بمناسبة ذكرى ميلاده المائة: التجـانـي يـوسف بـشـيـر.. جحيم العبقـريـة والوجود!

بمناسبة ذكرى ميلاده المائة: التجـانـي يـوسف بـشـيـر.. جحيم العبقـريـة والوجود!

يلفت‭ ‬انتباه‭ ‬قارئ‭ ‬الشعر‭ ‬السوداني‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬سمات‭ ‬بعينها‭ ‬تميزت‭ ‬بها‭ ‬أشعار‭ ‬رعيل‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬منها‭ ‬اتباع‭ ‬ديباجة‭ ‬الشعر‭ ‬بصورة‭ ‬حاكت‭ ‬نضارة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬العصرين‭ ‬الأموي‭ ‬والعباسي‭. ‬

فأنت‭ ‬لا‭ ‬تقرأ‭ ‬عبدالله‭ ‬محمد‭ ‬عمر‭ ‬البنا‭ ‬ومحمد‭ ‬سعيد‭ ‬العباسي‭ ‬حتى‭ ‬تطالعك‭ ‬رنة‭ ‬وجزالة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬زهوه،‭ ‬فترى‭ ‬النسيب‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تجده‭ ‬عند‭ ‬جرير‭ ‬وجميل‭ ‬وكثيِّر‭ ‬عزة‭. ‬وتدلف‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬بعدئذ‭ ‬إلى‭ ‬صيغة‭ ‬الخطاب‭ ‬التقليدي،‭ ‬فتعالج‭ ‬الغرض‭ ‬الذي‭ ‬قيلت‭ ‬من‭ ‬أجله‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬البارودي‭ ‬سبقهم‭ ‬وأعاد‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬جزالته‭ ‬بعد‭ ‬عصور‭ ‬الانحطاط،‭ ‬وذلك‭ ‬بمحاكاة‭ ‬ديباجة‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬مجدها‭. ‬لكن‭ ‬دور‭ ‬الرواد‭ ‬السودانيين‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أقل‭ ‬أهمية‭ ‬في‭ ‬الرجوع‭ ‬بالحس‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬إلى‭ ‬منابعه‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ترويض‭ ‬القصيدة‭ ‬على‭ ‬التطبع‭ ‬بقضايا‭ ‬عصرها‭. ‬كانوا‭ ‬وهم‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يشعرون‭ ‬بالتكلف‭ ‬ولا‭ ‬يعتريهم‭ ‬ارتجاج‭. ‬فالبادية‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬قريب‭ ‬كانت‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬لمعظم‭ ‬السودانيين،‭ ‬والعباسي‭ ‬والبنا‭ ‬عاشا‭ ‬حياة‭ ‬البادية‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬تخيلاً‭. ‬يصف‭ ‬محمد‭ ‬سعيد‭ ‬العباسي‭ ‬منطقة‭ ‬مليط‭ ‬بشمال‭ ‬دارفور‭ ‬–‭ ‬مرتع‭ ‬عرب‭ ‬الزيادية‭ - ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬باسقة‭ ‬النخل‭:‬

وضعت‭ ‬رحلي‭ ‬بالكرامة‭ ‬في‭   

دار‭ ‬ابن‭ ‬بجدتها‭ ‬نصر‭ ‬بن‭ ‬شدادِ‭ (‬1‭)‬

فاقتادت‭ ‬اللبَ‭ ‬مني‭ ‬قود‭ ‬ذي‭ ‬رسنٍ

ورقاء‭ ‬أهدت‭ ‬لنا‭ ‬لحناً‭ ‬بتردادِ

هات‭ ‬الحديث‭ ‬رعاكِ‭ ‬الله‭ ‬مسعفةً

وأسعدي،‭ ‬فكلانا‭ ‬ذو‭ ‬هوىً‭ ‬بادي

وبذا‭ ‬عاد‭ ‬العباسي‭ ‬بالقصيدة‭ ‬إلى‭ ‬نفثها‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬–‭ ‬لكنه‭ ‬أيضاً‭ ‬نفخ‭ ‬في‭ ‬القصيدة‭ ‬حياتها‭ ‬ونشاطها‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬ونقرأ‭ ‬عبدالله‭ ‬محمد‭ ‬عمر‭ ‬البنا‭ ‬في‭ ‬نونيته‭ ‬الشهيرة‭ ‬في‭ ‬تحية‭ ‬غرة‭ ‬العام‭ ‬الهجري‭ ‬–‭ ‬نافحاً‭ ‬القصيدة‭ ‬غنائية‭ ‬وجزالة‭ ‬فريدتين‭ ‬–‭ ‬يقول‭:‬

يا‭ ‬ذا‭ ‬الهلال‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬أو‭ ‬الدينِ‭  

حدِّث‭ ‬فإن‭ ‬حديثاً‭ ‬منك‭ ‬يشفيني

طلعت‭ ‬كالنون‭ ‬لا‭ ‬تنفك‭ ‬في‭ ‬صغر

طفلاً‭ ‬وإنك‭ ‬قد‭ ‬شاهدت‭ ‬ذا‭ ‬النونِ

حدِّث‭ ‬عن‭ ‬الأعصر‭ ‬الأولى‭ ‬لتضحكني

فإنّ‭ ‬أخبار‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬تبكيني

تلك‭ ‬كانت‭ ‬خطى‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الفائت‭ ‬عند‭ ‬محمد‭ ‬سعيد‭ ‬العباسي‭ ‬وعبدالله‭ ‬البنا‭ ‬وصالح‭ ‬عبدالقادر‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالقادر‭ ‬كرف‭ ‬وغيرهم‭. ‬كانت‭ ‬ثقافتهم‭ ‬ذات‭ ‬نافذة‭ ‬واحدة‭: ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬–الإسلامية،‭ ‬فأخذوا‭ ‬يستعيدون‭ ‬خطابها‭ ‬الشعري‭. ‬وهذا‭ ‬أملته‭ ‬بالضرورة‭ ‬نشأتهم‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬تقليدي‭ ‬في‭ ‬تعليمه‭ ‬وثقافته،‭ ‬مما‭ ‬جعلهم‭ ‬يتعلقون‭ ‬بديباجة‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬عصور‭ ‬مجدها‭. ‬ولعل‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬بالشاعر‭ ‬والناقد‭ ‬محمد‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يحتد‭ ‬في‭ ‬تعقيبه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬الناقد‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬النويهي‭ ‬عندما‭ ‬أشار‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬له‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬قصيدة‭ ‬البنا‭ ‬–‭ ‬‮«‬وصف‭ ‬البادية‮»‬‭ ‬ليست‭ ‬لها‭ ‬قيمة‭ ‬أدبية‭ (.. ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬أيَّ‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬ثروة‭ ‬الآداب‭ ‬العربية‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬انبرى‭ ‬له‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬بقوله‭: (‬أما‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬رأينا‭ ‬‮«‬البطانة‮»‬‭ ‬رأي‭ ‬العين،‭ ‬وعاشرنا‭ ‬أهلها‭ ‬معاشرة‭ ‬ذوي‭ ‬القربى،‭ ‬فنجيب‭ ‬واثقين‭ ‬بأنّ‭ ‬الشاعر‭ ‬لم‭ ‬يفتعل‭ ‬صوره‭ ‬افتعالاً‭... ‬وإنما‭ ‬صوّر‭ ‬المرائي‭ ‬التي‭ ‬أعجبته،‭ ‬والسمات‭ ‬التي‭ ‬راقته‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬‮«‬البطانة‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬آية‭ ‬صدقه‭). (‬2‭) ‬ويضيف‭ : ‬‮«‬فحسب‭ ‬الشاعر‭ ‬هنا‭ ‬أنه‭ ‬صوّر‭ ‬ما‭ ‬يعجبه‭ ‬مما‭ ‬رأى،‭ ‬باللغة‭ ‬التي‭ ‬تؤثرها‭ ‬مدرسته‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬وهي‭ ‬مدرسة‭ ‬ينضوي‭ ‬تحت‭ ‬لوائها‭ ‬البارودي‭ ‬وإسماعيل‭ ‬صبري‭ ‬وشوقي‭ ‬وغيرهم‭ ‬ممن‭ ‬يؤمن‭ ‬بهم‭ ‬الدكتور‭ ‬النويهي،‭ ‬ويجعل‭ ‬منهم‭ ‬أصحاب‭ ‬طرائق‭ ‬تقتدى‭ ‬في‭ ‬البيان‭!‬‮»‬‭ (‬3‭) ‬

 

تغيير‭ ‬الخارطة‭: ‬

بينما‭ ‬كانت‭ ‬القصيدة‭ ‬عند‭ ‬جيل‭ ‬البنا‭ ‬والعباسي‭ ‬ترفل‭ ‬في‭ ‬حرير‭ ‬ألوانها‭ ‬الزاهية،‭ ‬من‭ ‬فخامة‭ ‬لفظ‭ ‬ومحسنات‭ ‬بديعية‭ ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬عند‭ ‬العباسي‭ ‬في‭ ‬‮«‬وادي‭ ‬جيرون‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬يقول‭:‬

ما‭ ‬عذر‭ ‬مثلي‭ ‬في‭ ‬استسلامه‭ ‬لهوىً

يا‭ ‬حالة‭ ‬النقص‭ ‬ما‭ ‬بي‭ ‬حاجة‭ ‬بيني

ما‭ ‬أنسى‭ ‬لا‭ ‬أنسى‭ ‬إذ‭ ‬جاءت‭ ‬تعاتبني

فتانة‭ ‬اللحظ‭ ‬ذات‭ ‬الحاجب‭ ‬النوني

يا‭ ‬بنت‭ ‬عشرين‭ ‬والأيام‭ ‬مقبلة

ماذا‭ ‬تريدين‭ ‬من‭ ‬موعود‭ ‬خمسين؟‭ ‬

وبينما‭ ‬كان‭ ‬الخطاب‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬آنئذ‭ ‬يرفل‭ ‬في‭ ‬الترف‭ ‬اللفظي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬المتماسك‭ ‬–‭ ‬ظاهرياً‭ ‬على‭ ‬الأقل‭-  ‬إذا‭ ‬بفتى‭ ‬يطل‭ ‬عليهم‭ ‬ويرمي‭ ‬بحجر‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬الساكنة،‭ ‬فيرتجُّ‭ ‬سطح‭ ‬البحيرة‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬الفتى‭ ‬سوى‭ ‬التجاني‭ ‬يوسف‭ ‬بشير‭ ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬رسم‭ ‬خارطة‭ ‬الشعر‭ ‬السوداني‭ ‬آنذاك‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬علامة‭ ‬استفهام‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬القصيدة‭ ‬ومضمونها‭. ‬خرج‭ ‬فيهم‭ ‬ثائراً‭ ‬وهو‭ ‬يصف‭ ‬صاحب‭ ‬أي‭ ‬رسالة‭ ‬جديدة‭ ‬بقوله‭:‬

أطلّ‭ ‬من‭ ‬جبل‭ ‬الأحقاب‭ ‬محتملاً

سفر‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬مكدود‭ ‬سيماه

عاري‭ ‬المناكب‭ ‬في‭ ‬أعماقه‭ ‬خلق

من‭ ‬العطاف‭ ‬قضى‭ ‬إلا‭ ‬بقاياه

مشى‭ ‬على‭ ‬الجبل‭ ‬المرهوب‭ ‬جانبه

يكاد‭ ‬يلمس‭ ‬مهوى‭ ‬الأرض‭ ‬مرقاه

هذه‭ ‬مقولة‭ ‬شعرية‭ ‬جديدة‭ ‬لم‭ ‬نألفها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬‮«‬وادي‭ ‬جيرون‮»‬‭ ‬للعباسي‭ ‬أو‭ ‬‮«‬وصف‭ ‬البادية‮»‬‭ ‬للبنا‭. ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬فتح‭ ‬شعري‭ ‬جديد‭ ‬بكل‭ ‬مقاييس‭ ‬النقد‭. ‬ولعلّ‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬حدا‭ ‬بكثيرين‭ ‬آنذاك‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬تفسير‭ ‬شعر‭ ‬التجاني‭ ‬مذاهب‭ ‬شتى‭. ‬منهم‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬بغموضه،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬أتى‭ ‬بالأطر‭ ‬الفلسفية‭ ‬الجاهزة‭ ‬كمذهب‭ ‬وحدة‭ ‬الوجود‭ ‬وحصر‭ ‬شعر‭ ‬التجاني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الأطر‭. ‬يقول‭ ‬هنري‭ ‬رياض‭: ‬‮«‬نهل‭ ‬التجاني‭ ‬من‭ ‬معين‭ ‬الدروس‭ ‬الدينية‭ ‬واللغوية‭ ‬التي‭ ‬تلقاها‭ ‬في‭ ‬المعهد،‭ ‬وأملى‭ ‬عليّ‭ ‬كرف‭ ‬لما‭ ‬سألته‭ ‬عن‭ ‬ثقافة‭ ‬صديقه‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬كان‭ ‬التجاني‭ ‬أثناء‭ ‬دراسته‭ ‬بالمعهد‭ ‬يدمن‭ ‬الاطلاع‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬الأدبية‭ ‬والتاريخية‭ ‬وكتب‭ ‬المتصوفة‭. ....... ‬وكان‭ ‬لهذه‭ ‬الكتب‭ ‬وغيرها‭  ‬أثر‭ ‬بعيد‭ ‬في‭ ‬إرهاف‭ ‬حسه،‭ ‬مما‭ ‬أضفى‭ ‬على‭ ‬أسلوبه‭ ‬ذلك‭ ‬الغموض‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬تعابيره‮»‬‭. (‬4‭)‬

ونحن‭ ‬–‭ ‬وإن‭ ‬كنا‭ ‬لا‭ ‬ننكر‭ ‬أثر‭ ‬كتب‭ ‬المتصوفة‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬التجاني،‭ ‬فإننا‭ ‬نرى‭ ‬أن‭ ‬التجاني‭ ‬كان‭ ‬يتمتع‭ ‬بذائقة‭  ‬شعرية‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص‭ ‬جعلته‭ ‬يشذ‭ ‬عن‭ ‬أنداده‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬التراكيب‭ ‬الشعرية‭ ‬المتعارف‭ ‬عليها‭ ‬آنذاك‭. ‬هذا‭ ‬الصعق‭ ‬الكهربي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬دفعهم‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بالغموض‭ ‬في‭ ‬شعره‭. ‬فات‭ ‬عليهم‭ ‬أنها‭ ‬معالجة‭ ‬جديدة‭ ‬أفلتت‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬محاكاة‭ ‬التراث‭ ‬وقبضته‭ ‬الصارمة‭. ‬حين‭ ‬تقرأ‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬محمد‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬بشأن‭ ‬الغموض‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬التجاني‭ ‬لا‭ ‬تملك‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تشفق‭ ‬من‭ ‬غيرة‭ ‬الندية‭ ‬والمعاصرة‭. ‬يقول‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬نقده‭ ‬لمطلع‭ ‬قصيدة‭ ‬التجاني‭ ‬‮«‬جمال‭ ‬وقلوب‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭:‬

يا‭ ‬مظلم‭ ‬الروح‭ ‬كم‭ ‬تبكي‭ ‬على‭ ‬حرق

مما‭ ‬يكابد‭ ‬منك‭ ‬القلب‭ ‬والروحُ

هوى‭ ‬بجنبيك‭ ‬مذبوح‭ ‬يحفُّ‭ ‬به

في‭ ‬عالم‭ ‬الصدر‭ ‬قلب‭ ‬منك‭ ‬مذبوحُ

يقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المطلع‭ ‬الحزين‭ ‬الأنيق‭: ‬‮«‬فالطابع‭ ‬العام‭ ‬لشعر‭ ‬التجاني‭ ‬ليس‭ ‬البشر‭ ‬والفرح،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬العبوس‭ ‬والتجهم‭. ‬والحقيقة‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬المطلع‭ ‬المتكلف،‭ ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬معظم‭ ‬‮«‬القطرات‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬شيئاً،‭ ‬فهي‭ ‬كلها‭ ‬كلام‭ ‬منمق‭ ‬برّاق،‭ ‬يروقك‭ ‬مظهره‭ ‬وتخلبك‭ ‬كلماته‭ ‬المنتقاة،‭ ‬فإذا‭ ‬بحثت‭ ‬عما‭ ‬يكمن‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬المظهر‭ ‬الأنيق،‭ ‬أعياك‭ ‬البحث‭ ‬ولم‭ ‬تظفر‭ ‬بطائل‮»‬‭. (‬5‭) ‬

أكاد‭ ‬أرى‭ ‬الغيرة‭ ‬تجرد‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬موضوعيته‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬الرائد‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬السودان‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المطلع‭ ‬كثير‭ ‬الشفافية،‭ ‬لا‭ ‬يوحي‭ ‬بشيء،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬القصيدة‭ ‬كلها‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬شيئاً،‭ ‬فكيف‭ ‬يكون‭ ‬الشعر‭ ‬إذن؟

وإنك‭ ‬لواجد‭ ‬نفس‭ ‬الاستعجال‭ ‬في‭ ‬بطلان‭ ‬حداثة‭ ‬وعلو‭ ‬مذهب‭ ‬التجاني‭ ‬الشعري‭ ‬عند‭ ‬شاعر‭ ‬فحل‭ ‬وناقد‭ ‬وعالم‭ ‬لغوي‭- ‬البروفيسور‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يشأ‭ ‬أن‭ ‬يداري‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬حكماً‭ ‬خطيراً‭ ‬حين‭ ‬تعرض‭ ‬بالنقد‭ ‬لقصيدة‭ ‬التجاني‭ ‬‮«‬جمال‭ ‬وقلوب‮»‬‭- ‬التي‭ ‬ذاع‭ ‬صيتها‭ ‬من‭  ‬بعد،‭ ‬والتي‭ ‬يقول‭ ‬مطلعها‭:‬

آمنت‭ ‬بالحسن‭ ‬برداً‭ ‬وبالصبابة‭  ‬نارا

وبالكنيسة‭ ‬عقداً‭ ‬منضدا‭ ‬من‭ ‬عذارى

وبالمسيح‭ ‬ومن‭ ‬طاف‭ ‬حوله‭ ‬واستجارا

إيمان‭ ‬من‭ ‬يعبد‭ ‬الحسن‭ ‬في‭ ‬عيون‭ ‬النصارى

فالدكتور‭ ‬عبدالله‭ ‬الطيب‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬فتحاً‭ ‬شعرياً،‭ ‬بل‭ ‬يصفها‭ ‬بالسوقية‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬‭.. ‬وهذا‭ ‬كلام‭ ‬حسن‭ ‬ظاهره،‭ ‬ولكن‭ ‬فيه‭ ‬هنات،‭ ‬منها‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬منضدا‮»‬‭ ‬والوجه‭ ‬منظما،‭ ‬إذ‭ ‬التنضيد‭ ‬يكون‭ ‬للمتاع‭ ‬لا‭ ‬للعقود‭. ‬وقوله‭ ‬‮«‬طاف‭ ‬حوله‮»‬‭ ‬وإنما‭ ‬عني‭ ‬اتبعه‭....... ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬عني‭ ‬بقوله‭ ‬‮«‬طاف‭ ‬حوله‮»‬‭ ‬‮«‬قدسه‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬أخطأ‭... ‬وكأنه‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬طواف‭ ‬المسلمين‭ ‬حول‭ ‬الكعبة‭ ‬ونسب‭ ‬مثله‭ ‬للنصارى‭. ‬وفي‭ ‬الكلام‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬ظرفه‭ ‬–‭ ‬روح‭ ‬غير‭ ‬مهذب،‭ ‬ولاسيما‭ ‬البيت‭ ‬الأخير،‭ ‬فإنك‭ ‬لو‭ ‬ترجمته‭ ‬إلى‭ ‬العامية‭ ‬لصارت‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭: ‬أموت‭ ‬في‭ ‬دين‭ ‬عيسى‭ ‬وفي‭ ‬دين‭ ‬عيون‭ ‬النصرانيات‭.. ‬وهذا‭ ‬أليق‭ ‬لأن‭ ‬يقال‭ ‬في‭ ‬المقاهي‭ ‬والبارات،‭ ‬لا‭ ‬الشعر‭!!) (‬6‭)‬

يذكر‭ ‬الباحث‭ ‬الدكتور‭ ‬أحمد‭ ‬محمد‭ ‬البدوي‭ ‬قصة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭- ‬الغيرة‭ ‬التي‭ ‬تمليها‭ ‬المعاصرة‭ ‬–‭ ‬رواها‭ ‬له‭ ‬أحد‭ ‬معاصري‭ ‬التجاني‭ ‬وشاهد‭ ‬عصره‭: (‬يقول‭ ‬حامد‭ ‬حسن‭ ‬البدوي‭: ‬رأيت‭ ‬المحجوب‭ ‬والتني‭ (‬يوسف‭ ‬مصطفى‭ ‬التني‭) ‬يعرضان‭ ‬أشعارهما‭ ‬على‭ ‬التجاني‭ ‬في‭ ‬مكتبتي،‭ ‬وهو‭ ‬يبدي‭ ‬رأيه،‭ ‬أحياناً‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬لا‭ ‬توصف‭ ‬بالمدح،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬تنسب‭ ‬إلى‭ ‬الذم‭. ‬وهو‭ ‬أيضاً‭ ‬يعرض‭ ‬أشعاره‭ ‬عليهما،‭ ‬وتنال‭ ‬غاية‭ ‬الإعجاب‭ ‬من‭ ‬جانبهما،‭ ‬بل‭ ‬كانا‭ ‬يستكثران‭ ‬عليه‭ ‬شيئا‭ ‬منها‭ ‬فلا‭ ‬يصدقان‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬نظمه،‭ ‬وكنت‭ ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أصدق‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭ ‬من‭ ‬نظمه‭!) (‬7‭)‬

إنّ‭ ‬استعجال‭ ‬معاصري‭ ‬التجاني‭ ‬وأنداده‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والأدباء‭ ‬حكمهم‭ ‬على‭ ‬خطابه‭ ‬الشعري‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬كنوز‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬إشراقة‮»‬‭ ‬–‭ ‬الذي‭ ‬طبع‭ ‬بعد‭ ‬موته‭ - ‬مخبأة‭ ‬حتى‭ ‬هيأ‭ ‬الله‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬قام‭ ‬بدراستها‭ ‬بروية،‭ ‬فكان‭ ‬التبر‭ ‬والياقوت‭. ‬ويأتي‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هؤلاء‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالمجيد‭ ‬عابدين‭ ‬في‭ ‬سفره‭ ‬القيم‭ ‬‮«‬‭ ‬التجاني‭ ‬شاعر‭ ‬الجمال‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬عرض‭ ‬بموضوعية‭ ‬الباحث‭ ‬مذهب‭ ‬التجاني‭ ‬الشعري‭ ‬وتطور‭ ‬نظرية‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬شعره‭. ‬

وكذلك‭ ‬هنري‭ ‬رياض‭ ‬وعبدالله‭ ‬علي‭ ‬إبراهيم‭ ‬في‭ ‬تقصيه‭ ‬المضني‭ ‬وتصويبه‭ ‬للأخطاء‭ ‬التي‭ ‬لحقت‭ ‬بديوان‭ ‬‮«‬إشراقة‮»‬‭ ‬في‭ ‬طبعاته‭ ‬المختلفة‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالحي‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬للكتابات‭ ‬النثرية‭ ‬عند‭ ‬التجاني‭ ‬وأحمد‭ ‬محمد‭ ‬البدوي‭ ‬في‭ ‬مبحثه‭ ‬القيم‭ ‬‮«‬التجاني‭ ‬يوسف‭ ‬بشير‭.. ‬لوحة‭ ‬وإطار‮»‬‭. ‬

 

جحيم‭ ‬العبقرية

لم‭ ‬يكن‭ ‬الاطلاع‭ ‬على‭ ‬كتب‭ ‬المتصوفة‭  ‬وفلسفة‭ ‬التصوف‭ ‬وغيرهما‭ ‬السبب‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬نحى‭ ‬بشعر‭ ‬التجاني‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬من‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬والأسلوب،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬في‭ ‬التجاني‭ ‬عجينة‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يقفز‭ ‬فوق‭ ‬المراحل‭ ‬ويتقدم‭ ‬عصره‭ ‬ليضع‭ ‬محل‭ ‬الصياغة‭ ‬الشعرية‭ ‬المألوفة‭ ‬جملة‭ ‬شعرية‭  ‬جديدة،‭ ‬تستعصي‭  ‬لكنها‭ ‬تفتح‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬قارئها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نافذة‭. ‬ففي‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬الخلوة‮»‬–‭ ‬وتعني‭ ‬الكتّاب‭ ‬حيث‭ ‬يؤتى‭ ‬بالصبية‭ ‬لحفظ‭ ‬القرآن‭ ‬وتلقي‭ ‬علومه‭ ‬–‭ ‬يرسم‭ ‬ببراعة‭ ‬متناهية‭ ‬صورة‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬هبّ‭ ‬من‭ ‬نومه‭ ‬مكرهاً‭ ‬لكنه‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬وإلا‭ ‬فسوف‭ ‬يعاقب‭. ‬صورة‭ ‬مألوفة‭ ‬للتعليم‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬حتى‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬يقول‭:‬

طوفت‭ ‬في‭ ‬خياله‭ ‬ذكريات‭ ‬الروع‭ ‬واعتاده‭ ‬مطيف‭ ‬الجماحِ

ومشى‭ ‬بارماً‭ ‬يدفع‭ ‬رجليه‭ ‬ويبكي‭ ‬بقلبه‭ ‬الملتاح

ضمخت‭ ‬ثوبه‭ ‬الدواة‭ ‬وروت‭ ‬رأسه‭ ‬من‭ ‬عبيرها‭ ‬الفياح

ثورة‭ ‬صورت‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬حنايا‭ ‬صبينا‭ ‬من‭ ‬رياح‭!‬

شعراء‭ ‬كثيرون‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬ولدوا‭ ‬ونشأوا‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬اشتهرت‭ ‬بالمحافظة‭ ‬والتدين،‭ ‬لكنهم‭ ‬قلة‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬درجوا‭ ‬مدرج‭ ‬التجاني‭ ‬يوسف‭ ‬بشير‭ ‬في‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬المحافظة‭ ‬وسطوة‭ ‬التقاليد‭. ‬وقليلون‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬جاءوا‭ ‬–‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬التجاني‭ ‬–‭ ‬بخطاب‭ ‬شعري‭ ‬جديد‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬نشأة‭ ‬التجاني‭ ‬عادية‭ ‬جداً‭ ‬قياساً‭ ‬إلى‭ ‬نمط‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬ينسب‭ ‬التجاني‭ ‬إلى‭ ‬الكتياب‭ ‬وهم‭ ‬أحد‭ ‬بطون‭ ‬قبيلة‭ ‬الجعليين‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬النيلي،‭ ‬والذي‭ ‬اشتهر‭ ‬بتلقي‭ ‬علوم‭ ‬القرآن‭ ‬والعمل‭ ‬على‭ ‬نشرها‭. ‬تلقى‭ ‬تعليمه‭ ‬في‭ ‬الخلوة‭ ‬ثم‭ ‬المعهد‭ ‬العلمي‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬الوطنية‭ ‬أم‭ ‬درمان‭. ‬وهناك‭ ‬تلقى‭ ‬أولى‭ ‬صفعات‭ ‬الحياة،‭ ‬حين‭ ‬قام‭ ‬السلفيون‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬من‭ ‬أساتذة‭ ‬وتلامذة‭ ‬بتكفيره‭.. ‬وطرد‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬المعهد‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬أغرب‭ ‬من‭ ‬نسج‭ ‬الخيال‭. ‬اتهموه‭ ‬بأنه‭ ‬فضَّل‭ ‬شعر‭ ‬شوقي‭ ‬على‭ ‬القرآن‭ - ‬وهي‭ ‬تهمة‭ ‬ثبت‭ ‬بطلانها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬–‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭. ‬وعن‭ ‬ذلك‭ ‬الحدث‭ ‬يكتب‭ ‬التجاني‭ ‬بشفافية‭ ‬وسماحة‭ ‬نفس‭ ‬وبأسلوب‭ ‬حداثي‭ ‬فريد‭ ‬قصيدته‭ ‬‮«‬المعهد‭ ‬العلمي‮»‬‭ ‬وفيها‭ ‬يقول‭:‬

هو‭ ‬معهدي‭ ‬ولئن‭ ‬حفظت‭ ‬صنيعه

فأنا‭ ‬ابن‭ ‬سرحته‭ ‬الذي‭ ‬غنى‭ ‬بهِ

قالوا‭ ‬وأرجفت‭ ‬النفوس‭ ‬وأوجفت‭ ‬

هلعاً‭ ‬وهاج‭ ‬وماج‭ ‬قسور‭ ‬غابهِ‭:‬

كفر‭ ‬ابن‭ ‬يوسف‭ ‬من‭ ‬شقي‭ ‬وادعى

وبغى‭ ‬ولست‭ ‬بعابئ‭ ‬أو‭ ‬آبهِ

الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬عند‭ ‬التجاني‭ ‬نابضة‭ ‬وموحية‭. ‬وقد‭ ‬نأت‭ ‬عن‭ ‬الإسفاف‭ ‬والتقليد‭ ‬الفج‭. ‬كانت‭ ‬في‭ ‬عصرها‭ ‬مثل‭ ‬الصعق‭ ‬الكهربي،‭ ‬جعلت‭ ‬كثيرين‭ ‬يتساءلون‭ ‬عن‭ ‬ماهية‭ ‬هذا‭ ‬الشعر‭. ‬فالتغني‭ ‬للجمال‭ ‬عند‭ ‬التجاني‭ ‬–‭ ‬وهو‭ ‬القضية‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬–‭ ‬يمزج‭ ‬الخطاب‭ ‬الصوفي‭ ‬السماوي‭ ‬بالوله‭ ‬لإنسان‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬ودم‭:‬

وعبدناك‭ ‬يا‭ ‬جمال‭ ‬وصغنا

لك‭ ‬أنفاسنا‭ ‬هياماً‭ ‬وحبّا

ووهبنا‭ ‬لك‭ ‬الحياة‭ ‬وفجّرنا

ينابيعها‭ ‬لعينيك‭ ‬قربى

من‭ ‬ترى‭ ‬وزّع‭ ‬المفاتن‭ ‬يا‭ ‬حسن

ومن‭ ‬ذا‭ ‬أوحى‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نحبَا

مَن‭ ‬تُرى‭ ‬علَّم‭ ‬القلوب‭ ‬هوى‭ ‬الحسن

وقال‭ ‬اعبدي‭ ‬من‭ ‬السحر‭ ‬ربَا؟

إنه‭ ‬صانع‭ ‬القلوب‭ ‬التي‭ ‬تنصبّ

في‭ ‬قالب‭ ‬المحاسن‭ ‬صبّا

أغث‭ ‬ما‭ ‬تريد‭ ‬يا‭ ‬جمال‭ ‬وتبغي

أو‭ ‬فكن‭ ‬هيّناً‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬رطبا

أنا‭ ‬وحدي‭ ‬دنيا‭ ‬هوىً‭ ‬لك‭ ‬فيها

كل‭ ‬كنز‭ ‬من‭ ‬المفاتن‭ ‬قربى‭!‬

في‭ ‬ذكرى‭ ‬ميلاده‭ ‬المائة،‭ ‬مازال‭ ‬التجاني‭ ‬يوسف‭ ‬بشير‭ ‬بيت‭ ‬شعر‭ ‬ضخم‭ ‬في‭ ‬كراسة‭ ‬الأدب‭ ‬السوداني‭ ‬الحديث،‭ ‬ولعله‭ ‬كذلك‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬كراسة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭. ‬نقرأ‭ ‬ديوانه‭ ‬‮«‬إشراقة‮»‬،‭ ‬ونطالع‭ ‬مأساة‭ ‬حياته‭ ‬القصيرة‭ ‬والمترعة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مدهش‭ ‬في‭ ‬خطابه‭ ‬الشعري،‭ ‬فندرك‭ ‬أن‭ ‬مقولة‭ ‬الحداثة‭ ‬تبقى‭ ‬دائماً‭ ‬أبداً‭ ‬‮«‬البعبع‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يهرب‭ ‬منه‭ ‬ويحاربه‭ ‬معاً‭ ‬سدنة‭ ‬التقليد،‭ ‬والسلفيون‭ ‬الخائفون‭ ‬من‭ ‬الإبحار‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭.