انبعاث ميناء خوفو من الرمال

انبعاث ميناء خوفو من الرمال

كشفت‭ ‬بعثة‭ ‬علمية‭ ‬مصرية‭ - ‬فرنسية‭ ‬عن‭ ‬بقايا‭ ‬موقع‭ ‬أثري،‭ ‬هو‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬ميناء‭ ‬كان‭ ‬يوجد‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬شُيد‭ ‬منذ‭ ‬4500‭ ‬سنة‭ ‬خلت‭. ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الميناء‭ ‬كانت‭ ‬تبحر‭ ‬سفن‭ ‬الفراعنة‭ ‬لتعود‭ ‬محملة‭ ‬بمختلف‭ ‬المواد‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إليها‭ ‬ورشات‭ ‬الأهرامات‭. ‬من‭ ‬شأن‭ ‬كنز‭ ‬الوثائق‭ ‬الثمين‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬العثور‭ ‬عليه‭ ‬خلال‭ ‬أعمال‭ ‬التنقيب‭ ‬أن‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬صياغة‭ ‬صفحة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر‭ ‬القديمة‭.‬

من‭ ‬أرصفة‭ ‬تتجاوز‭ ‬بالكاد‭ ‬اليوم‭ ‬مستوى‭ ‬الرمال،‭ ‬كانت‭ ‬تبحر،‭ ‬منذ‭ ‬4500‭ ‬سنة،‭ ‬سفن‭ ‬فرعون‭ ‬الأكبر‭ ‬خوفو،‭ ‬من‭ ‬الأسرة‭ ‬الرابعة‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الواقعة‭ ‬بين‭ ‬2613‭ ‬و2498‭ ‬ق‭.‬م،‭ ‬لتعود‭ ‬محملة‭ ‬بالمعادن‭ ‬ومختلف‭ ‬المواد‭ ‬الضرورية‭ ‬لورشات‭ ‬بناء‭ ‬المدافن‭ ‬الملكية‭ ‬فوق‭ ‬هضبة‭ ‬الجيزة‭. ‬موقع‭ ‬وادي‭ ‬الجرف،‭ ‬الذي‭ ‬اكتشف‭ ‬حديثًا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬فريق‭ ‬علمي‭ ‬مصري‭ - ‬فرنسي،‭ ‬يوجد‭ ‬على‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬للبحر‭ ‬الأحمر،‭ ‬ويقع‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬120‭ ‬كلم‭ ‬جنوب‭ ‬مدينة‭ ‬السويس،‭ ‬وهو‭ ‬يعد‭ ‬اليوم‭ ‬أقدم‭ ‬ميناء‭ ‬بحري‭ ‬معروف‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬أعمال‭ ‬التنقيب‭ ‬بمحيط‭ ‬الميناء‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬مستودعات‭ ‬عثر‭ ‬بها‭ ‬العلماء‭ ‬على‭ ‬كنز‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬بثمن،‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬كمية‭ ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬البردي‭ ‬يفوق‭ ‬عددها‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬قطعة‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬جيدة‭. ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬الحقبة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تعود‭ ‬إليها،‭ ‬فإنها‭ ‬تعد‭ ‬أقدم‭ ‬أنواع‭ ‬أوراق‭ ‬البردي‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬العثور‭ ‬عليها‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭. ‬كمية‭ ‬هذه‭ ‬الأوراق‭ ‬ونوعية‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬تضمنتها‭ ‬تكفيان‭ ‬لكتابة‭ ‬صفحة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الأسرة‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬سفن‭ ‬فرعون‭ ‬تبحر‭ ‬من‭ ‬موانئ‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر،‭ ‬لتعود‭ ‬محملة‭ ‬بالنحاس‭ ‬والفيروز‭ ‬من‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬للخليج،‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬مرخه‭ ‬جنوب‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬سيناء‭.‬

منشآت‭ ‬الميناء‭ ‬التي‭ ‬خضعت‭ ‬لأعمال‭ ‬التنقيب‭ ‬من‭ ‬لدن‭ ‬فريق‭ ‬علماء‭ ‬الآثار‭ ‬المصري‭ - ‬الفرنسي‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2011‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬وادي‭ ‬الجرف،‭ ‬ضخمة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬معنى،‭ ‬فهي‭ ‬تمتد‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬خمسة‭ ‬أو‭ ‬ستة‭ ‬كيلومترات‭ ‬بين‭ ‬الشاطئ‭ ‬والمرتفعات‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬عـن‭ ‬الصحـراء‭ ‬الشرقيـة‭. ‬يقــول‭ ‬الأستاذ‭ ‬بجامعة‭ ‬السوربون‭ ‬المسئول‭ ‬عن‭ ‬أعمال‭ ‬التنقيب‭ ‬بييــر‭ ‬تالـيت‭ ‬PierreTallet‭: ‬‮«‬نجحنا‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬موقع‭ ‬وادي‭ ‬الجرف،‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬دراسات‭ ‬أولية‭ ‬قمنا‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬بخصوص‭ ‬ميناءين‭ ‬قديمين‭ ‬آخرين،‭ ‬هما‭ ‬عين‭ ‬السخنة‭ ‬ومرسى‭ ‬جواسيس،‭ ‬اللذان‭ ‬يقعان‭ ‬بدورهما‭ ‬على‭ ‬ساحل‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‮»‬‭. ‬وحدها‭ ‬الأعين‭ ‬المتمرسة‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تميز‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬الصحراوية‭ ‬رصيف‭ ‬الميناء،‭ ‬الذي‭ ‬يتجاوز‭ ‬بالكاد‭ ‬مستوى‭ ‬الرمال،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬طوله‭ ‬يبلغ‭ ‬160‭ ‬مترا‭ ‬في‭ ‬جزئه‭ ‬الذي‭ ‬يتجه‭ ‬شرقا‭ ‬و130‭ ‬مترا‭ ‬في‭ ‬المقطع‭ ‬الذي‭ ‬يتجه‭ ‬جنوبا‭. ‬العنصر‭ ‬المثير‭ ‬للانتباه‭ ‬في‭ ‬الموقع‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬الرصيف‭ ‬الذي‭ ‬يتقدم‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬البحر‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬تكاد‭ ‬توازي‭ ‬شكل‭ ‬زاوية‭ ‬قائمة‭. ‬أعمال‭ ‬التنقيب‭ ‬تحت‭ ‬الماء‭ ‬مكنت‭ ‬فريق‭ ‬العلماء‭ ‬من‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثين‭ ‬مرساة‭ ‬من‭ ‬الحجارة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمثل‭ ‬أهم‭ ‬وأكبر‭ ‬اكتشاف‭ ‬لمراسٍ‭ ‬فرعونية‭ ‬يتم‭ ‬العثور‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬المصرية‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭.‬

 

سراديب‭ ‬كبرى‭ ‬كانت‭ ‬تستخدم‭ ‬كمستودعات‭ ‬للسفن

من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬المصريين‭ ‬اعتادوا‭ ‬أن‭ ‬يشيدوا‭ ‬خلف‭ ‬موانئهم،‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬يختارونها‭ ‬بعناية،‭ ‬مستودعات‭ ‬مرتبطة‭ ‬بنشاط‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭. ‬بناء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المعطى،‭ ‬تواصلت‭ ‬أعمال‭ ‬التنقيب‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬الميناء،‭ ‬ليكتشف‭ ‬الفريق‭ ‬العلمي‭ ‬وجود‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬السراديب‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬مستودعات‭ ‬تبعد‭ ‬بحوالي‭ ‬خمسة‭ ‬كيلومترات‭ ‬عن‭ ‬موقع‭ ‬وادي‭ ‬الجرف،‭ ‬وهي‭ ‬أماكن‭ ‬كانت‭ ‬تستعمل‭ ‬لحماية‭ ‬وتفكيك‭ ‬المراكب‭ ‬ولحفظ‭ ‬كل‭ ‬المستلزمات‭ ‬الضرورية‭ ‬للإبحار‭. ‬في‭ ‬وادي‭ ‬الجرف‭ ‬كانت‭ ‬المستودعات‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬سردابا‭ ‬يبلغ‭ ‬عرض‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منها‭ ‬ثلاثة‭ ‬أمتار‭ ‬بعلو‭ ‬مترين‭ ‬وعمق‭ ‬يتراوح‭ ‬بين‭ ‬عشرين‭ ‬وثلاثين‭ ‬مترا‭. ‬الكشف‭ ‬التام‭ ‬عن‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬منها‭ ‬مكن‭ ‬الباحثين‭ ‬من‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬بقايا‭ ‬أدوات‭ ‬بحرية‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬السفن،‭ ‬قطع‭ ‬من‭ ‬خشب‭ ‬الأرز‭ ‬والصنوبر،‭ ‬أنظمة‭ ‬لتعشيق‭ ‬وربط‭ ‬الأخشاب‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬كانت‭ ‬تستخدم،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬إعادة‭ ‬تركيب‭ ‬السفن،‭ ‬كما‭ ‬تم‭ ‬العثور‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬جرار‭ ‬استغلت‭ ‬لحفظ‭ ‬ونقل‭ ‬المياه‭ ‬العذبة‭ ‬وبقايا‭ ‬حبال‭ ‬وقماش‭ ‬طليت‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬القار‭ ‬أو‭ ‬الراتنج‭.‬

قبل‭ ‬حصول‭ ‬هذا‭ ‬الاكتشاف،‭ ‬كان‭ ‬علماء‭ ‬الآثار‭ ‬يجهلون‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تقريبا‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬هذا‭ ‬الميناء‭ ‬الذي‭ ‬تمت‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬وجوده‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬علماء‭ ‬آثار‭ ‬بريطانيين،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬بعض‭ ‬الملاحين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يشتغلون‭ ‬في‭ ‬قناة‭ ‬السويس‭. ‬إنشاء‭ ‬ميناء‭ ‬بهذه‭ ‬الأهمية‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬أفول‭ ‬نظام‭ ‬الأسرة‭ ‬الثالثة‭ ‬وبداية‭ ‬حكم‭ ‬الأسرة‭ ‬الرابعة‭ (‬2613‭ ‬ق‭. ‬م‭) ‬له‭ ‬ما‭ ‬يفسره،‭ ‬بحسب‭ ‬عالم‭ ‬الآثار‭ ‬بيير‭ ‬تاليت،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الفرعوني‭ ‬الحاكم‭ ‬آنذاك‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬ماسة‭ ‬للأدوات‭ ‬المعدنية‭ ‬بهدف‭ ‬الاشتغال‭ ‬على‭ ‬الحجر‭ ‬لأن‭ ‬بناء‭ ‬المقابر‭ ‬الملكية‭ ‬تطور‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬معهود‭ ‬منذ‭ ‬تشييد‭ ‬الأهرامات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬مؤسس‭ ‬الأسرة‭ ‬الرابعة،‭ ‬سنفرو‭ ‬Snéfrou،‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬اليوم‭ ‬بالفيوم،‭ ‬ثم‭ ‬تشييد‭ ‬المدفن‭ ‬الضخم‭ ‬فوق‭ ‬هضبة‭ ‬الجيزة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ابنه‭ ‬خوفو‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لاحق‭. ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الورشات‭ ‬اقتضت‭ ‬استغلال‭ ‬نحاس‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬سيناء‭ ‬بشكل‭ ‬متزايد‭ ‬لصناعة‭ ‬الأدوات‭ ‬الضرورية‭ ‬للاشتغال‭ ‬على‭ ‬الحجر‭ ‬كمادة‭ ‬أساسية‭ ‬للبناء،‭ ‬وبشكل‭ ‬خاص‭ ‬لبناء‭ ‬الأهرامات‭.‬

كان‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬إنشاء‭ ‬ميناء‭ ‬وادي‭ ‬الجرف‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬تمكين‭ ‬السفن‭ ‬المصرية‭ ‬من‭ ‬الإبحار‭ ‬نحو‭ ‬مناجم‭ ‬النحاس‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬سيناء،‭ ‬وكذلك‭ ‬نحو‭ ‬الحبشة‭ ‬وخليج‭ ‬عدن‭ ‬في‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬للبحر‭ ‬الأحمر‭. ‬حدث‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬خوفو‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬اسمه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الموقع،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬كتابات‭ ‬هيروغليفية‭ ‬خطت‭ ‬باليد‭. ‬أما‭ ‬داخل‭ ‬المستودعات،‭ ‬فقد‭ ‬تم‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬آثار‭ ‬بالمداد‭ ‬الأحمر‭ ‬لخاتم‭ ‬خوفو‭ ‬على‭ ‬جرار‭ ‬استعملت‭ ‬لحفظ‭ ‬ونقل‭ ‬المياه‭ ‬العذبة،‭ ‬لكن‭ ‬مفاجأة‭ ‬كبرى‭ ‬كانت‭ ‬تنتظر‭ ‬الفريق‭ ‬العلمي‭ ‬قبيل‭ ‬انتهاء‭ ‬مهمته،‭ ‬حيث‭ ‬عثر‭ ‬في‭ ‬شهر‭ ‬أبريل‭ ‬المنصرم‭ (‬2013‭)‬،‭ ‬يومان‭ ‬فقط‭ ‬قبل‭ ‬توقف‭ ‬أشغال‭ ‬التنقيب،‭ ‬على‭ ‬كنز‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬بثمن،‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬ببقايا‭ ‬مئات‭ ‬البرديات‭ ‬ألقي‭ ‬بها‭ ‬منذ‭ ‬4500‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬المستودعات‭ ‬وراء‭ ‬كتل‭ ‬كلسية‭ ‬ضخمة‭ ‬مطابقة‭ ‬في‭ ‬شكلها‭ ‬لتلك‭ ‬التي‭ ‬استعملت‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الأهرامات‭. ‬جمع‭ ‬أعضاء‭ ‬الفريق‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأوراق‭ ‬ثلاثمائة‭ ‬قطعة‭ ‬بأحجام‭ ‬مختلفة،‭ ‬من‭ ‬ضمنها‭ ‬لفيف‭ ‬يبلغ‭ ‬طوله‭ ‬ثمانين‭ ‬سنتيمترا،‭ ‬وبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬تاريخها،‭ ‬فإنها‭ ‬تعد‭ ‬أقدم‭ ‬أنواع‭ ‬أوراق‭ ‬البردي‭ ‬التي‭ ‬عثر‭ ‬عليها‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

 

سجلات‭ ‬لتدوين‭ ‬حمولات‭ ‬السفن

يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بوثائق‭ ‬محاسبية‭ ‬أساسا،‭ ‬من‭ ‬مخلفات‭ ‬الأسرتين‭ ‬الرابعة‭ ‬والخامسة‭ (‬2498‭ - ‬2345‭ ‬ق‭. ‬م‭)‬،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬سجلات‭ ‬كانت‭ ‬تستعمل‭ ‬لتدوين‭ ‬تفريغ‭ ‬حمولات‭ ‬السفن‭ ‬صممت‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬جداول‭ ‬بمحورين،‭ ‬أحدهما‭ ‬أفقي‭ ‬والآخر‭ ‬عمودي،‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الأعلى‭ ‬نجد‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬يتعين‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬فيها‭ ‬تفريغ‭ ‬الحمولات،‭ ‬وفي‭ ‬الجزء‭ ‬الأفقي‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬يلزم‭ ‬أن‭ ‬ينفذ‭ ‬فيها‭ ‬تسليم‭ ‬مواد‭ ‬التموين‭ ‬ومختلف‭ ‬المواد‭ ‬الأخرى‭: ‬الخبز،‭ ‬الجعة،‭ ‬التمر،‭ ‬الأثواب‭.. ‬إلخ‭. ‬كانت‭ ‬العمليات‭ ‬المدرجة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السجلات‭ ‬تحمل‭ ‬تواريخ‭ ‬تنفيذها‭ ‬بشكل‭ ‬مضبوط‭.‬

عثر‭ ‬الفريق‭ ‬العلمي‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أوراق‭ ‬البردي‭ ‬هذه،‭ ‬على‭ ‬وثيقة‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بسجل‭ ‬يومي‭ ‬لأحد‭ ‬الموظفين‭ ‬يدعى‭ ‬ميرير‭ ‬Merrer‭ ‬كان‭ ‬يدون‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬أهم‭ ‬الأنشطة‭ ‬التي‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭. ‬وقد‭ ‬تمكن‭ ‬بيير‭ ‬تاليت‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬الأنشطة‭ ‬اليومية‭ ‬المدونة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السجل‭.‬

هكذا،‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نقرأ‭ ‬من‭ ‬ضمن‭ ‬الأنشطة‭ ‬التي‭ ‬دونها‭ ‬ميرير‭: ‬‮«‬قضيت‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬يشتغلون‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬تحميل‭ ‬الحجارة‭ ‬من‭ ‬مقلع‭ ‬طرة‮»‬‭. ‬هذا‭ ‬المقلع‭ ‬المشهور‭ ‬لأحجار‭ ‬الكلس‭ ‬ذات‭ ‬اللون‭ ‬الأبيض‭ ‬الناصع‭ ‬يقع‭ ‬جنوب‭ ‬الموقع‭ ‬الذي‭ ‬توجد‭ ‬به‭ ‬القاهرة‭ ‬اليوم،‭ ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬استغلاله‭ ‬بهدف‭ ‬إنجاز‭ ‬زخارف‭ ‬هرم‭ ‬خوفو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬حينها‭ ‬قيد‭ ‬البناء‭. ‬نقرأ‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬أنشطة‭ ‬اليوم‭ ‬نفسه‭: ‬‮«‬ذهبت‭ ‬اليوم‭ ‬لتزويد‭ ‬هرم‭ ‬خوفو‭ ‬بالحجارة‮»‬‭. ‬يقول‭ ‬بيير‭ ‬تاليت‭ ‬بخصوص‭ ‬هذه‭ ‬الوثيقة‭: ‬‮«‬إنها‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬يضاهيها‭ ‬في‭ ‬مجموع‭ ‬تاريخ‭ ‬مصر‭ ‬القديمة،‭ ‬فهي‭ ‬تقدم‭ ‬لنا‭ ‬معلومات‭ ‬غاية‭ ‬في‭ ‬الأهمية‭ ‬والدقة‭ ‬عن‭ ‬ورشات‭ ‬هرم‭ ‬خوفو،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تقيم‭ ‬الدليل‭ ‬القاطع‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬ميناء‭ ‬وادي‭ ‬الجرف،‭ ‬باعتباره‭ ‬امتدادا‭ ‬للورشات‭ ‬الملكية‭ ‬الكبرى‭ ‬وشريانا‭ ‬أساسيا‭ ‬لتزويدها‭ ‬بالمواد‭ ‬الضرورية‮»‬‭. ‬نعرف‭ ‬الآن‭ - ‬يقول‭ ‬بيير‭ ‬تاليت‭ - ‬أن‭ ‬المجموعات‭ ‬نفسها‭ ‬كانت‭ ‬تشتغل،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬في‭ ‬الورشات‭ ‬وفي‭ ‬الميناء‭. ‬بناء‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬سيلاحظ‭ ‬فريق‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬أن‭ ‬مداخل‭ ‬المستودعات‭ ‬في‭ ‬الميناء‭ ‬أغلقت‭ ‬بالطريقة‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬أغلقت‭ ‬بها‭ ‬الأهرامات،‭ ‬وأن‭ ‬علامات‭ ‬مراقبة‭ ‬خطت‭ ‬بالمداد‭ ‬الأحمر‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الكتل‭ ‬الحجرية‭ ‬التي‭ ‬أغلقت‭ ‬بها‭ ‬مداخل‭ ‬سراديب‭ ‬موقع‭ ‬وادي‭ ‬الجرف‭ ‬مطابقة‭ ‬تماما‭ ‬لتلك‭ ‬التي‭ ‬وجدت‭ ‬على‭ ‬الكتل‭ ‬الحجرية‭ ‬التي‭ ‬أغلقت‭ ‬بها‭ ‬أبواب‭ ‬المدافن‭ ‬الملكية‭.‬

تم‭ ‬الشروع‭ ‬في‭ ‬استغلال‭ ‬المنشأة‭ ‬البحرية‭ ‬في‭ ‬وادي‭ ‬الجرف‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬حكم‭ ‬الأسرة‭ ‬الرابعة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نشاط‭ ‬هذا‭ ‬الميناء‭ ‬لم‭ ‬يستمر‭ ‬طويلا،‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬استغلاله‭ ‬حدود‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمان‭. ‬نعرف‭ ‬بالتأكيد‭ - ‬يقول‭ ‬بيير‭ ‬تاليت‭ - ‬أن‭ ‬قرار‭ ‬التخلي‭ ‬النهائي‭ ‬عن‭ ‬استغلال‭ ‬ميناء‭ ‬وادي‭ ‬الجرف‭ ‬اتخذ‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬حكم‭ ‬خوفو‭ ‬نفسه‭. ‬يمثل‭ ‬ميناء‭ ‬وادي‭ ‬الجرف‭ ‬المحاولة‭ ‬الأولى‭ ‬لإنشاء‭ ‬ميناء‭ ‬بحري‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المصريين،‭ ‬ولكنهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتبهوا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الموقع‭ ‬معزول،‭ ‬اتخذوا‭ ‬قرار‭ ‬إنشاء‭ ‬ميناء‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬ممفيس‭ ‬العاصمة‭ ‬الإدارية‭ ‬الكبرى‭ ‬للمملكة،‭ ‬وهو‭ ‬قرار‭ ‬سيترتب‭ ‬عليه‭ ‬تطوير‭ ‬ميناء‭ ‬عين‭ ‬السخنة‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬الذي‭ ‬سيتواصل‭ ‬نشاطه‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬عشرة‭ ‬قرون‭ ‬كاملة‭ .