الترجمة بين جمال الأسلوب ورشاقة الألفاظ
الترجمة مجال يعسر على الكثيرين اقتحامه، ذلك أن نقل نص من لغة إلى أخرى تلزمه معارف ومهارات ليست متاحة إلا لقلة قليلة. والترجمة كذلك ممارسة تضع موضع التطبيق عصارة سنوات من المجاهدة والمثابرة في الاطلاع على أمهات الكتب من أجل تكوين رصيد لغوي ومعرفي متميز يسمح باستحضار المكافئات اللغوية والأسلوبية عند الترجمة. إن بعض أصناف النصوص لا يُكتفى في ترجمتها بنقل المضمون الدلالي من لغة إلى أخرى، بل يُستحسن أيضا إخراج الترجمة في حلة تطرب لها الأذن، فتخرج من حيز الوفاء الرتيب للنص الأصلي إلى حيز الإبداع. فما الوسائل المعجمية والأسلوبية الكفيلة بإنجاز ترجمات موسومة بالإبداع؟
إن مهمة المترجم شاقة مضنية، لأنه مُكبّل بمعنى النص الأصلي وبمبناه، الأمر الذي يجعل خياراته ضئيلة مقارنة بمن يكتب نصا أصليا. إذ لا يستطيع المترجم أن يطلق العنان لخياله ولا أن يتصرّف في مضمون النص الأصلي، ولو فعل ذلك لعُدَّ صنيعه خيانة وتحريفا. لذلك فإنه يعيش صراعا داخليا بين ضرورة الوفاء لذلك النص، وبين رغبته في إنجاز ترجمة خارجة عن المألوف. وقد يأمل المترجم أحيانا أن يلتمس له القارئ الفَطِن الأعذار، فيغفر له الانزياحات الدلالية والأسلوبية الطفيفة التي «يقترفها»، فما الضّرر الذي قد ينجرّ عن «التضحية» بنزر من الدلالة في سبيل جمالية النص؟
ويُعَدُّ مبحث الجمالية مبحثا عريقا في الفكر الإنساني، فقد سال حبر كثير حول شروط الجمالية في الأدب والشعر والرسم والموسيقى ونحو ذلك. وعلى الرغم من تحديد الكثير من هذه الشروط، فإن الجمالية تبقى أحيانا مسألة ذوقية وجدانية يستشعرها الفرد، ولكنه لا يستطيع أن يرسم معالمها رسما دقيقا. يقول ابن الأثير: «لقد تصفحت الأشعار قديمها وحديثها وحفظت ما حفظت منها، وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين، ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ فأجد لها نشوة كنشوة الخمر، وطربًا كطرب الألحان». ويرى البعض أن جمالية التعبير تبدأ حين تتنصل الكلمات جزئيا من وظيفتها في نقل المعنى، لتغدو خادمة لنفسها، أي حين تتحول الكلمات من مجرد ناقل للأفكار إلى مفجر للأحاسيس. سنسعى في ما يلي إلى تحديد جانب من شروط الجمالية في عملية الترجمة، مستعينين بتجربتنا في هذا المجال تدريسا وممارسة، ولا يخفى على القارئ طبعا أن الإحاطة بجميع الشروط ليس بالأمر الهين.
في البداية، لابد أن نشير إلى أن أول شروط الجمالية هو تفادي الأساليب التي قد تُقوّض الجمالية ذاتها، ونخص بالذكر منها استعمال الأساليب الصحفية المستهلكة والركيكة والتي غدت بحكم تكرارها وشيوعها على لسان أهل الصحافة ممجوجة. فمن أسباب جمال المفردة ألا يكون طول الاستعمال قد ابتذلها، فمَجَّها الذوق، وكرهها السمع. فإن الأذن قد تطرب لسماع لفظ أو تعبير جديد، ولكنها إن ألفته وتعوّدت عليه يصبح أثره عكسيا مُنَفِّرًا فيُلفَظ. ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار، وصوتاً منكراً كصوت حمار، وأن لها في الفم أيضاً حلاوة كحلاوة العسل، ومرارة كمرارة الحنظل، وهي على ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم. ومما يشيع في لغة أهل الصحافة نذكر عبارات مثل «أخيرا وليس آخراً» «إن أنسى لا أنسى» و«دخل القفص الذهبي» وغير ذلك مما مَلَّتْهُ الأنفس.
كما يجدُر بمن يرنو إلى إبداع نصوص خارجة عن المألوف أن يتفادى بعض العبارات الشائعة في الصحف من قبيل «بشكل جيد» و«بصفة حسنة» وبصورة سيئة» ونحو ذلك مِمَّا يُترجم به الحال الفرنسي والإنجليزي (adverb) على سبيل المثال. فهي عبارات تعكس خمولا فكريا وإعراضا عن الاجتهاد والتنقيب عمّا تكتنزه العربية من مُكافِئات لفظية وأسلوبية. وتفاديا لمثل هذه العبارات الركيكة المفتقرة لأي حس إبداعي يمكن استعمال المفعول المطلق أو شبه الجملة المفسرة في ترجمة الحال، وهذه بعض الأمثلة:
ابتسمت ابتسامة أخاذة وقالت … Charmingly she smiled and said
همست بنبرات ودودة … She whispered lovingly
قال بلهجة قاطعة … Decisively he said
وقادها حدسها إلى محاولة كسب الوقت … She intuitively played for time
لاحِظْ كيف أن المترجم لا يكتفي بإيجاد مخارج رشيقة لترجمة ما استشكل من كلمات، ولكنه يضيف مسحة من الجمالية بتوظيف المتلازمات اللفظية. ويجرّنا هذا إلى الحديث عن أهم شرط من شروط الجمالية وهو استعمال الألفاظ والتعابير والأساليب التي تُحدث صدمة إيجابية في نفس القارئ، مثل المتلازمات اللفظية والعبارات الاصطلاحية والمأثور من الألفاظ القرآنية والتراثية، شرط ألا تكون تلك الألفاظ قد جرت على الألسن جريانا أفضى إلى الابتذال. تلك هي المعادلة الصعبة.
المتلازمات اللفظية
يُعَدُّ استخدام المتلازمات اللفظية من بين الوسائل التي تُسهم أيما إسهام في إعطاء النص المُترجَم إيقاعا متميزا يُخرِجه من الرتابة ويضفي عليه السلاسة. ويكتسب ذلك أهمية إضافية في الترجمة الأدبية، نظرا إلى الحاجة الملحة إلى إنتاج نص خارج عن المألوف يضاهي في جماليته النص الأصلي أو يفوقه. والمقصود بالمتلازمات اللفظية تكرار اقتران كلمتين أو أكثر من خلال شيوع الاستخدام، بحيث تميل تلك الكلمات إلى تشكيل وحدة مميزة. والمتلازمات اللفظية جزء لا يتجزأ من بلاغة اللغة وبيانها، باعتبارهما ركيزتين أساسيتين لجمالها ورونقها وطلاوتها. و«هناك عرف سائد في استخدامها يجعل من معظمها عبارات شبه ثابتة يستخدمها أهل اللغة بديهيا ولا يستشعرون وجودها إلا إذا أسيء استخدامها». وإن استخدام هذه المتلازمات ليس في متناول العامة عادة، إذ لا يُحسن استخدامها إلا من كان ذا زاد لغوي ثري وأتقن صنعة الكتابة. فإن العامة يميلون إلى التعبير المُبسَّط الخالي من التعقيد، وإلى استعمال مفردات شائعة مستهلكة. أما أصحاب الذائقة اللغوية ممّن قضوا سنين عددا في المطالعة والاطلاع، فهم أقدر على استعمال تلك المتلازمات. لنلاحظ على سبيل المثال هذه الرسالة التي أرسلها الأديب الفرنسي غوستاف فلوبار (Gustave Flaubert) إلى أمه بعد سفره، وقد كتبنا المتلازمات اللفظية التي استعملناها في ترجمتها بالخط الغليظ:
Tu dors sans doute maintenant, pauvre vieille chérie. Comme tu as dû pleurer ce soir, et moi aussi, va ! Dis-moi comment tu vas, ne me cache rien. Songe, pauvre vieille, que ça me serait un remords épouvantable si ce voyage te faisait trop de mal (…). Et toi ? Écris-moi des volumes, dégorge-toi. Adieu, je t’embrasse de tout mon cœur plein de toi.
عزيزتي العجوز المسكينة، لا شك في أنك تغطين في النوم الآن بعد ليلة ذرفت فيها أنهارا من الدموع مثلي. فكيف حالك الآن، هيا صارحيني، لا تخفي عني شيئا.... ماذا عنك؟ فلتجد قريحتك ولتكتبي لي المجلد تلو المجلد. وداعا، أطبع على وجنتك قبلة من أعماق قلبي المفعم بحبك».
(ترجمتنا)
فالنص رسالة أرسلها الأديب الفرنسي غوستاف فلوبار إلى أمه، وقد كتبها بحس مرهف شبيه بالأسلوب الأدبي. وتُعَدُّ الترجمة الأدبية من أصعب أصناف الترجمات، ذلك أن المترجم ليس مطالبا بنقل مضمون النص الأصلي فحسب، بل بنقل الأثر الذي يحدثه في القارئ. فالنص الأدبي قائم على استعمال أسلوب مخصوص القصد منه التأثير في القارئ وأخذه إلى عوالم الخيال والتخيل والحلم. ولا يخلو النص الأدبي من المحسنات البديعية والبلاغية، ما قد يصعب إيجاد مقابلات لها في اللغة المترجم إليها، الأمر الذي قد يضطر المترجم أحيانا إلى «تحريف» المعنى تحريفا طفيفا.
الألفاظ والأساليب القرآنية
يُعَدُّ القرآن والشعر الجاهلي أهم مرجعين لغويين في اللغة العربية، فمنهما استقى العرب قواعد لغتهم صرفا ونحوا وبلاغة، ومنهما ينهلون لإثراء زادهم اللغوي. وتُعَدُّ القدرة على استثمار الألفاظ القرآنية مؤشرا على ثراء الزاد اللغوي أو فقره. ولمَّا كانت العبارات القرآنية ذات أثر ساحر في نفس القارئ، فإن الكثيرين من المترجمين يميلون إلى استعمال تلك الألفاظ تنميقا لترجماتهم وإظهارا لبراعتهم. وهذا مثال على توظيف العبارات القرآنية في الترجمة مقتطف من رواية «الغريب» لألبير كامو:
C’est à peine si j’ai entendu mon avocat s’écrier, pour finir, que les jurés ne voudraient pas envoyer à la mort un travailleur honnête perdu par une minute d’égarement …
«ولهذا لم أكد أسمع صوت المحامي وهو يصيح لكي يختم مرافعته، قائلا للمحلفين إنهم لن يقبلوا أن يرسلوا إلى الموت رجلا شريفا فقد صوابه في لحظة ضل فيها سواء السبيل»... وهذا مثال آخر يسعف فيه الأسلوب القرآني المترجم ويرشده إلى مَخرج رشيق لترجمة صيغة الأمر الفرنسية:
Détrompez-vous il ne s’agit pas d’un
mannequin, mais d’ un savant qui ne ressemble en rien à un Einstein mais
dont dont l’intelligence, la sagesse
et la perspicacité ont fait tourner la
tête à la NAZA.
«لا تغرنّكم المظاهر، فلسنا نتحدث عن عارض أزياء، بل عن عالم ليست له سحنة العلماء، ولكن ذكاءه وحكمته وبصيرته جعلت أعناق النازا تشرئب إليه». (ترجمتنا)
وانظر كيف استوحينا ترجمة ظرف الزمان في الجملة التالية من التركيب القرآني الوارد في الآية 16 من سورة يوسف {وجاءوا أباهم عشاءً يبكون}. كما أن الترجمة جاءت غنية بالمتلازمات اللفظية كذلك:
Tout petit pourtant, Mohamed n’a pas rêvé
de faire le cosmonaute, mais il en a fait voir
des siennes à toute la famille.
لم يدر بخلد محمد صغيرا أن يصبح رائد فضاء، ولكنه ارتكب بعض الحماقات التي أقضت مضجع كل الأسرة. (ترجمتنا)
وهذا مثال آخر:
The job of big company bosses have become more difficult and less glamorous, and their image has taken a terrible pasting.
«لقد أضحت وظيفة رئيس شركة كبرى مهمة عسيرة ومملة وفاقدة لبريق الأيام الخالية». (ترجمتنا)
ولاحظ كيف استعرنا عبارة قرآنية كاملة في ترجمة الجملة التالية، مع تغيير كلمة أمرنا ﺒ «سفرنا»:
Il est bien convenu entre Max et moi que si, une fois l’Égypte vue, nous nous sentons fatigués…, je reviens
«لقد اتفقت أنا وماكس على أن أعود إلى الديار بعد زيارة مصر، لو لقينا من سفرنا هذا نصبا». (ترجمتنا)
إن بعض أصناف النصوص، وخاصة الأدبية والإعلانية منها، تتيح نزرا من الحرية للمترجم كيف ينمق ترجمته ويُحسّن أسلوبه، خلافا للنصوص العلمية على سبيل المثال التي تُضيّق الخناق على المترجم وتُقلّص من هامش الحرية المتاح له، لأن التركيز فيها يكون على مضمون الرسالة التواصلية لا على شكلها. فإن غاية الخطاب العلمي هي وصف الواقع والبرهنة على الحقائق بموضوعية (انتفاء الذاتية)، أما النصوص الأدبية والإعلانية فإنها قائمة على الخيال والتخيل والعواطف، إنها لغة الحلم والأحاسيس، وفيها اعتناء بالنواحي الجمالية ورغبة في إحداث تأثير في القارئ.
ولذلك فإن المترجم يسمح لنفسه عند ترجمة النصوص الإعلانية مثلا بالتصرف الطفيف في المعنى، لأن الغاية هي إبهار القارئ ودفعه إلى اقتناء المنتج أو الخدمة:
Famously, Salvador Dali once requested that the Meurice staff bring a flock of sheep to his suite, which they gladly did. When Dali was finished with the sheep, the bellmen collected the flock and removed them from the suite like so many serving carts. Such is the life of a luxury hotel. Frequently exciting, sometimes notorious, always luxurious with discreet service at the ready.
«ذات مرة، و في حادثة شهيرة ، فاجأ سلفادور دالي طاقم العمل في فندق موريس الباريسي بطلب غريب: «آتوني بقطيع من الأغنام إلى جناحي الخاص». فما كان منهم إلا السمع والطاعة. وعندما قضى منها وطره، عمد عامل الغرفة إلى جمعها وإخراجها كدأبه في إخراج عربات الطعام. تلك هي الحياة في الفنادق الفاخرة، مليئة بالإثارة غالبا، غريبة الأطوار أحيانا، ولكنها دائمة المحافظة على فخامتها بفضل خدمات مراعية لخصوصية الضيف تصله قبل أن يرتد إليه طرفه».
(ترجمتنا)
البدائل الرشيقة
إن المُتمعِّن في كتابات كبار المترجمين والكُتاب سيلاحظ دونما شك تفرّد أسلوبهم واختصاصهم بأشكال تعبيرية تختلف عما نجده لدى غيرهم، ويشي اختيارهم للألفاظ والمصطلحات بالرغبة في التميز عما هو سائد، والميل إلى اختيار الرشيق منها وتغليب الكلمات الأنيقة ذات الأثر المتفرد. ومما يُلاحظ في هذا الصدد على سبيل المثال، ميل الكثير من الكتاب المدركين لأهمية الحفاظ على الانتظام الداخلي للغة، إلى استعمال مصطلحات عربية أو معرَّبة بدلا من المصطلحات الدخيلة. يقول أفلاطون: «الكائن أو الشيء المكون من أجزاء متباينة لا يتم جماله ما لم تترتب أجزاؤه في نظام، وتتخذ أبعاداً ليست تعسفية، ذلك لأن الجمال ما هو إلا التنسيق والعظمة». فإن احتواء نص ما على الكثير من الألفاظ الدخيلة يفضي إلى نشوء نشاز صوتي وصرفي وإلى انخرام تناسق الرصيد المعجمي. ومن البدائل الأنيقة (elegant variants) مصطلح «تِقانة» المرادف ﻠِ «تكنولوجيا» الدخيل، ونحن هنا لا نقيم تحليلنا على أساس العداء للألفاظ المقترضة، بقدر ما نرتكز على معطيات نفسية تتعلق بالأثر الذي تتركه الكلمة في القارئ.
ومن بين الأمثلة على ذلك أيضا استعمال الصفة «شَرُوب» البديل الأنيق للصفة «صالح للشراب»، و«صَهير» بدل «قابل للانصهار»، و«انضغاطي» بدل «قابل للضغط»، وكلها مصطلحات جمعت بين براعة التوليد والاختزال البليغ. والفرق واضح عند من ألفت أذنه الألفاظ الرشيقة وصار يَمِيز «الخبيث» من الطيب.
ولعل اللاّفت في هذا الصدد أن أسماء الشهور على سبيل المثال تتفاضل في ما بينها بالجرس الموسيقي الذي تُحدِثه في أذن السامع. فإنّ الشهور السريانية في ما نرى أكثر شاعرية من الشهور اللاتينية، ولذلك فربما يكون من الأفضل لمترجم الأعمال الأدبية والشعرية، أن يستعمل «حزيران» بدل «جوان»، و«تموز» بدل «جويلية»، و«أيلول» بدل «سبتمبر» وهكذا.
البدائل التراثية
يميل كثير من المترجمين والكُتَّاب إلى تنميق كتاباتهم بالألفاظ التراثية مما تحفل به كتب السلف رغبة منهم في التفرد والتميز عن غيرهم مِمَّن يكتفون بالسائد والمألوف من الألفاظ والأساليب. من هنا يجنح البلغاء إلى اصطناع كل وسيلة لمباغتة المتلقي بالجديد، وكأن المبدأ القائل إن «لكل جديد روعة» ينسحب على اللغة نفسها. والمفارقة هنا أن ما كان قديما من الألفاظ التراثية فأُهمل، يغدو جديدا في نظر الكثيرين. ولنلاحظ في المثالين التاليين كيف يستعيض الكاتبان عن الألفاظ الشائعة بألفاظ تراثية نادرة الاستعمال:
1- فلعله كان من المفروض أن يتحدد نمط قراءة النص القرآني من نزوله، ولاسيما أنه خِلْوٌ من الطلاسم والملغزات.
فالكاتب هنا يتفادى استعمال كلمتي خالٍ وألغاز الشائعتين ويستعيض عنهما بـ «خلو» وملغزات.
وهذا مثال ثان:
2- ولم يُعْنَ القدماء بالمعاجم العربية المختصة العناية التي هي بها جديدة، فبقيت في البحث اللغوي العربي بابا غُفْلا ومبحثا بكرا.
ولم يكتف الكاتب هنا بإيراد لفظ ندر استعماله في العربية المعاصرة (غُفْلا)، بل أنهى جملته بمركب عطفي تشابهت بنيةُ عُنصُرَيْهِ التركيبيةُ والصرفيةُ والصوتيةُ في ما يشبه الترصيع. فإن الخاصية التكرارية سمة أساسية من سمات الشعر عند الأمم كلها، وهي تتجلى في السجع والقافية والترصيع والجناس وتكرار الألفاظ والعبارات والبنى ونحو ذلك. ولكن هذه الأساليب ليست مقصورة على الشعر فحسب، ذلك أن عددا من كتَّاب العربية المعاصرة ينمّقون كتاباتهم ببعض الأساليب المستعارة من الشعر كالسجع والتكرار ونحوهما.
وهذا مثال آخر لنفس الكاتب:
«وأما ما صدر من المعاجم المختصة فأكثره كان في طبعات غير محققة تحقيقا علميا دقيقا، فهي كثيرة التصحيف، غير قليلة التحريف».
العبارات الاصطلاحية
هي عبارات جاهزة لا يؤدي فهم دلالة عناصرها منفردة إلى فهم دلالتها، بل يجب أن يكون المتكلم عارفا بمعناها مسبقا أو أن يراجع القواميس ليفهمها. وكما المتلازمات اللفظية، تكتسي العبارات الاصطلاحية أهمية بالغة في إضفاء الجمالية على النصوص بفضل الإيقاع المخصوص الذي تحدثه، فتساهم في متانة النص وحسن تقبُّل القارئ له.
المكافئات الثقافية
تُعد القدرة على الانسلاخ من قيود النص المنطلق مظهرا من مظاهر البراعة لدى المترجم. ويتعزز ذلك حين يكون المترجم قادرا على استحضار المكافئات الأسلوبية للتعبيرات ذات العلاقة بالثقافة المخصوصة لكاتب النص الأصلي. فإن اللغة شديدة التأثر بالبيئة الثقافية، ولذلك ينبغي على المترجم أن يكون واعيا بالاختلافات الثقافية وقادرا على نقل الأثر الحاصل منها بما يُراعي ثقافة اللغة الهدف. ومما يحضرنا في هذا الصدد عبارة «a heart-warming story»، التي تشير بوضوح إلى ارتباط الشعور بالسعادة عند البريطانيين بالدفء. فعلى المترجم ألا يقع في فخ النقل الحرفي للعبارة، ذلك أن العربي قاطن البيئة الصحراوية القاحلة لا يمكن أن يربط الشعور بالسعادة عنده بالدفء، بل بنقيضه، أي البرد. ولذلك فقد ابتدع العرب عبارة اصطلاحية تراعي ثقافتهم للتعبير عن ذلك وهي «يُثْلِج الصدر».
الاسترسال
خلافا لما هو شائع في اللغتين الفرنسية والإنجليزية، يميل المتكلم العربي إلى الاسترسال في الكتابة وتجنب الجمل القصيرة. ولذلك فعلى المترجم ألا يظل أسير الأسلوب المقتضب السائد في هاتين اللغتين، وأن يسعى جاهدا إلى تبيُّن العلاقات القائمة بين الجمل في اللغة المنطلق، فيربط بينها مستعملا أدوات الربط وغيرها من حال وظرف ونحو ذلك.
إن تحديد شروط جمالية الأسلوب مهمة بالغة الصعوبة، لأن الجمالية وثيقة الارتباط بالذائقة اللغوية للأفراد كما الجماعات. ولكن يبدو أن بعض تلك الشروط يلقى إجماعا لدى كثيرين، وهي تجنب الركيك من الألفاظ والمُكرَّرِ منها، ومخالفة السائد من التعابير، وتوظيف المتلازمات اللفظية والعبارات الاصطلاحية، واستلهام الأسلوب القرآني والنهل من معين التراث. ولا يفوتنا أن ننوّه بأهمية تفادي الإكثار من الألفاظ الدخيلة لأنها تفسد التناسق الصوتي والانتظام الصرفي للرصيد المعجمي باعتبارهما خصيصتين مميزتين للغة العربية. ولكن ينبغي التنبيه مع ذلك إلى أن الكثيرين يحسبون أنهم يُحسنون صنعا بالتمادي في التنميق وبالمبالغة في حشو السطور بالبذخ اللفظي، الأمر الذي قد يُشعِر القارئ بأن الترجمة مُتكلَّفة مُصطنَعة فاقدة للتلقائية، وحينها سيذهب اجتهادهم هباء منثورا .