الوعي والوعي المفارق في رواية الأسود يليق بك

الوعي والوعي المفارق في رواية  الأسود يليق بك

«الأسود يليق بك» رواية جديدة لأحلام مستغانمي أثارت كسابقاتها من أعمال الكاتبة كثيراً من الجدل النقدي، سواء في البنية الجمالية أو الخطاب الثقافي الذي تقدمه. يقع قارئ الرواية في فخ الإيهام بالخطاب النسوي الذي تقدمه الكاتبة، فالرواية تحكي عن قصة حب بين مغنية جزائرية ورجل أعمال لبناني يعيش في البرازيل. تحكي تفاصيل قيام هذه العلاقة منذ أن رآها رجل الأعمال في برنامج تلفزيوني تتحدث عن الحب، وقرر أن تكون له وأن يمتلك قلبها، ثم تستمر الأحداث، ينصب لها الفخاخ، الفخ تلو الآخر حتى يمتلك قلبها، لكنها تثور لكرامتها في لحظة ما وتنهي هذه العلاقة، وتقرر أن تنجح في مشروعها الغنائي حتى تنتقم منه. 

القراءة الأولى، قراءة المستوى الأول من الخطاب يبين أن هذه الرواية تنتصر للمرأة، وتعلي من شأن الخطاب النسوي المنحاز للمرأة، لكن القراءة الأعمق لها عبر آليات النقد النسوي يمكن أن تكتشف أن الرواية ومن ورائها الكاتبة تتبنى خطابا ذكوريا فحلا ينال من المرأة ويكرس للمقولات التي تهمشها وتقصيها وتجعل منها تابعة للرجل.
قبل الحديث عن الخطاب الثقافي في الرواية، وكشف مستوياته نتحدث عن الخطاب الجمالي الفني. وبما أن عتبات النص تعد قراءة صالحة وجيدة للرواية، فنبدأ من الغلاف الذي تتصاعد فيه زهرات التيوليب بلونها البنفسجي الغامق، والتي تجاور وتتموسق مع الأسود الذي رآه البطل يليق بتلك الفتاة. إنه الأسود لونه المفضل، لونه المتفرد في الألوان والذي يدل على ذوقه الرصين المتفرد في اختيار الألوان والنساء. وكما أن الأسود لونه المفضل، كذلك زهور التيوليب اختارها لتكون طريق الغواية للفتاة، فكلما أقامت حفلا غنائيا أو لقاء تلفزيونيا في أي مكان في العالم، دوما تأتيها زهوره الداكنة التي تماهي الأسود في شموخه.
يجاور زهور التيوليب جملة الأسود يليق بك في تتال من أعلى لأسفل حتى توازي الجملة طوليا الزهرات الصاعدات من أسفل، وفي هذا التوازي ما يكشف بشكل دال عن رمزية اللون ودلالته على طبيعة البطلة التي تتسربل بالحزن والصمت. يعلو الخطين المتوازيين من الزهور والعنوان اسم الكاتبة باللون الأحمر، في إشارة دالة على أن اسم الكاتبة يحمل النص ويسوقه للقارئ مهما كان محتوى الرواية وجمالياتها.
ثم تخلص للمفتتح الذي تصدر به الرواية وتهديه لصديقة لها عاشقة لاتزال تعيش على رماد عشقها الذي انطفأ والتي تعترف بأنها حاولت قدر الإمكان أن تطيل عمر العلاقة، لكن القدر والرجل الغائب الذي هو الطرف الثاني من العلاقة لم يسمح لها بذلك - فظلت المرأة تعيش على الرماد الذهبي للعشق، ومن هنا نفهم أن الصديقة هي بطلة الرواية وليست الكاتبة، لكن الكاتبة تستنهضها وتطلب منها أن تقوم للرقص. «من أجل صديقتي الجميلة التي تعيش على الرماد الذهبي لسعادة غابرة، وترى في الألم كرامة تجمّل العذاب، نثرت كل هذه النوتات الموسيقية في كتاب.. علني أعلمها الرقص على الرماد .. من يرقص ينفض عنه غبار الذاكرة.. كفى مكابرة.. قومي للرقص». 

سرديات موسيقية
قسمت الكاتبة روايتها إلى سرديات أو حركات موسيقية، وكأنها تقدم لنا سيمفونية لحزن تلك السيدة، الحركة الأولى ثم الحركة الثانية، وداخل كل حركة نجد سرديات تفتتحها بمقولات كاشفة ودالة لفلاسفة ومفكرين، ولم تكتف باستخدام الحركات الموسيقية للسيمفونية التي سترقص عليها الصديقة بدلا من أن تعيش على رماد العشق، بل استخدمت تفاصيل لغة الموسيقى من وصف للآلات الغربية والشرقية، وحضور طاغ لكل مفردات الموسيقى، بل لم تكتف بذلك، فكثيرا ما نجد شخوص الرواية موصوفة بشكل موسيقي، فالرجل العاشق تصفه في بداية الرواية بالبيانو المغلق على نفسه: «كبيانو أنيق مغلق على موسيقاه، منغلق على سره» (ص11). أما البطلة فهي مثل ناي، ناي حزين انتزع من مكان مولده، ويظل يبكي في حنين وتحنان لأرض المولد. 
اتسمت لغة الرواية بالشعرية كعادة مستغانمي في كل مشروعها، فهي تراهن طوال الوقت على شعرية اللغة، فتنشغل باللغة الشعرية عن لغة السرد الذي كان يمكن لها من خلالها أن تنسج العالم السردي بلغة دالة وعميقة ومكثفة وبصرية مشهدية في الوقت نفسه، لكن غواية اللغة الشعرية جعلتها تسقط طوال الوقت في الحشو والإطالة وهي تصف العلاقات الإنسانية، وتنشغل بالشعرية عن استبطان وعي الشخصيات من خلال اللغة السردية.
وحين يقرأ القارئ هذه الرواية باعتبارها رواية تناهض تعرَّض المرأة للإهانة والألم من الرجل الذي يهجرها، يتوهم أنها لابد أن تتبنى وجهة نظر المنهج النسوي الذي يحاول عبر السرد أن ينتصر للنساء، لكن الحقيقة التي تظهر جلية أن الخطاب في الرواية هو خطاب ذكوري بامتياز عبر تحليل وتفكيك مقولات الرواية التي تكمن في فراغات النص والمقولة، وعبر تفكيك الثقافة الذكورية التي تسيطر على لاوعي الكاتبة. 

ضد النساء
تكرس الكاتبة لمفهوم ينال من النساء ولا ينتصر لهن في الحقيقة، فالحياة هي أنثى غادرة، ما إن تعطيك حتى تسلبك، وكأن الغدر والخيانة موقوفان على النساء فقط. إذن تتبنى الكاتبة مقولات الثقافة الذكورية، وتكرس لها باعتبارها واقعا، كان يمكن لها أن تأتي بتلك المفاهيم غير المنصفة وتفككها وتجادلها وتختلف معها، لكن الحقيقة هي أتت بتلك المقولات باعتبارها واقعا وحقيقة: «هو يرتاب في كرمها، يرى في إغداقها عليه مزيدا من الكيد له، أوليست الحياة أنثى، في كل ما تعطيك تسلبك ما هو أغلى؟!» (ص13).
يسيطر على الكاتبة عبر فصول الرواية وسردياتها وعي أن المرأة هي الفريسة، الطريدة، وأن الرجل هو الصياد الذي حتما ينالها في نهاية الأمر، تتكرر الأمثلة الكثيرة عبر الرواية، مما يدل على سيطرة هذا الوعي الذكوري، والتكريس له: «ثلاثة أشهر وهو يتقدم نحوها بتأن كما على رقعة شطرنج تصلها باقات ورده في أي مسرح تغني عليه، وأي برنامح تطل فيه، كقناص يعرف كــــل شيء عن طريدته» (ص44).
هي لا تكتفي بتبني وجهة نظر الثقافة الذكورية، إنما تزيد في الأمر حتى أنها تكرس لمقولات تهين النساء، وتنال منهن على لسان بطلها: «يسليه أن يتأمل النساء في تذبذب مواقفهن، وغباء تصرفهن أمام الإشارات المزورة للحب» (ص 74). يصف البطل ابنة خالة البطلة بالغباء، بل يتهم كل النساء بالغباء لمجرد أن أعطته رقم هاتفها: «لا أكثر سذاجة من النساء، غبية قبل أن تجلسها على الكرسي الكهربائي للاعتراف، تتطوع بإعطائك من المعلومات أكثر مما تتوقع» (ص161).
رغم وعيها المتذبذب بمقولات الثــقـــافة فإنها لا تريد أن تدينها، حتى لما تلقفت الصحافة الفرنسية وجود بطلتها في باريس تغني، وأرادوا أن يقيموا معها حوارات، وسياق الحوارات يصفها بأنها عربــية تمردت على الثقافة العربية التي تنال من كـــرامة النساء وتعتــبرهن تابعات لا وجود لهن بعيـــدا عن الرجــــل، ترفض أن تقيم الحوارات، وترى أن الغرب ينتــظر من المرأة العربية والمسلمة أن تدين الثقافة، فترفض أن تدين الثقافة: «تلقفــت الصحافة قصتها، وها قد غدت رمزا للنضال النسوي ضد الإسلاميين، والعصفورة التي كسرت بصوتها قضبان التقاليد العربيــــة، متحدية من قصوا جناحيها» (ص 79).
ولما رفضت أن تتحدث عن الإرهابيين الذين قتلوا أباها وعن الثقافة العربية التي منعتها من ممارسة حقها كامرأة، إلا أنها رفضت أن تعطي الصحفيين مقولات تدين الثقافة، ورأت أن أوربا تجري وراء النساء العربيات لتتلقف قصصهن وتكرس لنظرة تنال من الثقافة الذكورية. رفضت البطلة هالة أن تدلي بأي أحاديث للصحافة، رغم أن تحيز الثقافة ضدها واقع كشفه السرد عبر تفاصيله، وكما سنواصل توضيح ذلك، بل رأت أن الصحفيين الفرنسيين يمارسون عليها إرهابا، وأنهم يريدون منها أن تدين التقاليد العربية والإسلامية، وإنها تريد أن تدين الإرهاب، وترى أنها ضحية الإرهاب وليس ضحية التقاليد والثقافة: «ثمة إرهاب آخر كان ينتظرها، مقنعا بالشفقة وبروح الإنسانية. كل من حاورها من الصحافة الأجنبية أرادها ضحية التقاليد الإسلامية، لا الإرهابيين. يريدون أن تقول إنها خرجت للغناء لكسر القيود التي يكبل بها الرجل العربي المرأة، لا لتتحدى إلا القتلة، ثم ماذا لو أن الجيش هو الذي يقتل الأبرياء وليس الإسلاميون، ويقدم نفسه كطوق نجاة، فيفضل الناس الطاعون على الكوليرا» (ص80).
على لسان البطلة تواصل الكاتبة الانتصار للثقافة الذكورية، فالمرأة حين تكون قوية وشريفة فهي تشبه الرجال، إنها حين تريد أن تمتدح  أخلاق امرأة تراها مثل الرجل ـ أو أخت الرجال: «هذه المرأة تكمن أدواتها النسائية في صفاتها الرجالية» (ص 85).
طوال الرواية ترى أن الرجولة قيمة أعلى من قيمة الأنوثة، وأنها تمتدح بطلتها بأن تشببها بالرجال، لم يكن مجرد جملة وردت عارضة، إنما جمل كثيرة تنتثر طوال النص، مما يشير بشكل لافت إلى الوعي الذكوري الذي يحكمها، فهي ترى أن الرجولة هي القيمة العليا، القيمة المثال الذي يجب أن تتطلع إليه النساء: «راحت رجولتها تحاسب أنوثتها اللطيفة، ألم يقل لها أحدهم متغزلا: أجمل ما في المرأة شديدة الأنوثة نفحة من الذكورة؟!» (ص 139). 

شهريار سلطويا
إن بطل الرواية يمارس دور شهريار الذي يعاقب  كل النساء  على خيانة ارتكبتها امرأة واحدة، فالعقاب الشهرياري ينتظر البطلة: «ربما لم يشف من خيانة المرأة الأولى في حياته، تلك التي تخلت عنه لتتزوج غيره، طوال عمره سيشك في صدق النساء، سيتخلى عنه خشية أن يتخلين عنه، كشهريار، سيقاصصهن على جريمة لا علم لهن بها» (ص 148). 
هي نفسها ترى قيم الرجولة أهم ما يميزها، هي نفسها تغضب لأنه يهين فيها قيم الرجولة التي تربت عليها، هي نفسها تعتد بكرامتها فقط لأنها ترتب على قيم الرجولة لا الأنوثة، فكأن الرجل فقط هو من يتمتع بالقيم، وأن المرأة حين تنال بعض هذه القيم وتتصف بها إنما هي تقترب بصفاتها من الرجال وليس النساء: «كانت الأنفة تزيد من اشتهائه لها.. بينما كانت هي ترى في إغداقه غير المبرر إهانة لقيم الرجولة التي تربت عليها، كلما ذكرها أنها عزلاء أمام سطوة ماله هو لا يجردها من أنوثتـــها بل من رجولتها» (ص 170).
هي ترى القيم الرجولية هي الأفضل، بل لما تمتدح بطلتها تراها «أخت رجال» أو «امرأة بأخلاق رجالية». إذن هي ترى أن مصدر فخر بطلتها أن تكون شبيه الرجل: «لم تنس تلك الجملة التي قالها لها مرة محملة بكل العنفوان الجزائري في الثناء على امرأة» يعطيك الصحة يا الفحلة متاعنا، فليكن أنه مدحها بالفحولة، أي أنها أخت الرجال كما يقولون في سورية» (ص303).
إذن هي لا تكتفي بأن تتــــفاخر بقيم الرجولة، بل تتبعها بالتفاخر بالفحولة التي هي الرديف الأكثر قربا من الذكورة، كما أنها تتبعها بتعبير «متاعنا» وما تحمل كلمة متاع من تشييء للنساء.