الشاعر خالد الفرج.. المُصْلِح الثَّائر

الشاعر خالد الفرج.. المُصْلِح الثَّائر

كتبت‭ ‬مقالات‭ ‬ودراسات‭ ‬نقدية‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬الكويت‭ ‬وأثرهم‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الأدبية‭ ‬والسياسية‭ ‬ونظرتهم‭ ‬إلى‭ ‬الأحداث،‭ ‬وكيف‭ ‬صاغوا‭ ‬وجدان‭ ‬القرّاء‭ ‬عن‭ ‬رؤيتهم‭ ‬للبحر‭ ‬والصيادين‭ ‬والبيوت‭ ‬القديمة‭ ‬والعادات‭ ‬والقيم‭ ‬الوطنية‭ ‬والإنسانية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬زمانهم‭. ‬

لكن يظل الشاعر خالد الفرج يحتل مكانة خاصة في قلبي وأفكاري، وذلك لأني قرأت قصائده وشاهدت من خلالها بعض ملامح الكويت القديمة وتخيّلت كيف كان يصف في شعره أهم الوقائع التي تعتبر الآن سمة تاريخية في مسيرة الكويت، مثل مشهد جلب الماء من العراق وتزاحم الناس وعراكهم للحصول عليه.

 

مسيرة‭ ‬حياة

يرى بعض النقاد والباحثين أن الشاعر خالد الفرج يعتبر من شعراء الجيل الثاني بعد عبدالله الفرج وخالد عبدالله العدساني وصقر الشبيب وفهد العسكر وعبداللطيف النصف. وقد ولد في الكويت من أسرة دوسرية هاجرت من البحرين للكويت، وكان جده تاجرًا يسافر بين الهند والخليج، والتحق بالمدرسة المباركية وتفوق في دراسته وقام بالتدريس في المدرسة بعد ذلك. في تلك الفترة قرأ في الأدب والثقافة والكتب التراثية وتزوّد بالمعرفة وعلوم العرب وآدابهم. سافر إلى الهند للتجارة، وقضى سنوات عدة هناك ودرس في مدرسة أنجمن إسلام الخيرية في بومباي وتعلم الإنجليزية واللغات الهندية، وقرأ في آداب الهنود وطبائعهم. أتاحت له الظروف أن يسافر إلى البحرين فالتقى بأفراد قبيلته التي ينتسب إليها، فأتاح له ذلك أن يقضي سنوات كثيــــرة في البحرين، وقد توافرت له الحياة الطيبة والعيش الكريم والحرية ليشارك في النهــضة الأدبية والفكرية.

 

رحلة‭ ‬البحرين

أصبح خالد الفرج في البحرين شخصية مرموقة وشاعرًا مشهورًا، وعمل أستاذًا في مدرسة الهداية الخليفية، كما أن حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة قرب الشاعر إليه وعطف كثيرًا عليه وجعله عضوا في المجلس البلدي في البحرين.

 

حياته‭ ‬بالسعودية

سافر خالد الفرج إلى السعودية بعد أن اصطحب معه صديقه الباحث هاشم الرفاعي، وتولى خالد إدارة مالية القطيف, ورحّب به الملك عبدالعزيز وولاه على بلدية الإحساء، وبالطبع حقق شهرة كبيرة في السعودية واقترب منه الأدباء والشعراء، وأشرف على الإذاعة وألقى محاضرات عدة، كما أنشأ مطبعة هي «المطبعة السعودية». وعاش فترة من السنوات دوّن فيها ملحمة كبيرة في سيرة الملك عبدالعزيز بن سعود منذ ولادته يقول فيها:

إلى‭ ‬مجدك‭ ‬العلياء‭ ‬تعزَى‭ ‬وتنسب

وفي‭ ‬ذكرك‭ ‬التاريخ‭ ‬يملى‭ ‬ويكتب

وفي‭ ‬عدلك‭ ‬الشرع‭ ‬الشريف‭ ‬ممثل

وفي‭ ‬حكمك‭ ‬الأمثال‭ ‬تتلى‭ ‬وتضرب

 

صورة‭ ‬الكويت

تتجلى الكويت صورة وطنية واجتماعية في شعر خالد الفرج، فقد كان يحب الكويت ويشعر بالفخر, لأنه ولد على أرضها، وهي مهد آبائه والأرض التي ترعرع بين نخيلها وأغصانها، وشهدت طفولته وصباه فيقول عنها:

وطني‭ ‬ومهد‭ ‬أبي‭ ‬ومسقط‭ ‬رأسي

أهواه‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬الأنفاس

وكان يتألم للحوادث التي تصيب وطنه الكويت، فيكتب عنها بقلب يقطر ألمًا وحزنًا ويدعو قومه إلى الخروج من هذه المحن بطلب العلم والقضاء على الجهل. كان خالد الفرج شاعرًا يسجل واقع الحياة من حوله واتخذ شعره أداة للوعظ وتهذيب النفوس, فتحول إلى أحد رجال العلم والإصلاح الاجتماعي يتحمل مسئولية بلاده ونهضتها وتحررها من العادات والمعتقدات البالية التي ما عاد لها مكان في العصر الحديث.

وقد جاءت قصائده في لغة حادة تدافع وترصد الظاهرة الاجتماعية وتنتقد أحوال الأفراد وتوضح لهم أفضل السبل نحو مجتمع وحياة أكثر تقدمًا.

فكتب عن أهمية العلم في حياة الشعوب:

فالعلم‭ ‬للشعب‭ ‬الضعيف‭ ‬معزز

ومحرر‭ ‬من‭ ‬غاضب‭ ‬أو‭ ‬ناهب

لا‭ ‬خير‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬يشيب‭ ‬شبابه

لم‭ ‬يسمعوا‭ ‬بمدارس‭ ‬ومكاتب

 

التيار‭ ‬الوطني

هذه القصائد حفرت في وجدان قومه تيارًا وطنيًا ظل خالد الفرج يحاول غرسه في النفوس وتعميقه في الروح والوطن، فهو يحلم أن يرتقي أبناء وطنه ويحققوا مزيدًا من التطور والنهضة الاجتماعية، وينحصر إيمانه بأن التغيير يأتي بالعلم, لأنه سبيل الشعوب نحو غايات وأمجاد عظيمة.

وإذا قرأت قصائده وجدتها مرآة لمعاناة أبناء وطنه في تلك الفترة قبل اكتشاف النفط حينما كانت السفن تنقل الماء من شط العرب, ويتصارع الجميع لحمل هذا الماء في موقف مؤثر يثير شفقة الشاعر على قومه, فيكتب عن هذا المشهد ويصف المأساة ويقول:

أعرني‭ ‬سمعك‭ ‬الواعي‭ ‬فإني

لَمحتاج‭ ‬لسمع‭ ‬منك‭ ‬واع

هناك‭ ‬ترى‭ ‬الجموع‭ ‬على‭ ‬‮«‬بوَيم‮»‬

به‭ ‬وشَلٌ‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬الذراع

فكم‭ ‬من‭ ‬حرة‭ ‬غرقت‭ ‬وحر

رماه‭ ‬لمائِهِ‭ ‬صاعا‭ ‬بصاع

وقد‭ ‬ظمئ‭ ‬الضعيف‭ ‬وكاد‭ ‬يقضي

وصار‭ ‬الماء‭ ‬للبطل‭ ‬الشجاع

 

معركة‭ ‬البقاء

تلك هي معركة من أجل الماء وصراع الرجال الأقوياء والضعفاء حتى يفوز البطل الشجاع، وتسيطر على الشاعر هنا عاطفة ممزقة لهول هذه الصورة وبشاعاتها إذ تنتفي منها كل الملامح الإنسانية، إنها معركة يموت فيها مَن يموت ويسقط من يسقط ولا أحد يبالي، فهناك هدف لكل من يسعى, وهو أن يحصل على الماء لنفسه, ولكن الشاعر يحاول أن يبصّر هؤلاء بأن الكويت ليست بحاجة إلى الماء بقدر حاجتها إلى حب أهلها وتعاونهم وتوحّدهم أمام مواجهة الأزمات:

أراكم‭ ‬تجلبون‭ ‬القوت‭ ‬جلبا

وأعلى‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المتاع

وأمكم‭ ‬الكويت‭ ‬تئن‭ ‬عطشَى

ألا‭ ‬فلتنع‭ ‬عقلكم‭ ‬النواعي

مملكة‭  ‬الشعر

هل قصائد خالد الفرج هي مملكة عذابه؟، هل ظل داخل حدود هذه المملكة الشفافة محدود الانطلاق، ضئيل الصوت ممزق الوتر؟ بالطبع الشاعر يترجم ويرمز لكل ما في الحياة من جمال وقبح وخير وشر وجمال وكراهية، ويرمز لهذه المعاني ويفتح طاقات أمام الإنسان في كل بقعة من العالم.

فإذا استطاع خالد الفرج أن يكشف بعض الخلل الاجتماعي الذي يسيطر على قومه في صورة شعرية عالية الحس والإيحاء، فقد تمكن من أن يرسل صوته الشعري إلى كل إنسان في الوجود، وعندما تجتمع الدول الكبرى لتقرر حقوق الإنسان، يقول لهم ساخرًا:

من‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬قل‭ ‬لي

ثم‭ ‬ما‭ ‬تلك‭ ‬الحقوقْ‭?‬

ولماذا‭ ‬قرروها

وبها‭ ‬منهم‭ ‬خروق‭?‬

أمــم‭ ‬الدنيا‭ ‬توافت

لم‭ ‬تميزها‭ ‬فروقْ

 

فلسفته‭ ‬الشعرية

ويمكن أن نقول إن خالد الفرج امتد إحساسه الشعري خارج البيئة الخليجية ليمزج ذاته في فكره ومآسي الشعوب الأخرى، فالقصيدة تتجاوز نطاق المحلية لتذوب في الواقع الإنساني العام.

ولخالد الفرج فلسفة بثها في أشعاره بالرغم من الحياة الحافلة بالتجارب والمدن والبلاد التي زارها، والوظائف التي تقلّدها وسعة العيش وترفه والثراء الذي عاش فيه، إلا أن هذا لم يؤثر في فلسفته التي اتخذها منهاجًا حياتيًا يسير عليه.

هذه الفلسفة نابعة إلى حد ما من تأثيره بالحياة الصوفية في الهند والدور الذي قام به غاندي من أجل السلام واستقلال الهند من الاستعمار الإنجليزي, بالإضــافة إلى نشأة الشاعر وطفولته, حيث درس علوم الـــقرآن الكريم وحفظ الأحاديث النبوية، ودرس الفقه والسيرة. فكانت هـــذه الأســـبـــاب هي الـــتــــي زرعت في ذاته القــيم الأخلاقـــــية والفــــلسفة التي لا تهتم كـــثيرًا بجمع المال أو متع الحــياة والقـــصـــــور والكنوز، بل هي فلسفة القناعة والزهد ورفض كل مظاهر الحياة الكاذبة، وتألف حلمه في خلود روحه عند الله بعد مماته وصفاء نفسه من شوائب الدنيا فيقول:

ليَ‭ ‬أحلامي‭ ‬وأحلامك‭ ‬سودٌ‭ ‬في‭ ‬الشقاءِ

إنني‭ ‬أنشد‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬الخلود‭ ‬مع‭ ‬البقاء

 

رمز‭ ‬الدولار

ويحدّثنا عن الدولار كيف سيطر على البشر وصار يتحكم في الشعوب ويفسد النفوس والبلاد، هذا الدولار الذي يرمز إلى سطوة الغرب علينا وإخضاعنا له بحيث أصبحنا تابعين للتيار الفكري الغربي.

إن الدولار هو هذا المستعــــمر الـــــذي يغـــــزو أرضنا ويدمّر اقتصادنا، ولا شك في أن وصفه لهذا الدولار بتلك السخرية يثــــير الضحـــــك، فلا ندري هل هذا من شعــر الفــــكاهـــــة أم الســـخــــرية المريرة، ورب ضحك هو أقرب للبكاء:

نرى‭ ‬الجبّار‭ ‬والكبار

حين‭ ‬يرونه‭ ‬صغروا

به‭ ‬الأوطان‭ ‬قد‭ ‬بيعت

به‭ ‬الذمات‭ ‬تحتكرُ

 

الملحمة‭ ‬الشعرية

وكتب خالد الفرج في الحرية والجهاد، حيث عاش نماذج من هذه البطولة في المملكة العربية السعودية، وشاهد كيف جمع عبدالعزيز بن سعود شمل البلاد ووحّد أجزاءها، ولذلك قدم ملحمته عن السعودية.

والملحمة هي قصيدة طويلة موضوعها البطولة وأسلوبها سام، وتهدف إلى تمجيد مُثل جماعية عظيمة سواء كانت دينية أو وطنية أو إنسانية بسرد مآثر بطل حقيقي أو أسطوري تتجسّد فيه هذه المثل، وملحمة خالد الفرج عن السعودية تتغنى بالبطولة العربية التي يتمنى أن تمضي وتنتشر في كل الأراضي.

وعندما كان يموت أحد هؤلاء الرجال الذين يرمز لهم بالبطولة والإصلاح والمآثر الطيبة مثل الشيخ عبدالله الخلف والشيخ عبدالوهاب بن حجي الزياني زعيم البحرين الذي توفي في المنفى بعد أن قاوم الاستعمار، وكذلك أمين الرافعي الذي ندد بفظائع الاستعمار على صفحات جريدة «الأخبار» في مصر.

فكانت قصائد خالد الفرج لا تلجأ إلى الرثاء بقدر ما تسرد سيرة هذا البطل وتخلد مواقفه الشجاعة وآثاره الشعبية، فيقول في الشيخ عبدالوهاب حجي:

بطل‭ ‬الجهاد‭ ‬ضحية‭ ‬الأوطان

لك‭ ‬في‭ ‬الشهادة‭ ‬رتبة‭ ‬الرضوان

لا‭ ‬تبعدن‭ ‬وإن‭ ‬نأى‭ ‬بك‭ ‬مضجع

فالبعد‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬الصفي‭ ‬تدان

إن‭ ‬مت‭ ‬مبتعدًا‭ ‬فذكرك‭ ‬خالد

متجدد‭ ‬بتجدد‭ ‬الأزمان

 

شعر‭ ‬الوجدان

وفي الاتجاه الوجداني لم يغرق الشاعر في ذاته ويسبح في بحر الخيال الضائع وراء الأحلام، بل إنه يتذوق الحب من خلال وجود البشر والفرحة على شفاههم، لذلك فإن عالمه الوجداني وثيق الصلة بواقع الناس حوله، وإلا فكيف يهنأ بالحب وهناك من يقاوم المحتل أو هناك من تسفك دماؤه وتهدر كرامته، يقول خالد الفرج من قصائده الوجدانية:

اصبري‭ ‬ريثما‭ ‬يسري‭ ‬نسيمُ‭ ‬السَّحرِ

وانظري‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬الليلِ‭ ‬شعاع‭ ‬القمرِ

ومتى‭ ‬هبَّ‭ ‬النسيمُ‭ ‬

وتمادى‭ ‬كالسقيمِ

مسرعة‭ ‬نحو‭ ‬أدراج‭ ‬النعيم‭ ‬

فاذهبي

تجديني‭ ‬

حيث‭ ‬كنا‭ ‬

نشرف‭ ‬الحبَّ‭ ‬القديم

 

ملامح‭ ‬فنية

وعن الملامح الفــنية للشاعـــر خالد الفرج فإن قصائده - بالطبع - تقليدية يغلب عليها الاتجاه الذي كان سائدًا في عصره، فقد كانت البيئة تعاني الجمـــود وهيمنة الأساليب الإنشائية والاتجاهات التقريرية على بناء القصيدة. ولكن الشاعر تغلَّب عليه الحماس وتسود في شعره عاطفة وطنية وقومية، وقد حاول التجديد في استخدام قواف متنوعة ولوازم إيقاعية مختلفة، وإذا كانت محاولاته تلك لم تمثل ظاهرة فنية بارزة، إلا أنها تعد مقياسًا للعصر الذي عاش فيه ذات أهمية كبرى، وقد كان ذلك نتيجة رحلاته واختلاطه بالشعراء في كل بلد عربي، واطلاعه على الحركات الشعرية الحديثة في هذه البلاد، مما دفعه إلى التصرّف في الأوزان والأغراض القومية والإنسانية، فلم يعبر عن قضايا وطنه الكويت، بل عن قضايا الخليج والجزيرة العربية، وانطلق من هذا الواقع المحلي والإقليـــمي إلى نطاق الأمة العربية، فكــتب عن نضال الشعوب في كل مكان، إلى أن احتل الجانب الإنساني معظم أشعاره.

 

رحيل‭ ‬الشاعر

توفي خالد الفرج في لبنان بعد أيام من مرضه عام 1954، وترك من أعماله الشعرية ديوان شعره «الجزء الأول»، وملحمته الشعرية في سيرة الملك عبدالعزيز بن سعود وهي جزءان، وكتاب «رجال الخليج»، وهو عبارة عن تراجم لمشاهير الرجال في الخليج، وكتاب «ديوان النبط» وهو مجموعة من شعر العامية، وبعض محاضراته التي ألقاها في البحرين والسعودية بالإضافة إلى كتاب «علاج الأمية» ولايزال صوت الشاعر خالد الفرج يسكن القلب والوجدان، فقد كان وسيظل من أهم شعراء الكويت في نهضتها المبكّرة .