من روَّاد المسرح العربي.. حقّي الشبلي والفن المسرحي في العراق

من روَّاد المسرح العربي.. حقّي الشبلي والفن المسرحي في العراق

عندما‭ ‬نذكر‭ ‬حقي‭ ‬الشبلي‭ (‬من‭ ‬العراق‭) ‬نذكر‭ ‬زكي‭ ‬طليمات‭ (‬من‭ ‬مصر‭)‬،‭ ‬فكلاهما‭ ‬من‭ ‬مؤسسي‭ ‬المسرح‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬طليمات‭ ‬قد‭ ‬أسس‭ ‬المعهد‭ ‬العالي‭ ‬للفن‭ ‬المسرحي‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬بعثته‭ ‬الدراسية‭ ‬خارج‭ ‬بلده،‭ ‬فإن‭ ‬الشبلي‭ ‬قام‭ ‬بتأسيس‭ ‬‮«‬معهد‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ -‬‭ ‬فرع‭ ‬التمثيل‮»‬‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬بعد‭ ‬عودته،‭ ‬هو‭ ‬الآخر،‭ ‬من‭ ‬بعثته‭ ‬الفنية‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭. ‬وكلاهما‭ ‬مارس‭ ‬تطبيقات‭ ‬ونظريات‭ ‬الفنون‭ ‬المسرحية‭ ‬وتعليمها‭ ‬لطلبتهما‭.. ‬وكلاهما‭ ‬تتلمذ‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬أبرز‭ ‬المخرجين‭ ‬الأوربيين‭ ‬خلال‭ ‬الثلاثينيات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬وكلاهما‭ ‬أحدث‭ ‬تغيّرًا‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬الحركة‭ ‬المسرحية‭ ‬في‭ ‬بلده‭..  ‬لكن‭ ‬كليهما‭ ‬فضّل‭ ‬تدريس‭ ‬الفن‭ ‬المسرحي‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬المؤسسة‭ ‬التعليمية،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬خاصة‭.‬

 

ليس هناك من هو أكثر حزمًا في تعليمه، وإخلاصًا في تزويد طلابه بالمعرفة من «الشبلي»، سواء في قاعة الدرس أو في قاعة التمارين. وليس هناك من هو أكثر لطفًا وخفة روح في جلساته الخاصة مع الأصدقاء والمقربين من «الشبلي». وإذا كان جذابًا في تناول أطراف الحديث في الشعر والفن وفي شئون الحياة اليومية، كان جذابًا بصوته وهو يترنّم ببعض الأغاني العراقية في حضرة جلاّسه.

وأنا أتتلمذ على يديه في بداية الخمسينيات من القرن الماضي اختلفت كثيرًا معه، سواء بشأن التقنيات التي يستخدمها في تعليمنا، والتي كنا نعتقد أن الزمن عفا عليها، أم بشأن موقفه من السلطة الحاكمة وولائه لها. كانت لديه «كلائش» يفرضها على الطلبة تخص التعبير الصوتي والجسماني في التمثيل، ويطبّقها على الجميع من دون النظر في الفوارق الإمكانية، وفي مختلف المشاهد المسرحية, على الرغم من اختلاف طبيعتها، والمدارس والأنواع التي تنتمي إليها.

منذ ذلك الحين كنتُ وزملاء لي آخرون نتطلع إلى التجديد، ونرفض كل ما هو قديم.. وكنا نعتقد أن أستاذنا الشبلي ينتمي إلى القديم. ولكن - وهنا أعترف، وقد اعترفتُ من قبل - بأنه كان بتلك «الكلائش»، والقوالب، وتلك الأعراف القديمة قد علّمنا جماليات فن المسرح التي لا نشهد اليوم من المنشّطين من يُعلّمها: الدقة، والانضباط، وتعلّم الأصول هي التي تهيئ الطالب لكي يكون ممثلًا جيدًا.

 

سوط‭ ‬الرقابة

من جهة أخرى، كان «سوط رقابته» على النصوص المسرحية لاذعًا، حيث عمل عضوًا في لجان الرقابة سنوات عديدة. فقد كان يُحذّر من كل كلمة يمكن تأويلها لغير مصلحة السلطة، مع كونه متحررًا في تفكيره، ويدعو إلى عدم تكبيل الفن بأي قيود خارجية. وبهذا الخصوص خاصمتُه لأنه رفض لي نصًا مسرحيًا كتبته لأقدمه على المسرح من خلال فرقتي المسرحية (فرقة المسرح الحديث).. وأعترف بأنني «اعتديتُ» عليه في ما كان بيننا من ملاسنة، فمنعني من دخول الصف الذي يُدرّس فيه.. إلا أنه بعد حين، وبفعل روحه المتسامحة، تغاضى عما حصل، بل وأكثر من ذلك اختارني لأكون مديرًا لقسم المسرح في «مصلحة السينما والمسرح» التي تولى إدارتها من العام 1964 إلى العام 1967، مفضلًا إياي على سواي من خريجي فرع التمثيل من مؤيديه.. وبذلك أثبت حسن نواياه وطيبة قلبه. لقد كان التزام الشبلي الوظيفي يدعوه إلى الممارسة القاسية لسلطة الرقيب.. وربما له العذر في ذلك. وكنتُ مع عدد من زملائي نتطرف في معارضتنا العهد الملكي وسلطته، التي اعتقدنا، في ذلك الوقت، أنها تخدم الاستعمار.. فكنا نختار من النصوص، أو نُعدّ نصوصًا تنطوي على تلميحات تندد بالاستعمار والرأسمالية.

 

مسرح‭ ‬المدارس

فضلًا عن  تأسيسه فرع التمثيل في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه على يده عدد من فناني المسرح العراقيين الذين أثبتوا جدارتهم، سواء في عملهم داخل بلدهم، أو أثناء تلقيهم التعليم الفني في معاهد أمريكا وأوربا التي واصلوا دراستهم المسرح فيها. وفضلًا عن ذلك أقول: كان لحقي الشبلي الدور المهم في إرساء قواعد النشاط الفني والمسرحي في المدارس المتوسطة والإعدادية، وراح يوزع طلبته على عدد من المدارس في بغداد، لكي يُخرجوا للطلبة مسرحيات من مختلف الأنواع والأساليب، ناشرًا مثل هذا النشاط في عدد من المدن العراقية الأخرى، كالبصرة والموصل والعمارة والحلة.. وكان يقوم بالإشراف على طلبته كلما سنحت له الفرصة.. بل إنه تفرغ لذلك العمل عندما نُقل من رئاسة فرع التمثيل بالمعهد في العام 1950، للعمل مشرفًا تربويًا في «وزارة المعارف»، ولمدة سنتين.                                    

أواسط العام 1964 نُقلت خدمات الشبلي إلى «وزارة الثقافة والإرشاد» ليتبوأ موقع المدير العام لـ«مصلحة السينما والمسرح»، التي ستحتل بنايات المعرض السوفييتي الذي أقيم في تلك الحقبة، ومن بينها بناية مسرح قدّمتْ فيه فرق سوفييتية عددًا من العروض الفنية. وكانت «المصلحة» تلك تتألف من قسمين: قسم السينما الذي تولى إدارته أحد المختصين، وقد تعلّم على أيدي فنيين في وحدة سينمائية تعود لـ«شركة نفط العراق».. وتوليت أنا إدارة قسم المسرح بعد أن تمّ نقل خدماتي من وزارة المعارف. وقد طرح علينا الشبلي خطة عمل متكونة من ثلاثة محاور: الأول، إنتاج أفلام روائية ووثائقية، والثاني، تأسيس فرقة مسرحية تابعة للدولة، والثالث، تأسيس فرقة للفنون الشعبية (الرقص والغناء)، مفضلًا البدء بالمحور الثالث، وذلك بسبب قيام وزارة الثقافة آنذاك بتوجيه الدعوة لإقامة مؤتمر للموسيقى العربية في بغداد، وارتأى أن يكون أحد الأنشطة المرافقة للمؤتمر تقديم حفل للفنون الشعبية.. وما شجعه على ذلك وجود مدرّس سوري استقدمته دائرة التلفزيون لتأسيس فرقة خاصة لمشروع لم يكتمل، فارتأى الشبلي إكماله، ونشر إعلانًا يدعو فيه أولئك الذين تقدموا بطلبات الالتحاق بتلك الفرقة الخاصة إلى مراجعة مصلحة السينما والمسرح. وبالفعل حضر عدد من الفتية والفتيات، وتمّ تشكيل الفرقة باسم «فرقة الرشيد للفنون الشعبية». ولاحظنا، أنا وزميلي، آنذاك، المنولوجست الشهير عزيز علي، أن فقرات برنامج الفرقة تطغى عليها أغنيات ورقصات «السماح»، وتخلو من أي فقرة عراقية النكهة.. وتدخلنا لدى أستاذنا بمقترح لإضافة فقرات تخص الفن الشعبي العراقي، وتمّ لنا ذلك ونجح الحفل، ما شجّع الشبلي على إدامة تلك الفرقة، ما دعانا إلى أن نختلف معه، أنا وعزيز علي، بشأن طبيعة عمل الفرقة ونوعية أعضائها وسلوكياتهم ومدى انضباطيتهم. وعندما أحسستُ بقوة انشغال أستاذي بتلك الفرقة، وإهماله المحور الثاني - فرقة مسرحية وطنية - بادرتُ بمفاتحته في الموضوع، فأبدى ارتياحًا.. ودعونا إلى لقاء ضمّ جميع المتخرجين في فر ع التمثيل بمعهد الفنون الجميلة.. وفي ذلك الاجتماع تقرر إنتاج أربعة أفلام سينمائية روائية، وأربع مسرحيات درامية، وكان نصيبي من هذه المسرحيات «تاجر البندقية» لشكسبير.. وبالفعل قدّمتها باسم «الفرقة القومية للتمثيل» في بناية «المسرح القومي»، التي سبقت الإشارة إليها، وكان ذلك في أبريل من العام 1965، وكنتُ قد استعنتُ بالفنان التشكيلي الراحل كاظم حيدر، لتصميم مناظر المسرحية، وبالألمانية/ الإنجليزية ترودي مثلمان، التي كانت تعمل موظفة في دائرة وسائل الإيضاح بوزارة المعارف لتصميم أزياء المسرحية، متوخيًا تمتين «الدقّة التاريخية» في كلا الأمرين.. واستعنتُ بخريجي معهد الفنون الجميلة، ليمثلوا أدوارًا في المسرحية. وأبدى أستاذي الشبلي ارتياحه للعمل، وحثني على الاستمرار. وبالفعل فقد أخرجتُ من بعد مسرحية شكسبير هذه مسرحية للفرنسي جان آنوي، وهي بعنوان «أنتيغوني»، مستعينًا بالفريق السابق نفسه (أو أغلبه)، وكان ذلك بداية العام 1966. ومن الممثلات اللواتي شاركن فيها: فوزية عارف، وسليمة خضير، وناهدة الرماح. بعدها قدّمتُ للأمريكي تنسي وليمز «الحيوانات الزجاجية» بديكور رائع للفنان كاظم حيدر، وتمثيل كل من: محسن العزاوي، وفوزية عارف، وفوزية الشندي، وفخري العقيدي.. وكان ذلك في الشهر العاشر من العام 1966.  ثم قدّمتُ أخيرًا، وأنا أعمل مع أستاذي الشبلي، مسرحية الفرنسي جان كوكتو «النسر له رأسان»، وذلك بعد شهر واحد من تقديم المسرحية الأمريكية. في السنوات التي عملتُ فيها رئيسًا لقسم المسرح مع الشبلي، كنتُ أحثّه على أن يقوم بإخراج مسرحية نمثل فيها، نحن طلبته، وكنتُ أعرف إعجابه بمسرحية ألفها الشاعر أحمد رامي بعنوان «سميراميس»، إلا أنه ظل يتردد، ولم يُقدمْ على إخراج أي مسرحية بعد ابتعاده عن «معهد الفنون»، باستثناء مسرحية توفيق الحكيم «شهرزاد»، التي قدّمها في افتتاح البنايات الجديدة لمصلحة السينما والمسرح، العام 1964، ومثّلتُ فيها دور «قمر» مقابل زميلي الراحل وجيه عبدالغني الذي مثّلَ دور «شهريار»، ومثّلتْ فوزية الشندي دور «شهرزاد».. وكانت تلك آخر أعمال الشبلي الفنية. وحتى اليوم لم أستطع أن أعثر على سبب تمنّعه عن تقديم عمل مسرحي من إخراجه في آخر أيام حياته. ربما كان الخوف من الفشل أحد الأسباب.. وقد أكون مخطئًا، أو ربما كان العجز هو السبب.. لا أدري!

 

فيلم‭ ‬واحد

في مجال السينما لم تُنتج «مصلحة السينما والمسرح» على عهد الشبلي سوى فيلم واحد، هو «الجابي» الذي أخرجه الراحل جعفر علي، بينما قبل أستاذنا أن يمثّل دورًا ثانويًا في فيلم آخر، لم يكن من إنتاج دائرته، هو «النهر»، وكان الفيلم الثاني الذي شارك في التمثيل فيه بعد فيلم «القاهرة - بغداد» أواخر الأربعينيات، وهو فيلم عراقي - مصري مشترك.

لا أدري، بعد النجاح الذي حققته «الفرقة القومية للتمثيل» في أعمالها الأربعة التي أخرجتها، ما السبب الذي جعل الشبلي يحجم عن تأسيس تلك الفرقة بشكل رسمي، فقد تمّ تشكيلها رسميًا بعد مغادرته منصبه مديرًا عامًا لمصلحة السينما والمسرح؟ ولا أدري، ومن بعد النجاح الذي حققه فيلم «الجابي»، ما الأسباب التي منعت أستاذنا الشبلي من الاستمرار في إنتاج أفلام أخرى خلال توليه إدارة تلك المؤسسة الفنية! 

كنتُ قد ابتعدتُ عن أستاذي سنوات عندما انتميتُ إلى هيئة التدريس في «أكاديمية الفنون الجميلة» التابعة لجامعة بغداد، ولم نلتقِ مرةً أخرى لنعمل معًا إلا عندما اختير ليكون نقيبًا للفنانين العراقيين، وتمّ اختياري لأكون نائبًا له، وذلك في العام 1982، ولدورتين متتاليتين شهدتُ فيهما مدى حرصه على العمل، وجديته في تسيير أمور النقابة، ولم أختلف معه إلا في شأن واحد هو قبول «من هبّ ودب» ليكونوا أعضاء أساسيين في النقابة، وكان يبرر ذلك بحاجة النقابة إلى مصدر ماليّ يأتي من رسوم العضوية. واستمرّ عملي معه حتى وافاه الأجل في العام 1985. وأثناء وجودي معه في النقابة حضرنا مؤتمرين دوليين، الأول هو مؤتمر الطاولة المستديرة للإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما في بيروت في العام 1984، والثاني مؤتمر «يونسكو» حول حقوق الفنان، الذي عقد في باريس العام 1984.. وفي المشاركتين كان أستاذي ذلك الأب، والصديق، والفنان.

 

من‭ ‬بغداد‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬وباريس

ذهب حقي الشبلي إلى دنيا الآخرة ولم يترك في الدنيا الحاضرة إلا سمعته الطيبة وإرثه من المعرفة الفنية، حيث بقي المدرسون في معهد الفنون الجميلة ينهلون من محاضراته سنوات من بعد وفاته.. ولاأزال أحتفظ بنموذج منها بخط يده يحتوي على موضوعات عن الأنواع الجمالية للمسرحيات، كالكلاسيكية والكلاسيكية الجدية والرومانسية، وموضوعات أخرى في الأدب المسرحي العربي ومبدعيه مثل: أحمد شوقي، وتوفيق الحكيم. كما أنه ترك أخلافه من المتخرجين في فرع التمثيل، الذين أصبحوا رموز الحركة المسرحية في العراق، ومن العاملين على تقدمها، مثل: إبراهيم جلال، وجعفر السعدي، وجاسم العبودي - من الراحلين، وأسعد عبدالرزاق، وبدري حسون فريد، وسامي عبدالحميد، ويوسف العاني - من الأحياء. غادر حقي الشبلي الحياة وقد عاشها من دون زوجة ترعاه وتخلّف له ولدًا يحمل اسمه، وبقي الأمر سرًّا دُفنَ مع رفاته.. (ويقال إنه تزوج من امرأة تركية مدة قصيرة، وليس هناك من دليل!).

نشأ حقي الشبلي في عائلة بغدادية محافظة بمنطقة الحيدرخانة، وكان والده من المتصوفة الذين يقيمون المناقب النبوية وجلسات الذِكْر.. ولم يخطر ببال الأب أن ابنه الصغير سيكون له شأن في حقول الفن، وسيتمتع بصيتٍ تذكره الأجيال.

كان الشبلي قد دخل عالم المسرح عن طريق الصدفة. فعندما زارت «فرقة جورج أبيض» المصرية بغداد، وكانت بصدد تقديم مسرحية «أوديب»، احتاج المخرج إلى صبي لتمثيل دور «ابن أوديب»، ومن بين مجموعة من صبية بغداد، وقع اختياره على الصبي «حقي» ليمثل الدور، وكان ذلك العام 1926. وعندما زارت «فرقة فاطمة رشدي» بغداد شارك الشبلي بتمثيل أحد الأدوار الثانوية.. وعندما شاهد الملك فيصل الأول المسرحية التي مثّل فيها الشبلي أعجب به، ووافق على طلب المخرج عزيز عيد بالتحاق الشبلي بالفرقة المصرية عند عودتها إلى القاهرة ليتدرّب هناك، فكان أن قضى سنة كاملة. وعند عودته إلى بغداد وجد أن الفرقة الوطنية للتمثيل، التي كان أسسها في وقت سابق، قد انشطرت إلى فرقتين، إحداهما تنكرت له واستقلّت عنه، أما الثانية فقد بقيت موالية له، واستمرت بتقديم عروضها المسرحية في بغداد وعدد من المدن العراقية، ولم تتوقف إلا حين سافر متمتعًا ببعثة دراسية إلى باريس في العام 1936، وقد وافقت وزارة المعارف على تلك البعثة بعد أن شاهده مدير المعارف (سامي شوكت) يمثّل دورًا رئيسًا في مسرحية «الهاوية» التي قُدّمتْ على مسرح الإعدادية المركزية ببغداد.. وكان كل من السيدين رشيد عالي الكيلاني وياسين الهاشمي، وهما من ساسة العراق البارزين، قد شاهدا المسرحية وأعجبا بتمثيله.

أمضى حقي الشبلي ما يقرب من أربع سنوات في باريس، يحضر التمارين الخاصة بإنتاج المسرحيات، ويتابع أعمال المخرجين البارزين أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، وفي مقدمتهم «لويس جوفيه»، كما يستمع إلى محاضرات الدارسين والمدرسين. بعد عودته من باريس بوقت قصير أقنع المسئولين في وزارة المعارف بضرورة افتتاح فرع للتمثيل في «معهد الفنون الجميلة»، إلى جانب فروع الرسم، والنحت، والموسيقى الشرقية والغربية، وتلقى تشجيعًا من عميد المعهد محيي الدين حيدر، وهو من أفراد العائلة المالكة، وتمّت الموافقة على فتح الفرع عام 1940.. وتمّت الموافقة، أيضًا، على نقل مقر المعهد من بيت في شارع السعدون إلى بناية في منطقة الكسرة، قريبًا من الأعظمية، كانت مقرًا للنشاط الرياضي المدرسي، ضمن مؤسسات وزارة المعارف.. وتم تحويل «الجيمنيزيوم» إلى مسرح. وما إن مرّت سنتان على فتح الفرع حتى راح حقي الشبلي يقدّم عروضًا مسرحية موسمية، فضلًا عن العروض الموسيقية. وفي البداية كانت تلك العروض تقدّم في قاعة الملك فيصل الثاني (قاعة الشعب، من بعد) حينًا، وعلى مسرح المعهد، أحيانًا أخرى. وكانت مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير من أبرز المسرحيات التي أخرجها الشبلي أثناء إدارته للفرع، ومثّلتُ فيها دور «ديسيوس»، وكنتُ أرغب في تمثيل دور «أنطونيوس»، أو دور «بروتس».. ولكن أستاذي فضّلَ عليَّ طالبين آخرين لتمثيل الدورين، وربما كان للمشادة الكلامية التي وقعت بيني وبينه حول منع عرض أحد النصوص المسرحية التي ألّفتها، أثرها في عدم إسناده لي أحد الدورين الرئيسين. وأذكر أن المسرحية قُدمت أيام الاحتفالات بتتويج الملك فيصل الثاني ملكًا على العراق في العام 1953 بعد مقتل أبيه الملك غازي، ما دعا أستاذنا الشبلي إلى أن يضيف مشهدًا كتبه بنفسه ليختتم به المسرحية، ويقضي بتتويج «أوكتافيوس» قيصرًا على روما. وفي وقتها أخذنا تلك الإضافة مجاملة للسلطة ومساهمة في احتفالاتها.

في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين استطعتُ أن أحضر إلى قاعة الملك فيصل لأشاهد الحفل المسرحي السنوي الذي يقدمه طلبة فرع التمثيل في المعهد، الذي يقوم الأستاذ الشبلي بإخراج فقراته، وضم البرنامج ثلاث مسرحيات قصيرة، الأولى «الطاحونة الدامية»، وهي مسرحية مترجمة ذات مضامين وطنية.. والثانية «مجنون ليلى» للشاعر الكبير أحمد شوقي.. ووقتها أعجبني صوت أحد الممثلين وهو يؤدي الدور الذي يقول فيه: «هيلا هيلا هيّا.. نطوي الفلا طيّا...»، وعرفتُ، من بعد، أن الطالب المغني هو ناظم الغزالي! أما المسرحية الثالثة فكانت باللهجة البغدادية، وتناولت موضوعًا من الحياة اليومية في بغداد، وشارك في تمثيلها الطلبة الذين شكلوا، من بعد تخرجهم، ما عُرف بـ«فرقة الزباينة» التي عُرفتْ بعروضها الكوميدية الشعبية، كما عُرف عنها أنها قدمت عددًا من عروضها للترفيه عن أفراد الجيش العراقي المشارك في حرب 1948 في فلسطين. ومن بين أولئك الممثلين: ناجي الراوي، وحميد المحل، وفخري الزبيدي، ومحمود قطان، وحامد الأطرقجي. وأذكر أن الشبلي أشرك أولئك الممثلين، وسواهم من الكوميديين، في تمثيل فصل واحد من فصول مسرحية توفيق الحكيم «شهرزاد»، الذي كان يسميه «فصل الحشاشة»، وقدّمَ ذلك الفصل في إحدى حفلات فرع التمثيل المسرحية.

وبقدر ما كان حقي الشبلي في حياته الفنية مدرّسًا مقتدرًا، ومخرجًا متمكنًا، وإداريًا ناجحًا، كان ممثلًا مبدعًا اعتاد في أثناء الدرس، وعندما يفشل الطلبة في تقديم أداء مقنع، أن يرتقي خشبة المسرح، ليمثّل أحد الأدوار فيسحرنا بأدائه الأخاذ، وبجمال تعبيره الصوتي والجسماني.. وكان شاعرنا الكبير جميل صدقي الزهاوي على حق عندما أشاد بتمثيل الشبلي في إحدى قصائده التي قال فيها:

عظيمٌ‭ ‬على‭ (‬حقّي‭) ‬لنفسي‭ ‬المُعوِّلُ

فليس‭ ‬كحقي‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬ممثّلُ

يصوّر‭ ‬بأســــاء‭ ‬الحياة‭ ‬وطيبها

وما‭ ‬يهجـس‭ ‬الصعلوك‭ ‬والمتجوّلُ

وإنّي‭ ‬لفي‭ ‬التمثيل‭ ‬للناس‭ ‬واجدٌ

طريقًا‭ ‬إلى‭ ‬صدق‭ ‬العزيمة‭ ‬يوصلُ

أرى‭ ‬غير‭ ‬حقي‭ ‬يشغل‭ ‬العين‭ ‬وحدها

إذا‭ ‬رام‭ ‬تمثيلًا،‭ ‬وللروح‭ ‬يهملُ

ولكنّ‭ ‬حقي‭ ‬للعينـين‭ ‬وللـنهى

‭ ‬وللسمع‭ ‬والروح‭ ‬الشجية‭ ‬يَشــغلُ‭ .‬