ثقافة التفكير

ثقافة التفكير

لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يفكر‭ ‬أو‭ ‬يبدأ‭ ‬بفكرةٍ‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الرجوع‭ ‬ذهنيا‭ ‬إلى‭ ‬استدعاء‭ ‬‮«‬كلمة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬صورة‮»‬،‭ ‬والعقل‭ ‬البشري‭ ‬فسيح،‭ ‬مُهيّأ‭ ‬بذاكرة‭ ‬عظيمة،‭ ‬عميقة‭ ‬النهاية،‭ ‬سريعة‭ ‬الاستجابة،‭ ‬فإن‭ ‬فُعَّلت‭ ‬تلك‭ ‬الذاكرة‭ ‬فلن‭ ‬يضاهيها‭ ‬أكبر‭ ‬أو‭ ‬أسرع‭ ‬الحواسيب‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬إلا‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬إدراك‭ ‬تلك‭ ‬المساحات‭ ‬إلا‭ ‬عندما‭ ‬تُدَوَّن‭ ‬الكلمات‭ ‬وتُكتب‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬العقل‭. ‬فلا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬كتابة‭ ‬الكلمة‭ ‬بداية‭ ‬لتدوين‭ ‬الفكرة،‭ ‬والحاجة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الكتابة‭ ‬هي‭ ‬توثيق‭ ‬خبرة‭ ‬أو‭ ‬تسجيل‭ ‬عبرة‭. ‬وذاكرة‭ ‬الإنسان‭ ‬تبدأ‭ ‬بحفظ‭ ‬الصُوَر،‭ ‬ولأنّ‭ ‬الصورة‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬تعريف‭ ‬دقيق‭ ‬أو‭ ‬مجمل‭ ‬خاص‭ ‬بها،‭ ‬لكي‭ ‬يقوم‭ ‬العقل‭ ‬باستدعائها‭ ‬عند‭ ‬الحاجة،‭ ‬نشأت‭ ‬الكلمة‭ ‬لتكون‭ ‬دلالة‭ ‬للصورة‭. ‬

يربط العقل دائــما بيـن الكلمة والصورة، فإن غَمُضَت إحداهما دَلّت عليها الأخرى، وإن جُهِلَت الكلمة ولم تكن لها صورة ذهنية كان «الاستنكار»، وإن لم يَعرف العقلُ صورة ما ولم يستطع استدعاء كلمة لتلك الصورة كانت «الدهشة». ويتفق علماء الألسن واللغة بأنّ المنطوق من الكَلِم أتى قبل المكتوب، حينها وضعوا الكلمة المكتوبة في عِداد الرسم. لذا نرى تفنن الشعوب بالكلمات المنطوقة من أجل صناعة وإثبات الهوية، وكان ذلك من خلال نظام تتركب فيه الكلمات فتكون جُمَلا، لتصبح منظومة للتفاهم بين مجموعة من البشر. وقد أدى هذا التفاهم المحدود إلى الانتشار لدائرة أوسع فأكثر اتساعا، فأصبحت «لغة» يتحدث بها شعبا وأمّة. ولا شكّ في أنّ التفنن في ترتيب الحروف يصنع الكلمة الجميلة، مثلما يصنع التفنن في تركيب الكلمات جملا وعبارات رائعة. وكلما ارتقى الإنسان في حياته عنِيَ بتلك التراتيب والتراكيب. من هنا جاء التطور في اللغة، ليُشَبّه الباحثون اللغةَ بالكائنِ الحيّ: تُخلَقُ وتوُلَد فيها كلمات، وتموت منها كلمات، وتبقى لها كلمات. وظلّ سحر الكلمة يكمن في نُطقِها الدالّ غالبا على معناها، فكلما فَضُلَت الألفاظ حَسُنَت العبارات وصَحَّت الجُمَل وسَهُلت المعاني. والعرب، دون مبالغةٍ أو تحيّز، كانوا هم الأقدر من بين شعوب العالم على مثل تلك التراكيب. وكان من السهل عليهم نقل مفردات وتراكيب جُمَلهم إلى ألسن الأعاجم. لقد أصبح جليا أنّ سهولة استيعاب اللغة العربــــية كانــت صنيع جزالتها. ولا بدّ لنا أن نؤكّد هنا أنّ الانتماء إلى العروبة ليس انتماء عصبيا يقوم على أصل دم ونسب، إنه انتماء إلى الثقافة العربية وحب باللسان العربي. وإن ذكرنا قوائم العلماء والأدباء والبلغاء الذين يُحسبون عربا فقد أكثرنا على القارئ الكريم. لقد عدّهم التاريخ من العلماء العرب، ونحسبهم كذلك، فمن الفقيه أبي حنيفة النعمان بن ثابت والنحوي عمرو بن عثمان بن قنبر الشهير بسيبويه مرورا بالشاعر ابن الرومي وابن سينا الطبيب، إلى العالم المتكلم أبي حامد الغزالي والمؤرخ ياقوت الحموي، وغيرهم كُثْر، حتى أننا لا نكاد نحصيهم عددا. ونستطيع أن نقول إنّ العربي هو من ينتمي إلى الثقافة العربية لسانا وفكرا وسلوكا. 

 

مزج‭ ‬المتعة‭ ‬بالمعرفة

أما الكتابة بالعربية، فبدأت كمثيلاتها بدءًا بالنقش على الحَجَر ثم على ألواح الطين، بعدها استعمل العرب لحاء الشجر وجريد النخل، ثم الرقاع من الجلود، خاصة الرقّ والجَفر. وعندما انتشر الإسلام، كتبوا على البرديات التي عرفوها من مصر، والورق أو ما كان يُسَمّى بالقراطيس؛ وكان يُصنَعُ من خليط صمغي مع لب الشجر، وقد جُلِبَت تلك الصناعة من الصين. بعد ذلك انطلقت صناعة الورق من قلب دولة العرب والإسلام لتصل إلى العالم أجمع آنذاك، وانتشر العلم بفضل رخص الورق نسبيا، وخفة وزنه، وسهولة الكتابة عليه وتصحيح الأخطاء، وسهولة نقله وتخزينه وبيعه. وكانت الكتب تُجمع بطريقتين: مصاحف وسِجِلاّت، وقد سميت الأولى مصاحف لكونها صحفاً متتابعة ومتوالية، وكل صفحة على حدة، يُكتب عليها الكتاب، ويُربط طرفها الأيمن بخيطٍ سميك. ولأنّ العناية الكبرى كانت للقرآن الكريم، فقد أصبح أهم وأجلّ وأشرف مصحف، وبتخصيص العام صارت الكلمة ذات دلالة مباشرة ترادف معناها عند الناس بمعنى «القرآن». أما السِجِلاّت، فهي الصحف المطويّة على شكل لفائف، استُخدمت أكثر ما استُخدمت في الرسائل والأوامر الرسمية لدواوين الدولة. وبانتشار صناعة الورق وتوافره ازدهرت العلوم والفنون والثقافة بشكل عام. وتفنن الخطاطون والوراقون بصناعة الكتاب وابتكار خطوط جديدة أضفت جمالا على تلك الكتب. واستعمل الوراقون نُسّاخا، ساعدوا على اقتناء الكتب وانتشارها، مما شجّع المؤلفين على تصنيف كُتب جديدة بمواضيع مختلفة، حتى لجأ بعض المؤلفين إلى ابتكار أنماطٍ جديدة في الكتابة. ها هو الجاحظ، صاحب إحدى مدارس الاعتزال الكلامية، يكتب للعامة لينشر فكرا تجديديا، فيمزج المتعة بالمعرفة في كتاباته، ويرسم الابتسامة على شفاه قرّاء مصنفاته. وكان الأدباء يكتبون ويصنفون كل ما هو جديد في عالم الكتب وأسواق الوراقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر كتاب الأغاني لأبي الفَرَج الأصفهاني ومقامات القاسم بن محمد الحريري.

كانت الكتب تُكتب لأهداف محددة أو لأشخاص معينين، عادة ما يكونوا من علية القوم، فهم من يستطيع مكافأة المؤلف على ما أنفقه من جهد ووقت ومال في كتابة كتابه. وقد سمعنا بخزانات الكتب التي يملكها الأمراء والأعيان، ولكن ما يجهله الكثير من الباحثين أنّ الكتب في تلك الخزانات لا يطّلع عليها أي كان، سواء من العلماء أو من طلبة العلم. ومع مرور الزمن تحولت الخزانات إلى مكتبات، بعد أن صار ما تحتويه وقفا للعلم وطلابه. 

 

حماية‭ ‬المخترع‭ ‬المبدع

كان لانتشار الكتاب ميزاته، ولكنّ أمراضا تفشت مع هذا الانتشار، نستشفها من فقرة من كتاب «مروج الذهب ومعادن الجوهر» للمسعودي. تكررت هذه الفقرة في مقدمة الكتاب وخاتمته، حيث يقول:

«فمن حرّفَ شيئا من معناه، أو أزال ركنا من مبناه، أو طمس واضحة من معالمه، أو لبَّس شاهدة من تراجمه، أو غيَّره، أو بدَّله، أو أشأنه (أي أفسده)، أو اختصره، أو نسبَه إلى غيرنا، أو أضافه إلى سوانا، وافاه من غضب الله وسرعة نقمه وفــــــوادح بـــــلاياه ما يعـــجــــــز عن صبره، ويحار له فكره... وقد جعلت هذا التخويف في أول كتابي هذا وآخره، ليكون رادعا لمن ميله هوى، أو غلَبه شقاء، فليراقب الله ربه، وليحاذر منقلبه، فالمدّة يسيرة، والمسافة قصيرة، وإلى الله المصير».

لقد عانى المبدعون سرقة إبداعاتهم، التي تكون أحيانا أغلى ما لديهم. إنّ السرقة رذيلة جرمتها الشرائع وأكدت تجريمها القوانين. ولم يقف مفهوم «السرقة» على التعدي على ما للغير عن طريق السطو أو الاختلاس، بل تعدى الأمر ذلك، ووسعت دائرة مفهوم السرقة لتصل إلى «الادعاء الباطل للملكية». في منتصف العقد قبل الأخير من القرن الماضي، اتفقت الدول المتقدمة على توقيع بروتوكول حماية الحقوق الفكرية، فصيغت التشريعات وسُنَّت القوانين من أجل حماية المختَرِع والمُبدع، ويطلق مصطلح «الاختراع» على المُنْتَجِ المُصَنَّعِ، أما مصطلح «إبداع» فيطلق على الفكرة والكلمة والمقال والكتاب. ومهما يكن من أمر، فالاختراع والإبداع أمران لهما قيمة، وكل قيمة يترتب عليها حق، وكل حق يستوجب التزامًا، وكل تعدٍ على حق أو خرْق لالتزام يستوجب عقوبة، وكل عقوبة بنصّ. 

عزيزي القارئ.. إنّ القراءة زاد المعرفة، فكلما قرأت كتابا فَتَحَ لك نافذة على عقلِ مؤلِّفِه، فتعرف كيف يُفكّر، وبذلك تنال المنهج، وإن لم تستطع فقد حظيت بمعلومة وفائدة، فالكتب كالأطعمة؛ الطيّب منها يُدْرَك والغثُّ منها يُتْرَك. 

واحذر الكتب «المُهَجَّنَة» و«المُسْتَنْسَخَة» التي تُبهرك في شكلها وتنميقها بورقها وتجليدها، ويكون موضوعها خواء، فهي بلا طعم ولا رائحة ولا فائدة، وربما يكون منها الضرر. وقد قيل إنّ الكتاب يُعرف من عنوانه، أما اليوم فيُعرف الكتاب من مؤلِفه. لقد اختلط حابل المواضيع بنابلها، وتشابهت العناوين، وارتبكت لغة الكتابة، وتطاول السفهاء على العلماء، وتراجعـــت الأولويات، وانقلبت الموازين.