بمناسبة ذكرى ميلاده المائة: التجـانـي يـوسف بـشـيـر.. جحيم العبقـريـة والوجود!
يلفت انتباه قارئ الشعر السوداني إلى أنّ هناك سمات بعينها تميزت بها أشعار رعيل النصف الأول من القرن الماضي، منها اتباع ديباجة الشعر بصورة حاكت نضارة الشعر العربي في العصرين الأموي والعباسي.
فأنت لا تقرأ عبدالله محمد عمر البنا ومحمد سعيد العباسي حتى تطالعك رنة وجزالة الشعر العربي في عصور زهوه، فترى النسيب كما لم تجده عند جرير وجميل وكثيِّر عزة. وتدلف القصيدة من بعدئذ إلى صيغة الخطاب التقليدي، فتعالج الغرض الذي قيلت من أجله.
صحيح أن البارودي سبقهم وأعاد إلى الشعر العربي جزالته بعد عصور الانحطاط، وذلك بمحاكاة ديباجة القصيدة العربية في أوج مجدها. لكن دور الرواد السودانيين لم يكن أقل أهمية في الرجوع بالحس الشعري في السودان إلى منابعه ومن ثم ترويض القصيدة على التطبع بقضايا عصرها. كانوا وهم يفعلون ذلك لا يشعرون بالتكلف ولا يعتريهم ارتجاج. فالبادية إلى وقت قريب كانت نمط الحياة لمعظم السودانيين، والعباسي والبنا عاشا حياة البادية حقيقة لا تخيلاً. يصف محمد سعيد العباسي منطقة مليط بشمال دارفور – مرتع عرب الزيادية - وقد كانت باسقة النخل:
وضعت رحلي بالكرامة في
دار ابن بجدتها نصر بن شدادِ (1)
فاقتادت اللبَ مني قود ذي رسنٍ
ورقاء أهدت لنا لحناً بتردادِ
هات الحديث رعاكِ الله مسعفةً
وأسعدي، فكلانا ذو هوىً بادي
وبذا عاد العباسي بالقصيدة إلى نفثها العربي القديم – لكنه أيضاً نفخ في القصيدة حياتها ونشاطها من جديد. ونقرأ عبدالله محمد عمر البنا في نونيته الشهيرة في تحية غرة العام الهجري – نافحاً القصيدة غنائية وجزالة فريدتين – يقول:
يا ذا الهلال عن الدنيا أو الدينِ
حدِّث فإن حديثاً منك يشفيني
طلعت كالنون لا تنفك في صغر
طفلاً وإنك قد شاهدت ذا النونِ
حدِّث عن الأعصر الأولى لتضحكني
فإنّ أخبار هذا العصر تبكيني
تلك كانت خطى القصيدة العربية في السودان في بدايات النصف الأول من القرن الفائت عند محمد سعيد العباسي وعبدالله البنا وصالح عبدالقادر ومحمد عبدالقادر كرف وغيرهم. كانت ثقافتهم ذات نافذة واحدة: الثقافة العربية –الإسلامية، فأخذوا يستعيدون خطابها الشعري. وهذا أملته بالضرورة نشأتهم في مجتمع تقليدي في تعليمه وثقافته، مما جعلهم يتعلقون بديباجة القصيدة العربية في عصور مجدها. ولعل ذلك هو ما دفع بالشاعر والناقد محمد محمد علي إلى أن يحتد في تعقيبه على ما كتبه الناقد الدكتور محمد النويهي عندما أشار الأخير في دراسة له إلى أنّ قصيدة البنا – «وصف البادية» ليست لها قيمة أدبية (.. لأنها لا تقدم أيَّ جديد إلى ثروة الآداب العربية)، حيث انبرى له محمد علي بقوله: (أما نحن الذين رأينا «البطانة» رأي العين، وعاشرنا أهلها معاشرة ذوي القربى، فنجيب واثقين بأنّ الشاعر لم يفتعل صوره افتعالاً... وإنما صوّر المرائي التي أعجبته، والسمات التي راقته من حياة «البطانة»، وهذه آية صدقه). (2) ويضيف : «فحسب الشاعر هنا أنه صوّر ما يعجبه مما رأى، باللغة التي تؤثرها مدرسته في الشعر، وهي مدرسة ينضوي تحت لوائها البارودي وإسماعيل صبري وشوقي وغيرهم ممن يؤمن بهم الدكتور النويهي، ويجعل منهم أصحاب طرائق تقتدى في البيان!» (3)
تغيير الخارطة:
بينما كانت القصيدة عند جيل البنا والعباسي ترفل في حرير ألوانها الزاهية، من فخامة لفظ ومحسنات بديعية كما نرى عند العباسي في «وادي جيرون»، إذ يقول:
ما عذر مثلي في استسلامه لهوىً
يا حالة النقص ما بي حاجة بيني
ما أنسى لا أنسى إذ جاءت تعاتبني
فتانة اللحظ ذات الحاجب النوني
يا بنت عشرين والأيام مقبلة
ماذا تريدين من موعود خمسين؟
وبينما كان الخطاب الشعري في السودان آنئذ يرفل في الترف اللفظي في ذلك العالم المتماسك – ظاهرياً على الأقل- إذا بفتى يطل عليهم ويرمي بحجر في المياه الساكنة، فيرتجُّ سطح البحيرة. ولم يكن ذلك الفتى سوى التجاني يوسف بشير الذي أعاد رسم خارطة الشعر السوداني آنذاك بأكثر من علامة استفهام في شكل القصيدة ومضمونها. خرج فيهم ثائراً وهو يصف صاحب أي رسالة جديدة بقوله:
أطلّ من جبل الأحقاب محتملاً
سفر الحياة على مكدود سيماه
عاري المناكب في أعماقه خلق
من العطاف قضى إلا بقاياه
مشى على الجبل المرهوب جانبه
يكاد يلمس مهوى الأرض مرقاه
هذه مقولة شعرية جديدة لم نألفها من قبل في «وادي جيرون» للعباسي أو «وصف البادية» للبنا. نحن أمام فتح شعري جديد بكل مقاييس النقد. ولعلّ ذلك هو الذي حدا بكثيرين آنذاك للذهاب إلى تفسير شعر التجاني مذاهب شتى. منهم من قال بغموضه، ومنهم من أتى بالأطر الفلسفية الجاهزة كمذهب وحدة الوجود وحصر شعر التجاني من خلال تلك الأطر. يقول هنري رياض: «نهل التجاني من معين الدروس الدينية واللغوية التي تلقاها في المعهد، وأملى عليّ كرف لما سألته عن ثقافة صديقه ما يلي: كان التجاني أثناء دراسته بالمعهد يدمن الاطلاع في الكتب الأدبية والتاريخية وكتب المتصوفة. ....... وكان لهذه الكتب وغيرها أثر بعيد في إرهاف حسه، مما أضفى على أسلوبه ذلك الغموض الذي يبدو هنا وهناك في بعض تعابيره». (4)
ونحن – وإن كنا لا ننكر أثر كتب المتصوفة في شعر التجاني، فإننا نرى أن التجاني كان يتمتع بذائقة شعرية من نوع خاص جعلته يشذ عن أنداده في صياغة التراكيب الشعرية المتعارف عليها آنذاك. هذا الصعق الكهربي هو الذي دفعهم إلى القول بالغموض في شعره. فات عليهم أنها معالجة جديدة أفلتت من أسر محاكاة التراث وقبضته الصارمة. حين تقرأ ما قاله محمد محمد علي بشأن الغموض في شعر التجاني لا تملك إلا أن تشفق من غيرة الندية والمعاصرة. يقول محمد علي في معرض نقده لمطلع قصيدة التجاني «جمال وقلوب»، الذي يقول:
يا مظلم الروح كم تبكي على حرق
مما يكابد منك القلب والروحُ
هوى بجنبيك مذبوح يحفُّ به
في عالم الصدر قلب منك مذبوحُ
يقول في هذا المطلع الحزين الأنيق: «فالطابع العام لشعر التجاني ليس البشر والفرح، بل هو العبوس والتجهم. والحقيقة أنّ هذا المطلع المتكلف، شأنه شأن معظم «القطرات» لا يعني شيئاً، فهي كلها كلام منمق برّاق، يروقك مظهره وتخلبك كلماته المنتقاة، فإذا بحثت عما يكمن وراء هذا المظهر الأنيق، أعياك البحث ولم تظفر بطائل». (5)
أكاد أرى الغيرة تجرد الشاعر محمد علي من كل موضوعيته – وهو الرائد في النقد الأدبي في السودان. وإذا كان هذا المطلع كثير الشفافية، لا يوحي بشيء، وإذا كانت القصيدة كلها لا تعني في نظره شيئاً، فكيف يكون الشعر إذن؟
وإنك لواجد نفس الاستعجال في بطلان حداثة وعلو مذهب التجاني الشعري عند شاعر فحل وناقد وعالم لغوي- البروفيسور عبدالله الطيب، الذي لم يشأ أن يداري هو الآخر حكماً خطيراً حين تعرض بالنقد لقصيدة التجاني «جمال وقلوب»- التي ذاع صيتها من بعد، والتي يقول مطلعها:
آمنت بالحسن برداً وبالصبابة نارا
وبالكنيسة عقداً منضدا من عذارى
وبالمسيح ومن طاف حوله واستجارا
إيمان من يعبد الحسن في عيون النصارى
فالدكتور عبدالله الطيب لا يرى في هذه الأبيات فتحاً شعرياً، بل يصفها بالسوقية بقوله: «.. وهذا كلام حسن ظاهره، ولكن فيه هنات، منها قوله «منضدا» والوجه منظما، إذ التنضيد يكون للمتاع لا للعقود. وقوله «طاف حوله» وإنما عني اتبعه....... وإن كان عني بقوله «طاف حوله» «قدسه» فقد أخطأ... وكأنه نظر إلى طواف المسلمين حول الكعبة ونسب مثله للنصارى. وفي الكلام – على ظرفه – روح غير مهذب، ولاسيما البيت الأخير، فإنك لو ترجمته إلى العامية لصارت شيئا من هذا القبيل: أموت في دين عيسى وفي دين عيون النصرانيات.. وهذا أليق لأن يقال في المقاهي والبارات، لا الشعر!!) (6)
يذكر الباحث الدكتور أحمد محمد البدوي قصة أخرى في هذا السياق- الغيرة التي تمليها المعاصرة – رواها له أحد معاصري التجاني وشاهد عصره: (يقول حامد حسن البدوي: رأيت المحجوب والتني (يوسف مصطفى التني) يعرضان أشعارهما على التجاني في مكتبتي، وهو يبدي رأيه، أحياناً في صورة لا توصف بالمدح، كما لا تنسب إلى الذم. وهو أيضاً يعرض أشعاره عليهما، وتنال غاية الإعجاب من جانبهما، بل كانا يستكثران عليه شيئا منها فلا يصدقان أنه من نظمه، وكنت أنا لا أصدق أن بعض تلك القصائد من نظمه!) (7)
إنّ استعجال معاصري التجاني وأنداده من الشعراء والأدباء حكمهم على خطابه الشعري هو الذي جعل كنوز ديوانه «إشراقة» – الذي طبع بعد موته - مخبأة حتى هيأ الله لها من قام بدراستها بروية، فكان التبر والياقوت. ويأتي على رأس هؤلاء الدكتور عبدالمجيد عابدين في سفره القيم « التجاني شاعر الجمال»، حيث عرض بموضوعية الباحث مذهب التجاني الشعري وتطور نظرية الجمال في شعره.
وكذلك هنري رياض وعبدالله علي إبراهيم في تقصيه المضني وتصويبه للأخطاء التي لحقت بديوان «إشراقة» في طبعاته المختلفة ومحمد عبدالحي في دراسته للكتابات النثرية عند التجاني وأحمد محمد البدوي في مبحثه القيم «التجاني يوسف بشير.. لوحة وإطار».
جحيم العبقرية
لم يكن الاطلاع على كتب المتصوفة وفلسفة التصوف وغيرهما السبب الوحيد الذي نحى بشعر التجاني هذا المنحى من التجديد في الصورة والأسلوب، بل إنّ في التجاني عجينة الشاعر الذي يقفز فوق المراحل ويتقدم عصره ليضع محل الصياغة الشعرية المألوفة جملة شعرية جديدة، تستعصي لكنها تفتح في ذهن قارئها أكثر من نافذة. ففي قصيدته «الخلوة»– وتعني الكتّاب حيث يؤتى بالصبية لحفظ القرآن وتلقي علومه – يرسم ببراعة متناهية صورة الصبي الذي هبّ من نومه مكرهاً لكنه يجب أن يذهب على كل حال وإلا فسوف يعاقب. صورة مألوفة للتعليم في السودان حتى النصف الأول من القرن الماضي. يقول:
طوفت في خياله ذكريات الروع واعتاده مطيف الجماحِ
ومشى بارماً يدفع رجليه ويبكي بقلبه الملتاح
ضمخت ثوبه الدواة وروت رأسه من عبيرها الفياح
ثورة صورت ما بين حنايا صبينا من رياح!
شعراء كثيرون أولئك الذين ولدوا ونشأوا في بيوت اشتهرت بالمحافظة والتدين، لكنهم قلة أولئك الذين درجوا مدرج التجاني يوسف بشير في الإفلات من أسر المحافظة وسطوة التقاليد. وقليلون أولئك الذين جاءوا – كما جاء التجاني – بخطاب شعري جديد. لقد كانت نشأة التجاني عادية جداً قياساً إلى نمط الحياة في تلك الفترة. ينسب التجاني إلى الكتياب وهم أحد بطون قبيلة الجعليين في الشمال النيلي، والذي اشتهر بتلقي علوم القرآن والعمل على نشرها. تلقى تعليمه في الخلوة ثم المعهد العلمي الديني في العاصمة الوطنية أم درمان. وهناك تلقى أولى صفعات الحياة، حين قام السلفيون في المعهد من أساتذة وتلامذة بتكفيره.. وطرد على إثر ذلك من المعهد في قصة أغرب من نسج الخيال. اتهموه بأنه فضَّل شعر شوقي على القرآن - وهي تهمة ثبت بطلانها في ما بعد – لكن بعد فوات الأوان. وعن ذلك الحدث يكتب التجاني بشفافية وسماحة نفس وبأسلوب حداثي فريد قصيدته «المعهد العلمي» وفيها يقول:
هو معهدي ولئن حفظت صنيعه
فأنا ابن سرحته الذي غنى بهِ
قالوا وأرجفت النفوس وأوجفت
هلعاً وهاج وماج قسور غابهِ:
كفر ابن يوسف من شقي وادعى
وبغى ولست بعابئ أو آبهِ
الصورة الشعرية عند التجاني نابضة وموحية. وقد نأت عن الإسفاف والتقليد الفج. كانت في عصرها مثل الصعق الكهربي، جعلت كثيرين يتساءلون عن ماهية هذا الشعر. فالتغني للجمال عند التجاني – وهو القضية المركزية في شعره – يمزج الخطاب الصوفي السماوي بالوله لإنسان من لحم ودم:
وعبدناك يا جمال وصغنا
لك أنفاسنا هياماً وحبّا
ووهبنا لك الحياة وفجّرنا
ينابيعها لعينيك قربى
من ترى وزّع المفاتن يا حسن
ومن ذا أوحى لنا أن نحبَا
مَن تُرى علَّم القلوب هوى الحسن
وقال اعبدي من السحر ربَا؟
إنه صانع القلوب التي تنصبّ
في قالب المحاسن صبّا
أغث ما تريد يا جمال وتبغي
أو فكن هيّناً على النفس رطبا
أنا وحدي دنيا هوىً لك فيها
كل كنز من المفاتن قربى!
في ذكرى ميلاده المائة، مازال التجاني يوسف بشير بيت شعر ضخم في كراسة الأدب السوداني الحديث، ولعله كذلك أيضاً في كراسة الشعر العربي المعاصر. نقرأ ديوانه «إشراقة»، ونطالع مأساة حياته القصيرة والمترعة بكل ما هو مدهش في خطابه الشعري، فندرك أن مقولة الحداثة تبقى دائماً أبداً «البعبع» الذي يهرب منه ويحاربه معاً سدنة التقليد، والسلفيون الخائفون من الإبحار نحو المستقبل.