الخطر على «العربيَّة».. خطر على ثقافة العرب العلمية!

الخطر على «العربيَّة»..  خطر على ثقافة العرب العلمية!

في العام 1943 كتب المؤرخ العربي نبيه أمين فارس مقالة بعنوان: «القضية ضد العاميّة»، هاجم فيها دعاة التحول إلى العاميات العربية الذين كانوا ناشطين في الأربعينيات في أكثر من بلد عربي بدلًا من التركيز على اللغة العربية الفصحى. وقال د. فارس وقتها إنه لا وجود لما يُسمى لغات عامية، بل لهجات مختلفة للغة فصحى واحدة. أما هذه الأخيرة فأهميتها الأساسية أنها تحفظ الوحدة الروحية للعالم العربي. وهو يعتبر أن الاهتمام باللغة العربية كان في أساس اليقظة الثقافية والفكرية العربية في القرن التاسع عشر. وأكد أن القاسم المشترك لمختلف اللهجات العربية العامية يبقى اللغة العربية الأدبية، لأنها اللغة العربية الصحيحة للصحف،   وهي كذلك لغة قوية وقادرة على النمو والتطور لأنها تستخدم بشكل كامل عبقرية اللغة العربية من أجل ابتكار كلمات جديدة واستيعاب كلمات أجنبية ليس بالإمكان إيجاد مرادف عربي لها. 

ذكر د. فارس أن العنصر الأهم من بين الأسباب النظرية والنفسية وراء حماسة المعادين للعربية والمتحمسين للعاميات أن هؤلاء يطابقون بين العرب والإسلام، ويؤدي هذا التطابق إلى عداوة لاواعية تكوّنت استنادا إلى قرون من الصراع بين الغرب وحلفائه من جهة والعرب والإسلام من جهة ثانية أدت بالفريق الأول إلى تحويل عداواتهم اللاواعية باتجاه اللغة العربية، راجين تفكك الوحدة الروحية للعالم العربي عن طريق الهجوم على اللغة العربية. 
هذا الكلام لم يكن الأول في الدفاع عن الفصحى في وجه العامية، فقد سبقه، وياللمفاجأة، كلام مماثل قيل عام 1898 على صفحات مجلة «المنار» (التي كان يصدرها الشيخ رشيد رضا في القاهرة) ضد محاولة بعض الاتجاهات المحلية المصرية اعتماد العامية وكتابتها بأحرف لاتينية. والرأي هذا الذي نُشر قبل أكثر من قرن مثله مثل الآراء التي نشرت بعده لم يعد يصوّر الحقيقة أو كل الحقيقة على الأقل. فالتغيير الحاصل اليوم في ما يتعلق بالمشهد الثقافي والتربوي العربي يشير إلى أن الخطر على العربية آت من العرب والمسلمين أنفسهم. فإذا ما أدرت أي وسيلة إعلامية عربية لوجدت أن اللغة العربية المستخدمة غير صحيحة ومملوءة بثغرات تعابير اللغات الأجنبية، خاصة اللغة الإنجليزية. والنتيجة لا عربية عامية ولا عربية فصحى، بل لغة هجينة تخلط أكثر من لهجة وأكثر من لغة، ولا تساهم على الإطلاق في إثراء لغة المشاهد العربي الذي يشكو في كل الأحوال من النقص الفاضح في البرامج الجادة.
أما على الصعيد التربوي فحدِّث ولا حرج. فقد أصبح مقياس تقدم أي مؤسسة تعليمية في العالم العربي (بما فيها تلك التي تدعو إلى مؤتمرات حول اللغة العربية وعبقريتها) استخدامها للغات الأجنبية ليس كلغات من الضرورة تعلمها بهدف التواصل مع شعوب وثقافات أخرى، بل باعتبارها لغة التعليم لجميع أو لمعظم التخصصات العلمية وكذا الأدبية، وأصبحت اللغة العربية، عمليًا، وكأنها لغة أجنبية تدرّس منفصلة عن معظم التخصصات. هذا بالإضافة إلى ازدياد أعداد المؤسسات التربوية الأجنبية في بلادنا. زد على ذلك أن بعض شرائح المجتمعات العربية قد «تفرنجت» إلى حد استخدام لغة أجنبية، عادة ما تكون الإنجليزية، كلغة التخاطب العائلي بين الأبوين والأبناء في البيت. وبهذا أصبحت اللغة الأجنبية دالة على السعي للارتقاء الاجتماعي أكثر منها على المستوى العلمي للمتكلم بها. 
إلا أن عليّ التنبيه من موقعي التعليمي إلى أنّ هذه الهجانة اللغوية جعلت الطالب العربي غير متمكن لا من اللغة العربية ولا من تلك الأجنبية، فهو نصف عربي ونصف أجنبي، مما يؤخر تطوره الفكري ولا يخلق دعائم واضحة لشخصيته الوطنية والقومية ولا لشخصيته وقدراته العلمية. فاللغة هي قالب الأفكار، فإذا أصيب القالب أصيبت الأفكار كما قال الأستاذ يحيي حقي مرة.
وكان العلامة السوداني الراحل الدكتور عبدالله الطيب قد اتفق عمليًا مع الرأي السابق وزاد: إن العزّة القومية تدعو الى استعمال اللغة القومية. فهذا مُشاهد حتى عند الأمم التي نظنها ضعيفة وصغيرة. البلغار يكتبون ويتعلمون باللغة البلغارية، المجر كذلك، إسرائيل عندما صارت دولة، استعملت اللغة العبرية، إذ أحيتها بمواد واستعملتها. وكان د.الطيب يضيف أن عند العرب ثلاث لغات: اللغة الفصيحة التي تربط، اللغة العامية الدارجة التي تتكلم في كلّ قطر؛ اللغة التي بين بين، وهي المشتركة بين المثقفين. ولكن برزت أنياب دعوات مريبة منها الدعوة إلى إحلال العامية مكان الفصيحة. «هذه الدعوة نابعة من الثورة على الجانب الديني في اللغة العربية. ونابعة أيضًا من شدّة محاكاة الناس للأوربيين والشعور بانتقادهم لهم والشعور بأن يعتذروا إليهم. ومن هذه الناحية توجد عقدة الرجل الأبيض أو عقدة الأجنبي». 
لكن، رغم كل هذه الأسباب والحوافز الدينية والقومية والأدبية، فإن لدينا مشكلة عملية تتمثل في أن الشباب العربي يزداد إعراضًا عن العربية. فقد ذكر تقرير نشر منذ ثلاث سنوات في مجلة «الإيكونومست» البريطانية (أبريل 2010) أن الخبراء الغربيين في اللغة العربية يتوقعون «وفاتها»، بسبب ضعف الإقبال عليها من مستخدميها من جهة، وضعف الاستثمارات العربية في قطاع التعليم، وعدم مواكبة القائمين عليها التقدم التكنولوجي والعلمي وتوافر المصطلحات اليومية. ورغم أن اللغة العربية هي خامس لغة من حيث عدد الناطقين بها عالميًا، فإن اللغة العربية الفصحى من النادر استخدامها في الأماكن العامة، ويقتصر وجودها على شاشات التلفزة أو الصحف بالإضافة إلى الكتب المدرسية. لكن ذلك لم يعد شائعًا أيضًا، خصوصًا مع توجه أغلب أبناء الجيل الجديد لدراسة الإنجليزية والفرنسية.
وأشارت المجلة البريطانية إلى أن ظاهرة الضعف في اللغة العربية وصلت إلى جيل القادة الجدد في المنطقة. ويبدي الخبراء ملاحظاتهم على «دلائل قوية» تقول إن اللغة العربية هي لغة في طريقها إلى الاختفاء، بالقول إن استخدام اللغة العربية الفصحى في الإعلام أو التربية، أو في خطابات المناسبات العامة بين فترة وأخرى لا يعني أنها اللغة الأم للمتحدث بها، خصوصًا في الدول 
العربية الغنية. ويعلق أستاذ اللغة العربية في جامعة أوكسفورد كليف هولز بالقول إن «غالبية الطلبة العرب يعتقدون أن تعلُّم اللغة العربية شيء غير منطقي، ولا يمت للواقع العملي بصلة، خصوصًا في الأجواء العالمية المتاحة حاليًا، حيث يتم تفضيل الإنجليزية».

من مبالغة إلى مبالغة مضادة
ما هو الحل في هذه الحالة؟ يقول العلامة الراحل عبدالله الطيب إنه ينبغي أن نعيد التفكير في تعليم ناشئتنا منذ البدء وألا نهمل أسلوب التحفيظ القديم الذي كان يبدأ بتحفيظ القرآن وبتحفيظ الشعر وبتحفيظ قواعد النحو والصرف وبتجويد الإملاء والخط. كما أشار إلى أن الخطوط في العامة قبيحة، لذلك ينبغي أن يُرجع إلى تدوير الخطوط على النهج الموروث لأن ذلك يثبت في الأنفس حبّ الجمال والـــشيء الجــمـــيل يولّد الجميل. من أجل هذا ينبغي الاهتمام بالخط، الاهتمام بالإملاء، الاهتمام بالتحفيظ، والاهتمام بالنصوص. وفي وسائل الإعلام المختلفة، ينبغي أن يحرص المذيعون على سلامة اللغة. وأشار إلى أنه «من المؤسف أن قادة العالم العربي خصوصًا في البلاد التي كانت تقود البلاد العربية فكريًا تنكّروا لأسلوب الفصاحة. 
وقد مرّ حين من الدهر، كان الخطيب السياسي مثل محمود النقراشي باشا ومثل النحاس باشا ومثل إسماعيل الأزهري، يحرصون على نطق العربية نطقًا صحيحًا ويحضّرون ما سيلقونه على الناس، ويحفظونه عن ظهر قلب وخطبهم التي وصلتنا مستواها رفيع، أما خطب الساسة الذين خلفوهم فلم تبلغ هذا المستوى. «وأنك لن تجني من الشوك العنب». فعلينا أن نهتم بفترات التعليم الأولى، وعلينا أن نرجع إلى القرآن وأن نحفـّظ وأن نفسّر وعلينا أن نهتم بلغاتنا العامية لأنها هي أيضًا في خطر».
وبالفعل، فإننا نجد اليوم بين جيل الأجداد من يحفظ شيئًا من التراث الشعري العربي ويفهم معناه وما يحيط به من ثقافة أدبية، إلا أن الأمر ليس كذلك بين أفراد الجيل الحاضر، فإذا بثقافة أدبية عربية كاملة تكاد تندثر بسبب المبالغة في هجر الحفظ مثلما كانت المبالغة في التركيز على الحفظ دون الفهم عند تلاميذ المدارس.
وكان الدكـــتور الطيب يـــشدد على أن فــي «اللغة العربية العامية في البلاد العربيــــة عامة آداباً رفيـــعـــة ومســــتويات رفيــعة وتهــــيئ صاحــبهــا للبلاغة في اللغة العربية الفصـــيحة، كما أن اللغة العربية المتكلّمــة سايـــرت اللغة العربيـــة الفصيحة منذ أقدم الأزمان. من أجـــل هذا استمرّ الناس في البلاد العربية يتكـــلمون بلغة ويؤلفون بلغة لأنهم يطلبــون المستوى الرفيع. 
وقد تنبّه إلى هذا متنبهون مختلفون، وأشار إلى هذا الجاحظ في كثير من كتاباته، فنحن علينا أن نحاول الاعتزاز باللغة العربية بأن نشجعها وأن نشجع العاملين عليها وأن نهتم بقضية التعريب، أن نهتم بالترجمة. فالترجمة مهمة وهذه ينبغي أن تدوّن لها الدواوين وأن تنفق عليها النفقة. من أجل هذا يمكن أن تيسّر  المعرفة لعامة الناس لأن عامة الناس يحتاجون لأن يعرفوا كثيرًا من مظاهر التقنيات العصرية، ومن مظاهر المعلومات العصرية فإذا هيئ لهم ذلك بالعربية كان أيسر وأسهل وأقرب إلى نفوسهم».

السبب العلمي المستقبلي الأهم
إلا أن ما كان قد ذكره الدكتور الطيب لا يحل المشكلة الأخرى المتعلقة بصعوبة الاستخدامات الحديثة للعربية. وقد عبّر بعض المثقفين العرب، منهم د.محمد جابر الأنصاري، عن مخاوفهم من أن اللغة العربية تعاني «ضعفا موضوعيا وتعقيداً نحويا يصرف الدارس المعاصر عنها إلى تعلّم لغات أخرى» في هذا العصر. وهذا رأي له وجاهته فهل من حل أو حلول لذلك؟

اقتراحات
هناك العديد من الاقتراحات منها ما تقدم به الأديب الكبير يحيى حقي، حيث شدد على أن اللغة ليست زخرفة أو شيئًا يرسم على الورق، بل «هي قالب الفكر، فإذا كان هذا القالب مكسورا فالفكر يكون مكسورًا، فأنت لا تستطيع أن تفكر تفكيرًا صحيحا إلا بلغة صحيحة» كما ذكرنا سابقًا. ولاحظ  «لعل سبب تأخر بعض الأمم يرجع إلى أن لغتها ليست بالدقة التي تعين الفكر على أن يكون دقيقًا». وأرجع أديبنا كل مظاهر التأخر في الثقافة في مصر (وغيرها من البلاد العربية) إلى أن وسيلة الاتصال ووسيلة التثقيف (وهي اللغة) غير منضبطة، وأضيف إلى ذلك ما شابها من المترادفات وكثرة الكلام الذي لا فائدة منه، مثل ثوب فضفاض تنقصه الدقة. (الهلال، فبراير 1985).
 وقدَّم الأستاذ حقي اقتراحين عمليين في هذا المجال: الأول، دعوة جميع المسئولين عن الطباعة أن يقوموا بتشكيل بعض الحروف الصعبة التي يصعب نطقها كالفعل المبني للمجهول، أو مضارع الثلاثي الذي يقال فيه ستة أوجه لضبط عين مضارعه، وهو سماعي، فلا نستطيع أن نضع قاعدة معينة نتبعها». ثانيا، كذلك دعا إلى طبع اللغة العربية بأحرف منفصلة، قائلا: «يجب أن تحدث في حياتنا ثورة بتبني هذا النداء، لأنه سيعين على تسهيل تشكيل بعض الحروف في المطبعة، وهذا سيسهل أيضًا صندوق الحروف في المطبعة فيقل عدد حروفه من مستواها الحالي البالغ مائة وعشرين حرفًا. ولا ينفي هذا استخدام الحروف المتصلة في الكتابة اليدوية، لأن لها جمالًا تعتز به فنوننا الجميلة».
ولاشك أن علماء اللغة يستطيعون استنباط وسائل أخرى لتطوير العربية كما فعل غيرهم من علماء اللغات الأخرى.
مع كل هذا، فإن ما ذكرناه حتى الآن قد لا يكون كافيًا وقد يعود في أغلبه إلى الاهتمام بالعودة لاستخدام العربية بالدقة والصحة، التي استخدمتها بها الأجيال السابقة، إلا أن هناك سببًا أهم من كل الأسباب تلك يقودنا للدعوة للاهتمام بالعربية ودعوة الخبراء إلى تسهيل دراستها والدراسة بواسطتها من خلال جعلها لغة تعليم العلوم الوضعية الحديثة، حيث إن تقليدنا للأمم الأخرى التي فعلت وتفعل ذلك يجعل اللغة الأم هي لغة العلم والتعليم عندنا كما عندهم.

فصل لغة القرآن عن لغة العلم؟
إن تعريب العلوم الحديثة في العصر الرقمي هو المهمة الرئيسة اليوم وإلا فإن الافتراق بين الثقافة العربية واللغة العربية من جهة، والعصر من جهة أخرى، أمر واقع لا محالة! وهذا يعني أيضًا فتح مسألة خطيرة جدًا لم يتنبّه إليها كثير من علماء العربية، وهي احتمال انفصال لغة الدين والقرآن الكريم عن لغة العلم الأجنبية وهو أمر كاد يحصل مع العربية في العصور الوسطى لو لم يبادر الأمويون والعباسيون إلى تعريب الآداب والعلوم اليونانية والفارسية والهندية. وهو كذلك ظاهرة حدثت مع العرب المسيحيين لفترة طويلة عندما كانت لغات دينهم وكنائسهم هي السريانية أو اليونانية، بينما كانت العربية هي لغة التخاطب اليومي بينهم، لذلك، فإن تعريب العلوم البحتة وتعليمها يقود إلى تحويل العلوم إلى ثقافة عامة تيسّر على الطفل والتلميذ والطالب والمواطن تناول الأعمال والمعادلات العلمية وتصبح العلوم المأمول توافرها بالعربية ثقافة يومية سهلة، ما يفتح الباب واسعًا للولوج إلى العصر دون حواجز فكرية كبيرة. وإذا لم يصبح العلم الحديث جزءًا من الثقافة العربية العامة، عبر لغتها، فسيظل نخبويًا وتظل المسافة أوسع ما تكون بينه وبين المعرفة التي يحملها المواطن العربي غير المتخصص. عندها، وعندها فقط، يكون الأمير عارف الشهابي على حق عندما كتب في 1912 أي قبل أكثر من قرن من الزمن: «اللغة آلة وليست غاية. ليس تعلّم العلوم بلغة غير لغة الآباء إلا مضيعة للوقت وضلالاً للفكر >