أمُّ كُـلـثـوم.. الأسطورةُ التي تتوالدُ في رحم الزمن

أمُّ كُـلـثـوم..  الأسطورةُ التي تتوالدُ  في رحم الزمن

‭ ‬ليست‭ ‬بحاجةٍ‭ ‬إلى‭ ‬ألقاب،‭ ‬فاسمُها‭ ‬يحملُ‭ ‬في‭ ‬رنينه‭ ‬وصداه‭ ‬إيقاعًا‭ ‬أو‭ ‬جَرْسًا‭ ‬موسيقيًّا‭ ‬تلقائيًّا‭ ‬صنعتهُ‭ ‬يدُ‭ ‬القدَرِ‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تجعلْ‭ ‬منها‭ ‬سيّدةَ‭ ‬الغناءِ‭ ‬العربيِّ،‭ ‬أو‭ ‬أسطورة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬بل‭ ‬لتجعلها‭ ‬نهرًا‭ ‬خرافيًّا‭ ‬يسافرُ‭ ‬في‭ ‬حدائقِ‭ ‬الأزمنةِ‭ ‬المتتالية،‭ ‬وكلّما‭ ‬دخلَ‭ ‬عصرًا‭ ‬أو‭ ‬زمنًا‭ ‬تجدَّدَ‭ ‬فيهِ‭ ‬وسابقَهُ‭ ‬وسبقَهُ‭ ‬وفرضَ‭ ‬وجودهُ‭ ‬فيهِ‭ ‬وعليه‭.‬

هيَ‭ ‬الخرافيّةُ‭ ‬الصعبةُ‭ ‬التكرار‭ ‬أو‭ ‬التقليد،‭ ‬برجٌ‭ ‬شاهقٌ‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الغناء‭ ‬العربي،‭ ‬تأسَّسَ‭ ‬في‭ ‬الخفاءِ‭ ‬على‭ ‬مدارِ‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا،‭ ‬وعندما‭ ‬سطعَ‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‭ ‬ولاحَ‭ ‬للناظرين،‭ ‬واصلَ‭ ‬الارتفاع‭ ‬والارتقاء‭ ‬لخمسين‭ ‬عامًا‭ ‬أخرى،‭ ‬إذ‭ ‬تكاتفت‭ ‬عشرات‭ ‬الأيدي‭ ‬والقلوب‭ ‬المخلصة‭ ‬والأرواح‭ ‬الصافية‭ ‬النقيّة‭ ‬لتشيّد‭ ‬لنا‭ ‬هذا‭ ‬الصرح‭ ‬الذي‭ ‬نباهي‭ ‬به‭ ‬الأمم،‭ ‬ونقول‭ ‬بثقةٍ‭ ‬وثبات‭: ‬يكفي‭ ‬أنَّ‭ ‬لدينا‭ ‬أمَّ‭ ‬كُلثوم‭!!‬

 

اسْمُها‭... ‬أمُّ‭ ‬كُلثُوم‭!‬

اسمُها‭ ‬أمُّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬إبراهيم‭ ‬البلتاجي،‭ ‬لكنّهُم،‭ ‬وبلا‭ ‬وعيٍّ‭ ‬أو‭ ‬أمانة،‭ ‬جعلوها‭ ‬‮«‬فاطمة‮»‬،‭ ‬وأصبحت‭ ‬أوّلُ‭ ‬كلمةٍ‭ ‬في‭ ‬سيرتِها‭ ‬تحملُ‭ ‬رأسَ‭ ‬الخطأ‭ (‬فالأخطاءُ‭ ‬في‭ ‬سيرتها‭ ‬ومسيرتها‭ ‬أكثرُ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تُحصَى‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬ندري‭ ‬مَن‭ ‬الذي‭ ‬ارتكبَ‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الخطيئة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أصبحَ‭ ‬تصويبُها‭ ‬يشبُهُ‭ ‬مطاردةَ‭ ‬سمكةٍ‭ ‬صغيرةٍ‭ ‬في‭ ‬أعماقِ‭ ‬المحيطِ،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬ثورةِ‭ ‬الإنترنت‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬العيوبِ‭ ‬ما‭ ‬يوازي‭ ‬ما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬المزايا‭ ‬ويناطحُهُ‭ ‬رأسًا‭ ‬برأس‭! ‬أمّا‭ ‬عن‭ ‬تاريخِ‭ ‬ميلادِها،‭ ‬فقد‭ ‬تعدّدت‭ ‬الرواياتُ‭ ‬لتتأرجحَ‭ ‬بين‭ ‬تسعة‭ ‬تواريخَ،‭ ‬أوّلها‭ ‬في‭ ‬العامِ‭ ‬1896م،‭ ‬وآخرها‭ ‬في‭ ‬العامِ‭ ‬1910م،‭ ‬وبين‭ ‬النقطتينِ‭ ‬يقعُ‭ ‬تاريخانِ‭ ‬مُعتمَدانِ‭ ‬لميلادِها‭ ‬في‭ ‬تناقُضٍ‭ ‬عجيبٍ،‭ ‬الأوّل‭: ‬الثلاثون‭ ‬من‭ ‬ديسمبر‭ ‬1898م،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬اعتمدتْهُ‭ ‬مصرُ‭ ‬في‭ ‬احتفالها‭ ‬بمئويتها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1998م،‭ ‬أمّا‭ ‬الآخرُ‭ ‬فهو‭ ‬الرابعُ‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬1904م،‭ ‬وهو‭ ‬تاريخُ‭ ‬التسنينِ‭ ‬الطبّي،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناكَ‭ ‬توثيقٌ‭ ‬دقيقٌ‭ ‬للمواليدِ‭ ‬والوفيَاتِ‭ ‬عندما‭ ‬جاءت‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬إلى‭ ‬الحياةِ‭ ‬في‭ ‬نهايةَ‭ ‬القرنِ‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬أو‭ ‬بدايةَ‭ ‬القرنِ‭ ‬العشرين‭.‬

شاءت‭ ‬الأقدارُ‭ ‬أن‭ ‬تولد‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬في‭ ‬بيئةٍ‭ ‬تتنفّسُ‭ ‬الفصحى،‭ ‬فقد‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬ظلالِ‭ ‬القرآنِ‭ ‬والتواشيحِ‭ ‬والابتهالاتِ‭ ‬والمدائحِ‭ ‬النبويّةِ،‭ ‬إذ‭ ‬كانَ‭ ‬أبوها‭ ‬قارئًا‭ ‬للقرآنِ‭ ‬ومؤذّنًا‭ ‬ومُنشدًا‭ ‬ومدّاحًا‭ ‬بموطنهم‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬‮«‬طماي‭ ‬الزهايرة‮»‬‭ ‬بمركز‭ ‬السنبلاوين‭ ‬محافظة‭ ‬الدقهلية،‭ ‬ومنها‭ ‬ينطلقُ‭ ‬ويطوفُ‭ ‬القُرى‭ ‬المجاورةَ‭ ‬ثمّ‭ ‬القرى‭ ‬والمدنَ‭ ‬البعيدةَ‭ ‬لإحياءِ‭ ‬المناسباتِ‭ ‬الدّينيةِ‭ ‬والأفراحِ‭ ‬والموالدِ‭ ‬بصورةٍ‭ ‬ظاهرُها‭ ‬الهوايةُ‭ ‬وباطنُها‭ ‬الإصرارُ‭ ‬على‭ ‬السعيّ‭ ‬وراءَ‭ ‬الرزقِ‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬بالغة‭ ‬القسوةِ،‭ ‬وأيّام‭ ‬ضيّقَةٍ‭ ‬بطيئةٍ‭ ‬ثقيلة‭. ‬كانَ‭ ‬الأب‭ ‬يتوكأ‭ ‬على‭ ‬ابنِهِ‭ ‬الأكبر،‭ ‬خالد،‭ ‬ومعه‭ ‬بعضٌ‭ ‬من‭ ‬قرنائِهِ‭ ‬من‭ ‬الأقاربِ،‭ ‬كبطانةٍ،‭ ‬يسندونَ‭ ‬صوتَ‭ ‬الشيخِ‭ ‬بأصواتهم،‭ ‬وكلّما‭ ‬مرّت‭ ‬ليلةٌ‭ ‬جلسوا‭ ‬يستعدّونَ‭ ‬لليلةٍ‭ ‬أخرى‭ ‬قد‭ ‬تلوحُ‭ ‬في‭ ‬طَرْقاتٍ‭ ‬مفاجئةٍ‭ ‬على‭ ‬البابِ‭ ‬بكفّي‭ ‬قادمٍ‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬مكانٍ‭ ‬ما‭.‬

‭ ‬

الطفلةُ‭ ‬الموهوبةُ‭ ‬

كانتِ‭ ‬الطفلةُ‭ ‬الموهوبةُ‭ ‬تتلصَّصُ‭ ‬وتسترقُ‭ ‬السمعَ‭ ‬وتسجّلُ‭ ‬في‭ ‬ذاكرتِها‭ ‬الذهبيّةِ‭ ‬البِكرِ‭ ‬ما‭ ‬تيسّرَ‭ ‬مما‭ ‬يردِّدُهُ‭ ‬أبوها‭ ‬وبطانتُهُ‭ ‬في‭ ‬‮«‬بروفاتهم‮»‬‭ ‬البريئةِ‭ ‬البسيطة،‭ ‬وذاتَ‭ ‬استعدادٍ‭ ‬لليلة‭ ‬ما،‭ ‬ترامَى‭ ‬إلى‭ ‬سمعِها‭ ‬صوتُ‭ ‬أبيها‭ ‬في‭ ‬وصلةِ‭ ‬تعنيفٍ‭ ‬لأخيها‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يستطعْ‭ ‬أداءَ‭ ‬الدّورِ‭ ‬المطلوبِ‭ ‬منه‭ ‬كما‭ ‬ينبغي،‭ ‬فتسلَّلت‭ ‬على‭ ‬أطرافِ‭ ‬أصابعها،‭ ‬وبحذر‭ ‬شديدٍ‭ ‬أومأتْ‭ ‬إلى‭ ‬أبيها‭ ‬قائلةً‭ ‬إنها‭ ‬تستطيعُ‭ ‬أنْ‭ ‬تغنّي‭ ‬ما‭ ‬عجزَ‭ ‬أخوها‭ ‬عن‭ ‬أدائِهِ،‭ ‬وكانت‭ ‬المفاجأةُ‭ ‬أكبرَ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يصدّقها‭ ‬الأبُ‭ ‬الخائفُ‭ ‬على‭ ‬ضياع‭ ‬‮«‬الليلة‮»‬‭ ‬بسببِ‭ ‬البطءِ‭ ‬الذي‭ ‬أوقفَ‭ ‬أخاها‭ ‬وجعله‭ ‬يتعثّرُ‭ ‬في‭ ‬الحفظِ‭ ‬والأداء‭! ‬وبالرّغم‭ ‬من‭ ‬دهشةِ‭ ‬الأبِ‭ ‬ومفاجأتِهِ،‭ ‬فإنّهُ‭ ‬لم‭ ‬يسمحْ‭ ‬لنفسِه‭ ‬بالتفكيرِ‭ ‬في‭ ‬ضمّها‭ ‬للمنتخبِ‭ ‬الذي‭ ‬يرافقُهُ،‭ ‬فأخلاقُهُ‭ ‬كفلاحٍ‭ ‬لا‭ ‬تطاوعُهُ‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬وفوقَ‭ ‬ذلِكَ‭ ‬هو‭ ‬لا‭ ‬يريدُ‭ ‬لها‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬تستكملَ‭ ‬حفظَ‭ ‬القرآنِ‭ ‬الذي‭ ‬بدأتْهُ‭ ‬في‭ ‬الكُتَّابِ،‭ ‬هو‭ ‬يدرِكُ‭ ‬أنها‭ ‬تستمعُ‭ ‬إلى‭ ‬صوتِ‭ ‬الشيخ‭ ‬أبي‭ ‬العلا‭ ‬محمّد‭ ‬من‭ ‬فونوغراف‭ ‬جارهم‭ ‬العمدة،‭ ‬وكم‭ ‬أسعدَهُ‭ ‬أنْ‭ ‬أتقنتْ‭ ‬أداءَ‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬أفديهِ‭ ‬إنْ‭ ‬حفِظَ‭ ‬الهوى‭ ‬أو‭ ‬ضيَّعَا‮»‬،‭ ‬لكن‭ ‬أنْ‭ ‬تَذهبَ‭ ‬معهم‭ ‬إلى‭ ‬قُرى‭ ‬الوجهِ‭ ‬البحريّ‭ ‬ومُدُنِهِ‭ ‬لتشاركَهم‭ ‬الغناءَ‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬المستحيلُ‭ ‬بعينِهِ،‭ ‬لكنّهُ‭ ‬لم‭ ‬يصمُدْ‭ ‬أمامَ‭ ‬إلحاحِ‭ ‬الحاجةِ‭ ‬وقسوةِ‭ ‬الظروفِ،‭ ‬وبنوعٍ‭ ‬من‭ ‬اللينِ‭ ‬معَ‭ ‬النفسِ،‭ ‬حاولَ‭ ‬أنْ‭ ‬يُقنعَ‭ ‬ضميرَهُ‭ ‬بأن‭ ‬لا‭ ‬غضاضةَ‭ ‬في‭ ‬اصطحابِها‭ ‬معهم،‭ ‬وخرجَ‭ ‬مِن‭ ‬المأزقِ‭ ‬بأن‭ ‬اقترحَ‭ ‬على‭ ‬نفسِهِ‭ ‬أن‭ ‬ترتدي‭ ‬الطفلةُ‭ ‬ملابسَ‭ ‬مثلَ‭ ‬ملابسِ‭ ‬شقيقها‭ ‬وبقيّةِ‭ ‬الفريق،‭ ‬وبهذا‭ ‬الحلّ،‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬البابِ،‭ ‬انطلقت‭ ‬أمُّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬مع‭ ‬أبيها‭ ‬وأخيها‭ ‬لتتحوّلَ‭ ‬في‭ ‬زمنٍ‭ ‬قياسيٍّ‭ ‬إلى‭ ‬فاكهةِ‭ ‬الفرقةِ،‭ ‬ولتعطي‭ ‬أباها‭ ‬الحقَّ‭ ‬في‭ ‬أنْ‭ ‬يرفعَ‭ ‬أجرَهُ،‭ ‬ويبالغَ‭ ‬في‭ ‬شروطِهِ‭ ‬في‭ ‬عقودِ‭ ‬الاتّفاقِ،‭ ‬ويضعَ‭ ‬بنودًا‭ ‬ما‭ ‬كانَ‭ ‬يجرؤُ‭ ‬على‭ ‬التفكيرِ‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬مثل‭ ‬التزامِ‭ ‬أصحابِ‭ ‬المناسبةِ‭ ‬بتوفيرِ‭ ‬الرّكائبِ‭ (‬الحمير‭) ‬لهم،‭ ‬وفوقَ‭ ‬ذلك‭ ‬تقديم‭ ‬زجاجة‭ ‬مياه‭ ‬غازيّة‭ ‬لكلّ‭ ‬واحدٍ‭ ‬من‭ ‬أفرادِ‭ ‬الفرقةِ‭ ‬مثلما‭ ‬يفعلونَ‭ ‬معَ‭ ‬كبار‭ ‬المنشدين‭! ‬ومع‭ ‬زيادةِ‭ ‬الدَّخل‭ ‬بسبب‭ ‬الإقبالِ‭ ‬عليهم‭ ‬إعجابًا‭ ‬بهذهِ‭ ‬الموهوبةِ،‭ ‬استطاع‭ ‬الأبُ‭ ‬أن‭ ‬يخطوَ‭ ‬أكبرَ‭ ‬خطوةٍ‭ ‬في‭ ‬حياتهِ‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1916،‭ ‬ألا‭ ‬وهيَ‭ ‬قيامُهُ‭ ‬بشراءِ‭ ‬حمارٍ‭ ‬خاصّ‭ ‬لأمّ‭ ‬كُلثوم،‭ ‬وعلى‭ ‬الرّغم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المكافأةِ‭ ‬الكُبرى،‭ ‬فلم‭ ‬تسلَمْ‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬من‭ ‬المشقّةِ‭ ‬والإرهاقِ،‭ ‬فمعظمُ‭ ‬الأفراحِ‭ ‬والمناسباتِ‭ ‬في‭ ‬أطرافِ‭ ‬الدلتا‭ ‬والوجهِ‭ ‬البحري،‭ ‬وهيَ‭ ‬مسافاتٌ‭ ‬بعيدةٌ‭ ‬فوقَ‭ ‬طاقةِ‭ ‬الحمارِ‭ ‬وخيالِهْ،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬ببالغِها‭ ‬مهما‭ ‬أوتيَ‭ ‬من‭ ‬قوّةٍ‭ ‬وسرعة‭! ‬لتظلّ‭ ‬الطفلةُ‭ ‬تصارعُ‭ ‬البردَ‭ ‬والقلقَ‭ ‬والانتظارَ‭ ‬بالساعاتِ‭ ‬على‭ ‬محطّاتِ‭ ‬القطارِ‭ ‬البائسةِ،‭ ‬وقد‭ ‬يطولُ‭ ‬الوقتُ‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬أكثرَ‭ ‬من‭ ‬عشرِ‭ ‬ساعاتٍ‭ ‬تقضيها‭ ‬في‭ ‬الترقّبِ‭ ‬والارتعاشِ‭ ‬وتخيّلِ‭ ‬رشفةٍ‭ ‬من‭ ‬مشروبٍ‭ ‬دافئٍ‭ ‬تعيدُ‭ ‬إليها‭ ‬الشعورَ‭ ‬بالزمن‭.‬

 

أفديهِ‭ ‬إنْ‭ ‬حفظَ‭ ‬الهوى

‭ ‬وذاتَ‭ ‬انتظارٍ‭ ‬على‭ ‬محطّةِ‭ ‬القطارِ،‭ ‬رأت‭ ‬الأعناقَ‭ ‬تميلُ‭ ‬صوبَ‭ ‬رجلٍ‭ ‬ما،‭ ‬وعندما‭ ‬أصغت،‭ ‬أدركت‭ ‬أنه‭ ‬الشيخ‭ ‬أبوالعلا‭ ‬محمّد‭ ‬الذي‭ ‬فتنها‭ ‬صوتُهُ،‭ ‬وكانت‭ ‬لفرطِ‭ ‬براءتِها‭ ‬ولشموخِ‭ ‬مثالِهِ‭ ‬في‭ ‬خيالها‭ ‬تعتقدُ‭ ‬أنّه‭ ‬من‭ ‬الراحلين،‭ ‬بل‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬أبعدَ‭ ‬من‭ ‬ذلكَ‭ ‬بأن‭ ‬اعتبرتْهُ‭ ‬مخلوقًا‭ ‬خياليّا،‭ ‬فما‭ ‬تسمعُهُ‭ ‬من‭ ‬فونوغراف‭ ‬العمدةِ‭ ‬لا‭ ‬يمكنُ‭ ‬أن‭ ‬يكونَ‭ ‬صوتَ‭ ‬بشر‭! ‬لكنها‭ ‬أفاقتْ‭ ‬على‭ ‬الحقيقةِ‭ ‬التي‭ ‬أذهلتها،‭ ‬فانطلقت‭ ‬صوبَ‭ ‬الرجلِ‭ ‬وظلّت‭ ‬تكلّمُهُ‭ ‬لكنّهُ‭ ‬لا‭ ‬يلتفِتُ‭ ‬إليها‭ ‬ولا‭ ‬يلقي‭ ‬لها‭ ‬بالا‭ ‬حتى‭ ‬تسرّبَ‭ ‬اليأسُ‭ ‬إلى‭ ‬روحها‭ ‬البريئة،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬ينطفئَ‭ ‬حماسُها،‭ ‬استطاعَ‭ ‬أبوها‭ ‬أن‭ ‬يلفتَ‭ ‬نظرَ‭ ‬الفنانِ‭ ‬‮«‬العَلَم‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬هذهِ‭ ‬البنتِ‭ ‬التي‭ ‬تتنفّسُ‭ ‬أعمالَهُ‭ ‬وتكادُ‭ ‬تذوبُ‭ ‬فيها،‭ ‬ولمّا‭ ‬كانَ‭ ‬الاختبارُ‭ ‬هو‭ ‬الفيصل،‭ ‬فقد‭ ‬طلبَ‭ ‬أبوها‭ ‬أن‭ ‬تغنّي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬أفديهِ‭ ‬إنْ‭ ‬حفظَ‭ ‬الهوى‭..‬‮»‬‭ ‬فكادَ‭ ‬أبوالعلا‭ ‬يقعُ‭ ‬مغشيًّا‭ ‬عليهِ‭ ‬من‭ ‬وقع‭ ‬صوتِها‭ ‬ومن‭ ‬سوءِ‭ ‬تقديرِه‭ ‬لها‭ ‬واستخفافه‭ ‬بها،‭ ‬فمال‭ ‬عليها‭ ‬مهنّئًا‭ ‬مندهشًا‭ ‬معتذرًا،‭ ‬لكنّها‭ ‬بادرتْهُ‭ ‬بإصرارِها‭ ‬على‭ ‬ذهابِهِ‭ ‬معهم‭ ‬إلى‭ ‬بيتهم‭ ‬بطماي،‭ ‬فلم‭ ‬يرفضْ‭ ‬طلبَها،‭ ‬وعند‭ ‬دخولِهِ‭ ‬بيتَهُم‭ ‬سبقت‭ ‬الجميعَ‭ ‬لتزفّ‭ ‬الخبرَ‭ ‬إلى‭ ‬أمّها‭ ‬وتطلبَ‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تذبحَ‭ ‬كلّ‭ ‬الطيورِ‭ ‬التي‭ ‬بالمنزلِ،‭ ‬وإنْ‭ ‬أمكنها‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬بدعمٍ‭ ‬من‭ ‬طيورِ‭ ‬الجيرانِ،‭ ‬فالضيفُ‭ ‬ليسَ‭ ‬ضيفًا‭ ‬عاديا،‭ ‬إنه‭ ‬الأسطورةُ‭ ‬الصعبةُ‭ ‬التصديق،‭ ‬ومادامَ‭ ‬ذلكَ‭ ‬كذلكَ‭ ‬فالواجبُ‭ ‬أن‭ ‬نفعلَ‭ ‬معه‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬يليقُ‭ ‬بالواجبْ‭.‬

كانت‭ ‬ليلةً‭ ‬فوقَ‭ ‬مستوى‭ ‬الكلام،‭ ‬هي‭ ‬لا‭ ‬تنسى‭ ‬سعادتها‭ ‬بلقاءِ‭ ‬الشيخ‭ ‬زكريّا‭ ‬أحمد‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ولا‭ ‬تنسى‭ ‬أنّه‭ ‬تجاهلها‭ ‬في‭ ‬البدايةِ‭ ‬واستهانَ‭ ‬بها‭ ‬أيضًا‭ ‬ثمّ‭ ‬عادَ‭ ‬ليحلّقَ‭ ‬في‭ ‬فضاءِ‭ ‬صوتها‭ ‬ولا‭ ‬يتمنّى‭ ‬الهبوطَ‭ ‬على‭ ‬أرضِ‭ ‬الواقعِ‭ ‬مرّةً‭ ‬أخرى،‭ ‬ولا‭ ‬تنسى‭ ‬نصائحَهُ‭ ‬بأنْ‭ ‬تنتقلَ‭ ‬إلى‭ ‬القاهرةِ‭ ‬ليأخذَ‭ ‬صوتُها‭ ‬ما‭ ‬يليقُ‭ ‬به،‭ ‬لكنْ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أبوالعلا‭ ‬محمّد‭ ‬في‭ ‬بيتهم‭ ‬تسمعُه‭ ‬وتراهُ‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬الحلمُ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تريدُ‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬أو‭ ‬تُفيقَ‭ ‬منه‭!‬

 

الصبُّ‭ ‬تفضحُهُ‭ ‬عيونُه‭ ‬

أعادَ‭ ‬الشيخ‭ ‬أبوالعلا‭ ‬اقتراح‭ ‬الشيخ‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭ ‬بضرورة‭ ‬انتقال‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة،‭ ‬فهذا‭ ‬الصوت‭ ‬مكانُه‭ ‬العاصمة‭ ‬لينطلق‭ ‬إلى‭ ‬الآفاق‭ ‬التي‭ ‬خُلِقَ‭ ‬لها،‭ ‬فوافق‭ ‬الأب‭ ‬على‭ ‬مضض،‭ ‬وأقنع‭ ‬نفسه‭ ‬بأنهم‭ ‬سيكونونَ‭ ‬بالقربِ‭ ‬من‭ ‬الشيخ‭ ‬أبي‭ ‬العلا‭ ‬محمّد،‭ ‬وهذا‭ ‬وحدَهُ‭ ‬يكفي‭. ‬ومنذُ‭ ‬العام‭ ‬1923،‭ ‬وحتى‭ ‬رحيلِهِ‭ ‬في‭ ‬الخامسِ‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬1927،‭ ‬لم‭ ‬يبتعد‭ ‬أبوالعلا‭ ‬محمد‭ ‬عن‭ ‬أمّ‭ ‬كلثوم،‭ ‬كانَ‭ ‬الرجلُ‭ ‬يقطعُ‭ ‬الأمتارَ‭ ‬الأخيرةَ‭ ‬في‭ ‬رحلتِهِ‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬وبدأَ‭ ‬صوتُهُ‭ ‬يدخُلُ‭ ‬طورَ‭ ‬الذّبولِ‭ ‬والاصفرار،‭ ‬فأدركَ‭ ‬أنَّ‭ ‬تعويضَهُ‭ ‬الأكبرَ‭ ‬هو‭ ‬هذا‭ ‬الصوتُ‭ ‬القادمُ‭ ‬من‭ ‬عمقِ‭ ‬التاريخِ‭ ‬ليتجاوزَ‭ ‬الحاضرَ‭ ‬إلى‭ ‬المستقبلِ‭ ‬وكأنّهُ‭ ‬عُصارةُ‭ ‬مصرَ‭ ‬من‭ ‬بَدءِ‭ ‬التكوينِ‭ ‬إلى‭ ‬آخرِ‭ ‬لحظةٍ‭ ‬على‭ ‬هذهِ‭ ‬الأرض‭! ‬انطلقَ‭ ‬الشيخ‭ ‬أبوالعلا‭ ‬يعلّمُ‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬ويعيدُ‭ ‬صياغةَ‭ ‬صوتِها‭ ‬طبقًا‭ ‬لعلومِ‭ ‬الموسيقى‭ ‬وقوانينِها‭ ‬وشروطها،‭ ‬أصبحَ‭ ‬كلٌّ‭ ‬منهما‭ ‬جزْءًا‭ ‬من‭ ‬يومِ‭ ‬الآخرِ،‭ ‬نهارِهِ‭ ‬وليلِهِ،‭ ‬وعلى‭ ‬الرّغمِ‭ ‬من‭ ‬ذلكَ،‭ ‬فلم‭ ‬يستغل‭ ‬الشيخ‭ ‬أبوالعلا‭ ‬هذهِ‭ ‬الفرصةَ‭ ‬ليتاجرَ‭ ‬بهذا‭ ‬الصوتِ‭ ‬البريءِ‭ ‬كما‭ ‬يفعلُ‭ ‬الآخرون،‭ ‬بل‭ ‬ظلّ‭ ‬معلّمًا‭ ‬وحارسًا‭ ‬ومُرشِدًا‭ ‬بكرَمٍ‭ ‬فوقَ‭ ‬الخيال،‭ ‬وعندما‭ ‬ألحّت‭ ‬عليهِ‭ ‬أن‭ ‬يلحّنَ‭ ‬لها‭ ‬عملا‭ ‬تبدأُ‭ ‬بهِ‭ ‬مشوارَها‭ ‬القاهريَّ،‭ ‬لم‭ ‬تسعفْهُ‭ ‬النصوصُ‭ ‬ولا‭ ‬الظروف،‭ ‬وبعد‭ ‬شدٍّ‭ ‬وجذبٍ‭ ‬قالَ‭ ‬لها‭: ‬لقد‭ ‬سمعتُ‭ ‬منكِ‭ ‬‮«‬الصبُّ‭ ‬تفضحُهُ‭ ‬عيونُه‮»‬‭ ‬فأدهشني‭ ‬أداؤكِ‭ ‬لها،‭ ‬ووجدتُ‭ ‬في‭ ‬صوتِكِ‭ ‬ما‭ ‬كنتُ‭ ‬أطمحُ‭ ‬إليه،‭ ‬ولا‭ ‬مانعَ‭ ‬عندي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تقومي‭ ‬بغنائها‭ ‬وإصدارها‭ ‬في‭ ‬أسطوانة،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬أصدرتها‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬سرّي‭ ‬وسرّك‮»‬‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬أحمد‭ ‬رامي‭ ‬الذي‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬باريس‭ ‬في‭ ‬بعثة‭ ‬لتعلّم‭ ‬فنّ‭ ‬المكتبات،‭ ‬وقد‭ ‬لحنها‭ ‬الشيخ‭ ‬أبو‭ ‬العلا‭ ‬وغنّاها‭ ‬وأصدرها‭ ‬في‭ ‬أسطوانةٍ،‭ ‬ونالت‭ ‬شهرتها‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الصبّ‭ ‬تفضحُهُ‭ ‬عيونُه‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬الشطرُ‭ ‬الأوّلُ‭ ‬في‭ ‬استهلالِ‭ ‬القصيدة،‭ ‬وقد‭ ‬أعجبت‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬إلى‭ ‬أبعدِ‭ ‬حدٍّ،‭ ‬وكذلكَ‭ ‬وجدَ‭ ‬الشيخ‭ ‬أبوالعلا‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتمنّاهُ‭ ‬لألحانِه،‭ ‬ولم‭ ‬تترددْ‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬في‭ ‬تسجيلِها،‭ ‬وظلّت‭ ‬تغنّيها‭ ‬بلا‭ ‬هوادةٍ‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مناسبةٍ‭ ‬تُدعَى‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬الغناء،‭ ‬ولذلك‭ ‬أخطأَ‭ ‬الكثيرونَ‭ ‬عندما‭ ‬قالوا‭ ‬إن‭ ‬أبا‭ ‬العلا‭ ‬لحّنها‭ ‬لأمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬بالمقاس،‭ ‬بينما‭ ‬كانَ‭ ‬اللحنُ‭ ‬سابقًا‭ ‬وصادرًا‭ ‬على‭ ‬أسطوانةٍ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنطلقَ‭ ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭ ‬إلى‭ ‬الفضاءِ‭ ‬الرّحبِ‭ ‬من‭ ‬منصّةِ‭ ‬القاهرة،‭ ‬وفوقَ‭ ‬ذلكَ‭ ‬فإنّ‭ ‬الملحن‭ ‬الكبيرَ‭ ‬لم‭ ‬يشأ‭ ‬أن‭ ‬يلحنّ‭ ‬لها‭ ‬عملا‭ ‬خاصّا‭ ‬حتى‭ ‬رحيلِه،‭ ‬وقد‭ ‬غنّت‭ ‬من‭ ‬ألحانِهِ‭ ‬لنفسِهِ‭ ‬ثماني‭ ‬قصائدَ‭ ‬أخرى،‭ ‬في‭ ‬حياتِه،‭ ‬وبعد‭ ‬رحيلِه،‭ ‬وظلّت‭ ‬وفيّةً‭ ‬لذكراهُ‭ ‬تعترفُ‭ ‬بفضلِه‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬حياتِها،‭ ‬بل‭ ‬ظلّت‭ ‬تتألّمُ‭ ‬كلّما‭ ‬تذكّرت‭ ‬أيّامَهُ‭ ‬الأخيرةَ،‭ ‬ولحظةَ‭ ‬علمها‭ ‬بخبرِ‭ ‬رحيلِه،‭ ‬ويكفي‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬الأنثى‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬سارت‭ ‬في‭ ‬جنازتِهِ‭ ‬كأنّهُ‭ ‬أبوها‭.‬

 

رباعيات‭ ‬الخيام‭ ‬

بعد‭ ‬رحيل‭ ‬أبي‭ ‬العلا،‭ ‬تجاورَ‭ ‬اثنان‭ ‬من‭ ‬أهمّ‭ ‬ملحّني‭ ‬أمّ‭ ‬كلثوم‭ ‬ليتسلما‭ ‬صوتَها‭ ‬من‭ ‬البدايةِ‭ ‬وهو‭ ‬خارجٌ‭ ‬بنصاعتِهِ‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬يديه،‭ ‬إنهما‭ ‬الطبيب‭ ‬أحمد‭ ‬صبري‭ ‬النجريدي،‭ ‬والأسطوري‭ ‬محمد‭ ‬القصبجي،‭ ‬لينطلقا‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬فارس‭ ‬الرهان‭ ‬الأوّل‭ ‬الشاعر‭ ‬أحمد‭ ‬رامي‭ ‬بعد‭ ‬استقرارِهِ‭ ‬بمصرَ،‭ ‬وبينما‭ ‬لم‭ ‬يصمد‭ ‬النجريدي‭ ‬طويلا‭ ‬إذ‭ ‬توارى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قدّمَ‭ ‬لها‭ ‬ثلاثةَ‭ ‬عشر‭ ‬لحنًا‭ ‬فقط‭ ‬كتب‭ ‬أشعار‭ ‬خمسة‭ ‬منها‭ ‬ومثلها‭ ‬لأحمد‭ ‬رامي،‭ ‬وثلاثة‭ ‬لثلاثة‭ ‬شعراء‭ ‬آخرين،‭ ‬نجد‭ ‬القصبجي‭ ‬يحلق‭ ‬بها‭ ‬شبهَ‭ ‬منفرِدٍ‭ ‬طوالَ‭ ‬حقبةِ‭ ‬العشرينيّات‭ ‬لتتخلّص‭ ‬من‭ ‬زيّ‭ ‬الرجالِ‭ ‬الذي‭ ‬بدأت‭ ‬به،‭ ‬ولتكونَ‭ ‬لها‭ ‬فرقةٌ‭ ‬خاصةٌ‭ ‬بها،‭ ‬ولتصعدَ‭ ‬سُلّمة‭ ‬سُلّمَةً‭ ‬لتصلَ‭ ‬إلى‭ ‬الآفاق‭ ‬وتأخذ‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل،‭ ‬وانضم‭ ‬إلى‭ ‬جنودها‭ ‬الملحنون‭ ‬داود‭ ‬حسني‭ ‬ثم‭ ‬الشيخ‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭ ‬فالسنباطي‭ ‬ففريد‭ ‬غصن‭ ‬ثم‭ ‬محمد‭ ‬الموجي‭ ‬وكمال‭ ‬الطويل‭ ‬وبليغ‭ ‬حمدي‭ ‬ومحمد‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬سيد‭ ‬مكاوي،‭ ‬ومعهم‭ ‬عدا‭ ‬داود‭ ‬حسني‭ ‬وفريد‭ ‬غصن‭ ‬وسيد‭ ‬مكاوي‭  ‬غنّت‭ ‬قصائد‭ (‬أعني‭ ‬باللغة‭ ‬الفصحى‭) ‬لشعراء‭ ‬رحلوا‭ ‬منذ‭ ‬قرون،‭ ‬مثل‭ ‬الشريف‭ ‬الرضي‭ ‬والعبّاس‭ ‬بن‭ ‬الأحنف‭ ‬وأبي‭ ‬الحسن‭ ‬سعدالله‭ ‬بن‭ ‬نصرالدين‭ ‬الدجاجي‭ ‬وصفي‭ ‬الدين‭ ‬الحلّي‭ ‬وابن‭ ‬النبيه‭ ‬المصري‭ ‬وبكر‭ ‬بن‭ ‬النطاح‭ ‬الحنفي،‭ ‬وكان‭ ‬أبوفراس‭ ‬الحمداني‭ ‬أشهرهم‭ ‬برائيته‭ ‬التي‭ ‬غنتها‭ ‬بألحان‭ ‬ثلاثة‭ ‬ملحنين‭ (‬عبده‭ ‬الحامولي،‭ ‬باعتبارها‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬1926م،‭ ‬ثم‭ ‬زكريا‭ ‬أحمد‭ ‬1944م،‭ ‬ثم‭ ‬السنباطي،‭ ‬اللحن‭ ‬الأشهر‭ ‬1964م‭)‬،‭ ‬ومع‭ ‬أشعار‭ ‬رامي‭ ‬الذي‭ ‬أعطاها‭ ‬خمسين‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬غنّت‭ ‬قصائد‭ ‬لإسماعيل‭ ‬صبري‭ ‬باشا‭ ‬وأحمد‭ ‬شوقي‭ ‬ومصطفى‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬ومحمد‭ ‬الأسمر‭ ‬وحافظ‭ ‬إبراهيم‭ ‬وطاهر‭ ‬أبي‭ ‬فاشا‭ ‬ومحمود‭ ‬حسن‭ ‬إسماعيل‭ ‬وصالح‭ ‬جودت‭ ‬وأحمد‭ ‬فتحي‭ ‬وعزيز‭ ‬أباظة‭ ‬وكامل‭ ‬الشناوي‭ ‬ومحمود‭ ‬الماحي‭ ‬وإبراهيم‭ ‬ناجي،‭ ‬حتى‭ ‬الذين‭ ‬كتبوا‭ ‬لها‭ ‬بالزجل‭ ‬الدارج‭ ‬كان‭ ‬معظمهم‭ ‬قادما‭ ‬من‭ ‬الفصحى،‭ ‬مثل‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬محمد‭ ‬ومأمون‭ ‬الشناوي‭ ‬ومرسي‭ ‬جميل‭ ‬عزيز‭. ‬ولم‭ ‬تشأ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬صوتًا‭ ‬للشعراء‭ ‬المصريين‭ ‬فقط،‭ ‬ولكنها‭ ‬انحازت‭ ‬إلى‭ ‬عروبتها،‭ ‬فغنّت‭ ‬لعبدالله‭ ‬الفيصل‭ ‬من‭ ‬السعودية،‭ ‬وأحمد‭ ‬العدواني‭ ‬من‭ ‬الكويت،‭ ‬وجورج‭ ‬جرداق‭ ‬من‭ ‬لبنان،‭ ‬ونزار‭ ‬قبّاني‭ ‬من‭ ‬سوريّة،‭ ‬والهادي‭ ‬آدم‭ ‬من‭ ‬السودان،‭ ‬كما‭ ‬مدّت‭ ‬صوتها‭ ‬الماسي‭ ‬ليحمل‭ ‬اسمين‭ ‬بارزين‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬عالمها‭ ‬الأرحب،‭ ‬العالم‭ ‬الإسلامي،‭ ‬فغنت‭ ‬‮«‬رباعيات‭ ‬الخيام‮»‬‭ ‬للشاعر‭ ‬الفارسي‭ ‬عمر‭ ‬الخيام‭ (‬وهي‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬قصائدها‭ ‬المغناة‭ ‬فقد‭ ‬أدتها‭ ‬في‭ ‬خمسة‭ ‬وثلاثين‭ ‬حفلا‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬غنّت‭ ‬لشاعر‭ ‬باكستان‭ ‬الأعظم‭ ‬محمد‭ ‬إقبال،‭ ‬فجاء‭ ‬صوتها‭ ‬جامعًا‭ ‬للتاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬معًا،‭ ‬وللماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬اللذين‭ ‬أطلقتهما‭ ‬في‭ ‬مضمار‭ ‬المستقبل‭ ‬المستمر،‭ ‬حيث‭ ‬غنّت‭ ‬لستة‭ ‬وخمسين‭ ‬شاعرًا‭ ‬غالبيتهم‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الفصحى،‭ ‬وتبارى‭ ‬ملحنوها‭ ‬العظماء‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬السنباطي‭ ‬الذي‭ ‬لحّن‭ ‬لها‭ ‬مائة‭ ‬وثلاثة‭ ‬ألحان‭, ‬منها‭ ‬ثلاثة‭ ‬وخمسون‭ ‬بالفصحى‭! ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬بليغ‭ ‬حمدي‭ ‬الذي‭ ‬لحن‭ ‬لها‭ ‬قصيدة‭ ‬وحيدة‭ ‬ضمن‭ ‬ما‭ ‬قدّم‭ ‬لها‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬إنّا‭ ‬فدائيون‮»‬‭ ‬أثناء‭ ‬حرب‭ ‬1967م،‭ ‬كما‭ ‬لحنت‭ ‬لنفسها‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬رامي‭.  ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬تعشق‭ ‬الفصحى،‭ ‬وتكتب‭ ‬وتتكلم‭ ‬بها،‭ ‬وعندما‭ ‬علّمها‭ ‬رامي‭ ‬بحور‭ ‬الشعر،‭ ‬أصبحت‭ ‬ترتجل‭ ‬على‭ ‬المسرح‭ ‬عندما‭ ‬تنسى،‭ ‬فلا‭ ‬تكسر‭ ‬الوزن‭ ‬ولا‭ ‬تعصف‭ ‬بالنحو‭ (‬في‭ ‬مرّات‭ ‬كثيرة‭ ‬أخطأت‭ ‬وكانت‭ ‬لها‭ ‬زلات‭ ‬لسان‭ ‬في‭ ‬شواهق‭ ‬فصحاها‭)‬،‭ ‬لتظل‭ ‬الصوت‭ ‬الراكض‭ ‬بلغتنا‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬مضمار‭ ‬الزمن،‭ ‬يوزعها‭ ‬بالعدل‭ ‬بين‭ ‬أساتذة‭ ‬الجامعة‭ ‬وبين‭ ‬البسطاء،‭ ‬بين‭ ‬العمال‭ ‬والفلاحين،‭ ‬وعلى‭ ‬الخريطة‭ ‬العربية‭ ‬كلها‭ ‬وفي‭ ‬الزمن‭ ‬كلّه،‭ ‬ولهذا،‭ ‬أتعجّب‭ ‬عندما‭ ‬تتسابق‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬للاحتفال‭ ‬بذكرى‭ ‬وفاتها‭ ‬في‭ ‬‮«‬كلّ‭ ‬3‭ ‬فبراير‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬تتجدد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ثانية،‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬حرف‭ ‬تطرّز‭ ‬به‭ ‬الأثير،‭ ‬أو‭ ‬يفرض‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬خيال‭ ‬مستمعيها‭ ‬كلما‭ ‬حنوا‭ ‬إلى‭ ‬الغناء‭ ‬للدين‭ ‬أو‭ ‬الوطن‭ ‬أو‭ ‬الحب‭ ‬وكل‭ ‬المعاني‭ ‬الإنسانية‭ ‬العظمى‭!‬

‭ ‬إنها‭.. ‬أمّ‭ ‬كُلثوم‭.. ‬وكفى‭! ‬.