«آل الموصلي» ومكانتهم في تاريخ الغناء العربي

«آل الموصلي»  ومكانتهم في تاريخ الغناء العربي

شكَّل‭ ‬الغناء‭ ‬مظهرًا‭ ‬مهمًا‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الغناء‭ ‬كان‭ ‬منتشرًا‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬أمهات‭ ‬القرى‭ ‬مثل‭: ‬يثرب‭ ‬والطائف‭ ‬ودومة‭ ‬الجندل‭ ‬واليمامة،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬لم‭ ‬يتطور‭ ‬ويزدهر‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬الإسلام،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬حيث‭ ‬تقررت‭ ‬قواعده‭ ‬وأصوله،‭ ‬وشغف‭ ‬به‭ ‬العامة‭ ‬والخاصة‭. ‬ويؤكد‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬المؤرخ‭ ‬المسعودي‭ (‬المتوفى‭ ‬عام‭ ‬345‭ ‬هـ‭) ‬حينما‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬الغناءُ‭ ‬يَرُقُّ‭ ‬الذهنَ‭ ‬ويليّنُ‭ ‬العريكةَ‭ ‬ويُبهجُ‭ ‬النفسَ‭ ‬ويَسُرُّها‭ ‬ويُشجّعُ‭ ‬القلبَ‭ ‬ويسخي‭ ‬البخيلَ،‭ ‬وكانت‭ ‬الملوكُ‭ ‬تنام‭ ‬على‭ ‬الغناء‭ ‬ليسري‭ ‬في‭ ‬عروقها‭ ‬السرورُ‭. ‬وكانت‭ ‬ملوكُ‭ ‬الأعاجمِ‭ ‬لا‭ ‬تنام‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬غناءٍ‭ ‬وطربٍ،‭ ‬والمرأة‭ ‬العربيةُ‭ ‬لا‭ ‬تُنوّم‭ ‬ولدَها‭ ‬وهو‭ ‬يبكي‭ ‬خوفًا‭ ‬أن‭ ‬يسري‭ ‬الهمُّ‭ ‬في‭ ‬جسدِه‭ ‬ويدُبُّ‭ ‬في‭ ‬عروقِه،‭ ‬ولكنها‭ ‬تنازعُه‭ ‬وتضاحكُه‭ ‬حتى‭ ‬ينام‭ ‬وهو‭ ‬فَرِحٌ‭ ‬مسرورٌ،‭ ‬فينمو‭ ‬جسدُه‭ ‬ويصفو‭ ‬لونُه‭ ‬ودمُه‭ ‬ويشفُ‭ ‬عقلُه،‭ ‬والطفلُ‭ ‬يرتاح‭ ‬إلى‭ ‬الغناء‭ ‬ويستبدل‭ ‬ببكائه‭ ‬ضحكًا‮»‬‭.‬

لا شك في أن ازدهار الغناء في العصر العباسي يعود إلى جملة من العوامل نذكر منها: 

< أفاد المغنون في العصر العباسي من التراث الغنائي الذي وصل إليهم من الفترة الجاهلية وصدر الإسلام، فقد عرف العرب في الجاهلية أنواعًا من الغناء مثل «الحِداء» الذي كان من أقدم هذه الأنواع وله مقام رفيع عندهم. كما ظهر في العصر الأموي عدد كبير من المغنين أمثال: طُويس، الذي يُعدُّ أول من غنى بالعربية في المدينة، وابن سُريج، الذي كان أول من ضرب بالعود على الغناء العربي بمكة، والغريض وابن محرز ومعبد وغيرهم.

< شجع الخلفاء العباسيون الغناء والمغنين أمثال المهدي والرشيد والمأمون والواثق، بل كان بعض الخلفاء يتقن الغناء ويضع الألحان أمثال الواثق والمعتز والمعتمد والمعتضد وغيرهم. كما اشتهر عدد من أبناء الخلفاء العباسيين بالغناء مثل: إبراهيم بن المهدي وأخته عُليّة وأبوعيسى أحمد بن الرشيد وغيرهم، هذا فضلًا عن اهتمام الأمراء وتشجيعهم للغناء أمثال البرامكة... هذا كله دفع المجتمع العباسي إلى الشغف بالغناء.. فالناس - كما يُقال - على دين ملوكهم.

< شكّل الازدهار الاقتصادي في العصر العباسي عاملًا أساسيًا في ازدهار الغناء، حيث انتشر الترف والرفاهية وأنفق الخلفاء والأمراء الأموال الطائلة لاستقدام المغنين. كما انتشرت دور الطرب في المدن الرئيسة وبخاصة بغداد، وكان ذلك كله حافزًا لازدهار الغناء والشعر والموسيقى. 

< لعبت الجواري اللواتي تم جلبهن وتعليمهن الغناء والأدب والموسيقى دورًا كبيرًا في ازدهار الغناء، حيث كانت هناك جماعات من العرب والفرس تقوم بشراء الجواري ودفعهن لتعلُّم الغناء والأدب، ومن ثم يتمّ بيعهن لرجال الدولة وكبار الأثرياء بأثمان باهظة، حتى بلغت أثمان بعضهن آلاف الدنانير. 

< أفاد الغناء العربي في العصر العباسي مما تُرجم إلى «العربية» في ميدان الموسيقى والغناء، من التراث اليوناني مثل مؤلفات فيثاغورس وإقليدس وأرسطو وجالينوس، هذا فضلًا عما ترجم  من التراث الفارسي والهندي في هذا الميدان. كما أفاد الغناء مما أُلف بـ «العربية» مثل مؤلفات الفراهيدي وإبراهيم بن المهدي وإسحاق الموصلي والكندي والرازي وغيرهم. 

أسهـم تنوع آلات الغناء والموسيقى وتطورها في العصر العباسي في تطور الغناء وازدهاره، حيث انتشر استخدام الدف والصنج والربابة والمزمار والبوق والطبل والقصبة، فضلًا عن العود ذي الأوتار الأربعة، ومن ثم ذي الأوتار الخمسة. ولاشك فقد كان العود - كما يقول القلقشندي - «أفخر آلات الطرب وأرفعها قدرًا وأطيبها سماعًا».

 

إبراهيم‭ ‬الموصلي

يُعدُّ إبراهيم الموصلي هو واضع أسس المجد الفني لهذه الأسرة، وكان قد ولد في الكوفة عام 125هـ من والدين أعجميي الأصل. أما نسبته إلى الموصل فتعود إلى أنه أقام فيها مدة في مستهل شبابه لتعلُّم الغناء. وعند عودته إلى الكوفة قال له إخوانه من فتيان المدينة «مرحبا بالفتى الموصلي» فلقب به. ثم ارتحل إبراهيم إلى بلاد الري لمتابعة تعلُّم الغناء، حيث جمع بين ممارسة الغناء وتعلمه على أيدي كبار أساتذة هذا الفن، وخصص كل ما كان يكسبه من أموال لإتقان صناعة الغناء العربي والفارسي. وسرعان ما ذاع صيته بين العامة والخاصة حتى وصل إلى مسامع الخليفة العباسي المهدي (ت 169هـ) فاستدعاه إلى بغداد.

 

مكانة‭ ‬إبراهيم‭ ‬عند‭ ‬الخلفاء‭:‬

كان المهدي أول خليفة غنى له إبراهيم، وكان موضع تقديره واحترامه. ولكن العلاقة التي قامت بين إبراهيم الموصلي والخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ) كانت علاقة وثيقة ومتميزة، وخاصة أن الرشيد فاق الخلفاء العباسيين في ولعه بالغناء والموسيقى، وكان إبراهيم أول من غنى للرشيد بعد توليه الخلافة عام 170هـ، ومما قاله: 

إذا‭ ‬ظُـلـمُ‭ ‬البلادِ‭ ‬تَـجَـلـَـلـتـْنــا

فهــارونُ‭ ‬الإمــامُ‭ ‬لــها‭ ‬ضيــاءُ

بهارونَ‭ ‬اسـتقامَ‭ ‬العدلُ‭ ‬فــينا

وغاضَ‭ ‬الجَوْرُ‭ ‬وانفسحَ‭ ‬الرجاءُ

تبِعْتَ‭ ‬من‭ ‬الرسولِ‭ ‬سبيلَ‭ ‬حقٍ

فشـأنُـك‭ ‬في‭ ‬الأمـورُ‭ ‬بـه‭ ‬اقـتداءُ

كما أن أول جائزة منحها الرشيد لشاعر بعد توليه الخلافة كانت لإبراهيم الموصلي، وذلك عندما مدحه قائلًا: 

ألم‭ ‬ترَ‭ ‬أنّ‭ ‬الشمسَ‭ ‬كانت‭ ‬سـقيمةً

فلمّا‭ ‬وُليّ‭ ‬هارونُ‭ ‬أشرقَ‭ ‬نورُها‭ ‬

فأُلبِستْ‭ ‬الدنيا‭ ‬جمالًا‭ ‬بــــــــوجهه

فهارونُ‭ ‬واليها‭ ‬ويحيى‭ ‬وزيرُها

  وبلغت منزلة إبراهيم عند الرشيد درجة لم يبلغها أحد سواه من المغنين، فقد وضعه في الطبقة الأولى من ندمائه ومغنيه، كما أقطعه دون غيره شعر «ذي الرمة»، أي لم يعد يسمح لأحد من المغنين أن يغني بيتًا واحدًا من  شعر «ذي الرمة» إلا إبراهيم الموصلي، لأن الرشيد كان يحفظ شعره، فإذا سمعه غناءً أطربه أكثر مما يطربه غيره مما لا يحفظ شعره. ولكن لم تقتصر علاقة إبراهيم بالرشيد على الغناء، وإنما شملت معظم جوانب العلاقات الإنسانية. فيروي الأصفهاني في كتابه «الأغاني» أن إبراهيم خرج مع الرشيد في غزواته إلى الشام، فاستدعاه إلى مجلسه يومًا؛ فأكل معه وشرب، ثم خلع عليه خلعة من ثيابه، وأمر له بألف دينار. ثم قال له: انظر يا إبراهيم كم يد أوليتك إياها اليوم؛ نادمتني منفردًا، وآكلتني، وخلعت عليك ثيابي من بدني، ووصلتك وأجلستك في إيوان مسلمة بن عبدالملك (وهو أمير أموي). فقال إبراهيم: «يا سيدي ما ذهب عليَّ شيء من تفضلك وإن نعمك عندي لأكثر من أن تحصى». 

كما غنى إبراهيم الموصلي للخليفة الأمين (ت 198هـ)، فقد غناه مرة بشعر قاله الحسن بن هانئ، ومما جاء فيه:

يـــا‭ ‬أمـينَ‭ ‬اللهِ‭ ‬عِـشْ‭ ‬أبـدًا

دُمْ‭ ‬على‭ ‬الأيامِ‭ ‬والزمـنِ‭ ‬

أنـت‭ ‬تبـقـى‭ ‬والـفـناءُ‭ ‬لنا

فــإذا‭ ‬أفـنـيـتـنـا‭ ‬فـكـــــنِ‭ ‬

سِنْ‭ ‬للناس‭ ‬القِرى‭ ‬فقَرْوا

فـكـأنّ‭ ‬الـبـخـلَ‭ ‬لـم‭ ‬يـكـنِ

 

إنجازات‭ ‬إبراهيم‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الغناء‭ ‬والموسيقى

كان إبراهيم الموصلي ظاهرة فنية، حيث جمع في شخصه بين الغناء والشعر والموسيقى والخطابة. ويمكن أن نشير إلى بعض إنجازاته، على سبيل المثال لا الحصر، ومنها: 

 برع إبراهيم الموصلي في وضع الألحان وتنسيقها حتى توهَّم أن الأرواح هي التي تعلّمه الأصوات، ويقول ابنه إسحاق، كما يروي الأصفهاني، إن والده وضع تسعمائة لحن منها: ثلاثمائة  فاق فيها الناس جميعًا، وثلاثمائة  شاركوه وشاركهم فيها، أما الثلاثمائة الباقية، فكانت لعبًا وطربًا. وأكد ابن خلكان في «وفيات الأعيان» ذلك بقوله: «إنه لم يكن في زمان إبراهيم الموصلي مثله في الغناء واختراع الألحان». 

كان إبراهيم الموصلي أول من علَّم الجواري الغناء، وبالتالي رفع من أقدارهن وأثمانهن، حتى غدا ثمن الجارية - بعد أن تتعلم الغناء والموسيقى وتحفظ الشعر- مبلغًا باهظًا. فقد باع إبراهيم نفسُه الرشيدَ جارية بمبلغ ستة وثلاثين ألف دينار. ولهذا هجا بعض الشعراء إبراهيم الموصلي لأنه تسبب في غلاء القيان (أي الجواري المغنيات)، حيث قال أحدهم: 

لا‭ ‬جزى‭ ‬الله‭ ‬الموصلي‭ ‬أبا‭ ‬إسحاق‭ ‬

عنا‭ ‬خيرًا‭ ‬ولا‭ ‬إحسانا

جاءنا‭ ‬مرسلًا‭ ‬بوحي‭ ‬من‭ ‬الشيطان

أغلى‭ ‬به‭ ‬علينا‭ ‬القيانا‭ ‬

لم تقتصر إنجازات إبراهيم الموصلي على الغناء والتلحين وتعليم الجواري فحسب وإنما كان صاحب مدرسة في الغناء تخرَّج فيها عدد من أقطاب المغنين الذين انتشروا في مشرق العالم الإسلامي ومغربه حاملين معهم أغانيه وألحانه وشعره. ومن أبرز هؤلاء التلاميذ، بعد ابنه إسحاق، نذكر برصوما وزلزل، وهما من أهل الكوفة، وكان إذا اجتمع برصوما بمزماره وزلزل بعوده مع أستاذهما إبراهيم الموصلي في مجلس الرشيد يهتز لهما المجلس فيأتون بالعجب العجاب، وقد رفعهما الرشيد إلى الطبقة الأولى. ومن الذين تخرجوا في مدرسة إبراهيم نذكر أيضا «علوية» الذي كان مغنيًا حاذقًا وضاربًا بارعًا على العود، وكذلك نذكر «مخارق» الذي برع في الغناء وأجاد، وكان من ندماء الرشيد والواثق والبرامكة.

كان إبراهيم الموصلي يقوِّم غناء الجواري بناء على طلب أسيادهن من خلفاء وأمراء. ويذكر ابن خلكان أن الخليفة المأمون (ت 218هـ) طلب من إبراهيم أن يسمع غناء جاريـة له اسمها «نغم» وأن يُصلح ما يأخذه على غنائها، فغنت أبياتًا منها:

وزعمتِ‭ ‬أنّي‭ ‬ظالمٌ‭ ‬فهجرتني‭ 

ورميتِ‭ ‬في‭ ‬قلبي‭ ‬بسهمٍ‭ ‬نافذِ‭ ‬

فأعجب إبراهيم بغنائها، ومن ثم طلب الخليفة منه أن يلحّن بعض الأغاني ويدرب «نغمًا» عليها. والمعروف عن إبراهيم الموصلي أنه كان حازمًا في التقويم. ولا يسمح لأحد أن يتدخل في هذا الأمر، وكان يقول دائمًا: 

ليت‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يحسن‭ ‬العلم

كـفـانـا‭ ‬شــر‭ ‬علـمه‭ ‬

لم يتردد الموصلي في جعل مواهبه الفنية في خدمة الحياة الخاصة للخلفاء، فيروي صاحب «الأغاني» أن الرشيد غضب على إحدى زوجاته، وهي ماردة، وتمادى الهجر بينهما أيامًا فغنى إبراهيم أبياتًا للعباس بن الأحنف كتبها لهذا الغرض، وفيها:

راجع‭ ‬أحِبّتكَ‭ ‬الذين‭ ‬هجرتَهُمْ‭ ‬

إنّ‭ ‬الــمـــتــيــمَ‭ ‬قـــلــّمـا‭ ‬يـتـجـنـب‭ ‬

إنّ‭ ‬التجنبَ‭ ‬إن‭ ‬تطاولَ‭ ‬منكما

دبّ‭ ‬السلوُّ‭ ‬فعــزَّ‭ ‬المطلب‭ ‬

ونجح إبراهيم بذلك في إعادة الوئام بين الخليفة وزوجته.

 

ثروة‭ ‬إبراهيم

جمع إبراهيم الموصلي في حياته ثروة ضخمة، قدّرها ابنه إسحاق بأكثر من ستة وعشرين مليونا من الدراهم، وهي حصيلة غلاّت ضِياعه وبيع جواريه واحتكاره غناء شعر «ذي الرمّة»، هذا فضلاّ عن مرتّبه من قصر الخلافة وقدره عشرة آلاف درهم شهريًا. وقد أنفق إبراهيم هذه الثروة في حياته على مأكله ومشربه وطيبه وكسوته ونفقة جواريه. كما كان كريمًا على أصدقائه ومعارفه وعلى فقراء الناس.

 

وفاة‭ ‬إبراهيم

مات إبراهيم الموصلي عام 188هـ  في بغداد. وكان الرشيد قد زاره أثناء مرضه. وقد رثاه الشعراء والمغنون، ومما قاله ابنه  إسحاق في رثائه:

أقـول‭ ‬لـه‭ ‬لـمـا‭ ‬وقــفـت‭ ‬بقـبره‭ 

عـلـيـك‭ ‬سـلام‭ ‬الله‭ ‬يـا‭ ‬صاحب‭ ‬القبر‭ ‬

وقد‭ ‬كنت‭ ‬أبكي‭ ‬من‭ ‬فراقك‭ ‬ليلة‭ ‬

فكيف‭ ‬وقد‭ ‬صار‭ ‬الفراق‭ ‬إلى‭ ‬الحشر

 

إسحاق‭ ‬الموصلي‭ ‬وتكوينه‭ ‬العلمي

 تابع إسحاق رسالة والده الفنية، ورغم أنه كان قد ورث عنه موهبة الغناء والموسيقى والشعر، وكان أستاذه الأول في هذه الميادين، فإن إسحاق فاق والده في جوانب علمية أُخرى. مثل اللغة والفقه والحديث. فقد كان من أساتذته في اللغة والأدب الكسائي والفرّاء والأصمعي وأبوعبيدة، وفي الغناء والده وعاتكة بنت شهدة، وفي العزف على العود منصور زلزل وغيرهم. وإذا كان لإسحاق نظراء وأكفاء في كل الميادين التي أتقنها إلا أنه لم يكن له نظير في ميدان الغناء والموسيقى، فهو إمام أهل صناعة هذا الميدان جميعًا ورأسهم ومعلمهم، ويعرف ذلك عنه الخاص والعام.

 

مكانة‭ ‬إسحاق‭ ‬عند‭ ‬الخلفاء

 كان إسحاق موضع احترام وتقدير الخلفاء العباسيين الذين عاصرهم، ولم يكن هؤلاء ينظرون إليه على أنه أحد المغنين العاملين في بلاطهم، وإنما حظي بإعجابهم لثقافته وأخلاقه، فقد كان يحدثهم في الأدب وأحاديث العرب وأيامهم والمغنين والقيان والشعراء والمحدثين، هذا بالإضافة إلى الغناء. وكان الرشيد في مقدمة الخلفاء الذين أعجبوا بإسحاق أيّما إعجاب، حتى بلغ الأمر بهذا الخليفة أنه منع إسحاق من أن يغني أحدًا سواه، ثم أذن له، بعد حين، أن يغني لوزيره جعفر البرمكي دون كل رجال الدولة. وقد التزم إسحاق بما أمر به الخليفة. وقد قابل الرشيد إخلاص إسحاق له لا باحترامه وتقديره فحسب، وإنما بحمايته من أولئك الذين كانوا يتربصون به الدوائر ويحسدونه على مواهبه ومحبة واحترام الخلفاء والأمراء له، وكان على رأس هؤلاء جميعا المغني إبراهيم بن المهدي، وهو أخ غير شقيق للخليفة الرشيد. وشاءت المصادفات أن يلحظ الرشيد بنفسه في أحد مجالسه ما يضمره أخوه هذا من شر لإسحاق الموصلي، فاستدعاه وهدده بألا يُلحق به الأذى. ومما قاله الرشيد له في هذا الصدد «والله العظيم وحق رسوله لئن أصاب إسحاق أحد بسوء أو سقط عليه حجر من السماء أو سقط من على دابته أو سقط عليه سقفه أو مات فجأة لأقتلنك به» ثم طرده من مجلسه. كما كان إسحاق موضع إعجاب الخليفة المأمون وتقديره، بل كان إسحاق يُزيَّن مجلس هذا الخليفة المثقف. وقد قال المأمون يومًا في مجلسه، وإسحاق غائب عن هذا المجلس: «لولا ما سبق على ألسنة الناس واشتهر به عندهم من الغناء لولَّيته القضاء، فما أعرف مثله ثقة وصدقًا وعفة وفقهًا». 

وعاصر إسحاق الموصلي، في أواخر أيامه، الخليفة المتوكل على الله (ت 247 هـ). وكان إسحاق قد كَُفَّ بصره ويقيم في بغداد. وكتب المتوكل بإحضاره إلى سامراء، حيث يقيم الخليفة، فلما دخل عليه إسحاق رفعه حتى أجلسه أمام السرير وأعطاه مخدة، ثم قال المتوكل: هاتوا لأبي محمد عودًا، فاندفع إسحاق يغرد بصوته وشعره وألحانه.

 

إنجازات‭ ‬إسحاق‭ ‬في‭ ‬ميداني‭ ‬الغناء‭ ‬والموسيقى

من الصعوبة حصر كل إنجازات إسحاق الموصلي في  هذا الميدان، ولهذا سنكتفي بالإشارة  إلى بعضها:

 وضع إسحاق ألحانًا جديدة تقدر بنحو أربعمائة لحن، وقد انتشرت هذه الألحان، حتى أن المغنين والناس كانوا يتهادونها كما يتهادون الأشياء المادية.

 صحح إسحاق أجناس الغناء وطرائقه ومّيزه تمييزًا لم يقدر عليه أحد قبله، ويقول صاحب الأغاني: «كان إسحاق أعلم أهل زمانه بالغناء وأنفذهم في جميع فنونه وأجودهم صنعة».

كان إسحاق يتقن العزف على كثير من آلات الغناء والموسيقى، ويؤكد الأصفهاني ذلك بقوله: «إن إسحاق كان أضرب أهل زمانه بالعود وبأكثر آلات الغناء».

 كان إسحاق أقدر معاصريه، من المغنين والموسيقيين، على اكتشاف الألحان الرومية والفارسية التي كان يُدخلها بعض المغنين في غنائه للشعر العربي.

كان إسحاق الموصلي، مثل والده، صاحب مدرسة في بغداد خرّجت عددًا كبيرًا من أمهر المغنين والموسيقيين، ولعل أبرزهم زرياب الذي تعلَّم على أيدي الموصليين في بغداد، كما يقول ابن خلدون، ثم ارتحل إلى بلاط الأغالبة في القيروان ومنها إلى الأندلس، حيث حظي باحترام وتكريم الأمير الأموي عبدالرحمن الأوسط (ت 238هـ). وقد أسس زرياب في قرطبة مدرسة للغناء والموسيقى لعبت دورًا مهمًا لا في الأندلس فحسب وإنما في الغرب الأوربي أيضًا.

كان إسحاق من أقدر الموسيقيين على اكتشاف خطأ أحد العازفين على العود، حتى لو كان يعزف ضمن فرقة تضم عددًا كبيرًا من العازفين، فيروي الأصفهاني أن إسحاق أشار إلى خطأ إحدى العازفات على العود في مجلس المأمون وبحضوره، وكانت الفرقة التي تعزف تضم عشرين عازفة مما أدهش الخليفة وأثار إعجابه.

لم يتردد إسحاق - كما هو حال والده - في استخدام فنه لنشر الفرح والبهجة في نفوس الخلفاء، فيروي الأصفهاني أن الأصمعي دخل يومًا على الرشيد ومعه إسحاق الموصلي، فرأياه لَقِسَ النفس فأنشده إسحاق قائلًا:

أرى‭ ‬الناسَ‭ ‬خلاّنَ‭ ‬الكرامِ‭ ‬ولا‭ ‬أرى‭ ‬

بخيـلًا‭ ‬لـهُ‭ ‬حتى‭ ‬المماتِ‭ ‬خليلُ‭ ‬

وإني‭ ‬رأيـتُ‭ ‬الـبـخـلَ‭ ‬يزري‭ ‬بأهلهِ‭ ‬

وأكرمتُ‭ ‬نفسي‭ ‬أن‭ ‬يُقال‭ ‬بخيلُ‭ ‬

فِـعـالـي‭ ‬فِـعـالُ‭ ‬الـمُـكثرين‭ ‬تجمّـلًا‭ ‬

ومـالـي‭ ‬كـمـا‭ ‬قـد‭ ‬تعلمين‭ ‬قليلُ‭ ‬

وكيف‭ ‬أخافُ‭ ‬الفقرَ‭ ‬أو‭ ‬أُحرمُ‭ ‬الغِنى

ورأيُ‭ ‬أمـيـرِ‭ ‬الـمـؤمنينَ‭ ‬جميلُ‭ ‬

 ترك إسحاق الموصلي مؤلفات عديدة ذكرها ابن النديم في كتابه «الفهرست» بعضها يتحدث عن الغناء وأخبار المغنين مثل كتاب «الأغاني الكبير» الذي صنفه إسحاق أو صنفه  له أحد المغنين، وكتاب «أخبار طويس» وكتاب «أخبار معبد» وغيرها، وبعضها الآخر يتحدث عن أخبار جماعة من الشعراء مثل كتاب «أخبار حسان» وكتاب «أخبار ذي الرمة» وكتاب «أخبار جميل» وغيرهم.

 

وفاة‭ ‬إسحاق

 توفي إسحاق عام 235هـ عن عمر ناهز الخامسة والثمانين (150-235هـ). ولقد حزن على وفاته الخليفة المتوكل والمغنون والناس جميعًا. وقال الخليفة «ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته».

 

الخاتمة

ترك «آل الموصلي» تراثًا فنيًا  أصيلًا ومتنوعًا وقد تناقلته من بعدهم أجيال من المغنين والموسيقيين والشعراء، ولم تزيّن إبداعاتهم الحضارة العربية في العصر العباسي فحسب، وإنما شكَّلت عنصرًا حيًا في التراث العربي الإسلامي كله. فقد جعلوا للغناء والمغنين مكانة مرموقة في المجتمع، ورفعوا مستوى الذوق الفني عند الخاصة والعامة، وطوروا الغناء والشعر الغنائي والموسيقى ووضعوا لها الأصول والقواعد، حقا كان تراث «آل الموصلي» صفحة مشرقة في تاريخ الغناء العربي .