دلالات التصوُّف في المعنى والمبنى عند الشاعر البحريني إبراهيم بوهندي

دلالات التصوُّف في المعنى والمبنى عند الشاعر البحريني إبراهيم بوهندي

لم يكن غريبًا أن يستعمل الشعر للتعبير عن التجربة الصوفية ونقل أحوال المتصوفة العرفانية ومجاهداتهم من أجل الترقّي في مقاماتهم الباطنية، ويتجلّى هذا الربط بين الشعري والصوفي منذ مرحلة مبكرة وازدهر في العصر العبّاسي. 

وإن كان في بداياته من نظم المتصوفة أنفسهم إلا أنه في العصر الحديث والمعاصر أصبح من نظم الشعراء المبدعين من خلال استعاراتهم لشخصيات صوفية شهيرة مثل أدونيس الذي وظّف النفري وصلاح عبدالصبور الذي استعان بشخصية الحلاّج، ونازك الملائكة التي وظّفت شخصية رابعة العدوية.. كما اشتغل شعراء آخرون على توظيف التجربة الصوفية في حدّ ذاتها من خلال الانزياح الصوفي، وتوظيف الرموز والإحالة على المناخات الصوفية، مثل المنصف الوهايبي ومحمد الغزي في تونس وعبدالعزيز المقالح في اليمن وإبراهيم بوهندي في البحرين.. لذلك يقول الدكتور جميل حمداوي «قلّما نجد شاعرا عربيا معاصرا يكتب شعر التفعيلة أو الشعر المنثور من دون أن يوظّف التراث أو يشتغل على الكتابة الصوفية، لهذا انتشرت هذه الموجة من الكتابة الأدبية الشعرية التي تحتفي بالتصوف ومناخاته فنجد كبار الشعراء مثل أدونيس وعبدالوهاب البياتي ومحيي الدين خريف وصلاح عبدالصبور وإبراهيم بوهندي في كتابه الشعري «قيام السيد الذبيح».
 يقدم الشاعر إبراهيم بوهندي ديوانه باستهلال شعري يعتبر عتبة مهمة، لأن من خلاله نستكشف الكون الشعري الخاص به، ويبدو أنه يتعمّد أن يكون هذا الاستهلال الشعري من إبداعه وكأنه يريد أن يقول للقراء إنه سيقودهم بنفسه إلى استكشاف مناخاته والتوغّل في عوالمه، يقول من قصيد «حسيس ليلة النجوى» (ص 23):
تجلّى 
والنور صلّى 
أصابت رؤاه 
فما صلبوه 
وما قتلوه
ولكن من باع في حبّه 
واشترى
صار حبر المكان 
وبدر الزمان
وصدر الورى.
هذا الاستهلال الشعري يحتوي على كل المفاتيح الممكنة التي يمكن أن نسترشد بها ونحن نتجوّل في قصائد هذا الديوان، ومن خلال مجموع المفاهيم والمصطلحات (التجلّي، النّور، الرؤى، الصلاة، الحب ...) نلاحظ أنها يمكن أن تكون مفاتيح الشاعر بوهندي يرسم بها إشارات بيّنة تفتح على فضاء صوفي مكثّف وعميق، كما نجد في هذا الاستهلال الشرعي انفتاحاً على المكان والزمان بما يجعل من صوفيته تمتد في الزمان والمكان، وهذا ما يجعلنا ندرك أن الديوان سياحة عبر ممرّات التاريخ الإنساني.

1 - دلالـة المطلق: 
أ- المطلق بما هو القيم الإنسانية:
 وفق الدكتور علي القاسمي فإن الباحث والشاعر فاروق شوشة يميّز بين نوعين في الشعر الوجداني:
- الحب الإلهي، وهو حب المقدّس ويتجه نحو مدح الإله والرسول الكريم. 
- الحب البشري الذي يتجه إلى الحب العذري والحب الجسدي.
 إلا أنني أجد أن التجربة الإنسانية لدى الشاعر إبراهيم بوهندي تشمل القيم الأخلاقية وهي في ذلك تتعدّى بُعدي الزمان والمكان وتتجسّد في حب مقدس لقيم إنسانية، بمعنى أن أهم ما يميّز خاصية الكتابة الصوفية عند إبراهيم بوهندي أنه يعتمد المناخ الصوفي ويستدلّ  بالإشارات النورانية ليصبح هذا المقدس الذي يمتدحه قيمًا إنسانية، وذلك هو مطلب المبدع الحقيقي الذي تؤلمه المرحلة التي يعيشها الإنسان العربي في ظل عوالمه السياسية والاجتماعية الضيقة جدا، حتى أنه يختنق ويبحث عن عوالم أخرى موازية. 

ب- المطلق بما هو الحقّ الإلهي:
 تبدو لي جدّة القصيدة عند إبراهيم بوهندي أنها لحظة روحية خالصة تنساب في اتجاه هذا الكائن المطلق الذي يكتب له بكثير من الشوق والحنين والتشظي والعشق، لكنه لا يسمّي هذا المطلق ولا يحدّده وإنما يقدم بعضًا من صفاته التي تكاد تقوله ولا تقوله، يقول في قصيد «غشية الماء (ص 101):
هذا سبيل العاشقين 
إلى الحبيب 
أشار
وراح يجمع 
ما تناثر في السماء
من الشروق إلى المغيب 
لغشية 
يجلو بها في دربه.
 نلاحظ في هذا القصيد أن الشاعر إبراهيم بوهندي يقتفي أثر البهاء ويقدم ولاء الطاعة لهذا المطلق البديع، لذلك يقدم الشاعر أوصافا شتّى لهذا الكائن المطلق الذي تهابه الظلمات، والضوء يقود عشاقه إليه وتتداعى اللغة في حضرته ويختار الوسيلة التي بها يدرك هذا المطلق السرمدي وهي استمالة الحواس، يقول «أصغيت، رأيت»، بحيث تصبح الحواس هي واسطة بين الشاعر والمطلق، وإذا اعتبرنا هذا المطلق هو الحقيقة فإن الشاعر بوهندي هنا يختلف مع الفيلسوف ديكارت الذي يقطع مع الحواس ليدرك الحقيقة، ولكنه يلتقي مع الفيلسوف مرلوبنتي عندما يعتبر الحواس شرط إدراك الحقيقة.
 إذن الشاعر بوهندي يعتمد الحواس ويذهب في مداها حتى يصل إلى حدودها، وعندما تعجز الحواس ينتقل إلى المرحلة الموالية وهي استعمال المدارك العقلية بتوظيف فعل القراءة بما هي تمثّلٌ ذهني.

ج- المطلق بما هو القصيدة:
يحدد الباحث الدكتور علي القاسمي بعض خصائص الشعر الصوفي من خلال رأي الدكتور محمد الشدّادي أنه يستند إلى العناصر التالية:
- تجربة باطنية صادقة. 
- شعور بألم المعاناة. 
- التجوال في مناطق قصيّة. 
- اكتشاف المجهول برؤية تغوص في الأعماق.
 نلاحظ أن هذه العناصر تنفتح على تجربة روحية فيها الحيرة والتشظّي والتوتر والقلق، وهذا ما نتلمّسه جليّا في قصائد هذا الديوان لإبراهيم بوهندي، مثلا في قصيد «حسيس ليلة النجوى  (ص 18):
تميد بي أرضه 
يتمادى 
لعلّ ارتعاد الفريضة 
كان عنادا يرى في دموع الخضوع مدادا 
تهادى 
إلى صدره فامتراه 
يجادل في سرّه ما سرى.
ويقول في قصيد «غيبة (عبدالله) العاشق» (ص 33):
في هدأة الروح انتشى 
متهجّدا 
لا يستطيب النوم 
لا ترهبه في لذة الصحو 
تعاويذ دنون الليل والقلب كتاب ودواة.
ولعلّ هذه الأبيات تكشف بعض ما يعيشه الشاعر من مكابدة ومعاناة تمتزج بالحيرة والقلق والتوتر، وتجعله يكتب من منطلق تجربة حسيّة حقيقية وتجعل الشاعر بوهندي يتجوّل في مناطق قصيّة من تجربته الصوفية الخاصة ويكشف عن دلالات جديدة للمطلق الذي يكتب عنه، إذ يقدّم إشارات تحوّل المطلق من كائن هلامي ميتافيزيقي غير قابل للتحديد إلى كائن متعيّن وحسّي، بمعنى أن بوهندي يقوم بعملية تنزيل المطلق من العالم العلوي إلى العالم السفلي، فيجعل له بعدًا إنسانيًا خالصًا يشكّله في القصيدة بما هي نتاج إبداع إنساني، وبهذا المعنى يصبح بوهندي الشاعر هو مبدع القصيدة ومانح الحياة لها بفيض من الدلالات، مثلما يذهب نيتشة إلى القول «إن الفنّان هو الخالق الحقيقي».. وفي ذلك نلاحظ قول الشاعر (ص 9):
لمّا أتاني 
في وهيج الروح 
ينثر شعرها 
ظلا على كل الظلال 

في صدر الحياة 
 ولعلّ الشاعر هنا يتحدث عن شيطان الإبداع الذي يأتي بغتة ويشتدّ على صاحبه حتى يتمكن هذا الأخير من القبض على حفيف اللغة وخطو الحروف على أوراقه لتكون القصيدة التي يبحث عنها، وربما لذلك اختار مناخًا صوفيًا فيه كثير من المعاناة والتشظّي لحظة كتابة القصيد يعبّر عن عشق عميق وصادق لها يجعله يتطهّر من أجل الولوج فيها، فكأنها بالنسبة إليه صلاة، يقول (ص 40):
دعوت ربي 
علّه يشرح صدري 
ثم سبحت له 
تهيّأت زاوية في نظري 
ثم توضأت 
وصليت صلاة في الخيار.

تجلّي القصيدة
لا يمكن للشاعر وقد استوفى كل شروط حضور القصيدة من استعداد نفسي وذهني جعله في اللحظة الصفر، إلا أن تكشف القصيدة عن نفسها وتقبل عليه يقول في «غيبة (عبدالله) العاشق» (ص 34):
قاب قوسين 
من النار تدنّى
كشفت عن سرّها 
لمّا بدا السرّ تثنّى
راح في عليائه يبدع فنّا
سكب البحر مدادا 
سبّحت فيه خوافيها اللّغات.
حضور القصيدة هو الذي سيمنح الشاعر صفة الشعرية ويكسبه مهمة جديدة هي اكتشاف المعنى، فيقول في قصيدة «قراءة في لغة الحفيف» (ص12):
لست إلا شاعرا 
يهب القصيدة 
لحظة الحزن الكثير
وساعة الفرح القليل.

د- المطلق بما هو المرأة:
 اعتاد الشعراء على الربط بين القصيدة والمرأة، ولم يشذ شعراء التصوّف عن ذلك، فكانت هناك علاقة عضوية بين التصوّف والحب الرهيف، من ذلك أن الدكتور علي القاسمي يستحضر تعريفا ممكنا للدكتور زكي مبارك يعتبر فيه أن «الحب الرقيق هو التصوف الخالص»، ولهذا اعتبر أن الحب الذي يكنّه جميل إلى حبيبته بثينة هو شكل من أشكال التصوف الخالص، وفي ديوان إبراهيم بوهندي «قيام السيد الذبيح» نلمس هذه النزعة الوجدانية الطافحة التي تنتشر في مقاطع عدة توحي بنزعة تعلّق وإخلاص شديدين للمرأة، وهذا يؤسس فعلا لعلاقة قوية بها، يقول في قصيدة «هسهسات في الصدى» (ص 69):
لا تبرحي
هذي الجموع تحلّقت 
والرقص ورد
تاه في شهد الغرام
لا تبرحي
كل القلوب تبوح من أسرارها 
وتذوب في معنى الكلام.
 يبدو أن الشاعر إبراهيم بوهندي يؤمن بتوسّع مفهوم التصوّف الذي لا يحتكر في الحب الإلهي، بل يمكن أن يتمظهر في مجالات عدة، تماما مثلما قال فكتور هوجو «إن الله يتجلّى إما مباشرة في الطبيعة، وإما بواسطة الشاعر» والشاعر يرى الله في حبيبته.
هذا ما يجعل مكانة المرأة في شعر بوهندي ذات بعد قيمي يجعلها فكرة ترمز إلى مجموعة من الدلالات الرهيفة مثل البراءة والعمق والخير والجمال، يقول في قصيد «قراءة في الأيام» (ص55):
أنا هنا 
أرسم وجه طفلة 
هي الأنا وأنتما ونحن 
للآتين
وهي كلما تهيأ السيف 
ترانا قد برينا قلما.
 إذن تبدو المرأة في شعر إبراهيم بوهندي فكرة قيمية يكتب لها وفق مناخ صوفي شعرا روحيا تعكس عشقه لها بما يجعلها عنصر توازن في الحياة، بل لعلها شرط وجود الإنسان، وربما لا نغالي إذا قلنا إن المرأة عند بوهندي هي التي تضفي على الإنسان إنسانيته، وهذا ما يجعل الحب الشديد تجاه الحبيبة يشي بقدسية المحبوب.

آلام الاغتراب
ولعلّ ما يزيد في ألم الشاعر أن الاغتراب الشديد الذي يعيشه لم يزده إلا انشدادا لبلاده، فهو غير قادر على التواصل مع بلاده بما هي منظومة قيمية واجتماعية وثقافية، ولكنه لا يستطيع التملّص من عشقها، يقول في قصيدة «أحب بلادي» (ص 88):
تزف الحنين
فتهفو قلوب 
تصافق فيها النّوى بالوصال
وصوت ينادي
أحب بلادي 
أحب أوالْ.
(أوال: هي الاسم القديم للبحرين)
إذا كان الصوفي يشعر بالاغتراب في مجتمعه بين أهله وداخل مجتمعه، فإننا نجده يحنّ دائما إلى البحث عن الأمن والطمأنينة، وهذا ما يوقد حنينه إلى الزمن المقدّس، لاعتقاده أنها أقرب مسافة تجاه الإله بما هو الحقّ المطلق.

الحنين إلى الزمن المقدّس
 يشير الباحث شعبان أحمد يدير في مقالة له إن «أغلب شعراء الصوفية في هذا القرن كانوا مغتربين اغترابا داخليا وخارجيا، بحثا عن أماكن الفتوحات «ولعلّ هذا ما انتهى إلى «أدب الرحلة» بما تعنيه من سياحة في أرض الله وتجوالا بين الأماكن المقدسة، كما يمكن لهذه السياحة أن تكون ذهنية ويعبّر عنها شعريا من خلال التجوال بين الأماكن الرمزية، لذلك نجد إبراهيم بوهندي يحطّ الرّحال في القيروان، لذلك كتب قصيدة بعنوان «صلاة القيروان» (ص 71) وفيها يفيض شوقا إلى زمن الفتوحات الإسلامية حيث يتجلّى الشوق إلى الحقّ المطلق وهو يطأ بلادًا خالية من التوحيد ويزرع فيها بذور الحب الإلهي، يقول في قصيد «صلاة القيروان» (ص 73):
دعاني ليكشف لي سرّه فاستجبتُ
استمعت له في رفيع التجلّي.. يخاطبني 
ويصلّي.. وقفت بوجد له في الدروب 
التي كلما تنطوي تحتوي وتجلّي..
وقفت .. أبان فأوضح ما قد جهلتُ
وقال: أنا موغل في القدم.
 في مثل هذه التجلّيات الشعرية نلاحظ خفوت عبارات الألم والحرقة، وفي المقابل تصاعد ألفاظ مثل: أرى، تهلّ، أباح، يحيا، أتيت، يبعث، سلام، وجدت .. وكلها توحي بحالة إشراق تبعث في النفس الهدوء وتشعّ فيه الأمان، أي يتضاءل إحساس الشاعر بالاغتراب والقلق والضياع والحرقة، بما يعني أن علاقته بالأماكن المقدسة قد حققت الانسجام بين الشاعر وذاته، وأصبح هناك نوع من الألفة، يقول في قصيدة «صلاة القيروان» (ص 80):
أراك تهلّل 
حيث تهلّ
فينهلّ ماء
ويصدح فيها جلال البيان.
أراك تعيد الحياة إليها
فتنساب مكة فوق المكان.
وإذا كان المتصوفة في ارتحالهم الذهني والوجداني إلى الأماكن المقدسة يعبِّرون عن قطيعتهم التامة مع الواقع، فإن الشاعر الصوفي يختلف عنهم في أنه ينفتح على الأماكن المقدسة بما هي دلالات رمزية تشير إلى المجد والقوة والصدق، وقد يكون في ذلك هروب من رداءة الواقع.

2 - الخـصـائص الفنّـية للديوان
 اعتمد الشاعر بوهندي في ديوانه على لغة جميلة ورهيفة تسبح في فضاء روحي وشفّاف تحتفي بالقيم الجميلة وتنتصر للبهاء المنتشر في القيم والطبيعة والإنسان، وفي ذلك اعتمد الشاعر بوهندي على بعض العناصر الفنية لبناء قصائده من أهمها:

أ- الخيال:
 يكشف الخيال عن قصور العقل الإنساني ومحدوديته في إدراك الحقّ المطلق وتمثّلاته المختلفة، ولذلك يلتجئ إليه المتصوفة ليصبح إحدى الدعائم الأساسية لمعرفة تتجاوز العجز الإنساني تمكّن من الإشراف على الحق المطلق، ولأن ابن عربي يقول «إن الخيال هو الحدّ الفاصل بين المعلوم والمجهول، بين المحسوس والمعقول» ويسمّيه البرزخ، فإن عند الشاعر إبراهيم بوهندي يتموقع الخيال بين لحظة الصحو ولحظة النوم، لعلها لحظة الغشية بما هي حالة تتوسّطهما وتفتح على لحظة وجودية تسمح بالولوج في عالم روحي شفّاف، يقول في قصيدة «لماذا.. وكنّا معك» (ص 94):
قال قولا جميلا 
أفاق وأغفى
رأيت السماء تشقّ له صدرها 
فأبان وأخفى
سمعت قليلا
تخطّى هجيج التجلّي
أقام وأطفى
رأيت المياه تصلّي
إليه.
في هذه الغشية بما هي منزلة بين المنزلتين يحدد لنا الشاعر بوهندي طبيعة هذا الخيال الذي يصبح مصدرًا للمعرفة الروحية ومنهجها، يقول في قصيدة «غشية الماء» (ص108):
قرأته
يدعو
فتحمله السحابة
حيثما شاءت له 
عين الخيال
فتارة 
في هالة بين السحاب
وتارة 
في الطير
أجمل ما يكون 
وحوله تبدو النجوم إذا اختفى
وإذا بدا تجري به.
يقول ابن عربي في «الفتوحات المكيّة» «ليس للقدرة الإلهية في ما أوجدته أعظم وجودا من الخيال، فيه ظهرت القدرة والاقتدار الإلهي، فهو أعظم شعائر الله على الله». ولعل قيمة الخيال هنا أنه يسمح بولوج فضاءات معرفية روحية شفّافة، ومن ثمة نحدد الخاصية الثانية في بنية القصيدة الصوفية عند بوهندي وهي الصورة.

ب- الصورة:
 من خلال ديوانه «قيام السيد الذبيح» نجد الشاعر البحريني في قصائده الصوفية الرهيفة يميل إلى توظيف الصورة ليحلّق بنا في عوالمه الروحية الشفيفة، ويميل في ذلك إلى الصور الاستعارية:
علاقة الصورة الاستعارية بمبدأ الحلول
 تتمثّل هذه العلاقة عندما يسافر بنا الشاعر في عوالمه الرّوحية، فيكون الانطلاق من عتبة الغشية بما هي حالة بين الصحو والغيبوبة، حيث ينشط الخيال ويحلّق بصاحبه بعيدا عن عالم الكون والفساد وقريبا من الحقيقة المطلقة، يقول في قصيد «غشية الماء» (ص101):
هذا سبيل العاشقين
 إلى الحبيب
أشار
فانكشف الطريق
وراح يجمع 
ما تناثر في السماء
من الشروق إلى المغيب 
لغشية 
يجلو بها في دربه 
يمشي على غيم 
ويغطس في الرياح. 
 هذه الصور الاستعارية تجعل طقوسا خاصة للحق الإلهي الذي يبدو «المثل الأعلى»، والتي تجعل من الحبيبة خلاصة كل النساء وتحوّل الوطن إلى معطى مقدس فيتحدث عن بلاده.

علاقة الصور الاستعارية بالرّحيل
 في مختلف قصائد ديوان «قيام السيّد الذبيح» تتعدّد صور الرحيل الدائم بحثا عن الحقيقة، ويأخذ الرّحيل أشكالا عدة، فهو رحيل داخل الذات ورحيل في الزمان ورحيل في المكان، وفي جميعها هو رحيل من أجل البحث عن الحقيقة وينشد التوّحد بالمطلق، لذلك يقدم بوهندي صورة شعرية في منتهى الشفافية تجسد ترحاله المضني واللذيذ داخل الفكرة التي يعيشها، وهذه الصور تنقله من عالم الحس والمادة إلى عالم النقاء والصفاء للوصول إلى عالم الحق المطلق، لذلك نجده في مرات عدة يوظف صورا شفيفة تطوي الزمن ليستحضر الزمن المقدس (زمن الفتوحات الإسلامية) وإلى المكان المقدس (مهبط الرسالات السماوية).

علاقة الصور الاستعارية بالرؤيا
 يسمح خيال الصوفي لصاحبه باختراق الحُجُبِ والانكشاف على عوالم مدهشة تصله بالحقيقة المطلقة وبالجوهر الخالص، وهذا ما تعجز عن نقله الحواس البشرية وما يعجز عن تمثّله العقل الإنساني، إنها لحظة الرؤيا التي يكون فيها المُحب في علاقة بالمحبوب فتتبدّد فيها الحيرة ويصل الشوق لغايته.. في هذه اللحظة الاستثنائية يستعين الشاعر باللغة ليكتشف عجزها، فيستعين بصور استعارية يسعى من خلالها إلى الإحاطة بهذه اللحظة المدهشة، يقول في قصيد «قال أبي» (ص40): 
كاد أن يلتهمني 
ضوء 
تراءى في سماء الله
قنديلا على هيئة نجم
زيته يخرج من بحر 
على هيئة سهم
شدّ خيطا في سواد السحر.
 يقول د.حيدر غيلان «إن الصورة الشعرية الاستعارية التي تجعل الشاعر يحلّ في الأشياء ويذوب فيها وتتشبّع روحه وخياله لاستيعاب هذا العالم الواسع، فيغدو مع العالم وحدة لا تنفصم».
لعل بوهندي ينتصر شعريا إلى عالم روحاني شفّاف يجعله موازيا لعالم المادة والفساد والفوضى، بل يبدو هو العالم الأفضل الذي يلتجئ إليه ليطهّر نفسه من أدران الحياة. وإذ ينتصر إلى العالم الروحاني فإنه يبدو أنه يحافظ على دوره كشاعر وربما يراه المخلّص للبشرية من رجسها وعنفها وتوحُّشها وفوضويتها، لذلك يقول في قصيد «في قراءة في لغة الحفيف» (ص12):
لست إلا شاعرا 
يهب القصيدة 
لحظة الحزن الكثير 
وساعة الفرح القليل
تصيده كلماته 
فيموت إن وجد السبيل.
 إذن من خلال العنوان يجوز لنا أن نفهم أن الشاعر إبراهيم بوهندي يسعى في كتابه هذا إلى التنبؤ بمخلّص للمجتمع وبعودة المنقذ الذي سيضحي بنفسه من أجل تطهير المجتمع من الفساد والفوضى وانحدار القيم، ولعله يعتبر أن الشعر بما أنه أحد أهم الإبداعات الإنسانية هو الطريق إلى الخلاص.. وبذلك ينتصر للقيمة على حساب النجاعة، وينتصر للجمال على حساب الرداءة وينتصر للروح على حساب المادة >
- إبراهيم بوهندي: ديوان «قيام السيد الذبيح» فراديس للنشر والتوزيع / مملكة البحرين الطبعة الأولى 2006.