلها.

    ويعلقُ العقاد على هذا فيقول: كلامٌ عجيب من شاعر الحكمة وحكيم الشعراء، فإن صدق أو لم يصدق، فلقد جنى عليه البطيخ مرتين: أنساه الحكمة، وأنساه الصدق في علة ذلك البخل المعيب.

 

اليهود‭ ‬والبطيخ

   ويذهب العقاد مع البطيخ كل مذهب، حتى في أغوار التاريخ، ليأتي لنا بفكاهة لطيفة من مائدة هذه الفاكهة العجيبة، فيقول: إن بني إسرائيل - حينما كانوا بمصر - كانوا يقيمون بجوار المكان الذي يُعْرفُ الآن بالصالحية، ولعلهم فُتِنوا ببطيخها من قديم الزمان. وأن هؤلاء القوم ليحسون ضعفهم أمام هذه الفاكهة المُغرية، وإنهم ليعتذرون من هذا الضعف بالمبالغة في لذتها وإغرائها، ويزعمون في ما زعموا أنها تصنع المعجزات بأيدي أنبياء التوراة.

     ففي جبل الكرمل حجارة تسمى إلى اليوم بحجارة البطيخ، لأنها تشبهه بالشكل واللون حتى لتُحسَبُ من بعيد كأنها مزرعة بطيخ!

     فإذا سألت عن سر هذه التسمية قيل لك إنها ترجع إلى أيام النبي إلياس رضوان الله عليه، وأنه خرج ظمآن ذات يوم فرأى فلاحا يحمل بطيخا شهيا راقه منظره، وأحب أن ينقع ظمأه بشريحة منه .. فأنكره عليه الفلاح الخبيث، وقال له: تلك يا نبي الله حجارة وليست بطاطيخ..!

    قالوا: فما زاد النبي إلا أن قال: لتكن كما زعمت، فكانت حجارة، وألقاها الفلاح من حجره  فهي إلى اليوم في ذلك المكان، ولعلها احتفظت بعد المسخ بطبيعة النبات، فتكاثرت وتدحرجت هنا وهناك حتى أصبحت تُعد بالمئات! 

    ثم يقول العقاد: نعم ... ولعل الصهيونيين الذين يطمعون اليوم بمعجزات العلم أن يقلبوا معجزات النبوة، فيُخرِجوا من تلك الحجارة بطيخها الذي أباه الفلاح على النبي إلياس.    

  ثم ينقل لنا العقاد ما حفظه التاريخ أو الرواة وتناقلوه، من أن ثمة يهوديا مرابيا نزل في بلدة من بلاد الصعيد، وسمع عن أهلهم أنهم مشهورون بالحِرص والتدبير، فأعطى واحدا منهم قرشا وقال له إنه يريد به طعاما وشرابا وحلوى وتسلية بعد الطعام وعَلَفا لدابته .. فجاءه الرجل ببطيخة، وقال له إنها طعام وشراب وحلوى، ولُبها للتسلية، وقشرها علف للدابة ... وإن صحَّت بقية القصة كانت البطيخة عِصمة لأهل البلدة، فإن المُرابى فارقها على الأثر ورجع من حيث أتى! 

 

بعض‭ ‬مواقفه‭ ‬في‭ ‬الوظيفة

    كان العقاد يضيق بالوظيفة وقيودها، والأسلوب «الروتيني» الذي كانت تُؤَدَّى به، من ذلك أنه كان يعمل كاتبا تحت إشراف «باشكاتب» متواضع العلم والمعرفة، وكانت الرسائل تسمى يومئذ بـ«الإفادات». وكانت للإفادة صيغة مقررة مكررة لا تختلف من الإفادة إلى التقفيلة، كما كانوا يسمونها، وكان من نماذجها ترتيب الألقاب من «حميتلو» إلى «رفعتلو» إلى «سعادتلو» إلى «عطوفتلو» بين ملاحظ البوليس وناظر المالية الذي كنا تابعين له في أقسامنا المالية بالمديريات. فإذا قلت صاحب الحمية أو صاحب العطوفة بدلا من حميتلو أو عطوفتلو بطلت الإفادة، ووجب إعادتها من جديد! وكذلك تبطل الإفادة إذا ختمتها بعبارة غير عبارة التقفيلة المعهودة: «وهذا ما لزم عرفانكم أفندم». 

   وتتخلل الإفادة قوالب تعبيرية أو «كليشيهات» على هذا المثال لا يجوز فيها التبديل ولا التقديم والتأخير.

   وأكتب عشرين أو ثلاثين إفادة دفعة واحدة، فإذا هي تُعادُ إلي «لتصحيحها» وكتابتها مرة أخرى بالأسلوب المعهود.

    ويتكرر هذا مرة بعد مرة، ولا متسع من الوقت لكتابة الإفادات جميعا، فضلا عن كتابتها وتغييرها بلا سبب، غير هذا الجمود على الأسلوب العتيق.

   ويتفق يوما أن أدخل على الباشكاتب بالإفادات المشطوبة، فأجده منفردا في المكتب، وتزين لي «شقاوة» التلمذة أن أعبث بالرجل عبثا لم يخطر له على بال، وبخاصة هذا الباشكاتب الذي اشتهر في مديريات القطر بالحزم والمهابة والدراية بأصول الإدارة وأساليب المكاتيب.

   قلت له بكل بساطة: «يا أيها الحمار الأزعر .. أمثلُك يصحح الكتابة العربية وأنت لا تعرف منها غير الهجاء وكتابة «العرضحالات»»؟!

    ولم يُصدِّق الرجلُ أذنيه، وظن أنه أمام مجنون لا يُؤمَن أن يبطش به ويعتدي على حياته، فقفز من كرسيه إلى خارج الحجرة، ينادي الفراشين والموظفين المساعدين، ثم ذهب إلى مكتب وكيل المديرية يشكونى إليه؛ لأن المدير - محمد محب باشا - كان غائبا عن البلد، وينوب عنه «محمد خليل نائل بك» الذي كان معروفا في ذلك الوقت بأنه رجل «رياضي» بحبوح قبل أن تشيع كلمة الـ«سبور». 

    ويدعوني الوكيل، فأقول له مُقسِمًا أنني ما خاطبت الرجل إلا بما يستحقه من الاحترام!

     ويبتسم الوكيل الظريف، ثم يقول للبك الباشكاتب: 

     - دعه لي.. فإنني سأنظر في أمره «بما يستحقه».

     وما كاد الباشكاتب يولي قفاه حتى ضحك الوكيل وكاد يقهقه، ثم اصطنع العبوس وهو يقول:   

   - اسمع يا بُني.. شُغْل الحُواة في المدارس لا ينفع هنا في الوظائف، ولو ثبت عليك أنك تطاولت على حضرة الباشكاتب لكان جزاؤك الفصل العاجل، فلا تَعدْ إليها مرة ثانية. 

    وقد علمت بعد ذلك أن الباشكاتب قد استكبر على مهابَتِه المشهورة أن يذاع عنه أن موظفا صغيرا قال له: «يا حِمار».. فلم يذكر للوكيل إلا بعض ما قيل!

 

أحسن‭ ‬حمار

    وبمناسبة لقب «الحمار» الذي نعت به العقاد رئيسه في العمل في مقتبل حياته الوظيفية، نتذكر الآن أن للعقاد قصة قصيرة بعنوان: «أحسن حمار»، التي أعيد نشرها بهذه المجلة: «العربي»، بعد وفاته (يناير 1971)، مَن يقرأها لا يملك نفسه من الضحك من أولها إلى آخرها!

 

المرأة‭ ‬البدينة

    ومِن وصفه الكوميدي الساخر للمرأة البدينة ما يبعث على الضحك، حيث يقول: تعلو المرأة السمينة وتهبط في مِشيتها وما تنتقل شبرا واحدا في أقل من خطوتين، والمقرظون من حولها يهللون ويُكَبِّرون، ويباركون الخلاق العظيم، ويعوذون هذا الجِرم الذي لا تمضي فيه السيوف.. من لحظات العيون، ومن حسد الحاسدين!

 

مُغنِّى‭ ‬المجالس

    وإذا كنا قد روينا بعض ما سجله في أخريات حياته في كتابه «أنا»، من مواقفه العملية الضاحكة، فإنه قد سجل بعضها أيضا في بعض كتبه التي ألفها في مطلع شبابه مثل كتابه «الفصول» سنة 1922، وكان قد نشره في مقالة بصحيفة «الرجاء» بالعدد التاسع والعشرين في السنة نفسها.  

   والقطعة بعنوان «مُغَنِّي المجلس»، لا يملك المرء نفسه من الضحك وهو يطالعها، ليس فقط من الموقف الذي وضع المغني نفسه فيه، ولكن من تصوير العقاد له بعبارات تموج بالكوميديا المُعبِّرة عن روح العقاد المرحة، التي تلتقط المعانى اللطيفة  وتصورها في تعبير فكاهي ينم عن طبيعة مصرية سلسة، تتأثر غاية التأثر بالمواقف الضاحكة، حيث يقول في جزء منها، بعد مقدمة قصيرة يُمَهِّد بها للموضوع: دُعِينا ليْلة إلى مجلس سماع (أي «سهرة» طرب) فوجدنا المغني الذي سنسمعه قد سبقنا إليه، وقد تولى عن صاحب الدار الترحيب بالمدعوين ومصاحبة القادمين إلى أماكنهم من المجلس. ولا عجب فهو صاحب الليلة ولا خسارة على صاحب الدار في أن ينزل له عن زائريه ليلة من لياليه. فحيانا عند قدومنا وبَشَّ لنا وأجلسنا بالقرب من مكانه احتفاءً بنا، ورأيناه يتكلم وهو  يبتسم ويسكت وهو يبتسم، ويقعد ويقوم ويأسف ويعبس وهو يبتسم، وبالغ في اللطف. 

   لا بأس بالابتسام، فهو يزيل الكُلفة ويبسط النفوس للمعرفة. وكأي من رجل يمهد سبيله في الحياة بابتسامة تلازم شفتيه فيملك بها القلوب ويفتح أصفاد الصدور. 

   ولا نغمط مغنينا اقتداره في هذه الصناعة الشفوية، فلقد أثرت في أكثرنا ابتساماته أثر السحر أو أعظم فسقطوا في يديه أسرى دماثته، ورهائن بشاشته، وقال أحدنا: ما أظرف المغني، إنه والله للظرف المُجسَّد. وقال آخر: ما أحسبُنا إلا سنسمع الليلة ما لا أذن سمعت ونرى من مغنينا هذا ما لا عين رأت. ولا شك عندي في أنه مكين في فنه، بعيد العهد بممارسته، فأقل ما في الأمر أنه أطال مصاحبة أهل الفن حتى اقتبس منهم وتأدب بأدبهم وهذه إشاراته، وآدابه في التحية والمُلاطفة شاهدٌ بذلك. 

   ومضت بعد ذلك برهة في التشوّف والانتظار، ثم مضت برهة ثانية في النقر وإصلاح الآلات، ومضت البرهة الثالثة، ولا ندري كيف مضت لأننا فوجئنا بزعقة هائلة، لم نعلم أَمِن السماء هبطت، أم من الأرض صعدت، وصوت صارخة وهي تُعدّد، أم صوت قتيل يستنجد، أستغفر الله، بل لم نعلم أهي صوت إنسان، أم عزيف طائفة من الجان، ولمّا أفقْنا من غشيتنا وجدنا بعضنا ينظر إلى بعض، وإذا بالمُغنى يصيح: (يا ليل .. يا ليل)، فما شككنا أنه ينادي ليلة الحشر، أو أبْعَد ليلة في ما وراء التاريخ، وأيْقَنّا أنه صاحب الزعقة الأولى! 

   يا ضيعة الأمل! أهذا هو المغني الظريف اللطيف ..؟

   وراح العقاد يستكمل سرده على هذا المنوال.. ومع كل عبارة مما يسوقها يثير القارئ بابتسامة أو ضحكة.. لا يكاد ينتهي منها حتى يبدأ في التي تليها حتى نهاية المقال! 

 

نادي‭ ‬العجول

    وله قطعة أخرى بعنوان «نادي العجول»، تفوق سابقتها في روح الدعابة الممتزجة بالمشاكسة، التي تنبعث من مَلَكة السخرية والقدرة على الإضحاك، وقد نشرها في كتاب من أوائل ما نشر من كتب بعنوان «الشذور» إذ كانت طبعته الأولى سنة 1915، وقد كتبها في نادٍ اتفق أن أكثر أعضائه من ضخام الأبدان، حيث أسس النادي لأسباب تجعل لذِكْر القرون في المقالة مناسبة ظاهرة، حيث يقول في جزء منها: نُبئتُ أن العجول اجتمعت مرة لتنشئ لها ناديا تأوِى إليه، ولا نعلم ماذا ساقها إلى هذا الخاطر العجيب؟ أقلة العلف؟ أم ضيق المذاود؟ أم ذاك مرض النوادي الذي سرى النبهاء إلى الأغمار، قد فشا حتى سرى من الأناسي إلى الأبقار؟؟ هذا سرٌ في صدور العجول!

   فلما تكامل عددُها، وانتظم عقدها، وقف منها عجل يظهر مِن كِبر دماغه أنه ملمٌ  بالتاريخ والأخبار، وقال: «أيها السادة!! إن العجل مدني بالطبع. ونحن معشر العجول قد ميزَنا الله على بني آدم بضخامة الأجسام وصلابة القرون. ولقد مضى بهؤلاء الناس زمان كانوا يعرفون لنا بأسنا، ويتمسحون بأذيالنا حتى أيقنوا أن لن يقوى على حمل هذه الدنيا أحدٌ سوانا، فألهونا من فرط الأجلال، وسبحوا لنا بالغدو والآصال، وكانوا يحسدوننا على قروننا فدعوا أكبر أبطالهم، وأشدهم بأسا، وأرفعهم ذكرا ـ أعني الإسكندر المقدونى بذي القرنين!

    وما إسكندرهم هذا وما قرْناه؟؟ إن أصغر عجل فينا ليهشِّمُ رأسه إذا ناطحه، ويُجندله إذا واثبه أو صارعه...!

   فالعجب لك أيتها العجول، لِمَ لا تذكرين ذلك المجد الخالد، فتقام لك الصوامع والمعابد، بل النوادي والمعابد؟؟ ألم تنتبهي لما يجب عليك لبني جنسك؟ وما هو فرض معين عليك لنفسك؟.. 

   ثم مضى العقاد على هذه الوتيرة من الوصف الذي يفيض سخرية وإثارة للزراية والضحك في وقت معا .. إلى أن ختم مقاله بما يُذكرنا بالجاحظ في وصفه لأحمد بن عبدالوهاب في «رسالة التربيع والتدوير» حيث يقول العقاد: «جالت الرقاع فانتخبت العجول زعيما شنيع الوجه، منفرج البطن، منحوس الطلعة، نكير الصوت، ثم اختارت الرئيس فالوكيل (فالناموس؟) فالمفتش فالأمين - خمسة عجول تتفاوت في الجسامة حسب تفاوتها في الدرجة، فاصطفت صفا، ثم أقبلت وأدبرت، ثم دارت في الندى تدبدب بأرجلها، وتشول بأذيالها، وتنفخ التراب بمناخيرها، ثم خورت خوارا رجّ الفضاء، وطبّق الأرجاء، وأصبح في الدنيا منذ ذلك اليوم نادي العجول..!

   رحم الله العقاد الضاحك المُضحك! .