أمُّ كُـلـثـوم.. الأسطورةُ التي تتوالدُ في رحم الزمن
ليست بحاجةٍ إلى ألقاب، فاسمُها يحملُ في رنينه وصداه إيقاعًا أو جَرْسًا موسيقيًّا تلقائيًّا صنعتهُ يدُ القدَرِ التي لم تجعلْ منها سيّدةَ الغناءِ العربيِّ، أو أسطورة القرن العشرين، بل لتجعلها نهرًا خرافيًّا يسافرُ في حدائقِ الأزمنةِ المتتالية، وكلّما دخلَ عصرًا أو زمنًا تجدَّدَ فيهِ وسابقَهُ وسبقَهُ وفرضَ وجودهُ فيهِ وعليه.
هيَ الخرافيّةُ الصعبةُ التكرار أو التقليد، برجٌ شاهقٌ في ميدان الغناء العربي، تأسَّسَ في الخفاءِ على مدارِ عشرين عامًا، وعندما سطعَ على وجه الأرض ولاحَ للناظرين، واصلَ الارتفاع والارتقاء لخمسين عامًا أخرى، إذ تكاتفت عشرات الأيدي والقلوب المخلصة والأرواح الصافية النقيّة لتشيّد لنا هذا الصرح الذي نباهي به الأمم، ونقول بثقةٍ وثبات: يكفي أنَّ لدينا أمَّ كُلثوم!!
اسْمُها... أمُّ كُلثُوم!
اسمُها أمُّ كُلثوم إبراهيم البلتاجي، لكنّهُم، وبلا وعيٍّ أو أمانة، جعلوها «فاطمة»، وأصبحت أوّلُ كلمةٍ في سيرتِها تحملُ رأسَ الخطأ (فالأخطاءُ في سيرتها ومسيرتها أكثرُ من أن تُحصَى)، ولا ندري مَن الذي ارتكبَ هذه «الخطيئة» التي أصبحَ تصويبُها يشبُهُ مطاردةَ سمكةٍ صغيرةٍ في أعماقِ المحيطِ، وخصوصًا بعد ثورةِ الإنترنت التي لها من العيوبِ ما يوازي ما لها من المزايا ويناطحُهُ رأسًا برأس! أمّا عن تاريخِ ميلادِها، فقد تعدّدت الرواياتُ لتتأرجحَ بين تسعة تواريخَ، أوّلها في العامِ 1896م، وآخرها في العامِ 1910م، وبين النقطتينِ يقعُ تاريخانِ مُعتمَدانِ لميلادِها في تناقُضٍ عجيبٍ، الأوّل: الثلاثون من ديسمبر 1898م، وهو الذي اعتمدتْهُ مصرُ في احتفالها بمئويتها في العام 1998م، أمّا الآخرُ فهو الرابعُ من مايو 1904م، وهو تاريخُ التسنينِ الطبّي، إذ لم يكن هناكَ توثيقٌ دقيقٌ للمواليدِ والوفيَاتِ عندما جاءت أمّ كُلثوم إلى الحياةِ في نهايةَ القرنِ التاسع عشر، أو بدايةَ القرنِ العشرين.
شاءت الأقدارُ أن تولد أمّ كُلثوم في بيئةٍ تتنفّسُ الفصحى، فقد نشأت في ظلالِ القرآنِ والتواشيحِ والابتهالاتِ والمدائحِ النبويّةِ، إذ كانَ أبوها قارئًا للقرآنِ ومؤذّنًا ومُنشدًا ومدّاحًا بموطنهم في قرية «طماي الزهايرة» بمركز السنبلاوين محافظة الدقهلية، ومنها ينطلقُ ويطوفُ القُرى المجاورةَ ثمّ القرى والمدنَ البعيدةَ لإحياءِ المناسباتِ الدّينيةِ والأفراحِ والموالدِ بصورةٍ ظاهرُها الهوايةُ وباطنُها الإصرارُ على السعيّ وراءَ الرزقِ في ظروف بالغة القسوةِ، وأيّام ضيّقَةٍ بطيئةٍ ثقيلة. كانَ الأب يتوكأ على ابنِهِ الأكبر، خالد، ومعه بعضٌ من قرنائِهِ من الأقاربِ، كبطانةٍ، يسندونَ صوتَ الشيخِ بأصواتهم، وكلّما مرّت ليلةٌ جلسوا يستعدّونَ لليلةٍ أخرى قد تلوحُ في طَرْقاتٍ مفاجئةٍ على البابِ بكفّي قادمٍ ما من مكانٍ ما.
الطفلةُ الموهوبةُ
كانتِ الطفلةُ الموهوبةُ تتلصَّصُ وتسترقُ السمعَ وتسجّلُ في ذاكرتِها الذهبيّةِ البِكرِ ما تيسّرَ مما يردِّدُهُ أبوها وبطانتُهُ في «بروفاتهم» البريئةِ البسيطة، وذاتَ استعدادٍ لليلة ما، ترامَى إلى سمعِها صوتُ أبيها في وصلةِ تعنيفٍ لأخيها الذي لم يستطعْ أداءَ الدّورِ المطلوبِ منه كما ينبغي، فتسلَّلت على أطرافِ أصابعها، وبحذر شديدٍ أومأتْ إلى أبيها قائلةً إنها تستطيعُ أنْ تغنّي ما عجزَ أخوها عن أدائِهِ، وكانت المفاجأةُ أكبرَ من أن يصدّقها الأبُ الخائفُ على ضياع «الليلة» بسببِ البطءِ الذي أوقفَ أخاها وجعله يتعثّرُ في الحفظِ والأداء! وبالرّغم من دهشةِ الأبِ ومفاجأتِهِ، فإنّهُ لم يسمحْ لنفسِه بالتفكيرِ في ضمّها للمنتخبِ الذي يرافقُهُ، فأخلاقُهُ كفلاحٍ لا تطاوعُهُ في ذلك، وفوقَ ذلِكَ هو لا يريدُ لها سوى أن تستكملَ حفظَ القرآنِ الذي بدأتْهُ في الكُتَّابِ، هو يدرِكُ أنها تستمعُ إلى صوتِ الشيخ أبي العلا محمّد من فونوغراف جارهم العمدة، وكم أسعدَهُ أنْ أتقنتْ أداءَ قصيدة «أفديهِ إنْ حفِظَ الهوى أو ضيَّعَا»، لكن أنْ تَذهبَ معهم إلى قُرى الوجهِ البحريّ ومُدُنِهِ لتشاركَهم الغناءَ فهذا هو المستحيلُ بعينِهِ، لكنّهُ لم يصمُدْ أمامَ إلحاحِ الحاجةِ وقسوةِ الظروفِ، وبنوعٍ من اللينِ معَ النفسِ، حاولَ أنْ يُقنعَ ضميرَهُ بأن لا غضاضةَ في اصطحابِها معهم، وخرجَ مِن المأزقِ بأن اقترحَ على نفسِهِ أن ترتدي الطفلةُ ملابسَ مثلَ ملابسِ شقيقها وبقيّةِ الفريق، وبهذا الحلّ، ومن هذا البابِ، انطلقت أمُّ كُلثوم مع أبيها وأخيها لتتحوّلَ في زمنٍ قياسيٍّ إلى فاكهةِ الفرقةِ، ولتعطي أباها الحقَّ في أنْ يرفعَ أجرَهُ، ويبالغَ في شروطِهِ في عقودِ الاتّفاقِ، ويضعَ بنودًا ما كانَ يجرؤُ على التفكيرِ فيها من قبل، مثل التزامِ أصحابِ المناسبةِ بتوفيرِ الرّكائبِ (الحمير) لهم، وفوقَ ذلك تقديم زجاجة مياه غازيّة لكلّ واحدٍ من أفرادِ الفرقةِ مثلما يفعلونَ معَ كبار المنشدين! ومع زيادةِ الدَّخل بسبب الإقبالِ عليهم إعجابًا بهذهِ الموهوبةِ، استطاع الأبُ أن يخطوَ أكبرَ خطوةٍ في حياتهِ في العام 1916، ألا وهيَ قيامُهُ بشراءِ حمارٍ خاصّ لأمّ كُلثوم، وعلى الرّغم من هذه المكافأةِ الكُبرى، فلم تسلَمْ أمّ كُلثوم من المشقّةِ والإرهاقِ، فمعظمُ الأفراحِ والمناسباتِ في أطرافِ الدلتا والوجهِ البحري، وهيَ مسافاتٌ بعيدةٌ فوقَ طاقةِ الحمارِ وخيالِهْ، وما هو ببالغِها مهما أوتيَ من قوّةٍ وسرعة! لتظلّ الطفلةُ تصارعُ البردَ والقلقَ والانتظارَ بالساعاتِ على محطّاتِ القطارِ البائسةِ، وقد يطولُ الوقتُ بها إلى أكثرَ من عشرِ ساعاتٍ تقضيها في الترقّبِ والارتعاشِ وتخيّلِ رشفةٍ من مشروبٍ دافئٍ تعيدُ إليها الشعورَ بالزمن.
أفديهِ إنْ حفظَ الهوى
وذاتَ انتظارٍ على محطّةِ القطارِ، رأت الأعناقَ تميلُ صوبَ رجلٍ ما، وعندما أصغت، أدركت أنه الشيخ أبوالعلا محمّد الذي فتنها صوتُهُ، وكانت لفرطِ براءتِها ولشموخِ مثالِهِ في خيالها تعتقدُ أنّه من الراحلين، بل ذهبت إلى أبعدَ من ذلكَ بأن اعتبرتْهُ مخلوقًا خياليّا، فما تسمعُهُ من فونوغراف العمدةِ لا يمكنُ أن يكونَ صوتَ بشر! لكنها أفاقتْ على الحقيقةِ التي أذهلتها، فانطلقت صوبَ الرجلِ وظلّت تكلّمُهُ لكنّهُ لا يلتفِتُ إليها ولا يلقي لها بالا حتى تسرّبَ اليأسُ إلى روحها البريئة، وقبل أن ينطفئَ حماسُها، استطاعَ أبوها أن يلفتَ نظرَ الفنانِ «العَلَم» إلى هذهِ البنتِ التي تتنفّسُ أعمالَهُ وتكادُ تذوبُ فيها، ولمّا كانَ الاختبارُ هو الفيصل، فقد طلبَ أبوها أن تغنّي قصيدة «أفديهِ إنْ حفظَ الهوى..» فكادَ أبوالعلا يقعُ مغشيًّا عليهِ من وقع صوتِها ومن سوءِ تقديرِه لها واستخفافه بها، فمال عليها مهنّئًا مندهشًا معتذرًا، لكنّها بادرتْهُ بإصرارِها على ذهابِهِ معهم إلى بيتهم بطماي، فلم يرفضْ طلبَها، وعند دخولِهِ بيتَهُم سبقت الجميعَ لتزفّ الخبرَ إلى أمّها وتطلبَ منها أن تذبحَ كلّ الطيورِ التي بالمنزلِ، وإنْ أمكنها أن تأتي بدعمٍ من طيورِ الجيرانِ، فالضيفُ ليسَ ضيفًا عاديا، إنه الأسطورةُ الصعبةُ التصديق، ومادامَ ذلكَ كذلكَ فالواجبُ أن نفعلَ معه كلّ ما يليقُ بالواجبْ.
كانت ليلةً فوقَ مستوى الكلام، هي لا تنسى سعادتها بلقاءِ الشيخ زكريّا أحمد من قبل، ولا تنسى أنّه تجاهلها في البدايةِ واستهانَ بها أيضًا ثمّ عادَ ليحلّقَ في فضاءِ صوتها ولا يتمنّى الهبوطَ على أرضِ الواقعِ مرّةً أخرى، ولا تنسى نصائحَهُ بأنْ تنتقلَ إلى القاهرةِ ليأخذَ صوتُها ما يليقُ به، لكنْ أن يكون أبوالعلا محمّد في بيتهم تسمعُه وتراهُ فهذا هو الحلمُ الذي لا تريدُ له أن ينتهي أو تُفيقَ منه!
الصبُّ تفضحُهُ عيونُه
أعادَ الشيخ أبوالعلا اقتراح الشيخ زكريا أحمد بضرورة انتقال أمّ كُلثوم إلى القاهرة، فهذا الصوت مكانُه العاصمة لينطلق إلى الآفاق التي خُلِقَ لها، فوافق الأب على مضض، وأقنع نفسه بأنهم سيكونونَ بالقربِ من الشيخ أبي العلا محمّد، وهذا وحدَهُ يكفي. ومنذُ العام 1923، وحتى رحيلِهِ في الخامسِ من يناير 1927، لم يبتعد أبوالعلا محمد عن أمّ كلثوم، كانَ الرجلُ يقطعُ الأمتارَ الأخيرةَ في رحلتِهِ مع الحياة، وبدأَ صوتُهُ يدخُلُ طورَ الذّبولِ والاصفرار، فأدركَ أنَّ تعويضَهُ الأكبرَ هو هذا الصوتُ القادمُ من عمقِ التاريخِ ليتجاوزَ الحاضرَ إلى المستقبلِ وكأنّهُ عُصارةُ مصرَ من بَدءِ التكوينِ إلى آخرِ لحظةٍ على هذهِ الأرض! انطلقَ الشيخ أبوالعلا يعلّمُ أمّ كُلثوم ويعيدُ صياغةَ صوتِها طبقًا لعلومِ الموسيقى وقوانينِها وشروطها، أصبحَ كلٌّ منهما جزْءًا من يومِ الآخرِ، نهارِهِ وليلِهِ، وعلى الرّغمِ من ذلكَ، فلم يستغل الشيخ أبوالعلا هذهِ الفرصةَ ليتاجرَ بهذا الصوتِ البريءِ كما يفعلُ الآخرون، بل ظلّ معلّمًا وحارسًا ومُرشِدًا بكرَمٍ فوقَ الخيال، وعندما ألحّت عليهِ أن يلحّنَ لها عملا تبدأُ بهِ مشوارَها القاهريَّ، لم تسعفْهُ النصوصُ ولا الظروف، وبعد شدٍّ وجذبٍ قالَ لها: لقد سمعتُ منكِ «الصبُّ تفضحُهُ عيونُه» فأدهشني أداؤكِ لها، ووجدتُ في صوتِكِ ما كنتُ أطمحُ إليه، ولا مانعَ عندي من أن تقومي بغنائها وإصدارها في أسطوانة، على الرغم من أنني أصدرتها من قبل.
كانت «سرّي وسرّك» من شعر أحمد رامي الذي سافر إلى باريس في بعثة لتعلّم فنّ المكتبات، وقد لحنها الشيخ أبو العلا وغنّاها وأصدرها في أسطوانةٍ، ونالت شهرتها تحت عنوان «الصبّ تفضحُهُ عيونُه» وهو الشطرُ الأوّلُ في استهلالِ القصيدة، وقد أعجبت أمّ كُلثوم إلى أبعدِ حدٍّ، وكذلكَ وجدَ الشيخ أبوالعلا في أداء أمّ كُلثوم لها ما كان يتمنّاهُ لألحانِه، ولم تترددْ أمّ كُلثوم في تسجيلِها، وظلّت تغنّيها بلا هوادةٍ في كلّ مناسبةٍ تُدعَى فيها إلى الغناء، ولذلك أخطأَ الكثيرونَ عندما قالوا إن أبا العلا لحّنها لأمّ كُلثوم بالمقاس، بينما كانَ اللحنُ سابقًا وصادرًا على أسطوانةٍ قبل أن تنطلقَ أمّ كُلثوم إلى الفضاءِ الرّحبِ من منصّةِ القاهرة، وفوقَ ذلكَ فإنّ الملحن الكبيرَ لم يشأ أن يلحنّ لها عملا خاصّا حتى رحيلِه، وقد غنّت من ألحانِهِ لنفسِهِ ثماني قصائدَ أخرى، في حياتِه، وبعد رحيلِه، وظلّت وفيّةً لذكراهُ تعترفُ بفضلِه حتى آخر حياتِها، بل ظلّت تتألّمُ كلّما تذكّرت أيّامَهُ الأخيرةَ، ولحظةَ علمها بخبرِ رحيلِه، ويكفي أنها كانت الأنثى الوحيدة التي سارت في جنازتِهِ كأنّهُ أبوها.
رباعيات الخيام
بعد رحيل أبي العلا، تجاورَ اثنان من أهمّ ملحّني أمّ كلثوم ليتسلما صوتَها من البدايةِ وهو خارجٌ بنصاعتِهِ من تحت يديه، إنهما الطبيب أحمد صبري النجريدي، والأسطوري محمد القصبجي، لينطلقا بها مع فارس الرهان الأوّل الشاعر أحمد رامي بعد استقرارِهِ بمصرَ، وبينما لم يصمد النجريدي طويلا إذ توارى بعد أن قدّمَ لها ثلاثةَ عشر لحنًا فقط كتب أشعار خمسة منها ومثلها لأحمد رامي، وثلاثة لثلاثة شعراء آخرين، نجد القصبجي يحلق بها شبهَ منفرِدٍ طوالَ حقبةِ العشرينيّات لتتخلّص من زيّ الرجالِ الذي بدأت به، ولتكونَ لها فرقةٌ خاصةٌ بها، ولتصعدَ سُلّمة سُلّمَةً لتصلَ إلى الآفاق وتأخذ من الماضي والحاضر إلى المستقبل، وانضم إلى جنودها الملحنون داود حسني ثم الشيخ زكريا أحمد فالسنباطي ففريد غصن ثم محمد الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي ومحمد عبدالوهاب وفي النهاية سيد مكاوي، ومعهم عدا داود حسني وفريد غصن وسيد مكاوي غنّت قصائد (أعني باللغة الفصحى) لشعراء رحلوا منذ قرون، مثل الشريف الرضي والعبّاس بن الأحنف وأبي الحسن سعدالله بن نصرالدين الدجاجي وصفي الدين الحلّي وابن النبيه المصري وبكر بن النطاح الحنفي، وكان أبوفراس الحمداني أشهرهم برائيته التي غنتها بألحان ثلاثة ملحنين (عبده الحامولي، باعتبارها من التراث 1926م، ثم زكريا أحمد 1944م، ثم السنباطي، اللحن الأشهر 1964م)، ومع أشعار رامي الذي أعطاها خمسين عاما من الشعر، غنّت قصائد لإسماعيل صبري باشا وأحمد شوقي ومصطفى عبدالرحمن ومحمد الأسمر وحافظ إبراهيم وطاهر أبي فاشا ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت وأحمد فتحي وعزيز أباظة وكامل الشناوي ومحمود الماحي وإبراهيم ناجي، حتى الذين كتبوا لها بالزجل الدارج كان معظمهم قادما من الفصحى، مثل عبدالوهاب محمد ومأمون الشناوي ومرسي جميل عزيز. ولم تشأ أن تكون صوتًا للشعراء المصريين فقط، ولكنها انحازت إلى عروبتها، فغنّت لعبدالله الفيصل من السعودية، وأحمد العدواني من الكويت، وجورج جرداق من لبنان، ونزار قبّاني من سوريّة، والهادي آدم من السودان، كما مدّت صوتها الماسي ليحمل اسمين بارزين من شعراء عالمها الأرحب، العالم الإسلامي، فغنت «رباعيات الخيام» للشاعر الفارسي عمر الخيام (وهي على رأس قصائدها المغناة فقد أدتها في خمسة وثلاثين حفلا)، كما غنّت لشاعر باكستان الأعظم محمد إقبال، فجاء صوتها جامعًا للتاريخ والجغرافيا معًا، وللماضي والحاضر اللذين أطلقتهما في مضمار المستقبل المستمر، حيث غنّت لستة وخمسين شاعرًا غالبيتهم من أبناء الفصحى، وتبارى ملحنوها العظماء وعلى رأسهم السنباطي الذي لحّن لها مائة وثلاثة ألحان, منها ثلاثة وخمسون بالفصحى! وصولا إلى بليغ حمدي الذي لحن لها قصيدة وحيدة ضمن ما قدّم لها وهي «إنّا فدائيون» أثناء حرب 1967م، كما لحنت لنفسها من شعر رامي. كانت أم كلثوم تعشق الفصحى، وتكتب وتتكلم بها، وعندما علّمها رامي بحور الشعر، أصبحت ترتجل على المسرح عندما تنسى، فلا تكسر الوزن ولا تعصف بالنحو (في مرّات كثيرة أخطأت وكانت لها زلات لسان في شواهق فصحاها)، لتظل الصوت الراكض بلغتنا الجميلة في مضمار الزمن، يوزعها بالعدل بين أساتذة الجامعة وبين البسطاء، بين العمال والفلاحين، وعلى الخريطة العربية كلها وفي الزمن كلّه، ولهذا، أتعجّب عندما تتسابق وسائل الإعلام للاحتفال بذكرى وفاتها في «كلّ 3 فبراير»، وهي التي تتجدد في كل ثانية، مع كل حرف تطرّز به الأثير، أو يفرض نفسه في خيال مستمعيها كلما حنوا إلى الغناء للدين أو الوطن أو الحب وكل المعاني الإنسانية العظمى!
إنها.. أمّ كُلثوم.. وكفى! .