سبائك العسجد.. كتاب تاريخي مؤلَّف في الكويت عمره 250 عامًا

سبائك العسجد.. كتاب تاريخي مؤلَّف في الكويت عمره 250 عامًا

يعد‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬سبائك‭ ‬العسجد‮»‬‭ ‬ثاني‭ ‬الكتب‭ ‬المؤلفة‭ ‬في‭ ‬الكويت،‭ ‬وكان‭ ‬مخطوطًا‭ ‬قبل‭ ‬قرنين‭ ‬ونصف‭ ‬القرن‭. ‬أما‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬فكان‭ ‬‮«‬الموطأ‮»‬‭ ‬للإمام‭ ‬مالك،‭ ‬الذي‭ ‬كُتب‭ ‬في‭ ‬جزيرة‭ ‬فيلكا‭ ‬سنة‭ ‬1094هـ‭ (‬1682م‭) ‬على‭ ‬يد‭ ‬مسيعيد‭ ‬بن‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬مساعد‭ ‬بن‭ ‬عبدالله‭ ‬بن‭ ‬سالم‭.‬

يأتي بعده كتابنا «سبائك العسجد» الذي كتب أيضًا في جزيرة فيلكا. وكان كاتبه ومؤلفه هو الشيخ عثمان بن سند، الذي ولد في قرية الدشت وتعلم بها، ثم أصبح إمامًا في قرية القرينية القريبة من قرية الدشت، ونظرًا لقرب جزيرة فيلكا من «خور عبدالله»، فإنك تستطيع أن تعبر هذا الخور والذهاب إلى البصرة بكل سهولة، ولما كان الشيخ عثمان بن سند يتردد على البصرة، وكان بها  علماء وعلم وثقافة، فلهذا استفاد من هذه البيئة التي ساعدته على أن يخرج ويؤلف أكثر من سبعة وأربعين كتابًا في أغلب العلوم، سواء في اللغة العربية أو الأدب أو الشعر أو الرحلات أو التاريخ، وكانت أغلب كتبه مازالت مخطوطات، وأبرز هذه الكتب في التاريخ «أخبار الوالي داود» حاكم العراق، والثاني كتاب سبائك العسجد.

وقبل أن ألقي الضوء على هذا الكتاب كان محمد بهجت الأثري (العالم البغدادي) قد كتب نبذة عن حياة ابن سند، وذلك في التعليق على مختصر كتاب «مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود» الذي ألّفه ابن سند، وقد جاءت هذه الترجمة في إحدى عشرة صفحة.

وهنا أقتطف هذه الأسطر حول كتاب «سبائك العسجد في أخبار أحمد نجل رزق الأسعد»، وقد ضمنه زهاء خمسين ترجمة لناس من أعيان البصرة ومشايخ الزبارة والبحرين والكويت، وبعض أعيان نجد والعراق في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، وهو في 116 صفحة، وطبع بمطبعة البيان على نفقة الشيخ عبدالله (عميدآل باش أعيان). هذه أول إشارة عن هذا الكتاب قبل خمس وستين سنة، وكان الكتاب موجودًا بين القليل القليل من الكويتيين، وكانت هناك نسخة من هذا الكتاب في مكتبة السلفية بالقاهرة.

طبع هذا الكتاب مرتين، الأولى في سنة 1306 هـ -1888 م في مطبعة البيان خلال يومين.

وطُبع مرة ثانية على الأحرف نفسها في سنة 1315هـ -  1897م.

وكان هذا الكتاب، قد وصلت نسخة منه مخطوطة إلى لندن في سنة 1310هـ - 1892م، ونسخة أخرى كانت في السعودية، وانتقلت إلى مركز الملك فيصل - قسم المخطوطات.

 

سجع‭ ‬وثروة‭ ‬لغوية

نلاحظ أن هذا الكتاب كله من أوله إلى آخره يسير بالسجع، وتجد فيه ثروة لغوية من الألفاظ التي وضعها ابن سند في هذا الكتاب، ويمكن أن يعد هذا الكتاب مثل مقامات الحريري الذي به كنز من الألفاظ التي لم تطرق الأسماع وهي عربية فصيحة، ولنا هنا أن نذهب إلى مقدمة هذا الكتاب، حيث يقول:

بسم الله الرحمن الرحيم

«إن أولى ما رفعت فيه أنوف اليراع، ونسجت فيه برود الإيداع، وطرزت مطارفه ببنان الإبداع، حمد من نشر المكارم، وألويتها، وروَّض رياضها وأفنيتها، ورفع آطامها وأبنيتها. وأهب نسائمها وأدر غمائمها، وفتح كمائمها، أحمده حمد من أعمل بالحمد لسانه، وأشغل بالشكر أركانه وجنانه، وزيّن بالمكارم بنانه، وبالطلاقة واللطافة إحسانه، وأشكره شكر معترف بامتنانه، مغترف من برِّه وإحسانه، عارف بعلو شانه، وأصلي على من نطقته البلاغة بنطاقها، وطوّقته السعادة بأطواقها، وأحاطته السيادة برواقها، وأركبته النجادة براقها، وجملت به العبادة أجيادها وأعناقها، وزينت به الرسالة أغصانها وأوراقها، وكحّلت به النبوة أجفانها، وكملت به الرياسة نقصانها، ونظمت به السياسة جمانها، واغترب من البلاغة غاربها وشايَ في البراعة طالعها وغاربها، وتطوف للكمالات مشارقها ومغاربها، واذدرى منها ذراها، واصطهى من أفراسها صهاها، وسايرته أربابها فما أسرعه وأبطاها.

هو‭ ‬لاشك‭ ‬للكمالات‭ ‬شمس

غير‭ ‬أن‭ ‬ليس‭ ‬يعتريه‭ ‬كسوف

أنجبته‭ ‬من‭ ‬الكرام‭ ‬جدود

كلهم‭ ‬للعلا‭ ‬رءوس‭ ‬أنوف

إن أرضعته بدرها المعالي، وأسفر بمصباح هديه الليالي، فإنه الإنسان الكامل، وواسطة عقد الرسايل، وغرة وجه المكارم والشمائل.

إن‭ ‬يكن‭ ‬راضعًا‭ ‬ثدي‭ ‬المعالي‭ ‬

فهو‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أشرف‭ ‬الأنبياء

أو‭ ‬يكن‭ ‬للعلا‭ ‬سماء‭ ‬فهذا

قمر‭ ‬نيِّر‭ ‬لتلك‭ ‬السماء

أو‭ ‬يكن‭ ‬مصدر‭ ‬العلوم‭ ‬فكم‭ ‬كا

ن‭ ‬لباغي‭ ‬البذل‭ ‬مصدر‭ ‬الإعطاء

أطلعته العلياء في سماها، حتى شاي كيوانها وذكاها، لا غرو إن صار أحمد أنباها، وأكرمهم كفا وأنداها، وأعظمهم منصبًا وأرفعهم جاها، محمد الذي نشر المكارم، وكسر المصادم بالصوارم، ونثر الغنائم للغانم».

وعندما نتوجه إلى ص 18 من طبعة الهند نجد عن الكويت ومدينة الكويت أشياء تسرّ النفس، (الكلام على بلده الكويت وترجمة شيخها عبدالله الصباح)، «فنقول هي الكويت بضم الكاف وإسكان الياء بلا خلاف، على ساحل بحر العدان، بفتح العين في ضبط ذي الإتقان، لم تعمر قبل ورود أبيه العظيم الشان، إلا بريهة من الزمان، سكنها بنو عتبة: ولهم في عنزة بن أسد نسبة، والذي يظهر أنهم متباينو النسب، لم تجمعهم في شجرة أم وأب، ولكن تقاربوا فنسب بعضهم لبعض، وما قارب الشيء يعطى حكمه على الفرض، والمقدم عليهم حين ورود أبيه إليهم (عبدالله بن صباح) وفقه الله للصلاح، وكان لما قدم أبوالمشار إليه، يفوض إبرام الأمور ونقضها إليه، حتى أنهم قبل وصوله شرذمة قليلة، ذوو مسكنة وذلة، وحين جعلوه لآرائهم قبلة، وفوض خواصهم الأمر إليه كله، شد أسرهم وسد ثغرهم، ورأب صدعهم، ونصب جمعهم، فنما فرع الثروة في تلك البلاد، وطغى بحر المكارم وزاد، وأقبل العز بعجره وبجره، وأطلع المجد في سمائها وجه قمره، وذلك أيام صغره، فتصدر أباه في أموره، إرهاصًا لظهوره، وعلامة على أنه صدر بدوره، وأنه الدرة التي سمح بها القدر، حتى انفلقت - ولله الحمد -  عن درر، هي لرياض الفضل زهر، ولوجه العدل غرر، على أن أباه كان ذا إيمان، ثابت البنيان، مشيد الأركان، يعمر المجالس بالنفاسة، والمساجد بالتلاوة والدراسة، ذا رأي ثاقب وتدبير صائب، أثبت من الرعان، إن قلب المجرة الزمان وأكرم من السحاب الهتان، عظيم المقدار، خصوصًا عند الأخيار، واصلا للأرحام، بالهبات الجسام، دائم الابتسام، وافر الاحتشام، يضيق نطاق الحصر عن إفراد ثنائه، ويعجز الزمان عن حمل أعبائه، وما ذاك إلا لأسفار نجله الكريم، على صفحات وجهه الوسيم، فلقد لف الجد أباه بمطرف المجد، وعطف عليه بطرف السعد، حال إيجاده، في الرحم وقبل ميلاده، فعمت السعادة أباه، مذ تلألأ سناه، ولقد اتجر في اللآلئ، بثلاثة دنانير اقترضها من الوالي، فبلغت في زمان يسير، ثلثمائة على التحرير، كما روى ذلك أفضل مجالسيه، وألطف مسامريه وموانسيه، كما تقف على ترجمته، ونشر بعض برود صفته، في ذكر أصحابه ومسامريه من رحابه».

ويعطينا انطباع هذه الملاحظات القيّمة عن وضع الكويت قبل قرنين ونصف القرن، حيث يصف ابن سند الكويت بأنها بلد هادئ وادع، وعندما يصف أميرها الأول بأنه ذو إيمان ثابت البنيان يعمر المجالس بالنفاسة والمساجد بالتلاوة والدراسة، ذو رأي ثاقب، لكنني أترك ما كتبه ابن سند للتبصّر به، فهذه شهادة بحق وحقيقة عن حاكم الكويت وشعبها في تلك الحقبة من الزمن، وهذا أحسن نص وصلنا عن جزء من تاريخ الكويت، ويمكن أن نستخلص الشيء الكثير من كتابات ابن سند، ونجده وهو يلقي الضوء على هذه الشخصيات التي رسمها ودبجها في هذا الكتاب، حيث إن هناك آل ابن رزق وآل العبدالرزاق، وهما من كبار تجار وأغنياء الكويت، وهناك الشيخ محمد بن فيروز والشيخ عبدالوهاب محمد بن فيروز اللذان توليا القضاء، وبعدها كان القضاء بيد الشيخ أحمد عبدالله العبدالجليل، الذي انتقل إلى آل العدساني ردحًا من الزمن، وهناك شخصيات لا يعرف عنها شيء إلا من خلال هذا الكتاب (سبائك العسجد). ومن أبرز هذه الشخصيات الحاج بكر لؤلؤ البصري، وهو من أسرة آل البكر التي أنجبت «عالم النخلة» عبدالجبار البكر، الذي يعتبر أكبر عالم في هذا الصدد، وهذه الأسرة كانت منازلها في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية، ولكن قبل أربعة قرون انتقل فرع منها إلى البصرة، التي أخرجت هذا العالم الجليل في أول القرن العشرين عبدالجبار البكر.

ويمكن أن نقول  هنا إن النسختين المخطوطتين الموجودتين في لندن وفي المملكة العربية السعودية، من المؤكد أنهما كتبتا في عهد المؤلف، ويلاحظ أن أسلوب المخطوطة التي كتبت وهي في السعودية، كان كاتبها محمد بن مبارك مساعد المبارك قد اعتمد على النسخة الأصلية التي كتبها ابن سند ونقل عنها، وهو يقول في آخر المخطوطة إنه بلغ مقابلته على أصله وتصحيح بعض أصقاطه وشكله بقلم كاتبه لنفسه ومن شاء الله من بعده الفقير إلى الله محمد بن مبارك المساعد المبارك الحنبلي السلفي، وكانت مقابلته بنظر والدي، متعني الله بحياته وغفر لي وله سيئاته، ومن له حقوق علي وعليه وللمسلمين والمسلمات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا في معمورة بندر جدة سنة ثلاثة عشر وثلاثمائة وألف من الهجرة.

ونتساءل: كيف وصل هذا المخطوط بنسخته السعودية إلى جدة قبل مائة وعشرين سنة، وكتب هناك؟ وقبل أن أنهي هذا البحث، قلت إن أول من كتب عن قصة حياة مؤلف مخطوطة ابن سند كان محمد بهجت الأثري قبل خمس وستين سنة، وقد كانت ترجمته لقصة حياة ابن سند قريبة من الواقع، إلا أنه أخطأ في نسب مكان والده، حيث قال: ولد عثمان بن سند عام 1180هـ في قرية من قرى نجد اسمها «فليكة» قريبة من الكويت.

ومن المؤكد أن محمد بهجت الأثري سمع أنه من فليكة وأعطاها اسمها الصحيح نقلاً عن العلماء الذين عاصروا ابن سند في بغداد، الذي حرّفه بعض الكويتيين من فليكة من كلمة فلك وفليك وفليكة والتي أصبح اسمها اليوم فيلكة.

ثم جاء من بعده خير الدين الزركلي في كتابه «الأعلام» يقول في الجزء الرابع صفحة 206 إن عثمان بن سند النجدي الوائلي «بدر الدين»، لا أدري من أين جاء بهذه التسمية (بدر الدين)، لكن أقول: لكل مجتهد نصيب وهكذا.

وأخيرًا، فهذه قصة كتاب «سبائك العسجد» واحد من عدة كتب لابن سند - رحمه الله -، ذلك الكتاب الذي ألّفه وكتبه في الكويت في نهاية القرن الثامن عشر، طرحناه لكم في هذا البحث .