رئيف خوري.. خاتمة الأدباء النهضويين (1913-1967)

رئيف خوري.. خاتمة الأدباء النهضويين (1913-1967)

في‭ ‬مجرى‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬درجنا‭ ‬على‭ ‬نعته‭ ‬بأدب‭ ‬النهضة،‭ ‬تتراءى‭ ‬لنا‭ ‬واحتان،‭ ‬استظلّ‭ ‬فيها‭ ‬أدب‭ ‬الضاد،‭ ‬وكان‭ ‬لنا‭ ‬فيهما‭ ‬دفق‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬والحرف‭ ‬المنير،‭ ‬عنينا‭: ‬مصر‭ ‬الخالدة‭ ‬المتجددة،‭ ‬ولبنان‭ ‬الجبل‭ ‬الملهم‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬دجلة‭ ‬أغدق‭ ‬علينا‭: ‬الرصافي‭  ‬والزهاوي‭ ‬والجواهري،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬بردى‭ ‬فاض‭ ‬بالرائعين‭: ‬بدوي‭ ‬الجبل‭ ‬وعمر‭ ‬أبوريشة‭. ‬ولكن‭ ‬قطبي‭ ‬النهضة،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نحصر‭ ‬مداها‭ ‬الزمني،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬تقريبي‭ ‬وتجريدي‭ ‬بما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬أحد‭ ‬كتب‭ ‬رئيف‭ ‬خوري‭ ‬الجميلة،‭ ‬وهو‭ ‬نصوص‭ ‬التعريف‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬عصر‭ ‬الإحياء‭ ‬والنهضة‭ (‬1850-1950‭)‬،‭ ‬والصادر‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬عام‭ ‬1957،

 هذان القطبان لا خلاف على تميّزهما وأسبقيتهما تاريخيًا على سائر الأصقاع العربية. فأرض الكنانة وهبتنا: أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وطه حسين وكثيرين غيرهم، ولبنان حلّق بجناحين: أحدهما عند مربض الأرز، والآخر يتمثل بالمدرسة المهجرية المرموقة، وخصوصًا بـ«الرابطة القلمية» في الشمال الأمريكي. وفي ظلال الأرز تفتّحت القرائح، على تباين موضوعاتها وأساليبها، ولم يعد الخلق الأدبي مقصورًا على الشعر، كما هو شائع في تراثنا بشكل خاص، وإنما تعداه، فضلا عن الشعر التجديدي، إلى النثر الفني، وإلى أدب الرحلة، وإلى النقد الأدبي اللامع، وإلى شعر التفعيلة الفاتن، وإلى المقالة الأدبية، وإلى أدب العصر بامتياز, وهو القصة والرواية، سواء منهما المترجمتان أو الموضوعتان. وهكذا لمعت في سماء لبنان أسماء في شتى هذه الفنون المتقدمة، فكان لنا: أحمد فارس الشدياق، إبراهيم اليازجي، أمين الريحاني، خليل مطران، الأخطل الصغير، ميخائيل نعيمة، جبران، مارون عبّود، جرجي زيدان، عمر فاخوري، وعشرات غيرهم. على أن هناك اسمًا أدبيًا، ربما هو خاتمة هؤلاء النهضويين، وقد ضم نتاجه الموّار الزاخر: المقالة الأدبية والقصة والرواية التاريخية والنقد والترجمة والدراسة الفكرية والشعر الفخيم، ألا وهو: رئيف خوري (1913-1967).

 

مئوية‭ ‬مولد‭ ‬رئيف‭ ‬خوري

وفي خاطرنا أن الأدباء حظوظ. فبعضهم يستأثر بشهرة طنّانة وذكر يستعاد في كل حين، وبعضهم يفوز بصيت متواضع لكأنه مقنّن وقيد الحراسة! وهذا جبران خليل جبران يكاد يكون فولكلورًا لبنانيًا وأسطورة سائرة، مع أن نتاجه القصصي والروائي بات اليوم لا يحتفظ إلا بقيمة اجتماعية أو فكرية فقط. أما زميله ومعاصره ميخائيل نعيمة فالكلام عليه محدود، مع أن إبداعه في الشعر والنقد وأدب السيرة الذاتية والقصة يفوق مجايله جبران وترجُح كفّته عليه. وعندما شرعنا، في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي والحركة الثقافية. إنطلياس، في الإعداد، خلال العام 2013، لإقامة يوم وطني عامر، احتفاء بانقضاء مائة عام على ولادة رئيف خوري، الواقعة في الثاني من نوفمبر 1913، وقد تحققت الأمنية، وكان يومًا مشهودًا في قصر الأونسكو ببيروت، حيث ألقيت الأبحاث المطوّلة والشهادات حول أدبه الجميل وفكره التقدمي المميز وسيرته النضالية الناصعة، كما أُعد فيلم تسجيلي موفّق مدته قرابة نصف ساعة، من إخراج سمير يوسف، كما شدت المغنية أميمة الخليل من شعر رئيف خوري الغزلي. ما نرمي إليه من هذا العرض أننا عندما شرعنا في هذا الإعداد فإن كثيرين من الذين فاتحناهم بأمر الاحتفال، من أناس عاديين، وحتى من مثقفين ومتأدبين، كانوا يتساءلون، بحيرة وعلى خفر أحيانًا، قائلين: ومَن هو رئيف خوري؟! وموضع العجب عندنا أن هذا الأديب والمفكر اللبناني العربي الساطع، كان إبان الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، ملء السمع والبصر، فلقد كان خطيبًا مفوهًا، وشهدت المنابر في لبنان وسورية وفلسطين إطلالته الدائمة دفاعًا عن المثل والقيم، كما لم تخل صحيفة أو مجلة في لبنان من نفثات مداده الحي الزاهر. فهذا الأديب يكاد يكون نصف نتاجه الغزير جدا، بالرغم من أنه فارقنا في عزّ الرجولة، مازال موزّعا في الطروس، لكأن الزمان ألحد هذا النتاج النابض في مطاويها!

 

اللبنانيون‭ ‬رسل‭ ‬الحداثة

تبدو لنا العلة الكامنة في الجهل الفاضح من قبل جُل معاصرينا بعدم معرفة رئيف خوري، مع أنه قريب عهد بنا، إلى أننا نفتقر إلى ذاكرة ثقافية، ثم لاعتقادنا المتقدّم بأن الأدباء حظوظ! فرئيف خوري ابن هذا الجبل اللبناني المعطاء، فقد احتضن دائمًا الروّاد الذين جاهروا، عبر وطننا العربي الكبير، بأفكار العصر الحديث، متلقّحين على نحو خاص بما أشاعته الثورة الفرنسية من آراء تحرّرية جريئة. ومن فضل رئيف خوري علينا أنه أصدر عام 1943 كتابه التجديدي المبتكر «الفكر العربي الحديث، أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي»، حيث عرض لمجريات هذه الثورة الكبرى التي كان رئيف شديد الإعجاب بها، كما اعتبر أن ثورة أكتوبر في روسيا جاءت مكمّلة لهذا النهوض الثوري الكوني. فكما يقول رئيف خوري في صياغة محكمة: «الوثبات الجبّارة في كل العصور، لا يخلو بعضها من مضمون بعض». وفي القسم الثاني من كتابه أورد المؤلف نصوصًا مختارة، كادت تستغرق نصف الكتاب، وقد استقاها من الأدباء والمفكّرين العرب الذين تحدّثوا عن هذه الثورة أو تأثروا في كتاباتهم بها، أو تلاقحت عقولهم بشعاراتها، أو أطلقوا الشعر تغنّيًا بالحرية التي توّجت مراميها. ومن هؤلاء: رفاعة رافع الطهطاوي، فرنسيس المرّاش، عبدالرحمن الكواكبي، شبلي الشميل، مصطفى كامل، أمين الريحاني، مصطفى الغلاييني، وغيرهم. ولا ريب في أن للبنانيين، ومنهم رئيف خوري، الأسبقية في إشاعة أفكار العلمانية والقومية وحق تقرير المصير والرأي الحر وتحرير المرأة والديمقراطية وسواها من مبتكرات الحضارة الغربية، وذلك في محيطنا العربي الوسيع، ساعدهم في هذا المسعى الحضاري تضلّعهم من اللغات الأجنبية، وإبحارهم إلى المهاجر البعيدة في أوربا، وعلى الخصوص في الأمريكتين الشمالية والجنوبية، واتصالهم الباكر بالثقافة الفرنسية والأدب الفرنسي بشكل مخصوص، ولهذا أقدموا على ترجمة بعض ثمرات هذا الأدب الأجنبي إلى «العربية»، فشاعت أسماء: لامارتين، وترجمة نقولا فياض لقصيدته «البحيرة» شهيرة بديعة، والروائي العالمي بلزاك، وفكتور هوجو، وبالأخص روايته ذات الدوي «البؤساء»، وبعض مسرحيات كورناي وراسين وموليير، وسواهم من المبدعين الأفذاذ.

 

طبعات‭ ‬جديدة‭ ‬لكتب‭ ‬رئيف

والتكريم الحقيقي للكاتب يتمثل في توافر آثاره بين أيدي القرّاء، نظرًا لنفادها مع الزمن وتعاقب الأجيال. وكتب رئيف خوري التي نشرها في حياته، وواحد ظهر إثر وفاته، هي ثمانية وعشرون كتابًا، بينها خمسة مترجمة، وكانت ترجماته راقية جدًا، وحبّذا لو أنه أكثر منها. على أن هذه الكتب جميعها، والتي صدر معظمها في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، لا تتوافر بأي حال في المكتبات العامة. لهذا كانت المبادرة في سنة تكريمه، احتفاء بمئوية مولده، في إعادة طبع بعض مؤلفاته، عملاً ميمونًا. وهذا كان من حسن حظ الجمهور أن يحظى مجددًا ببعض آثار رئيف خوري، فصدر كتاب «الفكر العربي الحديث، أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي»، وسبق لنا الحديث عنه، وهو كتاب نقله الناقد الكبير إحسان عبّاس إلى الإنجليزية، والمقدّر أنه نشر في الولايات المتحدة. كما صدر كتاب «الدراسة الأدبية»، وهو عمل في النقد ودراسة الأثر الأدبي إن من حيث المعنى أو المبنى، كذلك الوقوف على هذا الأثر نفسه من حيث موقعه في تاريخ الأدب، وميزة الكتاب أنه اشتمل على نماذج تطبيقية نافعة. كذلك صدر لرئيف خوري ثلاثة كتب إضافية في طبعات جديدة: روايته التاريخية العائدة إلى العصر الأموي «الحب أقوى»، وكتابه في السيرة «ديك الجن، الحب المفترس»، كذلك «مع العرب في التاريخ والأسطورة». وكان رئيف مغرمًا بالتاريخ العربي، لهذا نجده يكثر في حياته الأدبية من استلهام القصص العربية والأساطير ويعيد صياغتها في لغة عصرية بديعة. وهو سبق له أن فعل ذلك في كتابه الباكر «حبة الرمان وقصص عربية أخرى» (1953). كذلك ينبغي التنويه، في هذا المجال، إلى أن رئيف خوري أصدر أواخر عام 1945 وخلال العام التالي، مجلة قصصية دعاها «شهرزاد»، وكانت تنزل الأسواق مرتين في الشهر. وساعد رئيفًا في تزيين الأعداد - والمرجح أنها بلغت سبعة عشر جزءًا - الفنان القدير رضوان الشهال الذي تعود إلى ريشته البارعة فضيلة تزيين دواوين سعيد عقل والكتب القصصية لمارون عبّود وغيرهما من المبدعين اللبنانيين. وقد احتوت هذه المجلة على ثمانية عشر نصا قصصيًا لرئيف خوري بين موضوع ومترجم. واكتشفنا أن الجزء الخامس عشر من هذه المجلة انفرد بنص قصصي طويل لرئيف عنوانه «سعاد»، ويبدو أنه بمنزلة البروفة الأولى، إذا صح القول، إذ إنه طوّر الأحداث وتوسّع فيها، فكان لنا منه، بعد أربع سنوات، روايته التاريخية اليتيمة «الحب أقوى» (1950).

 

نصوص‭ ‬أدب‭ ‬النهضة

وبما أن خمسة كتب قد توالى أخيرًا إصدارها في طبعات جديدة، من آثار رئيف خوري، فإني أتمنى على القائمين بالأمر ألا يغفلوا، في مقبل سعيهم المشكور هذا، سفرًا لرئيف ألاحظ أن الدارسين قلّما يعنون به أو يلتفتون إليه التفاتة المقدّر والمثمّن، ألا وهو المجلد الذي أتينا على ذكره في مطلع دراستنا الموجزة هذه: «نصوص التعريف في الأدب العربي، عصر الإحياء والنهضة (1850-1950)». ففي الآداب الغربية نقع على مؤلفات وافرة تضم بين دفتيها منتخبات  لهذا الأديب أو ذاك، لهذا التيار الأدبي، أو لتلك المدرسة في الأدب، لهذا البلد الأوربي، أو لتلك المقاطعة المتفرّدة، وتكون في الغالب منتخبات مبوّبة ومشفوعة بالشروح والتعليقات والنبذ التوضيحية. وهذا الضرب من التأليف قليل جدًا، بل إنه نادر في حياتنا الأدبية. عمل رئيف خوري رائع في هذا الميدان. يشتمل على سفره، الذي يقع في 440 صفحة من الحجم الكبير، على قسم أول يُعنى بالشعر، وقسم ثان يعنى بالنثر. أما عناوين القسم الأول: الشعر، فهي، في الوطن والاجتماع والسياسة، في الحِكَم والتأملات، في الأمثال، في الوصف، في الغزل، في الموشحات والأناشيد، في الشعر التمثيلي، في القصص، في الشعر الطليق. أما القسم الثاني: فاشتمل على العناوين التالية: في الوطن والاجتماع والسياسة، في النقد الأدبي، في السيرة والتاريخ، في الرحلات، في البحث العلمي، في المقامات، في النثر التمثيلي، في القصة والرواية. وهكذا فنحن حيال بانوراما فسيحة تحاول أن تلملم فنون الأدب العربي، إبان عصر النهضة، في ملاءة حاضنة لموضوعاته ولأعلامه في طول الوطن العربي وعرضه. ولنضرب مثالاً على ما زوّدنا به رئيف عند تناوله لثيمة: في الوطن والاجتماع والسياسة، ضمن قسم الشعر. فهو يورد نصوصًا من صنيع: إبراهيم اليازجي، نجيب الحداد، أحمد شوقي، وديع عقل، نسيب عريضة، إبراهيم طوقان، معروف الرصافي، الأخطل الصغير، نازك الملائكة. وقس على ذلك في سائر العناوين شعرًا ونثرًا.

وقد نعثر في المكتبة العربية على كتب معدودة تعنى بالمنتخبات، غير أنها كتب متقشّفة جرداء، إذا ساغ التشبيه، بمعنى أنها تفتقر إلى خطة موضوعية في إيراد هذه المنتخبات، ثم هي منتخبات خالية من الشكل وعلامات الوقف المناسبة، فضلاً عن أنها من غير أيّ شروح وتفسيرات.

سفر رئيف خوري الذي نحن في صدده، زاخر بتعريف الكتّاب وبذكر بعض أعمالهم المهمة، ثم بشرح مفصّل معمّق مسهب لمفردات نصوصهم وتبيان المراد منها. ولقد احتوى هذا السفر الجامع مقدمة موجزة في ثلاث صفحات فقط، غير أنها مكثّفة وغنية، يوضح من خلالها المؤلف العوامل التي بعثت الحياة في أدب النهضة منذ منتصف القرن التاسع عشر: من مثل يقظة الشعور القومي العربي ومقارعة الاستعمار، الإحساس بضرورة الإصلاح وبناء الدولة الحديثة وتحرير المرأة، انتشار العلم وتزايد القرّاء، رواج الطباعة والصحافة والإذاعة والمسرح والجمعيات، التمرّس باللغات الأجنبية والترجمة منها والاقتباس.  وهذه العوامل المتقدمة أفضت بالأدب العربي الناهض إلى البوادر التالية: بعث التراث العربي القديم «تعزيزًا للشعور القومي والوطني، لأن الشعوب تستمد نهضاتها المستأنفة غذاء من نهضاتها المندرجة في التاريخ» (ص6). دخلت الأدب العربي فنون جديدة كانت غائبة عنه، كالتمثيلية والقصة والرواية والشعر الطليق. كذلك عرفت الفنون الأدبية القديمة دماء جديدة سرت في كينونتها، إن في العبارة والقالب أو في ضروب الأحاسيس أو التناول الفكري. وهكذا اصطبغ الأدب العربي بخصائص جديدة ميّزته: خرج هذا الأدب من القصور والبلاطات إلى رحاب الشعب وشجونه والمجتمع وهمومه. ابتعد هذا الأدب عن دنيا الغيبيات التي كانت تكبّله، وهو قد تفاعل مع الطبيعة تفاعلاً جماليًا يتلمّس أسرارها، ويستمد لحياته من حياتها، ويسبغ عليها حياة من حياته» (ص7). وباتت الرغبة ملحاحًا عند الأدباء في التحرر والانطلاق، سواء في الشكل أو المضمون. كذلك تطلّع هؤلاء الأدباء ناحية القيم، كالحق والعدل والحقيقة.

 

العودة‭ ‬البهيَّة

ويعود نجاح سفر «النصوص» في شطر منه إلى أن واضعه أمضى حياته وهو يمارس التعليم، بل إن التعليم كان مورد رزقه الوحيد. فقد ولد رئيف نجم خوري في قرية «نابيه» فوق بلدة إنطلياس الساحلية، الواقعة شمالي بيروت. ومسقط رأسه تميّز فلاحوه بتعاطي زراعة الأشجار المثمرة، ويشتمل على وادي «راميا» الخصب، وتتخلله مغارة موغلة في العمق ينتظرها مستقبل سياحي لامع. تعلّم رئيف على يد أبيه الذي كان موهوبًا في مزاولة التعليم، فضلاً عن أنه أورث ابنه حب العرب وتاريخهم وتراثهم، كما أورثه الجرأة في الموقف والطبع الساخر الظريف. وانتقل رئيف في المرحلة الثانوية إلى مدرسة برمانا الشهيرة، التي كانت مقصدًا لطلاب من البلاد العربية. وتقع برمّانا المصيف المترف المعروف، على مسافة كيلومترات عدة فوق قريته. وهنا برزت مواهب رئيف الأدبية، بل إنه شرع مذّاك ينظم الشعر الغزلي. وانتقل رئيف بعدئذ إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وكانت كعبة العلم ومختبر التفاعل الفكري، وقد تخرّج فيها طائفة مرموقة من الرجالات العرب من اليمين واليسار على السواء. وفي العام 1932 نال رئيف خوري البكالوريوس في الأدب العربي والتاريخ، وانصرف توّا إلى مزاولة مهنة التعليم. فعلّم في طرطوس على الساحل السوري. كما علّم في القدس، ورافق ثورة 1936 بفلسطين وشارك فيها خطيبًا وموجهًا، وأعطى الفقراء و«الغلابة» من أبناء القدس الدروس الخاصة بالمجان. كما علّم في دمشق عام 1941، وأصدر فيها جريدته «الدفاع». ثم استقر في موطنه الصغير، فعرفت الصروح التعليمية في بيروت وضواحيها صوته الأجشّ الدافئ وثقافته المتبحّرة وإخلاصه المتفاني وحدبه العطوف. وكما يقول العارفون برئيف خوري، ويشرّفني أن أكون واحدًا منهم، فهذا الإنسان الكبير من بلدنا أمضى سحابة عمره إما واقفًا يعلّم أو قاعدًا يكتب. وقد كتب فيضًا مدهشًا من الصفحات، كانت تحتاج إلى عمر مضاعف لإنجازها! ويبدو أن النوم لم يكن ليستأثر بساعات كثيرة من أجندته، إلا أن النوم الذي لا عودة منه باكره، فغادرنا، وقد نال المرض الخبيث من رأسه الذي كان يضجّ بالأفكار المنيرة الهادية، وكان في ريعان الرجولة في الخامسة والخمسين. وتراكمت سجوف الإهمال والنسيان والنكران على ذكراه، على أنه، وكما تقول الآية الكريمة، ‭{‬وأما‭ ‬ما‭ ‬ينفع‭ ‬الناس‭ ‬فيمكث‭ ‬في‭ ‬الأرض‭} ‬آية‭ ‬17‭/ ‬الرعد. وهكذا عاد إلينا رئيف خوري، إثر خمس وأربعين سنة من رحيله، بكل بهائه وحضوره وتاريخه. واحتفلنا في مظاهرة ثقافية لافتة، بمئوية مولده الميمون. وكان لصاحب هذه السطور شرف المشاركة، فأصدرت مجلّدًا في 640 صفحة من الحجم الكبير يحمل العنوان التالي: رئيف خوري، داعية الديمقراطية والعروبة، دار الفارابي، بيروت 2013 .