انبعاث ميناء خوفو من الرمال
كشفت بعثة علمية مصرية - فرنسية عن بقايا موقع أثري، هو عبارة عن ميناء كان يوجد على البحر الأحمر شُيد منذ 4500 سنة خلت. من هذا الميناء كانت تبحر سفن الفراعنة لتعود محملة بمختلف المواد التي تحتاج إليها ورشات الأهرامات. من شأن كنز الوثائق الثمين الذي تم العثور عليه خلال أعمال التنقيب أن يساعد على صياغة صفحة جديدة من تاريخ مصر القديمة.
من أرصفة تتجاوز بالكاد اليوم مستوى الرمال، كانت تبحر، منذ 4500 سنة، سفن فرعون الأكبر خوفو، من الأسرة الرابعة التي حكمت مصر في الفترة الواقعة بين 2613 و2498 ق.م، لتعود محملة بالمعادن ومختلف المواد الضرورية لورشات بناء المدافن الملكية فوق هضبة الجيزة. موقع وادي الجرف، الذي اكتشف حديثًا من قبل فريق علمي مصري - فرنسي، يوجد على الضفة الغربية للبحر الأحمر، ويقع على بعد 120 كلم جنوب مدينة السويس، وهو يعد اليوم أقدم ميناء بحري معروف في العالم. أعمال التنقيب بمحيط الميناء كشفت عن وجود مستودعات عثر بها العلماء على كنز لا يقدر بثمن، يتمثل في كمية من أوراق البردي يفوق عددها ثلاثمائة قطعة في حالة جيدة. بالنظر إلى الحقبة التاريخية التي تعود إليها، فإنها تعد أقدم أنواع أوراق البردي التي يتم العثور عليها إلى الآن. كمية هذه الأوراق ونوعية المعلومات التي تضمنتها تكفيان لكتابة صفحة جديدة من تاريخ الأسرة التي حكمت مصر في الفترة التي كانت فيها سفن فرعون تبحر من موانئ البحر الأحمر، لتعود محملة بالنحاس والفيروز من الضفة الأخرى للخليج، من منطقة مرخه جنوب شبه جزيرة سيناء.
منشآت الميناء التي خضعت لأعمال التنقيب من لدن فريق علماء الآثار المصري - الفرنسي منذ العام 2011 في موقع وادي الجرف، ضخمة بكل ما في الكلمة من معنى، فهي تمتد على طول خمسة أو ستة كيلومترات بين الشاطئ والمرتفعات الأولى التي تفصل البحر الأحمر عـن الصحـراء الشرقيـة. يقــول الأستاذ بجامعة السوربون المسئول عن أعمال التنقيب بييــر تالـيت PierreTallet: «نجحنا في تحديد موقع وادي الجرف، بناء على دراسات أولية قمنا بها على امتداد عشر سنوات بخصوص ميناءين قديمين آخرين، هما عين السخنة ومرسى جواسيس، اللذان يقعان بدورهما على ساحل البحر الأحمر». وحدها الأعين المتمرسة يمكنها أن تميز اليوم في هذه المنطقة الصحراوية رصيف الميناء، الذي يتجاوز بالكاد مستوى الرمال، مع أن طوله يبلغ 160 مترا في جزئه الذي يتجه شرقا و130 مترا في المقطع الذي يتجه جنوبا. العنصر المثير للانتباه في الموقع يتمثل في الرصيف الذي يتقدم في عمق البحر على صورة تكاد توازي شكل زاوية قائمة. أعمال التنقيب تحت الماء مكنت فريق العلماء من العثور على حوالي ثلاثين مرساة من الحجارة، وهو ما يمثل أهم وأكبر اكتشاف لمراسٍ فرعونية يتم العثور عليها في المياه المصرية إلى الآن.
سراديب كبرى كانت تستخدم كمستودعات للسفن
من المعروف أن المصريين اعتادوا أن يشيدوا خلف موانئهم، في أماكن يختارونها بعناية، مستودعات مرتبطة بنشاط هذه الأخيرة. بناء على هذا المعطى، تواصلت أعمال التنقيب في محيط الميناء، ليكتشف الفريق العلمي وجود مجموعة من السراديب على هيئة مستودعات تبعد بحوالي خمسة كيلومترات عن موقع وادي الجرف، وهي أماكن كانت تستعمل لحماية وتفكيك المراكب ولحفظ كل المستلزمات الضرورية للإبحار. في وادي الجرف كانت المستودعات تتكون من ثلاثين سردابا يبلغ عرض كل واحد منها ثلاثة أمتار بعلو مترين وعمق يتراوح بين عشرين وثلاثين مترا. الكشف التام عن ثلاثة عشر منها مكن الباحثين من العثور على بقايا أدوات بحرية عبارة عن أجزاء من السفن، قطع من خشب الأرز والصنوبر، أنظمة لتعشيق وربط الأخشاب مع بعضها كانت تستخدم، من دون شك، في عملية إعادة تركيب السفن، كما تم العثور أيضا على جرار استغلت لحفظ ونقل المياه العذبة وبقايا حبال وقماش طليت بنوع من القار أو الراتنج.
قبل حصول هذا الاكتشاف، كان علماء الآثار يجهلون كل شيء تقريبا عن وجود هذا الميناء الذي تمت الإشارة إلى وجوده لأول مرة في القرن التاسع عشر من قبل علماء آثار بريطانيين، ثم في منتصف خمسينيات القرن العشرين، من طرف بعض الملاحين الفرنسيين الذين كانوا يشتغلون في قناة السويس. إنشاء ميناء بهذه الأهمية وفي هذه الحقبة التاريخية التي شهدت أفول نظام الأسرة الثالثة وبداية حكم الأسرة الرابعة (2613 ق. م) له ما يفسره، بحسب عالم الآثار بيير تاليت، ذلك أن النظام الفرعوني الحاكم آنذاك كان في حاجة ماسة للأدوات المعدنية بهدف الاشتغال على الحجر لأن بناء المقابر الملكية تطور بشكل غير معهود منذ تشييد الأهرامات الأولى من طرف مؤسس الأسرة الرابعة، سنفرو Snéfrou، في المنطقة التي تعرف اليوم بالفيوم، ثم تشييد المدفن الضخم فوق هضبة الجيزة من قبل ابنه خوفو في وقت لاحق. كل هذه الورشات اقتضت استغلال نحاس شبه جزيرة سيناء بشكل متزايد لصناعة الأدوات الضرورية للاشتغال على الحجر كمادة أساسية للبناء، وبشكل خاص لبناء الأهرامات.
كان الهدف من إنشاء ميناء وادي الجرف يتمثل في تمكين السفن المصرية من الإبحار نحو مناجم النحاس في جنوب شبه جزيرة سيناء، وكذلك نحو الحبشة وخليج عدن في الطرف الآخر للبحر الأحمر. حدث ذلك في عهد خوفو الذي يظهر اسمه أكثر من ثلاثمائة مرة في الموقع، وخاصة في كتابات هيروغليفية خطت باليد. أما داخل المستودعات، فقد تم العثور على آثار بالمداد الأحمر لخاتم خوفو على جرار استعملت لحفظ ونقل المياه العذبة، لكن مفاجأة كبرى كانت تنتظر الفريق العلمي قبيل انتهاء مهمته، حيث عثر في شهر أبريل المنصرم (2013)، يومان فقط قبل توقف أشغال التنقيب، على كنز لا يقدر بثمن، يتعلق الأمر ببقايا مئات البرديات ألقي بها منذ 4500 سنة في أحد المستودعات وراء كتل كلسية ضخمة مطابقة في شكلها لتلك التي استعملت في بناء الأهرامات. جمع أعضاء الفريق من هذه الأوراق ثلاثمائة قطعة بأحجام مختلفة، من ضمنها لفيف يبلغ طوله ثمانين سنتيمترا، وبالنظر إلى تاريخها، فإنها تعد أقدم أنواع أوراق البردي التي عثر عليها حتى الآن.
سجلات لتدوين حمولات السفن
يتعلق الأمر بوثائق محاسبية أساسا، من مخلفات الأسرتين الرابعة والخامسة (2498 - 2345 ق. م)، عبارة عن سجلات كانت تستعمل لتدوين تفريغ حمولات السفن صممت على شكل جداول بمحورين، أحدهما أفقي والآخر عمودي، في الجزء الأعلى نجد الأيام التي يتعين أن يتم فيها تفريغ الحمولات، وفي الجزء الأفقي الأيام التي يلزم أن ينفذ فيها تسليم مواد التموين ومختلف المواد الأخرى: الخبز، الجعة، التمر، الأثواب.. إلخ. كانت العمليات المدرجة في هذه السجلات تحمل تواريخ تنفيذها بشكل مضبوط.
عثر الفريق العلمي من بين أوراق البردي هذه، على وثيقة فريدة من نوعها، يتعلق الأمر بسجل يومي لأحد الموظفين يدعى ميرير Merrer كان يدون فيه كل يوم أهم الأنشطة التي يقوم بها. وقد تمكن بيير تاليت من إعادة تشكيل ثلاثة أشهر من الأنشطة اليومية المدونة في هذا السجل.
هكذا، يمكننا أن نقرأ من ضمن الأنشطة التي دونها ميرير: «قضيت اليوم مع الرجال الذين يشتغلون معي في تحميل الحجارة من مقلع طرة». هذا المقلع المشهور لأحجار الكلس ذات اللون الأبيض الناصع يقع جنوب الموقع الذي توجد به القاهرة اليوم، وقد بدأ استغلاله بهدف إنجاز زخارف هرم خوفو الذي كان حينها قيد البناء. نقرأ كذلك في أنشطة اليوم نفسه: «ذهبت اليوم لتزويد هرم خوفو بالحجارة». يقول بيير تاليت بخصوص هذه الوثيقة: «إنها فريدة من نوعها وليس لها ما يضاهيها في مجموع تاريخ مصر القديمة، فهي تقدم لنا معلومات غاية في الأهمية والدقة عن ورشات هرم خوفو، كما أنها تقيم الدليل القاطع على أهمية ميناء وادي الجرف، باعتباره امتدادا للورشات الملكية الكبرى وشريانا أساسيا لتزويدها بالمواد الضرورية». نعرف الآن - يقول بيير تاليت - أن المجموعات نفسها كانت تشتغل، في الوقت ذاته، في الورشات وفي الميناء. بناء على ذلك، سيلاحظ فريق البحث العلمي أن مداخل المستودعات في الميناء أغلقت بالطريقة نفسها التي أغلقت بها الأهرامات، وأن علامات مراقبة خطت بالمداد الأحمر على بعض الكتل الحجرية التي أغلقت بها مداخل سراديب موقع وادي الجرف مطابقة تماما لتلك التي وجدت على الكتل الحجرية التي أغلقت بها أبواب المدافن الملكية.
تم الشروع في استغلال المنشأة البحرية في وادي الجرف مع بداية حكم الأسرة الرابعة، إلا أن نشاط هذا الميناء لم يستمر طويلا، بحيث لم يتجاوز استغلاله حدود قرن من الزمان. نعرف بالتأكيد - يقول بيير تاليت - أن قرار التخلي النهائي عن استغلال ميناء وادي الجرف اتخذ خلال فترة حكم خوفو نفسه. يمثل ميناء وادي الجرف المحاولة الأولى لإنشاء ميناء بحري من قبل المصريين، ولكنهم بعد أن انتبهوا إلى أن الموقع معزول، اتخذوا قرار إنشاء ميناء آخر في مكان قريب من ممفيس العاصمة الإدارية الكبرى للمملكة، وهو قرار سيترتب عليه تطوير ميناء عين السخنة في الشمال الذي سيتواصل نشاطه على امتداد عشرة قرون كاملة .