الدعوة إلى سلامة اللغة العربية وتجارب الشعوب الأخرى
الدعوة إلى الاهتمام باللغة العربية دعوة مستمرة، تعقد لها المؤتمرات، وتقام لها الندوات والحلقات الدراسية في المجامع العلمية والجامعات ووزارات الثقافة والإعلام. فما الضرورة المستمرة الداعية إليها؟ وهل هي دعوات مُبالغ فيها؟ أم أنها دعوات مخلصة تضيع في مهب صيحات غير مبالية باللغة العربية، وما علاقة الدعوة إلى سلامة اللغة العربية بالأوضاع المتردية التي نشهدها في بلادنا العربية؟
للإجابة عن هذه التساؤلات نبدأ بالبحث عن معنى السلامة لغة واصطلاحا. معاني السلامة في اللغة لها دلالات مهمة تقرِّب سبب العناية بسلامة اللغة: فالسلام والتحية معناهما واحد: وهو الدعاء بالسلامة من جميع الآفات، يقال سلم من مرضه إذا تعافى. وعاد من سفره سالما أي صحيحا، بلا مرض أو علة, والسلام من أسماء الله الحسنى، لسلامته سبحانه وتعالى من أي عيب أو نقص، ولاجتماع معاني الخيرات فيه، وانتفاء عوارض الفساد عنه.ومنه قيل للجنة دار السلام؛ لأنها دار السلامة، والخلو من كل ما ينغص الحياة الأخروية, والسلامة: البراءة من العيوب.
السلامة اصطلاحا: البراءة من الخطأ واللحن، وقد شاع بين الباحثين في سلامة اللغة العربية تعبير «الأمن اللغوي»، فكما يقال الأمن الغذائي، والأمن الاجتماعي، يقال: الأمن اللغوي، ومثلما يعمل المسئولون عن التخطيط للمحافظة على البيئة (الأمن البيئي)، والتخطيط لتوفير الغذاء للشعوب وتنميته (الأمن الغذائي)، والتخطيط للحفاظ على المجتمع وهيكلته وقيمه (الأمن الاجتماعي)، كذلك يجب العمل للتخطيط لأمن اللغة (الأمن اللغوي).
فهل اللغة العربية مهددة، لتحتاج إلى من يبحث عن سلامتها، وهل نحن بحاجة إلى ندوات ومؤتمرات، وبحوث تستقصي مقومات سلامة اللغة العربية؟
القضية ليست وليدة عصرنا هذا فقط، وإنما كتب فيها القدماء والمحدثون تحت مسمى اللحن وما تخطئ فيه العامة، لكنها صارت ظاهرة أكثر شيوعا وأشد خطرا في عصرنا لتلازمها مع فتن أخرى تهدد وجود الأمة وكيانها.
اللغة هي هوية الأمة
حياة اللغة - أي لغة - هي حياة المتحدثين بها، وخمولها وضعفها هو ضعف في نفوس الناطقين بها. ومعلوم أن الأمة إذا كانت قوية تحافظ على لغتها، وإذا ضعفت فرّطت بلغتها، وحين تكون الأمة قوية يتسابق من يعيش بين ظهرانيها لتعلُّم لغتها، ويحاول تعلمها من يريد التواصل معها من الأجانب.
لقد انتشرت اللغة العربية في بقاع الأرض يوم كان للعرب وجود وسلطان. وقد صمدت اللغة العربية قرونا طويلة بفضل انفتاحها المستمر على الثقافات والحضارات. واستوعبتها وعبَّرت عن العلوم والفنون في شتى العصور. عاشت اللغة العربية أكثرمن خمسة عشر قرنا معبِّرة عن شتى العلوم والمعارف في أزمان متفاوتة، وبيئات مختلفة بفضل قدرتها على التطور، ولما تتميز به من ميزات لغوية تتمثل في قدرتها على الاشتقاق والتطور، ومرونتها في التعريب والترجمة.
ومنذ أن امتد الإسلام إلى ربوع العالم شرقا وغربا، صارت اللغة العربية لغة التواصل بين الشعوب المختلفة الانتماءات، المتنوعة القوميات.
وظهر من بلدان هذه المناطق شوامخ في الفكر والأدب، كان نتاجهم باللغة العربية، سواء كانوا عربا أو من أصول غير عربية، نذكر منهم مؤلفي كتب الصحاح وأسانيد الحديث الشريف، وعمالقة في الأدب والشعر.
والمهم أن هذا التراث الثرّي في اللغة والأدب والعلوم المختلفة كتب باللغة العربية.
ولاتزال دول جمهوريات آسيا الوسطى مهتمة باللغة العربية، كأوزبكستان، وقرغيزستان، وتركمانستان، وأذربيجان. فضلاً عن مجموعة الدول الوسط آسيوية الصغرى، لا لشيء إلا لأن أهلها يعتزون بها لأنها لغة القرآن الكريم.
وتكتب بعض الدول الإسلامية بالحرف العربي وتسمّيه الحرف الشريف (باكستان وأفغانستان وتركيا وإيران).
وصمدت اللغة العربية أمام الحكام الأعاجم، وفرضت نفسها؛ لأنها لغة المثقفين ولغة العلم والفنون، وصار الحكام الأعاجم يتسارعون إلى تعلُّم العربية، ويتقنونها أو يتظاهرون بحبهم لها، وتقريب العلماء والأدباء.
وحين سيطر البويهيون على بغداد احتاجوا في أول أمرهم إلى من يترجم لهم، ثم أتقن الجيل الثاني منهم «العربية»، وآثر استخدامها لغة للعلم والثقافة، حتى عُدّ عضد الدولة من علماء «العربية».
ومن يقرأ الأدب في القرن الرابع الهجري يذهل لكثرة الإبداع الأدبي واللغوي، لأن المثقفين ممن حملوا رسالة «العربية» من الأدباء والعلماء كانوا يحترمون لغتهم ولم يتخلوا عنها، وفرضوا هذه اللغة على الحكام الأعاجم.
واستمرت اللغة العربية لغة الدولة والسجلات في صقلية، حتى بعد زوال الحكم الإسلامي عنها، فقد كان الإمبراطور الجرماني فريدريك الثاني أشهر حكام صقلية (1215-1250م) وابنه «مانفرد» (Manfred) يعرفان اللغة العربية قراءة وكتابة. وقد ألفا الكتب بالعربية وترجمت إلى اللاتينية.
وأنشأ فريدريك الثاني جامعة نابولي عام 1224م، وأهداها مجموعة كبيرة من الكتب العربية.
فمن غير المعقول أن نقف في القرن الحادي والعشرين لنتساءل عن اللغة العربية وإمكان التواصل بها.
هذه السياحة مع رحلة اللغة العربية عبر البلدان والقرون تؤكد حقيقة مهمة:
أنها عاشت وصمدت باختلاف الظروف والأزمان؛ لأن الناطقين بها أصروا على استخدامها، والمحافظة عليها، وأن لها من الميزات اللغوية التي تجعلها قادرة على استيعاب الثقافات والعلوم، وأن الأقوام المختلفة التي تحدثت باللغة العربية، أحبتها كما أحب العرب لغتهم، وأن من يحب شيئا ويولع به يحافظ عليه ويصونه.
من هنا وجب أن نستعرض آراء القدماء والمحدثين في وجوب الحفاظ على اللغة وسلامتها:
قال الإمام الشافعي: «ما جهل الناس، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب»، وربط بين تعلم اللغة العربية والالتزام بالدين الإسلامي حين قال: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لســـان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورســــوله، ويتلو به كتاب الله وينطق بالذكــــــر في ما افتُرض عليه من التكبيــر، وأُمر به من التســــبيح والتشهد وغير ذلك»، وبهذا جعل واجب الحفاظ على اللغة العربية وتعلُّمها واجبا دينيا يشمل المسلمين العرب وغير العرب، مادامت اللغة العربية لغة القرآن الكريم.
أما ابن حزم فقد ربط بين حياة اللغة وواقع المتحدثين بها، وكأنه يتحدث عن عصرنا هذا، حين قرر أنّ اللغة السريانية هي أصل اللغة العربية والعبرانية، وقرر أن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ديارهم، واختلاطهم بغيرهم، فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم، أما من تلفت دولتهم، وغلب عليهم عدوهم، واشتغلوا بالخوف والذل، وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخاطر، وربما كان هذا سببا لذهاب لغتهم، ونسيان أنسابهم وضياع علومهم). وخلاصة رأي ابن حزم تنطبق تماما على واقع اللغة العربية في عصرنا من حيث ضعف اللغة العربية ودواعيها وهي:
1- انهيار قوة الدولة يؤدي إلى ضعف لغة أهلها.
2- احتلال البلد بقوة خارجية يؤدي إلى حالة ضعف وانهزام يؤديان إلى ضعف اللغة، ويشمل هذا دخول العدو عليهم.
3- ارتحال الناطقين باللغة العربية إلى بلاد غريبة يؤدي حتما إلى ضعف اللغة، يعني هجرتهم عن بلادهم وتركهم لها.
ورأى ابن حزم أن من يريد أن يتعلم الفقه عليه أن يتقن «العربية» أولا.
وفي العصر الحديث كثرت أقوال الأدباء والمفكرين، ودعواتهم إلى تعزيز اللغة العربية، وبيان أهميتها، كثرة تنسجم مع ما تتعرض له الأمة العربية من مخاطر وأهوال.
بين اللغة والتفكير
وقد ربط طه حسين بين اللغة والتفكير ربطا يصعب الفصل بينهما، فمن دون اللغة تتشوش الأفكار، ويصعب التعبير عن المشاعر: «نحن نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة، وميولنا المتناقضة حين نفكر، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلاّ بالتفكير، ونحن لا نفكر في الهواء، ولا نستطيع أن نفرض الأشياء على أنفسنا إلا مصوّرة في هذه الألفـاظ التي نقدرها ونديرها في رءوسنا، ونُظهر منها للناس ما نريد، ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد. فنحن نفكـر باللغة، ونحن لا نغلو إذا قلنا: إنها ليست أداة للتعامل والتعاون الاجتماعيين فحسب، وإنما هي أداة للتفكير والحسّ والشعور». (مجلة مجمع اللغة العربية، الجزء الثاني، المجلد الثالث والثمانون، ربيع الأول، سنة 1429هـ).
والذين يتعلقون باللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق، إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قبل الدين أو القومية؛ فتراهم إذا وهنت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم ويتبرأون من سلفهم وينسلخون من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم، ولقومهم، وأشياء قومهم، فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه؛ إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره، فيتجاوزونه وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم».
ومنذ أن قال الرافعي مقولته هذه، مازلنا نعاني الحرب على اللغة العربية، مرة بحجة مواكبة التقدم بوجوب استخدام اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وأخرى بالادّعاء بصعوبة اللغة العربية، وثالثة بعدم مواكبة المناهج التدريسية في تدريس اللغة العربية لمقتضيات العصر. كل هذه الادعاءات تجعل الدعوة إلى سلامة اللغة العربية أمرا مهما وجوهريا مرتبطا بوجود الأمة، وما يحيط بها من أحداث مصيرية. وحين يكون الوعي باللغة متحركا في كيان الإنسان؛ في دمه، وعقله وثقافته تكون اللغة هي الحياة نفسها والهويةَ نفسها. ويكون إتقان اللغة العربية استماعا وتحدثا وقراءة وكتابة وسيلة لتحقيق التقدم الحضاري والإبداع الفكري الذاتي والتماسك الثقافي والقومي للأمة العربية من الخليج إلى المحيط: (اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي، محاضرات تتناول التعريب في الوطن العربي؛ تدريساً وتأليفاً ومصطلحاً، د. مازن المبارك، مؤسسة الرسالة، دار النفائس، ص62).
فكيف بنا اليوم وهناك أصوات تتعالى وسلوكيات تنبئ عن تخلي كثيرين عن لغتهم واستبدال لغات أخرى بها، مما يؤدي إلى فقدانهم هوياتهم، وتشوش في تفكيرهم، لأن اللغة هي التفكير، وهي لغة التواصل مع الآخرين، وهي الحاضر والماضي والمستقبل، ونختار من قصيدة لشاعر صقلية أجنازيا بوتينا بعنوان لغة وحوار أهمية اللغة العربية في المحافظة على الهوية وتوطين المعرفة (أحمد درويش - شبكة الألوكة):
ضع شعبًا في السلاسِل
جرّدهم من مَلابِسهم
سُدَّ أفواهَهم
لكنَّهم مازالوا أحرارًا
وجَوازات سفرِهم
والموائد التي يأكُلون عليها
والأَسِرَّة التي يَنامُون عليها
لكنَّهم مازالوا أغنياء
إن الشعب يفتقر ويُستعبَد
عندما يُسلَب اللسان الذي ترَكَه له الأجداد.
وهذا نص مهم كتب بلغة شاعرية فيمكن أن يسلب المواطنون حرياتهم ويسجنوا، وأن يقيدوا بالسلاسل، ويستعبدوا لكنهم يبقون أحرارا، لأنهم يملكون جوازات بلغتهم ويستخدمون موروثهم في الطعام والمنازل، فهم أغنياء بهذا الموروث، فإذا سلبت منهم لغتهم ضاعوا إلى الأبد.
لغة المسيحيين
وكانت «العربية» لغة المسيحيين أيضا منذ العصر الجاهلي؛ لأنهم ينتسبون إلى قبائل عربية أصيلة. وقيل إنهم كتبوا باللغة العربية قبل الإسلام بثلاثة قرون.
عاش العرب المسلمون والمسيحيون في مجتمع واحد متآخين، مدارس في «الحيرة» تدرس «العربية» لأبناء النصارى، لأنها لغتهم، وبذا تبطل دعوى من يدعي أن الاهتمام بـ «العربية» يخص المسلمين فقط.
دفاع المسيحيين عن «العربية» لأنها لغتهم، حيث أبدعوا فيها منذ العصر الجاهلي، فقد ألّف لويس شيخو كتابا باسم شعراء النصرانية، بدأ به من العصر الجاهلي، وألف المسيحيون مؤلفات مهمة بلغتهم العربية، لأنهم عرب، مثل جرجي زيدان، والقائمة لا تدخل في الحصر والتعداد لكثرتها.
المهاجرون العرب المسيحيون أنشأوا أدبا رائعا، وأسهموا في تأسيس مدارس فنية، لأنهم أحسوا بأن اللغة العربية هي هويتهم، ولابدّ من المحافظة عليها.
شعراء المهجر الجنوبي هاجروا إلى البرازيل والأرجنتين وفنزويلا حافظوا على لغتهم، وأسسوا جمعية عرفت بالعصبة الأندلسية، منهم ميشيل نعمان، رشيد سليم الخوري، شفيق المعلوف، وجبري المعلوف وآخرون معهم من المسلمين والمسيحيين.
شعراء المهجر الشمالي، عرب هاجروا إلى الولايات المتحدة، وأسسوا الرابطة القلمية منهم جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، عبدالمسيح حداد.
إن الوعي باللغة وأهميتها ينمي الوعي بالواقع، والمحاولة للارتقاء به، ولنا في هذا شواهد كثيرة، حيث اللغة الأم هي لغة التعليم والعلوم والمعارف.
في البلاد الأوربية والدول الإسكندنافية، صغرت الدولة أو اتسعت، قلّ عدد سكانها أو كثر، تجعل لغتها الأم هي اللغة الرسمية ولا تحيد عنها، فاللغة عندهم هي شخصية الأمة وسبيل الارتقاء بها.
وقد تعرَّض كثيرٌ من لغات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية للاجتياح أمام قوَّة اللغات الأوربية الغازية في عصْر التوسُّع الاستعماري بعد الثورة الصناعيَّة.
وقدَّرَتْ منظمة اليونسكو عدد اللغات المنحسرة بأكثر من ثلاثمائة لغة.
ويبلغ تعداد سكان الوطن العربي 268 مليون نسمة أو 300 في إحصاءات أخرى، ومازلنا نرى ونشهد كثيرا من دعوات الإهمال أو اللامبالاة إزاء لغتنا العربية.
تجارب الأمم في الحفاظ على لغاتها
شهدت فرنسا نشاطا واسعا مدعما بالدراسات والمراكز الحديثة، وهناك تجارب مهمة لأمم حية اهتمت بلغاتها، وفرنسا مثلا لها تاريخ عريق في الاهتمام بسلامة لغتها، وأصدرت قوانين للحفاظ على سلامتها، فقد أسست أكاديمية اللغة الفرنسية في العام 1635 في عهد الملك لويس الثالث عشر، لخدمة اللغة الفرنسية والحفاظ عليها. وفي العام 1994 صدر بمناسبة مرور مائتي عام على قانون حماية اللغة الفرنسية قانون ورد فيه: «يعاقب كل من يوقع وثيقة بغير اللغة الفرنسية بالفصل من وظيفته وبالسجن ستة أشهر».
وفى بريطانيا، أصدر المجلس القومى لمعلمى اللغة الإنجليزية قـراراً يقضي بأن على كل معلم أن يكون معلماً للغة الأم أولاً؛ ذلك لأن تعليم اللغة إنما هو مسئولية جماعية، والمعلمون جميعا مهما كانت اختصاصاتهم، ينبغي لهم أن يعـلّموا اللغة الأم من خـلال تعليم موادهم. وينطلق هذا القرار من احترام الإنجليز للغتهم، والبدء في الحفاظ عليها وتقويتها من خلال جعل المسئولية جماعية أولا، والبدء بجيل الصغار في المراحل الدراسية الأولى.
وفي إسبانيا قانون يمنع استخدام اللهجات المحلية في المواقع الرسمية، وقد منع رئيس البرلمان مثلا المتحدثين بلهجة «قطلونيا» الحديث في المجلس بلهجته، لما تمثله من خطر على اللغة الإسبانية.
- وتنص المادة الثالثة من الدستور الإسباني على أن اللغة الإسبانية هي اللغة الرسمية التي ينبغي لجميع أبناء الشعب استخدامها.
ومن تجارب الأمم الحية ما قام به الزعيم الفيتنامي بدعوة مواطنيه إلى استخدام لغتهم وسيلة فاعلة لمحاربة الدخيل الأجنبي قائلا: حافظوا على صفاء لغتكم كما تحافظون على سلامة لغتكم، حذار من أن تستخدموا كلمة أجنبية في مكان بإمكانكم أن تستعملوا فيه كلمة فيتنامية. وفعلا كانت اللغة الفيتنامية سلاحا قويا بوجه المحتل، مصاحبا لسلاح الإرادة والقوة.
ويشعر الألمان بالانزعاج حين يتحدث إليهم شخص بغير «الألمانية»، وسنّت ألمانيا قوانين كثيرة لحماية لغتها الألمانية، واعتمادها لغة الحياة والعلم والأدب والثقافة الألمانية.
وفي الصين كان أول قرار أعلنه ماوتسي تونج سنة 1949 هو توحيد اللغة تحت لواء الخانية (لغة بيكين) والتخلي عن الإنجليزية واللهجات المحلية.
وفي العام 2001 ألزمت الصين وسائل الإعلام باستخدام اللغة الصينية المعتمدة على الكتابة المبسطة بعيدا عن الكتابة المعقدة.
أما اليابان فتجربتها الفريدة حرية أن نقف؛ إذ عدّت التقدم العلمي لصيق اللغة اليابانية، فحرصت عليها لغة للعلم وميادين الحياة كافة، وكان ما كان من تفوق اليابان العلمي ومنافستها للدول الأوربية وأمريكا.
لم تلق اللغة اليابانية الاهتمام لمحدودية استخدامها، حتى قفزت بصناعاتها وصارت إحدى الدول السبع الصناعية في العالم، ولم تحل لغتها المحدودة الانتشار بينها وبين التقدم العلمي.
ثم أخذت اللغة اليابانية مكانة كبيرة في العالم (عدد دارسـي اللغة اليابانية علـى مستوى العالم ثلاثة ملايين وثلاثمائة وستين ألف طالب وطالبة يدرسون فـي خمسة عشر ألف مؤسسة تعليمية منتشرة فـي مائة وخمس وعشرين دولة بالعالم، وفق إحصاءات المؤسسة اليابانية لعام 2009).
وللكوريين تجاربهم الغنية في المحافظة على لغتهم، فقد اعتمدت كوريا الجنوبية في التنمية البشرية والصناعية على قدراتها اللغوية.
ولا يسمح بدراسة اللغة الأجنبية إلا في المرحلة الثانوية.أما المدارس الأجنبية، فلا يحق للكوري الانتساب إليها إلا بحدود ما يشكل ثلاثة في المائة.
واشترطوا في من يرغب في تدريس اللغة الكورية أن يؤدي امتحانا باللغة الكورية شعرا ونثرا شفهيا وتحريريا.
هذه تجارب لأمم نجحت في الحفاظ على لغاتها، واتخذت الخطوات العملية الصحيحة لتقدمها، وإلزام الناطقين بها للتحدث بها والحفاظ على حيويتها، ومن ثم الحفاظ على هويات الأمة وثقافتها.
ولغتنا العربية حَرِيَّة بالاهتمام، جديرة بأن تبذل لها الجهود الكبيرة لضمان حيويتها وتفعيل الخطوات الجادة لجعلها لغة الحياة والعمل والتخاطب، وهذا لا يتم إلا بالجهود المتضافرة بين أبناء الأمة مؤسسات وحكومات وجامعات وأفرادا .