علي السبتي.. ذاتٌ مرهفة وأبويةٌ خلاقة
وحدهُ, حيث كرسيٌ لا تعرف من وضعه، ونخلة سامقة و(رازقية) تعبق بالذكريات!.. يحدثك أبو فراس عن هم الناس ويعتصر قلبه الأسى، ويحدثك عن همه ويضحك!، يصمت ليُقبّل سيجارته.. يغيبُ قليلاً في الفراغ أمامه، ثم يملأ لك كأس الشاي مرة أخرى!
يحدثك أبو فراس عن النبوة والأنبياء، عن زهرة تتنفس في غير أوانها بين بلاطتين، عن عصفورٍ أضاع طريقه إلى عشه في أربعينية الشتاء! عن عاملٍ آسيوي ماتت أمه ولا يعرفُ عنها شيئاً! تفاصيل التفاصيل تهمه، ولا تصغر في عينه بساطة الأشياء، لطالما رأى ما لم يره الآخرون، حمل معاناة الإنسان رسالةً من خلال أفكاره الخلاقة التي تؤثر بشكل مباشر وواضح في كل من حوله، أصبح هذا الهم سرّ تميزه على الصعيد الإنساني.
«قلبي بومٌ في يوم عاصف»
هكذا وصف ضربات قلبه في عيادة التخطيط للطبيبة، وأردف
«الله، هذا قلبي!..»
يعرفُ أبو فراس كثيرا عن الناس في الوقت الذي لا تعرف الناس عنه الكثير!.. شعرهُ حياته، ولا يرى أبداً ما يستحق الالتفات..!
تمتم لي ذات خريف: «هذا العظيم بدر شاكر السيّاب.. لم يحضر جنازته سوى حارس المقبرة والدفان وأنا!..»
نظرت في عينيه، كان يبتسم!.
المرء, إنسانيته.. روحه الباقية في المدى.. والشاعر قصيدة تُكتب عبر الزمن لا أوانٌ فائت. علي السبتي، يرى أن البناء الأصيل هو بناء الذات، كيف تتربى على إنسانيتها، وتزهو برهافتها على الكائنات.. الأمر الذي يجعله لائذاً بذاته، التي رباها ليس من أجله فقط بل من أجل أجيال عشقت تقربها منه، فهو اجتماعي بامتياز، حمل على عاتقه مسئولية أخلاقية قبل كونها ثقافية أصيلة، نادراً ما تجد شاعراً أو كاتبا أو حتى مهتماً بالثقافة من جيل الشباب، ليس صديقاً لأبي فراس!.. يجتمعون من حوله معجبين بأفكاره الخلاقة، عاشقين حكاياته الضاربة في عمق التاريخ، ممزوجة بروح الزمن الراهن.
في جانب الذات، وبنائها على أصالةٍ قادرة على عبور أجيال، يقول في إحدى قصائده:
وقد عودت نفسي أن أراها
كما أهوى ودربي مستقيمُ
ومالي من أنيسٍ حين أخلو
إليها غيرها فهي النعيمُ
أحبّه كل من عرفه، مشبّعٌ بإنسانية جذّابة! عمْرُ الإنسان بالنسبة له معرفته، وقيمته ما يبدعه.
حنّكته الحياة، فامتلك من الحكمة ما يكفي لأن يربي جيلاً بعد جيل، بلا أي أبوية مفروضة، يجتمع دائما حوله الشباب، ينهلون من محبته ويرون من خلال روحه الشفافة، يقدّر ويحترم كل مجتهد، لا يُبخس الآخرين اجتهاداتهم، وهو دائماً على إدراك تام بما يدور من حوله، يفضل الصمت على الكلام في ما لا يعجبه، ويفضل الإطناب على الإسهاب في ما يعجبه!.. لديه قناعاته الخاصة وفهمه المتوازن لما يرى، لا يتردد أبداً عن تعبيره بخصوص الحقيقة التي تُخجل كثيرين، إذ لا يتمنع عن الإفصاح وبمباشرة، الأمر الذي يجعله شعبيا بامتياز، لافتاً انتباه من حوله دون تصنع أو تملق، قال مرة:
وكثير من السنين عجاف
وقليل من الرجال عظامُ
علي السبتي ذو (اتزان ثقافي)، لا تسبق الخطوة الأولى لدية خطوته الثانية، ما جعله رائداً للحداثة الشعرية في الكويت، والخليج العربي، في الوقت الذي هو فيه غير خارج عن المألوف، ولا متنكراً للإرث الثقافي، جاء فقط ليكمل ما بدأ ليس ليهدم ثم يبني، كما يتصور كثرٌ من الحداثيين في الثقافة العربية.
أنسيتِ شاعرك المتيم يا رباب؟
أنسيتِ أشعاري وحبي والعذاب؟
أنسيتِ أيام الطفولة؟
أنسيتِ حتى الذكريات
أنسيتِ أياماً قضيناها كأحلى ما تكون؟
بهذه الكلمات البسيطة، أعلن السبتي عن شكل شعري جديد في الكويت، والخليج العربي، بلا أي تحرج من إرث ثقافي كامل، حمل له كل تقدير وإعجاب، ولكن لابدّ من المواكبة، والإتيان بالجديد لكل زمن جديد.
الكتابة لديه إصرارٌ، غير آبه بشهرة، دائم البعد عن الأضواء والظهور، المهم هو أن يقول، لا ما يُقال عنه، نرى هذا جلياً في قوله:
سأحفر في الصخر دربي
وأكتب شعري في الماء
أبو فراس، يحرّضك دائماً على الانتصار للحق، غير آبه بملامة لائم، انتماؤه الإنسان وحده، من أجل الإنسانية لا غيرها يتنفس، يتحدث ويكتب.. الحياة بالنسبة له ناسُها.. لا يتردد أبداً عن قوله (الصفعة)، صادماً من أجل الحق، وليكن ما يكون بعدها، قال مرة بكل وضوح:
مدينتي.. متى أراكِ تزدهين بالبشر؟!
يظل الإنسان الشاعر علي السبتي، ذاكرة في تاريخ الكويت، وبصمة في الثقافة الخليجية، فارضاً (مُغايرته) للأجيال المتعاقبة، فهو (الأميز) في مرحلته، يرنو دائماً إلى الجديد، غير متخلٍ أبداً عن الإرث الثقافي الجماعي.. الأمر الذي يجعل بناءه الثقافي جاداً قادراً على المواكبة والبقاء في الوقت ذاته.