آثارُ سوريَّة في قبضة النار.. تراثٌ ثقافيٌّ عالميٌّ مهددٌ بالاندثار

آثارُ سوريَّة في قبضة النار.. تراثٌ ثقافيٌّ عالميٌّ مهددٌ بالاندثار

منذ ما يزيد على ألف وخمسمائة سنة، خاطب زهير بن أبي سلمى، حكيمُ قومه وشاعرُهم، في معلقته الشهيرة، قبيلتي عبس وذبيان بعد الحرب الطويلة والطاحنة بينهما المعروفة بحرب داحس والغبراء، داعيا إلى الصلح ونبذ التقاتل، قائلا: 
وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ
وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
متى تَبْعَثوهــا تبعثوهــا ذَميمةً
وَتَضْرَ إذا ضَرَّيْتُموها فتَضْرَمِ
فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحى بثِفالها
وتَلْقَــحْ كِشـافًــا ثـم تُنْتَجْ فَتُتْئــمِ

غير أن الحكمة وصوت العقل لم تكن لهما الغلبة في التاريخ البشري، ولا في حاضر الإنسانية؛ كان تاريخًا داميًا أُضرمت فيه حروب واشتعلت معارك طاحنة حصدت نيرانُها أجيالا إثر أجيال من البشر، وسوّت بالأرض مباني وصروحاً، رغم أن باعثيها كانوا يعلمون شرورها وكانوا قد ذاقوا كما ذاق أسلافُهم مراراتها. ولايزال هذا الإنسان، صانعُ الحضارات وباني رموزها، هادمُها في الوقت نفسه، بل إنه طوّر آلات القتل والدمار لتزداد المأساةُ الإنسانية زمن الحرب هولا، وليهدم اليوم ما ظلّ صامدا من كنوز ما خلّفه لنا الأوّلون من تراث حضاري يُغْني حياتنا الثقافية، ويكسب حاضرَ الإنسانية الراهن معاني عميقة تصله بماضيها العريق لتحفظه لمستقبل آتٍ.  

وفي وطننا العربي، لم تختلف بدايات القرن الحادي والعشرين عن القرن الذي سبقه، بل لعله إلى جانب ما ظلّ يعانيه الشعب الفلسطيني، والأرض الفلسطينية، والتراث الفلسطيني من آلة الدمار الإسرائيلية منذ القرن الماضي، اندلعت حروب جديدة. افتُتح القرن الوليد بحرب العراق، فعانى أهله ومازالوا يعانون ويلاتها، ونُهب المتحف العراقي العريق فيما سُمّي بـ«أكبر سرقة آثار عرفها التاريخ»، فضاعت منه كنوز فنية رائعة لا تُعوّض، ولاتزال أرضُ بلاد ما بين الرافدين، مهدُ أولى أعظم الحضارات الإنسانية، الزاخرة بروائع اللُقى الأثرية النادرة، مسرحا للتنقيبات الأثرية غير الشرعية في آلاف المواقع الأثرية، يمارسها لصوص آثار محترفون وهواة من كل حدب وصوب. ولم تسلم بعض متاحف مصر وآثارِها العظيمة من النهب والهدم والدمار، بدءا من المتحف المصري العريق بالقاهرة، مرورا بمتحف ملوي ووصولا إلى المتحف الإسلامي الكبير، وكذلك شأن متاحف ومواقع أثرية ذات قيمة إنسانية استثنائية الأهمية بكل من اليمن وليبيا وتونس، في السنوات الثلاث الأخيرة أثناء ما شهدته هذه الأقطار العربية من حروب ومعارك ونزاعات وتحوّلات، ففقدت أرضُنا العربية تراثا ثقافيا غنيّا طالما شكّل جزءًا لا يتجزأ من هوّيتنا الثقافية الحاضرة وذاكرتنا التاريخية، وكان رافدًا عظيم الدلالة من روافد ذاتنا القومية، يشدّنا إلى جذورنا الراسخة في هذه الأرض العربية، منبعِ الحضارات، ومهدِ الأديان السماوية الثلاثة، ومصْدرِ الأبجدية، وموطنِ إبداعات ثقافية ومعمارية وفنية أثْرَتْ التراث البشري.       

غير أن ما خلّفته الحرب السورية ولاتزال تنتجه من مآسٍ تجاوز كل ما طبَعَ السنوات السابقة في وطننا العربي من موت ودمار، بل إن المأساة السورية فاقت كل تصوّر واحتمال. فأعداد القتلى من الأبرياء، الذين قضوا بآلات الحرب المتطوّرة أو بالجوع والتشرّد والبرد، زادت على المائة ألف قتيل، ومثل ذلك أعداد الجرحى والمصابين. ونزح الملايين من أبناء المدن والقرى من بيوتهم المدمّرة وقد سُوِّي بعضُها بالأرض، هربًا من الموت، إلى مخيمات اللجوء والتشرّد والضياع. لكن هذه المأساة الإنسانية الرهيبة، على فظاعتها، وفظاظتها، وإهدارها للروح البشرية وللكرامة الإنسانية، وتجسيدها للبؤس الإنساني في أقبح صوره، تكاد تخفي مأساة لا تقلّ هولا ولا إيلاما: إنها مأساة اقتلاع الجذور الحضارية، ومحو الذاكرة التاريخية، المتمثّلان بهدم معالم التراث الثقافي بأسلوب ممنهج ومخطط واعٍ، يسعى إلى طمس الهوّية الثقافية والقضاء على القيم الحضارية الرفيعة التي تمثلها حضارات عديدة متنوّعة تعاقبت على هذه الأرض عبر آلاف السنين، وخطّت تاريخ هذه المنطقة من العالم، وصاغت ذاكرة أبنائها الثقافية الغنيّة بتنوّعها. 

وليس ما خلّفته تلك الحضارات العريقة في أرض سورية من معالم ومواقع أثرية، ومدن تاريخية، ومبانٍ عظيمة، وتحف فنية تجسّد عبقريَّتَها وتروي بدايات الحضارة الإنسانية وقصةَ تطوّها، ذا دلالة لأبنائها ولأبناء الأمة العربية فحسب، بل هو تراث إنساني ذو دلالة لكل شعوب الأرض، وهو مبدأ أقرّته دول العالم عام 1972 في اتفاقية منظمة اليونسكو الخاصة بحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي. وكانت سورية من أوائل الدول التي انضمت إلى اتفاقية حماية التراث العالمي في 13/08/1975 قبل دخول هذه الاتفاقية حيّز التنفيذ في ديسمبر من ذلك العام. وتنصّ ديباجة الاتفاقية فيما تنصّ، على أن «اندثار أو زوال أي بند من التراث الثقافي والطبيعي يؤلف إفقارًا ضارًا لتراث جميع شعوب الأرض»، وأن «بعض ممتلكات التراث الثقافي والطبيعي تمثل أهمية استثنائية توجب حمايتها باعتبارها عنصرًا من التراث العالمي للبشرية جمعاء». كما أن لسورية ستة مواقع ثقافية مسجلة في قائمة التراث العالمي المنبثقة عن هذه الاتفاقية المخصصة للتراث العالمي ذي القيمة العالمية الاستثنائية، هي حسب تاريخ تسجيلها: 

< مدينة دمشق القديمة (1979).

< مدينة بصرى القديمة (1980).

< موقع تدمر (1980). 

< مدينة حلب القديمة (1986).

< قلعة الفرسان وقلعة صلاح الدين (2006). 

< القرى القديمة في شمال سورية (2011). 

وقد أدرجت لجنة اليونسكو للتراث العالمي  التي تتألف من ممثلي إحدى وعشرين دولة طرفًا في الاتفاقية، منتخَبة من قبل الجمعية العامة للدول الأطراف التي تعقد مرة كل سنتين خلال اجتماعات المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو، في اجتماعها بمدينة سانت بطرسبورج الروسية في العام الماضي (2013)، هذه المواقع الستة في «قائمة التراث العالمي المعرّض للخطر»، وهي القائمة التي تضمّ حسب بنود الاتفاقية، «الممتلكات المدرجة في قائمة التراث العالمي، التي يحتاج إنقاذها إلى أعمال كبرى»، نظرا لما تعرّضت له هذه المواقع الستة من تخريب وهدم ودمار أثناء هذه الحرب المروّعة في السنتين الأخيرتين بصورة خاصة. كذلك تضررت إلى حدّ كبير مواقع أثرية ذات قيمة عالمية استثنائية مدرجة في القائمة التمهيدية المؤقتة المقدمة من سورية منذ عام 1999 إلى مركز اليونسكو للتراث العالمي، وتشكل القوائم المؤقتة حسب الاتفاقية جردا بممتلكات التراث الثقافي والطبيعي، التي تصلح لأن تسجّل في القائمة الخاصة بالتراث العالمي، وعددها اثنا عشر موقعا، هي التالية: نواعير حماة، وإيبلا (تل مرديخ)، وأفاميا، ومعلولا، وطرطوس المدينة - القلعة الصليبية، ودورا أوربوس، وجزيرة أرواد، وماري ومواقع دورا أوربوس في وادي الفرات (أضيفت إلى القائمة المؤقتة عام 2011)، وماري (تل الحريري)، والرقة-الرافقة: مدينة العباسيين، وأوغاريت (تل شمرا)، وقصر الحَيْر الشرقي. ولم تُعِدّ سورية ملفات ترشيح هذه المواقع للتسجيل في قائمة التراث العالمي، وقد أصبح من المستبعد ترشيحها بعد ما تعرّضت له من أضرار. 

وقد رأيت التعريف بالمواقع الثقافية الستة بسورية المسجلة في قائمة التراث العالمي استنادا إلى المبادئ والمعايير التي تمّ على أساسها تسجيلها في قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وبخاصة موضوع التراث العالمي ومقاربة الكتابة عن ممتلكاته بوصفها تراثا إنسانيا ذا قيمة عالمية استثنائية، نادرة الوجود في اللغة العربية. ولا يوجد من الكتب حول التراث الثقافي في الوطن العربي المسجل في القائمة العالمية سوى كتاب واحد نشر عام 2011 أشرفت عليه ووضعت نصوصه الكاتبة بوصفها مديرا لإدارة الثقافة بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، أستندُ إلى مادته هنا في شأن المواقع الثقافية الخمسة المسجلة قبل عام 2011، والتقط الصور التي أُعدّت خصيصا للكتاب المصوّر الفرنسي القدير جان جاك جلبار الذي يتعاون معي مجددا في تقديم الصور المصاحبة لهذا المقال. إن التعريف بهذا التراث العالمي المهدد بالزوال والاندثار، الذي يكشف ما تحتضنه أرض سورية من كنوز خلفتها حضارات إنسانية عريقة كتبت أروع آيات التاريخ البشري، لهو حفظ للذاكرة الثقافية والحضارية في أرضنا العربية، وبرهان على فداحة خسارة تلك الكنوز الثقافية التي حفظتها الأجيال عبر آلاف السنين، ويُخشى اليوم أن يتحمّل جيلنا خطيئة إضاعتها. إنها صرخة استغاثة لحماية ما سلم من تلك المدن التاريخية والممتلكات الثقافية والمواقع الأثرية، ودعوة إلى تكثيف الوعي العربي بأهمية التراث الثقافي والخطورة الفادحة التي يشكلها خسرانه لأمتنا العربية وللعالم أجمع. 

 

مدينة‭ ‬دمشق‭ ‬القديمة

يعود تاريخ مدينة دمشق إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. وقد أثبتت الحفريات الأثرية التي أجريت في منطقة تل الرماد الواقعة على مشارف المدينة، أن دمشق القديمة كانت مأهولة بالسكان منذ حوالي عشرة آلاف عام قبل الميلاد. ويُجمع المؤرخون وعلماء الآثار على أن دمشق تُعدّ من بين أقدم مدن العالم التي سكنها الإنسان وتواصلت مأهولة بالسكان بغير انقطاع عبر الحقب التاريخية المختلفة. وكانت مدينة دمشق منذ القِدم، بحكم موقعها الجغرافي على مفترق الطرق بين الشرق والغرب، مركزا ثقافيا وتجاريا متميّزا، غير أن المدينة  اكتسبت أهمية خاصة وحققت مكانتها المرموقة في عهد الآراميين في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. واليوم ما زالت مدينة دمشق تُعدّ متحفا يضمّ آثارا عديدة وعظيمة خلّفتها حضارات إنسانية قديمة وعريقة هي: الهلينستية والرومانية والبيزنطية والعربية والإسلامية التي تعاقبت عليها وأكسبتها حضورها التاريخي العظيم.

إن ما عُرفت به دمشق من ازدهار حضاري متواصل دعا الخلافة الأموية لاختيارها عاصمة لها، فحققت مدينة دمشق نتيجة لذلك نموًا مطّردًا أكسبها ما تميّزت به لعصور طويلة وحتى يومنا هذا، من طابع عربي وإسلامي حيّ وازدهار كبير. غير أنه إلى جانب التأثير الإسلامي الغالب على المدينة الذي شكّل شخصيتها الأساسية، وما احتفظت به من طابع عربي مسيحي متآلف في نسيج اجتماعي وثقافي متنوّع ومتعدد في وحدة منسجمة، فإن حضارات أخرى تركت بصماتها فيها، أهمها الرومانية والبيزنطية. ويتمثل الحضور الروماني والبيزنطي في التخطيط الحضري لمدينة دمشق الذي يستند إلى النموذج الروماني، فيما تحتفظ المدينة بالطابع الهندسي اليوناني المتمثل في التوجه الرئيس لشوارعها. كما أن أقدم الآثار الرومانية التي بقيت شاخصة في المدينة تعود إلى العصر الروماني، وتضمّ بقايا آثار لمعبد جوبيتر، وأساسات للعديد من البوابات، وجانبا كبيرا من أسوار المدينة الرومانية.

لعبت دمشق بوصفها العاصمة الأولى للخلافة الإسلامية، دورا مهما ورئيسا في تأسيس ما أنشئ بعدها من مدن عربية، وشكّلت نموذجًا تم احتذاؤه في تخطيط تلك المدن. ويُعدّ الجامع الأموي الكبير، الذي شيّد في موقع معبد روماني وفوق كنيسة مسيحية مكرّسة للقديس يوحنا المعمدان، واحدًا من أكبر المساجد في العالم. إنه تحفة معمارية رائعة لا تُضاهى في تاريخ فن العمارة الأموية، ويتميّز فيما يتميّز، بأنه من أقدم المساجد التي ظلت إلى اليوم بلا انقطاع، مكانًا للصلاة وللعبادة، منذ ظهور الإسلام.

كانت مدينة دمشق في العصور الوسطى مركزا مزدهرا للصناعات الحِرَفية، وكان كل حيّ من أحيائها حينذاك متخصصا في صناعة معيّنة. كما أن آثارًا عديدة خلّفتها تلك الحقبة التاريخية بقيت شاخصة إلى اليوم، ومنها الأسوار الحالية للمدينة، فضلا عن العديد من المساجد والمقابر. غير أن الجانب الأكبر من تراث المدينة المبني ونسيجها العمراني يعود إلى الفترة العثمانية في مطلع القرن السادس عشر، ويضمّ فيما يضمّ، قصر العظم المؤلف من جناحين، وعددًا من المدارس والخانات المخصصة للحجاج المتوجهين إلى مكة المكرّمة، والحمامات العمومية، والمساكن الدمشقية الخاصة، فضلا عن سوق الحميدية الشهير، الذي يعود بناؤه إلى زمن السلطان عبدالحميد الأول العثماني، ويُعدّ من أجمل أسواق الشرق وأغناها بالصناعات اليدوية والتقليدية الفنية.  

إن ما أدته مدينة دمشق من دور ثقافي واجتماعي وفني وفكري عبر آلاف السنين يضعها في طليعة المدن التي خطّت تاريخ الحضارة الإنسانية. 

 

مدينة‭ ‬بُصرى‭ ‬القديمة

ظهر اسم بصرى لأول مرة في التاريخ في ألواح تل العمارنة المصرية التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتمثل تلك الألواحُ المراسلاتِ الملكيةَ بين ملوك الفراعنة والفينيقيين والأموريين. وكان أول ما برزت أهمية بُصرى وعلا شأنها في القرن الثاني قبل الميلاد، حين اتخذها الأنباط العرب عاصمة لمملكتهم الشمالية. وقد بلغت بُصرى أوج ازدهارها بعد أن احتلها الرومان عام 106 للميلاد وجعلوا منها عاصمة للولاية العربية التابعة لإمبراطوريتهم. وقد أعلى أباطرة الرومان من شأن هذه المدينة، فأطلق عليها الإمبراطور الإسكندر سفيروس اسم «مستعمرة بصرى»، وسكّ الإمبراطور ماركوس جوليوس فيليبوس، المعروف في التاريخ باسم فيليب العربي، عملة باسمها. وظلت مدينة بُصرى محافظة على أهميتها ومكانتها المرموقة في زمن البيزنطيين، فكانت محطة تجارية رئيسة للقوافل العربية تتوقف فيها للتزوّد بالبضائع، وأصبحت مركزا دينيًا مسيحيًا بارزًا، فبنيت فيها الكنائس وشارك أساقفتها في مجلس أنطاكية الكَنَسي. وقد فتح العرب بُصرى عام 634، فكانت أول مدينة بيزنطية تسقط بأيديهم في مطلع زمن الفتوحات العربية الإسلامية.

ظلت مدينة بُصرى مأهولة بالسكان واستمرّت متماسكة البنيان طوال ما يزيد على ألفين وخمسمائة عام. ولايزال اليوم ما خلفه النبطيون والرومان والبيزنطيون والعرب الأمويون من آثار شاهدا على ذلك. وأبرز تلك الآثار مسرح روماني فريد يعود تاريخه إلى أوائل القرن الثاني للميلاد، بني في عهد الإمبراطور تراجان. هذه التحفة المعمارية الرائعة تتفرّد اليوم فيما تتفرّد به، بأنها الصرح الوحيد المتبقي في العالم شبه مكتمل من ذلك الزمن، وقد سَلِم رواقه العلوي بصورة تامة. وفي عصور لاحقة، بنيت حول المسرح حصون قلعة لحراسة الطريق المؤدية إلى دمشق، أدمج بنيانه في هيكلها في هندسة معمارية متميّزة.

وتضم مدينة بُصرى اليوم أيضا آثار كاتدرائية يعود تاريخها إلى القرن السادس، وهي مَعْلم  ذو أهمية كبرى في تاريخ الهندسة المعمارية المسيحية المبكّرة. وتشكّل الكاتدرائية المشيّدة على نمط الباسيليقا، ذات المبنى المستطيل المنتهي برواق نصف دائري، مثالا بالغ الأهمية للدور الذي لعبته الكنائس المخططة تخطيطا مركزيا في تطوّر الأبنية الدينيّة المسيحيّة وتصميمها. وتشتمل بصرى أيضا على العديد من المعالم الإسلامية، يُذكر منها الجامع العُمري الكبير الذي شيّـد في القرن الأول للهجرة، ويُعـدّ واحدًا من أقدم المساجد التي لاتزال موجودة حتى اليوم. وتبرز من تلك المعالم الإسلامية أيضا مدرسة «مَبْرَك الناقة»، وهي إحدى أقدم المؤسسات التعليمية الإسلامية في العالم وأكثرها شهرة. وقد ارتبط اسمها في التراث الإسلامي بحدث مهم في حياة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي قيل إنه زار مدينة بُصرى مرتين قبل نزول الوحي، والتقى فيهما الراهب المسيحي النسطوري بحيرى، ويروى أن هذا الراهب اكتشف نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) في زيارته الأولى له. 

وبعد قرون طويلة، أصبحت مدينة بصرى اليوم موقعًا أثريًا مأهولا ومتحفًا مفتوحًا، يحكي ما يضمّه من آثار ومعالم معمارية وفنية، تاريخَ ما ساد تلك المدينة وجوارَها عبر قرون طويلة من أحداث وعقائد.

 

موقع‭ ‬تدمر‭ ‬

في واحة تبعد حوالي مائتي كيلومتر شمال شرق دمشق، مازالت آثار صروح مدينة تدمر شاخصة للعيان. وكانت تدمر من أهم المراكز الثقافية في العصور القديمة، كما كانت طوال القرنين الأول والثاني للميلاد أحد أكبر المراكز الفنية في الشرق الأوسط. فقد تميّز ما أبدعته تدمر من فنون ومعمار بذلك التزاوج الفريد بين ما انتهى إليها من تقنيّات إغريقية- رومانية، وما استقرّ لديها من تقاليد محليّة، وما وصل إليها من تأثيرات فارسية. وهذا ما نشهده اليوم في ما بقي لنا من زخارف معماريّة تدمرية، وبخاصة منها المنحوتات الجنائزية الفريدة. وتتجسّد في ذلك المعمار العظيم تيارات فنية مختلفة تنسجم وتتآلف في لغة جمالية متميّزة.

ذُكر اسم تدمر للمرة الأولى فيما وصلنا من ألواح بابل التي يعود تاريخها إلى الألفية الثانية قبل الميلاد المكتشفة بماري، وسُمِّيَت فيها باسمها الآرامي «تدمر»، ويعني «المدينة التي لا تُقهر»، وهو الاسم الذي لاتزال المدينة تعرف به باللغة العربية حتى اليوم. وكانت تدمر النبطية العربية واحةً عريقة ومزدهرة حين أخضعها الرومان لحكمهم في منتصف القرن الأول الميلادي. وازدادت أهميتها بوصفها مدينة واقعة على طريق التجارة التي تربط بلاد فارس والهند والصين بالإمبراطورية الرومانية، فشكلت بذلك نقطة التقاء بين بعض أهم حضارات العصور القديمة.

وتضمّ آثار مدينة تدمر فيما تضمّ، شارعًا مستقيمًا معمَّدًا يبلغ طوله ألفًا ومائة متر، تحيط به من الجانبين ممرات مغطاة. وترتبط بهذا الشارع، الذي يشكّل المعلَم المحوري للمدينة، شوارعُ فرعية متقاطعة ذات تصميم مشابه. وتقود شبكة الشوارع هذه إلى المعالم العمومية الأساسية في المدينة، وأبرزها هيكل بعل، والساحة العامة، والمسرح، ومخيَّم دقلديانوس، فضلا عن عدد من المعابد والأحياء السكنية. وتُعدّ هذه الصروح مثالا استثنائي الأهمية للمعمار والبنيان النموذجي والتخطيط الحضري في ذروة عهد ارتباط الإمبراطورية الرومانية بالشرق.

ويُعدّ هيكل بعل، بفضل تصميمه الفريد، واحدًا من أكثر المباني الدينية العائدة إلى القرن الأول الميلادي أهمية في المنطقة العربية. فالنحت المحفور على الممرّ المقوَّس الضخم الذي يشكّل بوّابة على الطريق المؤدية من الهيكل الكبير إلى المدينة، هو مثال متميّز للفن التدمري. وتوجـد خارج أسوار المدينة آثار قناة مياه رومانية. وعلى مسافة بعيدة من هذا المكان، وفي المنطقة المعروفة باسم «وادي القبور»، تقع مدافن واسعة تزيّنها زخارف رائعة، شُيّدت بأساليب بناء متميّزة امتزجت فيها فنون حضارات عدّة في وحدة فنّية فريدة.

إن عظمة آثار تدمر وروعتها تشهدان على المنجزات الجمالية الفريدة لمدينة القوافل الغنية. وكان لإعادة اكتشافها من قبل الرحّالة الغربيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر دور حاسم في إعادة إحياء الطُرُز المعمارية الكلاسيكية ومبادئ التصميم الحَضَري في الغرب.

 

‭ ‬مدينة‭ ‬حلب‭ ‬القديمة

شُيّدت مدينة حلب على مفترق عدد من طرق التجارة منذ الألفية الثانية قبل الميلاد. وقد تعاقبت عليها حضارات عديدة،  وتوالى على حكمها كلٌّ من الحثيين والآشوريين والأكاديين والإغريق والرومان والأمويين العرب والأيوبيين والمماليك والعثمانيين. وتركت تلك الحضارات جميعا الطابع المميّز لكل منها على المدينة. وتلتقي في المدينة اليوم عناصر عمرانية متنوعة أبرزها: القلعة، والجامع الأموي الكبير والعديد من المدارس التي يعود بناؤها إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر، والمساكن والخانات والحمامات العمومية والأسواق القديمة، لتشكّل معا نسيجا حضريا متجانسا.

وتقف قلعة حلب الضخمة، التي يعلو بنيانها فوق أسوار المدينة القديمة وتشرف عليها، شاهدا على ما كان للعرب من قوة عسكرية ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر. وتضمّ القلعة فضلا عن شواهد تثبت تعاقب حضارات مختلفة على احتلالها منذ القرن العاشر قبل الميلاد، آثارَ مساجد وقصرٍ، ومباني حمامات. وتكشف المدينة القديمة المسوّرة التي نمت حول القلعة، أدلةً على وجود مخطط شوارع إغريقية-رومانية، وتشتمل على بقايا مبانٍ مسيحية يعود تاريخ إنشائها إلى القرن السادس، وأسوار وبوابات يعود بناؤها إلى العصور الوسطى، كما تحتوي على مساجد ومدارس أيوبية ومملوكية، ومساجد وقصور بنيت في فترة لاحقة تعود إلى العصر العثماني. ولا يقتصر حضور المعالم المهمة في حلب على الجزء المسوّر من المدينة، بل توجد خارج محيط أسوارها مبان دينية إسلامية ومسيحية، وأخرى سكنية ترجع إلى الفترات التاريخية ذاتها لتلك القائمة في داخلها.

شُيّدت قلعة حلب العسكرية الأيوبية بعد انتصار صلاح الدين على الصليبيين، وشّكلت النقطة المحورية للمدينة. ويحيط بالأسوار الدفاعية العالية للقلعة خندق ومنحدر ضخم تكسو سطحَه الحجارة، ومتراس منحدر مصمَّم بصورة تكشف للمدافعين عن القلعة، مشهدا كاملا للمعتدين. ويقود إلى القلعة مدخل ضخم تتخلله كُوَّات لإطلاق القذائف، وفتحات أرضية يرمي من خلالها المتحصنون بالقلعة الحجارة على المهاجمين. وقد ساهم ما أضيف إلى القلعة من بناء في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، مثل الأبراج الكبيرة والجسر الحجري المؤدي إليها، في تعزيز القيمة المعمارية لهذا الصرح الضخم، فغدا بحقّ، نموذجا للمعمار العربي العسكري في أوج ازدهار الحضارة العربية.

ويوجد داخل أسوار المدينة القديمة المحيطة بالقلعة العديد من مباني المساجد والمدارس والكنائس، تساهم في مزيد إبراز شخصية مدينة حلب المتميّزة الفريدة وتعززها. وتشتمل هذه المجموعة المتنوعة من المباني على الجامع الكبير الذي أسسه الأمويون وأعيد بناؤه بشكل كبير في القرن الثاني عشر، والمدرسة الحلاوية التي بنيت في الفترة ذاتها، كما تضم آثار كاتدرائية تعود إلى القرن السادس. 

إن هذه المعالم وغيرها من الشواهد التاريخية الأخرى تكشف عما تمتعت به حلب، إحدى أغنى مدن العالم في العصور الوسطى، من حيوية اجتماعية وثقافية واقتصادية.

 

قلعة‭ ‬الفرسان‭ ‬وقلعة‭ ‬صلاح‭ ‬الدين

تشكل قلعة الفرسان وقلعة صلاح الدين المثالَيْن الأكثر أهمية على تطوّر النمط المعماري الخاص بالتحصينات في الشرق الأدنى خلال العصور البيزنطية والصليبية والإسلامية. فقد كان لهاتين القلعتين، من بين الحصون جميعا التي استمرّ وجودها في الشرق حتى اليوم، أكبر الأثر على تصميم الأسوار الدفاعية والقلاع وبنائها في الشرق والغرب على حدّ سواء.

شُيّدت قلعة الفرسان على التلال الجنوبية لسلسلة جبال سورية في محافظة حمص في الفترة ما بين عامي 1142و1271 من قِبَل أخوية فرسان القديس يوحنا المعروفة بفرسان المشفى. وأدخل عليها المماليك أثناء حكمهم إضافات في أواخر القرن الثالث عشر. وتُعدّ القلعة من بين أفضل الأمثلة على القلاع الصليبية التي مازالت قائمة إلى اليوم من حيث الحفاظ على سلامة هيكلها وصون مكوّناتها المعمارية. 

وتحتفظ قلعة صلاح الدين، على الرغم مما أصابها من دمار جزئي عبر الزمن، بعناصر بيزنطية تعود إلى بدايات إنشائها في القرن العاشر، وأخرى مما أدخله عليها الإفرنج من تغييرات في نهاية القرن الثاني عشر، ومما أضافه الأيوبيون عليها من تحصينات ما بين أواخر القرن الثاني عشر ومنتصف القرن الثالث عشر.

تقع كل من قلعة الفرسان وقلعة صلاح الدين في موقع دفاعي رئيس على قمة مرتفعة، وقد كان للموقع الإستراتيجي لكل منهما، المتمثل في إشرافهما على مواقع طبيعية شاسعة وكشفهما لها، أثر فيما استأثرا به من أهمية بالغة أدت إلى إيلاء عناية خاصة لنوعية بنائهما وما اقتضاه ذلك من تقنيات معمارية وتفاصيل هندسية.

ويوفر لنا بقاء الطبقات التاريخية التي تشتمل على عناصر تعود إلى كل مرحلة من المراحل المتتالية للاحتلال العسكري للقلعة، مدخلا لدراسة التبادل الحضاري للتقنيات الدفاعية في القرون الوسطى. وتُعدّ كلٌّ من قلعة الفرسان وقلعة صلاح الدين اليوم مثالا على مرحلة تطوّر مهمّة في تصميم الحصون، ونقطة تحوّل رئيسة في التخلّي عن الأنظمة الدفاعية الغربية الأكثر سلبية. وتذكر كتب تاريخ الهندسة المعمارية قلعة الفرسان بوصفها أفضل مثال للقلعة الصليبية التي لاتزال سليمة البنيان وتتمتع بحالة حفظ جيدة، وبكونها إحدى القلاع النموذجية القليلة العائدة إلى فترة القرون الوسطى التي ظلت قائمة إلى اليوم. 

أما قلعة صلاح الدين، فقد تُركت على حالها طوال القرون الأخيرة، لم يمسّها تغيير ولم تدخل عليها إضافة بفضل موقعها في مكان منعزل على بعد نحو ثلاثين كيلومترا شرق مدينة اللاذقية، وهو ما يجعلها اليوم مثالا تاريخيا أصليا لنمط التحصينات في العصر الذي بنيت فيه. 

طوال الفترة الممتدة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، التقت التقاليد الدينية والثقافية والتقنية للغرب المسيحي والشرق البيزنطي والشرق الأدنى العربي الإسلامي وتلاقحت، وتقف كل من قلعة الفرسان وقلعة صلاح الدين شاهدا حيّا على تلك الحقبة المميّزة في التاريخ.

 

القرى‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬سورية‭ ‬

يتألف هذا الموقع الأثري النادر من حوالي أربعين قرية قديمة منتشرة في مناطق مختلفة من الهضاب السبع التي تشكّل الكتلة الكلسية الواسعة الأرجاء الواقعة في شمال غرب سورية. وتتوزّع تلك القرى على ثماني حدائق أثرية توفّر شهادة مميّزة على الحياة الريفية في تلك المنطقة في الفترة الممتدة ما بين أواخر العصور القديمة إلى الحقبة البيزنطية. فقد بنيت تلك القرى منذ مطلع القرن الأول الميلادي واستمرت في النمو حتى القرن السابع، وبلغت أوج ازدهارها ما بين القرن الرابع ومنتصف القرن السادس، وهجرها سكانها في الفترة الممتدة ما بين القرنين الثامن والعاشر وظلّت خالية من الحياة منذ ذلك التاريخ، لهذا اصطلح على تسميتها بالقرى الميتة أو القرى المنسية. 

 تتميّز هذه القرى التي يمثل مجموعُها سلسلة من المناظر الثقافية الأثرية القديمة، بحفاظها على جانب كبير من معالمها ومبانيها الأصلية. وقد ساهم في الاحتفاظ بسلامة هذا الموقع الأثري وبقاء الكثير من خصائصه وميزاته الأصلية، أنه ظل مهجورا تماما لمدة ألف عام ولم يخضع لأي عملية ترميم أو بناء طوال القرن العشرين. ويشتمل الموقع على معالم أثرية لعدد من المساكن والمعابد الوثنية والكنائس والأحواض والحمامات العمومية. وتوفّر المناظر الثقافية القديمة لتلك القرى دليلا مهما على الانتقال من الفترة الوثنية للإمبراطورية الرومانية إلى الحقبة المسيحية في العصر البيزنطي. ويضم الموقع أيضا بقايا أثرية تدلّ على التقنيات الهيدروليكية، والجدران الوقائية، والمخطوطات الزراعية، تشهد على مدى إتقان سكان تلك القرى أساليب الإنتاج الزراعي. 

تعدّ القرى القديمة في شمال سورية تعبيرا استثنائي الأهمية على تطوّر المسيحية في بداياتها الأولى في إطار المجتمعات القروية في الشرق، وتوفّر دلالات حول نشأة الكنائس وتطوّرها في المنطقة الشمالية من سورية خاصة والمشرق عامة. 

إن هذه المواقع والممتلكات الثقافية الستة المسجلة في قائمة التراث العالمي وكذلك الاثني عشر موقعا ثقافيا المدرجة في القائمة المؤقتة وغيرها الكثير من المواقع الأثرية الوطنية والصروح المعمارية التاريخية، كلها أصيبت بأضرار متفاوتة الخطورة. ولعل الكارثة الأكبر شهدتها مدينة حلب التاريخية، إذ تضررت قلعتها العظيمة في يوليو 2012، وقضت النيران على سوق المدينة القديم في مطلع شهر أكتوبر من العام نفسه, حين أصيب الجامع الأموي الكبير بأضرار بالغة؛ وكانت الطامة الكبرى انهيار مئذنته التاريخية الأصلية، وهي تحفة معمارية رائعة الجمال لا تُعوّض، في أبريل 2013. كذلك  أصبحت المواقع الأثرية في طول البلاد وعرضها مسرحا للتنقيبات غير الشرعية والنهب للمتاجرة بآثارها التي لا تُقدّر بثمن. 

لقد استباحت هذه الحرب الطويلة والمريرة دماء البشر، وهدرت كرامتهم الإنسانية، وهدمت معالم سورية الحديثة التي بناها شعبها منذ استقلالها في العقد الرابع من القرن العشرين، ولئن كانت تلك المعالم الحديثة قابلة للتعويض ولو بخسارة مادية كبيرة، فإن هذه الحرب تقضي على ما لا يمكن تعويضه ولا يُقدّر بثمن: تراثها الثقافي الغني، وتاريخها العظيم، وذاكرة أهلها التاريخية وهويتهم الحضارية. إن ما تخسره سورية اليوم بفقدانها هذا التراث الثقافي، هو خسارة للعرب جميعا وللبشرية جمعاء. فهل يستجيب المتقاتلون لنداء العقل والضمير وتوضع لهذه الحرب الرهيبة نهاية، حقنا للدماء، وصونا لكرامة الإنسان، وإنقاذا لما سلم إلى اليوم من تراثنا الثقافي؟ .

تدمر‭.. ‬قوس‭ ‬النصر‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الشارع‭ ‬المعتمد

مسجد‭ ‬قلعة‭ ‬صلاح‭ ‬الدين

قلعة‭ ‬حلب

الجامع‭ ‬الأموي‭ ‬الكبير‭ ‬بدمشق

آثار‭ ‬هيكل‭ ‬روماني

في‭ ‬دمشق‭ ‬تتجاور‭ ‬الآثار‭ ‬الرومانية‭ ‬ومآذن‭ ‬الجوامع