كتابة معجم عصريّ جديد

كتابة معجم عصريّ جديد

 لم تكن فكرة إعداد معجم جديد عصريّ مجرّد حلم ضبابيّ بالنسبة إليّ، بل كانت قرارًا اتّخذته عن سابق إصرارٍ ودراسة وتخطيط.

متى قرّرت هذا، ولماذا كان الإصرار على تنفيذ مشروع ربما تعجِز دول ومؤسسات ضخمة عن القيام به؟ كان عملي مرتبطًا بالمعاجم بطريقة مباشرة، فتحقيق المخطوطات الذي اختصصت به في الماجستير يحتاج إلى المعجم كسندٍ رئيس للقيام به وإتقانه؛ ما كان يجعلني أغرق بين صفحات «لسان العرب» و«تاج العروس» و«القاموس المحيط»، فأنسى ما كنت أبحث عنه، لأعود بعد ساعات إلى هدفي الرئيس. 
الدخول إلى عالم المعاجم متعة لا يعرفها إلا من جرّبها وخاض غمارها، فأن تصل إلى معنى تريده لابدّ أن تعرف جذر هذه الكلمة، وعند معرفتك هذه الكلمة تدخل إلى عائلتها فتتعرّف إلى هذه العائلة الكبيرة، فتصيبك الدّهشة هنا، وتفرح هناك لمعنى ما كنت تظن أنه مرتبط بهذه الكلمة.
وأثناء بحثك هذا وفرحك وشوقك إلى معرفة المزيد تجد ابن منظور والزَّبيدي يأخذانك إلى أخبار تتعلق بتلك الكلمة باستطرادات تزيدك متعة ولهفة إلى تَعَرُّفِ المزيد.
أحببت ذلك العالم، وأحببت أولئك الرجال الذين حصّلوا موادّ معاجمهم بشقّ الأنفس، فهم أخذوا اللغة إمّا بطريق الرّواية المسلسلة عمّن سبقوهم من علماء اللغة: ما قالوه أو ما ألَّفوه، أو بالمشافهة من العرب العاربة في ديارهم بالبادية. 
لم أعد أكتفي بالدخول إلى اللُّغة وتفاصيلها وجمالياتها، بل دخلت أكثر إلى عالم أولئك الرّجال الذين حافظوا على هذه اللُّغة العظيمة، فجمعوها في كتب انتشرت في أصقاع العالم، وتحدّت الزمن وأثبتت وجودها بين اللغات العالمية. وكان أكثر ما يسعدني اهتمام أبناء جيلهم من علماء وأولي أمر بما يؤلفونه واحتفاؤهم بكل عمل جديدٍ يولَد.
وأثناء عملي وبحثي المتواصل، ورغبتي في معرفة المزيد من هذه اللغة الغنية، انتبهت لوجود بعض المشكلات في تلك المعاجم المهمّة، مشكلات  تخصّ مَن يعيش في زمننا هذا، وليس مَن عاصَر ولادتها ومَن جاء بعدهم.. لاحظت أن الوصول إلى كلمة ما يتطلب وقتا كثيرا، وفي عصر نتسابق فيه مع الزمن لا يستطيع طالب العلم أو من يريد كلمة أو معنًى أن يفعل كما كنت أفعل وغيري بأن يجول بين أفراد العائلة لذلك الجذر، الإنسان اليوم بحاجة إلى أن يصل إلى الكلمة ومعانيها المختلفة بسهولة. 
ودخلت إلى عالم المعاجم الجديدة، ووجدت الجهد الكبير الذي قام به علماء ومهتمّون باللغة العربية، ولفتني ترتيب هذه المعاجم على المنهج الألفبائي النّطقي، الذي يظنّ كثيرون أن الغرب هم من اخترعوا هذا الترتيب، لكن بالحقيقة أن «عليّ بن الحسن الهنائي» المشهور بكراع، أو كراع النّمل (ت 310 هـ) هو الذي فكّر في هذا المنهج الذي تبنّته معاجم اللّغات اللاتينية، وطبّقه في معجم له عنوانه «المنجد في اللّغة»، إذ رتّب كلمات جزء كبير منه ترتيبًا هجائيًّا بحسب أوائلها بِغَضِّ النَّظر عن كونها أصلية أو مزيدة. 
وتوغّلت أكثر في هذه المعاجم الحديثة لأرى إن كانت تُغني عن المعاجم القديمة، ليس من باب الرّفض أو التَّقليل من قيمة الأمّهات، ولكن للتسهيل على الأجيال الجديدة.
مع الأسف وجدت أن هذه المعاجم قد حذفت كثيرا من مفردات اللغة العربية بحجّة أنها غير مستخدمة أو بائدة كما يُطلقون عليها.
وبدأت أتساءل: إذن من أين يأتي الطّالب أو الباحث عن معنى كلمة تعذّر عليه أن يجدها في المعجم الحديث؟ وليس كلُّ طالب علم أو حتى أستاذ أو باحث أو أديب يستطيع أن يحمل المجلدات الكثيرة كما كان يفعل الصاحب بن عبّاد باصطحابه مكتبته الضّخمة على الجِمال في أسفاره.
من هنا، من هذه النقطة بالذات بدأت الفكرة تراودني، بل تُلحُّ عليّ، وبدأت أسأل أصدقاء لي من الاختصاصيين باللغة العربية، فتارة أجد من يشجّعني، وتارة أجد نَهيًا عن القيام بهذا العمل، فهو من اختصاص مؤسّسات ولابد من تمويل دول لإتمامه.

خطة عمل
بدأت بوضع خطّة لهذا العمل، وبعد استشارات ودراسة مفصّلة للمشروع، وضعنا حدًّا زمنيًّا لإتمامه، وهو عشر سنوات، وقمنا بتقسيم العمل على مجموعة من المتخصصين باللغة العربية وبالترجمة من اللغات الأجنبية.
أمّا أول خطوة فكانت تفريغ «لسان العرب» على بطاقات صغيرة، وكان كل شخص يتسلَّـم مجلَّدًا ويفرغه، ثم يرتّب الكلمات وفق إملائها، مع المحافظة على جذر الكلمة، والضَّبط اللُّغويّ للكلمة وللشّواهد القرآنية، وكتابة الفعل المضارع للفعل الثّلاثي مع ضبطه بالحركات كاملاً. وكنا قبلاً قد قرَّرنا حذف الاستطرادات التي لا تضيف إلى الكلمة المطلوبة فائدة.
كانت تلك المرحلة هي الأصعب بالنّسبة إلى العمل لأنها بحاجة إلى الاختصاصيين الذين يدركون تمامًا ما هو مطلوب منهم. وبعدها توالت المراحل من تنضيد وتصحيح، ثم مراجعة على تاج العروس والقاموس المحيط لاستدراك النواقص.
وأثناء العمل لاحظنا أن المعاجم القديمة لم تكن تهتم بالتعريفات العلمية، وكذلك المعاجم الحديثة، فقمنا بتكليف فريق يهتم بترجمة المصطلحات العلمية (كالماء والأوزون والاحتباس الحراري.....)، وقام أستاذ متخصص بالعلوم بالإشراف على المادّة العلمية. 
مرّ المعجم بمراحل كثيرة، وكان لابدّ من التوفيق بين مؤلّفات معجمية متعددة، إذ يجب ألا يحصل تكرار للمعلومات، ويجب أخذ ما نقص من معجم ما من مصدر آخر. 
وبعد أن قمنا بتفريغ متن اللّغة العربية، وجدنا أنه لابدّ من إضافة معجم إعراب ضمن المعجم اللُّغويّ، لأن هذا يتناسب مع ما وضعناه أمام أعيننا من هدف، وهو أن يكون المعجم لكلّ مَن يحتاج إلى معلومة: لغوية أو إعراب، أو مصطلح علمي أو فلسفي. 
أما المصطلحات فقد اعتمدنا المراجع المعتمدة، وما لم نجده فيها قمنا بترجمته عن اللغات الأجنبية.
سنوات عشر ونيف مرّت كنا خلالها كخلية نحلٍ تعمل ليل نهار لإنتاج الأفضل، مرّت حروب وأزمات كثيرة، منها حرب «تموز»... كان خوفي وقتها أضعاف خوف الناس وقلقهم.. خوف على الوطن والبشر، وقلق على عمل موزّع هنا وهناك بين أيدي من يساعدون بالعمل.. وصارت الكوابيس تلاحقني ليل نهار... ماذا لو قُصف ذلك المكتب الذي يملك على أجهزته مئات الصفحات التي عملنا بها لسنوات طوال؟ 
مخاوف كثيرة وأسئلة كنت أخجل أن أقولها أمام الآخرين والبلاد تتدمّر والناس تُقتَل.. ولكنّ هذا العمل الذي عاهدت نفسي أن أُتمّه هو الابن الذي سيستمر بعدي إلى الأبد، والذي سيكون له المكانة بين إخوته من المعاجم، لأنه يحمل بين دفّتيه أعظم لغة.. هل أُلامُ إذن إن قلقت أو خفتُ؟

مخاوف مشروعة
تلك كانت مخاوفي أثناء العمل، بالإضافة إلى المسئولية المادية التي حمّلت نفسي إياها، فنحن نعيش في بلاد لا تتحمّل الدُّوَل فيها أي مسئولية تجاه مشاريع كهذه، بل نجدها تتهافت على المشاريع الفنية والخلاعية.. كان عليّ أن أعمل وأعمل لأغطي نفقات الناس الذين يساعدونني، فأنا أستطيع تحمّل شظف العيش من أجل مولود أنتظره، ولكن أولئك الذين يعملون ليل نهار لا يستطيعون وعائلاتهم أن يمتنعوا عن ممارسة حياتهم الطبيعية.
حاولت تأمين مصاريف هذا المشروع الضخم من خلال الأعمال التأليفية التي كنت أقوم بها، ومن خلال تنفيذ مشاريع طباعية في الدار التي أملكها، وهي دار النخبة، التي صدر عنها المعجم.. ووجدت من يقف إلى جانبي من الأصدقاء الذين ساهموا بتأمين مشاريع طباعية للدار، أو مساهمة ماديّة كما فعل الشاعر الدكتور عبدالعزيز خوجة الذي أدرك قيمة العمل وأهميته لأبناء العربية.
اليوم لا أكاد أتذكر المصاعب التي اعترضتني أثناء العمل الطويل، ولكن أتذكر أنني كنت ومازلت أحمد الله أن قدّرني على إتمام العمل، فاختصاصي في تحقيق المخطوطات وخبرتي العلمية والعملية، وتأليفي لعدد كبير من الكتب المختصة في تبسيط اللغة العربية، كل هذا ساعدني على تخطّي المشكلات أثناء العمل.
والأهم من ذلك كله أنني أُتقنُ العمل على الكمبيوتر، فالعمل في كل مرحلة يعود إليَّ وليس إلى مكتب للتنضيد، فأنا أصحّح بيدي ما يتمّ تصحيحه على الورق من قبل مصحّحين مختصّين. وهذا يجعلني أكثر راحة وحرية في الإضافة أو الحذف أو النّقل، وهو ما لا يتيسّر للذين يعملون بالكتابة، وخصوصًا الأعمال التي تحتاج إلى مجموعة من العاملين.
انتهى العمل في المعجم في 20-2 -2010، وتحوّل إلى المرحلة الثانية، فاخترنا الحرف الواضح الرَّسم والحجم والخارج من منظومة حروف المعاجم الموجودة في الأسواق. هذا بالإضافة إلى استخدامنا الورق السّميك الجيد الذي يعطي للكلمة خلفية ثريّة على غير ما تعتمده المعاجم الأخرى من ورق رقيق يعجز الباحث فيه عن قراءة كلمة لظهور ما خلفها في الصَّفحة المقابلة.
أما تسليم الكتاب ذي الأربعة آلاف وستمائة صفحة إلى المطبعة فهو المرحلة الأخيرة والأكثر قلقًا.. فانتظار كتاب كانتظار مولود جديد، وأيام المخاض صعبة.. كنت أتردد يوميًّا إلى المطبعة لأتأكد من سير العمل، هل الأفلام جيدة؟ وهل تمّ شراء الكمية الكافية من الورق؟ وهل هناك من عقبات ولو صغيرة؟
أخيرًا أبصر المعجم النّور... واستقبلته بدموع الفرح, وأتناول كل مجلّد من المجلدات الستّة وأتصفّحه ورقة ورقة... ساعات طويلة وأنا جالسة في المطبعة أقلب الصفحات دون ملل أو كلل. 
تسلّمت مجموعات عدة من المعجم وطرت فرحة بها، وكنت أتذكر ما قرأته عمن ألّفوا المجموعات الكبيرة من معاجم وغيرها، وكم كان فرحهم عظيمًا وكم كان اهتمام أبناء عصرهم وأصدقائهم و.. و... 
وتصوّرت الاحتفاء بهذا المولود الذي لا يخصّني أنا بالذات وإنما يخصّ الأمتين العربية والإسلامية.
ولكن الاحتفاء بالمعجم كان مقتصرًا عليّ وعلى أصدقائي من الكتّاب والإعلاميين الذين لم يقصّروا في الكتابة عنه.

عرب بلا معجم
واكتشفت أن البلاد العربية والإسلامية في عالم آخر، وليس لهذا العمل من قيمة لديهم، حتى أن عددًا من نسخ المعجم قدّمتها لأشخاص لم يصلني منهم أي شكر أو تعبير عن وصول الكتاب إليهم!
وتأكّدت يومها أن الأمّة الضعيفة لا تملك أي رؤية للحفاظ على لغتها وهويّتها. 
رغبت في أن أجد اهتمامًا فعليًّا من إحدى الدول التي تعتبر اللغة العربية هي لغتها فهي لغة القرآن الكريم، تمنّيت أن أقدّم عملي هذا إلى إحدى هذه الدول لتقوم بطباعته وتوزيعه بثمن بسيط ليصل إلى كل راغب ومحبٍّ لهذه اللغة.. ولكن «لا حياة لمن تنادي».
تمّ توزيع المعجم، وأرسلنا إلى كل المؤسسات التعليمية والوزارات، ولكن أكثرها كان يشتري بعض النسخ خجلاً.. اللَّهمّ إلا وزارة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية التي اشترت كمية من الكتاب ووزّعته على الجامعات والمكتبات في المملكة.
قد يتسرّب اليأس إلى قلب الإنسان المكافح إن لم يلقَ تقديرًا لعمله، ولكن اليأس لم يستطع أن يصل إليّ، فقد فكّرت أن الهدف الرئيس من عملي هو الحفاظ على اللغة العربية وتقديمها بالطريقة الأسهل للأجيال القادمة.. إذن الهدف هو نشر اللغة العربية، والمعجم بأجزائه الستة صعب المنال بالنسبة إلى الشّباب والمحتاجين إليه، والعصر هو عصر التكنولوجيا وعصر السرعة، ولا بدّ لنا من أن نستثمر هذه الاختراعات العظيمة التي قدّمها الغرب بما يناسبنا ويخدم مصالحنا.
من هنا جاءت الفكرة أن نحوّل هذا المعجم إلى معجم الكتروني على أجهزة الـ ipad 
وiphone، وبدأنا العمل على تحويله من ورقيّ إلى إلكتروني.
استمر العمل أكثر من سنة حاولنا خلالها إضافة الكثير من الكلمات والمصطلحات التي لم نكن قادرين على إضافتها في النسخة الورقية. 
وصدر المعجم الإلكتروني في شهر فبراير (شباط) 2013، وهو أول معجم عربي- عربي حديث يضمّ حوالي ثمانين ألف كلمة، ومرتّب بطريقة بسيطة، وسيتم تحديثه كل ثلاثة أشهر، وإضافة عدد من الكلمات والمصطلحات.
وفوجئنا بأن أكثر من يشترون هذا المعجم هم من أمريكا والدول الأوربية، أما العرب، إلا القلة منهم، فلا يهتمون مع الأسف بهكذا أعمال.
وكما بدأت فكرة المعجم منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة حُلُمًا تحقّق، وتحقق معه إصدار أول معجم إلكتروني عربي، فالحلم مازال مستمرًا.. وسوف يصبح إن شاء الله القدير حقيقة ملموسة.
حلمي اليوم أن يصير هذا المعجم موسوعة لغوية ومعلوماتية عربية تضم أكبر عدد من الكلمات التي يحتاج إليها الكبير والصغير، وقد بدأنا فعلاً بتقسيم العمل، فهناك مَن يعمل على المصطلحات الهندسية، وآخرون يعملون على المصطلحات الطبية وغيرها، ونعمل على إدخال دروس قواعد اللغة العربية كاملة على هذه الموسوعة، فلا يحتاج الأستاذ أو الطالب إلى أن يعود للكتاب الورقي بعد الآن.