«المسرح الشعري العربي.. الأزمة والمستقبل».. المشايخ ورجال الدَّين وراءَ نهضة المسرح في بداياته

«المسرح الشعري العربي.. الأزمة والمستقبل»..  المشايخ ورجال الدَّين وراءَ نهضة المسرح في بداياته

صدر‭ ‬أخيرا‭ ‬عن‭ ‬سلسلة‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬المعرفة‮»‬‭ ‬كتاب‭ ‬مهم‭ ‬يكشف‭ ‬الستار‭ ‬عن‭ ‬المسرح‭ ‬الشعري‭ ‬العربي،‭ ‬حيث‭ ‬يقدم‭ ‬الدكتور‭ ‬مصطفى‭ ‬عبدالغني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬مرثية‭ ‬للمسرح‭ ‬الشعري‭ ‬العربي،‭ ‬وتتهاوى‭ ‬عليه‭ ‬أحجار‭ ‬الإحباط‭ ‬عند‭ ‬مناقشة‭ ‬مستقبل‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬المسرح،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬من‭ ‬التراجيديا‭ ‬الشعرية‭ ‬هو‭ ‬‮«‬أنسب‭ ‬الأشكال‭ ‬الأدبية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الهموم‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الأمم‮»‬‭.  ‬ثم‭ ‬يزيدنا‭ ‬الباحث‭ ‬همًا‭ ‬وهو‭ ‬يرصد‭ ‬حالة‭ ‬تضاؤل‭ ‬الأداء‭ ‬الدرامي‭ ‬العربي‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭. ‬لقد‭ ‬تعب‭ ‬الكاتب‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬المسرح‭ ‬الشعري‭ ‬العربي،‭ ‬المسرح‭ ‬المنوط‭ ‬به‭ ‬تغيير‭ ‬حالة‭ ‬الوعي‭ ‬بعد‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬وما‭ ‬تلاها،‭ ‬لكنه‭ ‬يصر‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬ما‭. ‬

قسَّم الباحث كتابه إلى تمهيد وأربعة فصول، تدور جميعا حول تطور المسرح الشعري، فيتناول في فصله الأول المد والجزر في المسرح الشعري، مقسما مراحل التطور إلى ثلاثة أقسام، ينتهي كل قسم بحادث صاخب كبير، حيث ينتهي القسم الزمني الأول عام 1918م بنهاية الحرب الأولى، وتنهي النكسة عام 1967 المرحلة الثانية، بينما يتوقف عند العام 1980م باعتباره نهاية صدور أعمال تختص بهذا النوع بشكل يشكل تيارا. 

الملاحظة المثيرة أن فن المسرح الموسيقي الغنائي كان في الأصل بأيدي المشايخ ورجال الدين، كأبي خليل القباني والشيخ سيد درويش، بينما ظهر المسرح التجاري في المرحلة الثانية مع تراجع دور المشايخ مسرحيا، ورغم أن الباحث أنهى هذه المرحلة في العام 1967، فقد درس بها أعمال صلاح عبدالصبور، رغم أنها جميعا كتبت بعد النكسة، باستثناء «مأساة الحلاج».

الملاحظة الثالثة تتعلق بخفوت صوت النص الشعري المسرحي، فلم نجد التأثير الحاد لنصوص شوقي وعزيز أباظة والشرقاوي وعبدالصبور، ولكن اختفى المؤلف ليظهر الاهتمام بالمخرج. ويشير د.مصطفى عبدالغني إلى مفارقة غريبة مؤداها أنه حين يتطور فن التمثيل ويزيد عدد الممثلين؛ تهبط قيمتهم بالتبعية في العرض المسرحي، ثم يشير المؤلف إلى تراجع فن الكتابة للمسرح الشعري، وفن الإخراج، حتى نرى تكامل العروض المسرحية في حلة بهية، لكنها «شاحبة».

 

عين‭ ‬الطائر

في الباب الثاني «الدراما الشعرية.. عين الطائر»، يرصد الباحث مشهدا أفقيا للعلاقة بين الواقع السياسي والواقع المسرحي، مؤكدا أن الحراك الاجتماعي يجب أن يحمل «خطاب التغيير بعنف»، ويتوسل هذا الخطاب بكل تقنيات المسرح قديمة وحديثة، وتتضح سيطرة المضمون السياسي على المسرح الشعري، وإن التف حول الواقع بالرمز والاستدعاء، والمعادل الموضوعي.. إلخ.

فالدكتور محمد عناني – على سبيل المثال– يتخذ في مسرحيته «الغربان» لحظة تاريخية موجعة، هي فترة المستنصر، حيث زاد الفقر وسيطر، فاتخذ الكاتب الغربان رمزا لقواد القهر وسادة القمع والظلم: 

«غربان هذا العصر يا وزير هم أعوانك الكبار / أعوان والينا المهيب / ضباطه وعساكره / كل ينال حصة ثم ينصرف / يقول: نفسي أولا». وهو ما سنجده في مسرح «مهدي بندق»، وخاصة أنه صاحب إسهامات جيدة في المسرح الشعري، كما وكيفا، فقد أصدر عشرة أعمال مسرحية شعرية، عرض منها الكثير، من مسرحياته:  سفينة نوح الضائعة 1964، الحلم الطروادي 1966، ريم على الدم، السلطانة هند 1985، ليلة زفاف إلكترا 1986، غيلان الدمشقي 1990، مقتل هيباشيا الجميلة 1996، آخر أيام إخناتون 1998. 

وينتقل المؤلف إلى العراق، مع الشاعر معد الجبوري، ليقدم نصا بعنوان «آدابا» كتبه عام 1971 وطبعه بعدها بخمس سنوات، حيث يقدم – كعادة المسرح الشعري – التاريخ معانقا الأسطورة، لنجد صراعات الآلهة معاً، وصراعاتهم مع البشر، لتلقي بظلال على الواقع بشكل ما، بينما نعود إلى «الخديوي» مع فاروق جويدة، والتي كتبها عام 1993م، ويدور الصراع متوازيا مع استعادة واقع السبعينيات. وعبر نصوص لأحمد سويلم وفريد أبوسعدة ومحمد عبدالعزيز شنب وغيرهم، يؤكد الباحث سيطرة الهم السياسي على المسرح الشعري. 

 

في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬ربيع‭ ‬مسرحي

في الفصل الثالث، يتوقف المؤلف مع «تجليات المشهد الأخير، باحثا عن قيمتي» العدالة والحرية، معتبرا هاتين القيمتين «أكثر القيم التي يجب أن يعبّر عنها المسرح العربي في الفترة الأخيرة». 

ويرصد هاتين القيمتين عبر مناقشته مسرحيات عدة أهمها: «مقتل هيباشيا الجميلة» للكاتب الشاعر مهدي بندق، ثم «الخديوي» لفاروق جويدة، و«المؤتمر الأخير لملوك الطوائف»، لخالد محيي الدين البرادعي، ثم «اللعبة الأبدية» لمحمد الفارس، و«الفلاح الفصيح» لفتحي سعيد، وأخيرا: «بقعة ضوء تسقط مظلمة» للشاعر شعبان يوسف، وهي المسرحية الوحيدة التي تتعامل مع الواقع بآليات الواقع ذاته، بعيدا عن ارتداء الأقنعة التاريخية، أو استدعاء الماضي. ورغم ثراء المسرحية بالحيل الفنية المدهشة، فقد ناقشها الدكتور مصطفى عبدالغني موضوعيا، كما ناقش غيرها من الأعمال، باحثا عن قيمتي الحرية والعدالة، ولم يلتفت إلى شاعر وكاتب قدير مثل محمد مهران السيد، فإن كان فتحي سعيد قد أخرج مسرحيته الفريدة «الفلاح الفصيح» ولم يكرر التجربة، فإن مهران السيد، قد تناول الحدث نفسه، قصة الفلاح الفصيح أخنوم، الذي خرج بحميره ذات يوم محملة بألوان التجارة، كي يستبدل بها محاصيل الوادي، وبالقرب من العاصمة، وعلى شاطئ النيل، تطورت أحداث القصة، حين قضم حماره حفنة شعير لأحد الأشراف، فكانت النتيجة أن استولى الشريف على حميره وخيراته، وأقام أخنوم على باب قصر الشريف يستعطفه تارة، ويتلقى سياطه تارة أخرى، ولما يئس ذهب إلى كبير الأمناء في أهناسيا، ولكنه لم يجرؤ على الشكوى إليه مباشرة، واكتفى بإبلاغ الشكوى تلو الشكوى إلى أحد رجاله، ولما يئس مرة أخرى اقتحم معقل كبير الأمناء نفسه، وشكا إليه مباشرة، وهكذا إلى أن تم إنصافه، وردَّ إليه حقه، وهو في تلك الأثناء صابر على البلوى والعذاب، قادر على السخرية مسيطر على زمام نفسه إلى أبعد حد، وكأنه يؤكد بذلك تلك الحكمة الشعبية القديمة القائلة: «ما مات حق وراءه مُطالب»، كما يلخصها الراحل الدكتور حسين علي محمد. والمهم في هذه المسرحية أنها تتحدث بشكل مباشر عن العدل والحق والحرية، كقوله: 

‮«‬مولايْ‭ ‬الحقُّ‭ ‬بأرْضِكَ‭ ‬تمثالٌ‭ ‬منْحوتْ

نصبوهُ‭ ‬كناطورِ‭ ‬الحقْلْ

لا‭ ‬يفعلُ‭ ‬إلاّ‭ ‬تضليلَ‭ ‬الطَّيْرِ‭ ‬أو‭ ‬التَّمْويهْ

أعرفُ‭ ‬أنَّكَ‭ ‬يا‭ ‬موْلايَ‭ ‬كبيرُ‭ ‬القلْبْ

أنتَ‭ ‬النيلُ‭ ‬المُتدفِّقْ‭ ‬والرُّوحُ‭ ‬لهذي‭ ‬الأرْضْ‭ ‬وإدامُ‭ ‬الفقراءْ‭ ‬وشعيرُ‭ ‬الأيتامِ،‭ ‬وخبزُ‭ ‬المرضى‭ ‬والفقراءْ‭ ‬وملاذُ‭ ‬الفلاحينْ

لكنْ‭ ‬يا‭ ‬مولايَ‭.. ‬تحوَّلْتْ‭ ‬لتفيضَ‭ ‬بأرْضٍ‭.. ‬لا‭ ‬تحْتاجُ‭ ‬الماءْ

هلْ‭ ‬تسمعُني؟

لا‭ ‬تحتاجُ‭ ‬الماءْ‮»‬‭.‬

كما لم نجد أي إشارة لمسرحية مهمة مثل «ياسين وبهية» لنجيب سرور، أيضا جاء الكتاب منصبا على المضمون، بعيدا عن مناقشة فنيات العمل المسرحي المكتوب شعرا، ولا الصراع وطبيعته، ولا اللغة واختلافها، وإنما جاء الدرس المضموني في المقام الأول، وجاء الفارق بين الفصلين الثاني والثالث طفيفا، حيث سيطرت المضامين الفكرية على الفصلين معا.

‭*** ‬

الكتاب رحلة قيمة طويلة حزينة في البحث عن فن يكاد يتوارى عن المشهد، رغم أحقيته في الريادة، ورغم قدرته على التعامل مع مشكلات مجتمعه إبداعيا، نظرا لتأصله التاريخي، لقد بدأ المسرح شعرا، فلماذا لا يعود شعرا؟! .