فـاطـمـة يــوسـف الـعــلــي: الإبـداع فـن التـمـرّد
عرفتها دائمًا تسكن في أعماقها روح التأمل.. والرغبة في البحث وتعميق قيم الحب والجمال والحرية.. تحلق في فضاءات الإبداع.. ترصد ظواهر الواقع العربي وتتابع مسيرة المرأة وكفاحها وتقف شامخة ضد القهر.. ومتمردة على سلطة الرجل. ولا يمكننا أن نتحدث عنها كمبدعة في الأدب من دون أن نتطرق إلى نشاطها السياسي والاجتماعي في مجال حقوق المرأة والدفاع عنها، ليس في الكويت فحسب وإنما في العالم العربي، حيث تصبح قضيتها الأولى التي تعبر عنها في المؤتمرات وفي أدبها القصصي ومقالاتها المتعددة في الصحف العربية.
فاطمة يوسف العلي تعلمت منذ طفولتها كيف تقرأ وتكتسب ثقافة منفتحة على الآداب العربية والأجنبية، فامتد حبها خارج ذاتها لتتعاطف مع كل الدمعات المقهورة والقلوب الجريحة وعذابات الوطن في ظل المحن والغزوات.
ولا غرابة في شاعريتها الرقيقة النابضة بالحب والحنان، وإحساسها المرهف الجميل، فقد ولدت ونشأت في الكويت القديمة على ضفاف الخليج «فريج سعود» وتقول: «كان منزلنا قريبًا من البحر، حيث كنت أرقب السفن الشراعية التي تجلب التمر وغيره من مواد التموين».
وفي كل صباح كانت تتأمل أمواج الخليج تعانق الضفاف وتلمح أسراب الطيور البيضاء تحلق فوق صفحة البحر، فتغيب في عالم سحري الألوان تحلم أن تتحول إلى طائر حر يرسم أحلامه على صفحة السماء الزرقاء.
هذه اللوحة الطبيعية ساهمت في تعميق أفكارها عن الحياة.. وصراع الناس.. والمراكب المسافرة في بحر الحنين واشتياق الصيادين إلى المرافئ الآمنة بعد رحلة شقاء مع البحر.
كتبت في مرحلة مبكرة من حياتها مجموعة من القصائد الرومانسية، واتجهت إلى قراءة مشاهير الأدب العربي وساهمت في المسابقات الثقافية بالمدرسة بكتابات عبّرت فيها عن مشاعر طفولية بريئة تحلم بالحب النقي والحياة الجميلة.
متعة التأمل
كانت مشاهد البحر والمراكب والطيور كل صباح تدعوها إلى التأمل بمشاعرها وخيالها وتعشق الطبيعة في سكونها وعنفوانها، في نسائمها الحريرية.. وعواصفها الرملية لتعبر عن فكرة أو مدخل لقصيدة بسيطة تغنّيها للقلوب الحزينة الباحثة في الظلام عن نجمة من نور، كما يقول الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردزورث: «أكبر متعة عندي أن أتأمل في الصباح الجداول وهي تترقرق في أحضان الطبيعة، وأشاهد الطيور الأليفة وأسير وحدي أعانق الشجر والورد والنهار المشرق، فلا شك في كل ذلك قصة رائعة».
وفاطمة تملك قدرة على أسر مشاعرك.. إذا جلست أمامها بحت لها بكل أسرار حياتك دون أن تدري.. في مجلسها عطر يفوح.. وقلب ودود.. وروح تحتوي كل المعاني الجميلة، فلا تملك إلا أن تعترف بما في قلبك أو حياتك من مواجع وآلام.
وأعتقد من خلال قراءتها المبكرة في الأدب الرومانسي، استطاعت أن تلملم خيوط روايتها الأولى وتنسج أحداث أول رواية لكاتبة كويتية وهي مازالت في السابعة عشرة من العمر، فظهرت روايتها: «وجوه في الزحام» في العام 1971.
على الرغم من أن الرواية نُسجت تفاصيلها بعفوية كاتبة لم يكن لها دربة أو خبرة في القص الدرامي فإنها أثارت قضايا كثيرة تتعلق بزواج الشباب الكويتيين من الأجانب مع بعض اللمحات عن القضايا القومية ومنها قضية فلسطين.
كما تجلت قضية المرأة التي تسيطر عليها ثقافة العادات والتقاليد البالية بحيث يصبح الرجل هو المسيطر على مصير المرأة وحياتها، دون أن يكون من حق المرأة المظلومة أن تشكو أو ترفض أو تتمرد.
فارس الأحلام
واستطاعت الرواية أن تؤثر في المتلقي ليتعاطف مع قضية البطلة «أحلام» التي فقدت فارس أحلامها بعد انتظار مؤلم وذهبت إلى دروب مسدودة. وتذكرك الرواية بكتابات إحسان عبدالقدوس في «الطريق المسدود» ويوسف السباعي في «نادية» ومحمود تيمور في «سلوى في مهب الريح»، فالتجربة الأدبية كانت تبشر بمولد كاتبة كويتية اكتسبت روايتها دور الريادة.
وظلت قضية المرأة الهدف الذي تسعى إليه الأديبة فاطمة يوسف العلي لتعبر عن المشاعر الخفية للمرأة وأفكارها في علاقتها بالرجل، وكيف تبدو مثل كائن يقاوم وحيدًا في العراء. فهناك عراقيل عليها أن تجتازها وتتغلب على مشكلاتها دون أن تجد عونًا من شريك حياتها، فكان عليها أن تدين مجتمعا يهمل مشاعر المرأة ويراها ليست أكثر من تابع للرجل تعيش في ظله وتخضع لسيطرته الغاشمة.
فجاءت مجموعة «وجهها وطن» (1995) لتبوح المرأة بمزيج من مشاعر الخوف والألم والعذاب والغيرة والرفض لكل ما يحاصر موقف المرأة من أفكار قديمة وعادات بالية. فهل نتصور كيف يقف الرجل في وجه زوجته التي حققت نجاحًا كبيرًا في عملها وحياتها ويقرر حرمانها من هذا العالم الجميل الذي تحقق فيه ذاتها؟ ربما حقدا عليها أو غيرة منها، لأنه في حياته فشل كثيرا، وعبَّرت عن تلك الفكرة في قصة «سقط سهوا» من تلك المجموعة.
وتطرقت إلى قضية عنوسة المرأة في قصة «البومة» ومعاناة القهر الذي يؤدي بها إلى اقتراف جريمة في قصة «عروس لم تظهر بعد»، لكن في قصة «يانوم» صورة واقعية عن حياة المرأة في عالم حسي يخلو من قيم الرحمة والحب والعطف والرقة والحنان. ومن أجمل قصص المجموعة «وجهها وطن» الرمز يحتل مستوى فنيا ناضجا لتصور لنا مدى تطور موقف المرأة حين يمتد حبها إلى وطنها، وتقف لتناضل ضد جنود الاحتلال الذين زحفوا على الكويت في الثاني من أغسطس 1990م.
الكويتية والغزو
أما مجموعتها القصصية «دماء على وجه القمر» ففيها وثيقة تسجيلية لدور المرأة أثناء الغزو العراقي في عهد صدام حسين. القصص ترسم لك في براعة موقف المرأة التي كانت تجلس حزينة تشكو لذاتها حزنها وضياعها، وتحولت من خلال تجربة الحرب القاسية إلى مناضلة تقاوم وتشترك مع الرجل في أعمال المقاومة وتوزيع الطعام ونشر القصائد والتعليمات وتوزيع المنشورات. فهي امرأة تجازف بحياتها وتخاطر مثل الرجل في كل موقف، وربما كان دور المرأة أثناء الحروب والمحن مؤثرًا أكثر من الرجل.
وفي مجموعة «تاء مربوطة» 2001م قررت فاطمة العلي ألا تتسامح مع الخلل الاجتماعي والمفاهيم الخاطئة التي تسود المجتمع، ويتقبلها الجميع من دون مناقشة أو جدال. ومن هنا تتسم القصص بالاتجاه التحريضي والتمرد على العنف ضد المرأة ومحاولات تهميش دورها الحيوي وغلق الأبواب في وجهها حتى لا تحقق ذاتها ويكون لها صوت في البرلمان والمجالس الشعبية.
قررت فاطمة أن تنتقم لصورة أحلام بطلة روايتها الأولى وتشق أمامها دربا من نور العلم وصوت الحرية ورياح التمرد وتسخر من واقع الرجل في قصة «عندما كان الرجال حريما للسيدة»، وتطرح الكاتبة تساؤلها: لماذا لا يكون للمرأة عدد من الأزواج مثلما يُسمح للرجل ذلك؟ وبذلك تثير ذهن القارئ بأفكار كثيرة عن موقف المرأة وحقوقها المهدورة دائمًا.
عالجت الكاتبة قضايا كثيرة مثل تعدد الزوجات وعنوسة المرأة وظلم الرجل، وتلاشي مشاعر الحب في الحياة الزوجية والبحث عن الحرية في التعبير والبوح ومقاومة انتهازية الرجل وعبثه في الحياة مع النساء بحيث يتزوج ويطلق كأنه يتاجر في أجساد النساء، دون أن يحاسبه قانون أو تقاليد.
ومن أجمل قصص المجموعة «تاء مربوطة»، حيث تجد بطلة القصة أثناء سفرها بالطائرة أن عليها أن تترك مقعدها وتجلس في الخلف، لأن المقاعد الأمامية للرجال فقط وليس هناك اختلاط في الطائرة.
وتشعر البطلة بالقهر وتنظر إلى بعض النساء فتسمع منهن كلمة «هذا نصيبنا ماذا نفعل؟ ولم تعترض امرأة واحدة على هذا المشهد، كلهن صمتن ووافقن دون اعتراض أو رفض أو حتى طرح سؤال يتحدى القرار الجائر على المرأة.
وفي مجموعة لـ «سميرة وأخواتها» تمضي العلي في كشف الستار عن عذابات المرأة في المجتمعات العربية، فهي مازالت تفتقد دورها الطليعي وتواجه أزمات سياسية وإرهابا فكريا وتطرفا دينيا يحاول عزلها عن المجتمع وأن تظل في البيت بلا قيمة وخادمة للرجل. وتطرح فاطمة المرأة بحرية وجرأة وصدق من خلال القصة القصيرة ولا توجه الإدانة للرجل وحده، وإنما للأنظمة الديكتاتورية والأفكار الرجعية في عالمنا العربي ومحاولات إقصاء المرأة عن واقع الحياة حتى تصبح «الموءودة»، كما جاء في قصتها القصيرة.
اختراق سياق المألوف
وتؤمن الأديبة فاطمة العلي بأن الإبداع فن التمرد واختراق للسياق المألوف، والقصة القصيرة ثورة ضد فساد الأخلاق وفساد الفكر.. والكتابة محاولة لتنوير وإثارة الوعي وتحريضه ضد القهر والكبت وتحريره من أغلال الجهل والتخلف والاستبداد الفكري.
ولذلك كانت مجموعتها القصصية الأخيرة «بقايا» الصادرة عام 2012 «همسات حنونة».. و«دموع دفينة».. و«تأملات صوفية».. و«فلسفية».. و«نظرات حالمة في الآفاق».. وتوقعات بأن يسقط المطر بعد لحظات غائمة. ترسم فيها الكاتبة صورًا عديدة لمواقف المرأة في الحياة وكيف تقاوم تحديات وصعابا وكيف ينهار الحب حتى يصبح مجرد بقايا في عالم النسيان.
ونلاحظ أن قصص المجموعة أكثر كثافة في التصوير والفكرة تجسد رموزها مع توظيف فني ومستوى عال للحوار والاسترجاع الذهني والمناجاة النفسية والسرد الدقيق لتفاصيل الموقف واللغة الشاعرة، حتى تكاد تقرأ «القصة القصيدة» واللغة المحلقة التي تغرف من ينابيع الرومانسية وفيض الأحاسيس.
وقد ذكرت من قبل أن فاطمة العلي شاعرة جميلة قبل أن تكون قاصة قديرة، فاقرأ كيف تصبح الكلمات لغة شاعرة في قصة «بنت»:
«لم تصرخ حين استقبلت الدنيا منذ سنوات الاكتمال.. كان صوتها كصوت كروان.. والبسملة دستور عمل وقانون إنجاز.. ترمق الريح بنظرة مهدهدة فتنام. وحين يصطلي الرابضون بجذوة النهار.. تخبو عند قدميها أوردة الشمس الحارقة.. تتناثر نسمات للمسير».
واللغة الشاعرة فسرها العقاد في كتاب بهذا الاسم قال فيه: «إنما نريد باللغة الشاعرة أنها لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه ولو لم يكن من كلام الشعراء».
وهناك ملامح صوفية وفلسفية في تلك المجموعة القصصية تكشف عن فطرة الإنسان نحو الخالق وإيمانه الشديد وانسياب روحه في السماء، باحثة عن أفق من ضياء ودرب من الهدى والصلاح. شخصيات تواجه المحن بقلب خاشع.. ونفس تغلفها التقوى كما في قصص: «حقيقة» و«غزل» و«براءة» و«مباغتة»، وغيرها من قصص مجموعة «بقايا».
أستطيع أن أقرر بكل بساطة أن العلي اجتازت مستويات رفيعة خلاقة في فن القص الأدبي، وهذا يأتي بصورة تلقائية من خلال خبرتها الحياتية المنفتحة على العالم من دون تمييز لجنس أو دين أو مذهب، وتلك سمات المبدع الكبير الذي يحتوي الإنسانية في روحه وأدبه, ويقول تولستوي: «ما أروع أن تحنو على طفل صغير أو عامل فقير أو ثري بائس بثروته وتفتح قلبك على الكون في تناغم مع آهات الحزانى وأنين الشجر العاري».
درس إنساني
وقد تعلمت فاطمة أول درس إنساني منذ طفولتها حين تقول: «في الكويت القديمة كان البيت في جوار البيت يلاصقه ويحاذيه بيت كويتي لصديق مصري وبيت لصديق سوري وبيت لصديق لبناني. كان الشارع, كان السوق, كانت المدرسة, كان الجامع, كانت الكنيسة، كانت الأرجاء الكونية كلها تفوح بالعبير العربي وتبوح بالصوت العربي». ولذلك لم تكتف فاطمة العلي بأن تكون رسالتها من خلال الأدب في القصة والرواية والشعر والمقال والدراسات وإنما تعتبر من الشخصيات العامة التي تشارك في المؤتمرات والمنتديات والتجمعات العربية والعالمية لمناصرة حقوق المرأة.
فإذا كانت فاطمة قد امتلكت الريادة في فن الرواية, فهي أيضا رائدة من رواد التنوير، من خلال دورها المتميز وحضورها المؤثر في الدعوة لتحرير المرأة من الجهل والخرافات ومقاومة الحصار حولها، حيث تؤكد البحوث والدراسات التي قدمتها في مؤتمرات المرأة أنها قد وهبت فكرها وحياتها لتلك القضايا.
وأتمنى أن يوفقني الله وأنجز كتابا خاصا عن إنجازات الأديبة فاطمة العلي ودورها الكبير في الدفاع عن قضايا المرأة.
وقد صدر عن تجربتها الأدبية عدة كتب منها: فاطمة يوسف العلي رائدة الرواية النسوية، من تأليف حسن حامد، وكتاب آخر أنجزه الأديب محمد جبريل بعنوان: «الصوت الهامس».. هذا بالإضافة إلى مئات المقالات والحوارات التي نشرت عنها. أتمنى أن أكون قد قدمت للقارئ العربي بعض ملامح أديبة اخترقت كل حصار, وخرجت من ينابيع الأدب الصادق لتؤكد أن المرأة في الكويت والعالم العربي تشق درب النور وتعلو إلى مستويات فكرية وإبداعية عالية .