جدلية العلاقة بين العمران الخلدوني وعلم البيئة المعاصر
تقدم مقولات ابن خلدون الدليل القاطع على أن التراث العربي في علم العمران يختزن ثقافة عقلانية لا تقل أهمية عن مثيلاتها في الدول المتطورة. وتعتبر «المقدمة» قمة العقلانية في مجال البحث في التاريخين العربي والإسلامي من وجهة نظر اجتماعية، وبأسلوب علمي متميز. فهاجم البداوة المتوحشة بشدة ودعاها إلى التحضّر الذي يشكّل غاية العمران البشري.
حظـــــيت المــــوضــــوعات التـاريخـــية والسياسية والاجتماعية في «المقدمة» باهتمام كبير من الباحثين، العرب وغير العرب. لكن موضوع «العمران البشري» بشكل عام، و«العمران الحضري» بشكل خاص حظيا باهتمام قلة من الباحثين الذين درسوا نظرية ابن خلدون في علم العمران، علمًا بأن هذا الجانب يخترق معظم فصول «المقدمة» التي أكّدت مكانته كمؤرخ مجدد قدَّم نظرية متطورة في مجال العمران بشكليه الحضري والبشري.
شكَّل «علم العمران» الخلدوني منطلقًا مهمًا لقيام علم الاجتماع، ومن بعده علم الإناسة أو الأنطروبولوجيا الثقافية. وفي التاريخ الحديث والمعاصر تم ربط علم العمارة بالتطور الفكري والاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته بعض مناطق العالم، وخاصة أوربا، منذ القرن التاسع عشر، فجاءت العمارة الأوربية الحديثة وليدة عصر النهضة، الذي كان بدوره وليد إحياء العقل الإغريقي المتفاعل بصورة عقلانية وإبداعية مع الحضارة العربية والحضارات الآسيوية الأخرى. وأُسست العمارة العصرية على خلفية إحياء الثقافة العقلانية ونبذ كل ما هو غير عقلاني في التراث الكوني. في حين لم يتمكن الفكر العربي في عصر النهضة من تجاوز جماليات القرون الوسطى التقليدية، فبات عاجزًا عن مواجهة متطلبات عصر العولمة وثقافتها الكونية.
على المستوى الكوني، تطور فن العمارة عبر مختلف حقب التاريخ بفعل الإرادة الإنسانية التي عبّر عنها الفرد المبدع بالتعاون مع الجماعة الراعية للإبداع، وتعتبر إرادة القوى البشرية المحرّك الأساسي والمباشر للتفاعل الجدلي بين المواد الخام وتحولاتها اللاحقة إلى قصور جميلة، أو معابد دينية، أو حصون وقلاع عسكرية، أو أسوار وأبراج، وأقنية مياه، ومسارح، وحلبات مصارعة وغيرها. فالعمارة ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى فهم معمّق للمقولات الجمالية الدائمة التطور. ولا يجوز تفسيرها فقط بالأوضاع الاقتصادية بصورة ميكانيكية دون إعطاء النزعة الجمالية لدى الأفراد والجماعات، ومعها إرادة القوى الحية والفاعلة في المجتمع، الدور الأساسي في قيام ما أسماه ابن خلدون «علم العمران الحضري» في مواجهة البداوة المترحلة التي يغلب عليها طابع الخشونة والتوحش وعدم الاهتمام بالعمران، وتهديم ما هو موجود منه.
أخيرًا، بلور الدكتور رفعة الجادرجي مقولات نظرية مهمة في كتابه المميز «في سببية وجدلية العمارة» الذي نال جائزة الشيخ زايد للكتاب. وقد علّل فيه غياب الدراسات العربية المتميزة في مجال فن العمارة المعاصرة بوجود معيقات فكرية ولغوية منعت تبلور منهجية متكاملة لدراسة الظاهرة الفنية في المجتمعات العربية. فلجأ الباحثون العرب في فن العمارة إلى مصطلحات مثالية كالإبداع، والإحساس المرهف، وجمالية الشكل وغيرها. لذا وصف تلك المعضلة بقوله: «إن الفكر الكامن وراء هذه اللغة لم ينفض عنه بعد هيمنة ظاهرة الفن وغيرها من الظواهر التي تخصه. كما أن الحوار الثقافي الذي يهيئ لغة التنظير، قد أهمل في الفكر العربي منذ القرن الثالث عشر، حيث أنهى عهد الفلاسفة العرب، بسبب تعارض هذا الحوار مع الغيبيات الدينية».
العمران الحضري غاية البداوة
عرفت البداوة منازعات داخلية لا حصر لها على الماء والمرعى والسلطة، لكنها أنتجت تقاليد الفروسية، وقيم المروءة، والكرم، والشجاعة، وكانت تندرج جميعها ضمن عصبية قبلية تستند إلى رابطة النسب والدم.
لذا ركّز ابن خلدون في «المقدمة»، على أهمية العمران الحضري أو تحضر البدو واستقرارهم. فحمل الكتاب الأول منها العنوان التالي: «في طبيعة العمران في الخليقة وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلّب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها، وما لذلك من العلل والأسباب». وشدد فيه على ضرورة معرفة «طبائع العمران»، والربط بين «العمران البشري والاجتماعي الإنساني»، لأن الاجتماع الإنساني ضروري للعمران. وشرح العلاقة الوثيقة بين العمران وطبيعة الأرض، وما عليها من الأشجار، والأنهار، والمناخ. ولاحظ أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمرانا من الربع الجنوبي. واستفاض في تحليل دور الجغرافيا والبيئة والمناخ على الإنسان، وتأثير الهواء في ألوان البشر وفي أحوالهم وأخلاقهم.
ثم استعرض أحوال البداوة والأمم أو القبائل الوحشية، فالقبائل التي توغل في القفار دون أن تستقر على أرض معينة وتمارس الفلاحة والمعاش الطبيعي هي قبائل متوحشة، «فكانوا أشد الناس توحشا، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه، والمفترس من الحيوان». ويقصد بذلك القبائل المترحّلة على الإبل فقط. أما الأجيال الأخرى من البداوة فلديهم فطرة طبيعية للتحضّر والعمران، فهؤلاء البدو هم أقرب إلى الخير، وإلى الشجاعة من أهل الحضر. لكن سكنى البدو لا تكون إلا للقبائل من أهل العصبية التي تتكون من الالتحام بنسب الدم.
انطلق ابن خلدون من مقولات نظرية سليمة ترى أن الإنسان حضري بطبعه، لأنه ميّال بالفطرة إلى التعاون مع الآخرين في السكن العائلي، والعمل الجماعي، والعيش المشترك، والتعاون الجماعي لمواجهة أخطار الطبيعة، والبيئة، والحيوانات الضارية، والدفاع عن المصالح المشتركة لعائلته أو جماعته في مواجهة تعديات جماعات أخرى. بيد أن مرحلة البداوة المتوحشة التي عاشها الإنسان البدائي لقرون طويلة، تركت في نفسه الكثير من سمات التوحش التي لا يستطيع التخلص منها إلا ضمن بيئة حضرية تميل إلى الدعة، والعيش المستقر على أرض ثابتة يمارس عليها مختلف أنواع الحرف والصناعات، إلى جانب الزراعة التي شكّلت العمود الفقري للعمران.
وتبعًا للمقولات الخلدونية يشكّل استقرار البدو المدخل الأساسي للعمران الحضري. فالبداوة تحقق غايتها بالاستقرار، لتبدأ معها مرحلة العمران الحضري وما يرتبط بها من عادات، وتقاليد، وأنماط عيش مشترك، وسلوكيات فردية وجماعية، وإظهار القابلية للتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فالاستقرار بداية العمران، أما الاستمرار في البداوة المتوحشة وتقاليدها فمنذر بخراب العمران وانهيار الدول.
وحيث يزدهر العمران ينتعش العلم على نطاق واسع، ويكثر العلماء، وغالبًا ما كانت المراكز الحضرية المحصّنة والمحمية من غزوات البداوة المتوحشة تصبح موئلا للنخب الثقافية الكبيرة التي تتحلق حول قيادة سياسية عسكرية قادرة على حماية ديمومة العمران الحضري.
نخلص إلى القول إن ابن خلدون بنى مقولاته عن «طبائع العمران البشري» على قاعدة «عمران الأرض» و«إسعاد الناس في دنياهم، وتهيئة ما يسعد آخرتهم». ونظرًا للترابط الوثيق بين الناس والبيئة المحيطة بهم، أصبح العمران ضرورة اجتماعية، ونفسية، واقتصادية، وجمالية، ونفسية في آن واحد. فالعمران الحضري ضرورة اجتماعية على مستويين:
الأول: لتطمين التعامل اليومي للحاجة الجمالية.
والثاني: تعزيز التفاعل الخلاق بين المادة الخام والفكر الإنساني.
وتكمن أهمية العمران الحضري في وفرة ما ينتجه الناس من أعمال عمرانية عبر التعامل اليومي والدائم بين الإنسان والمادة. ويشكّل أيضًا البديل النفسي المريح الذي يمكّن الناس من تخفيف توتراتهم النفسية الناجمة عن رتابة الحياة اليومية.
وتقدم المقولات الخلدونية أيضًا تفسيرًا عقلانيا لدراسة الأهداف التي تكمن وراء ظاهرة الإكثار من الأعياد، والمهرجانات، والكرنفالات لدى الشعوب العربية وغير العربية. فالهدف الأساسي منها هو كسر الرتابة وإعادة الحيوية لنشاط الفرد والجماعة. فالأعياد ظاهرة اجتماعية في الأصل، هدفها جمع الأفراد في زمن محدد مسبقًا وبموجب تقويم معتمد. والغاية من جمعهم هي تحقيق وظيفة اجتماعية تتم بموجبها تهيئة الظروف المناسبة، ليتمكن الفرد من تخفيف التوتر النفسي الناجم عن الرتابة. وهناك سلوكيات مختلفة لدى التجمعات البشرية تمنح الفرد فرصة الاسترخاء لتطمين الحاجة الجمالية والنفسية من طريق المرح في المهرجانات العامة، أو تطمينها عن طريق الحزن الظاهري. وفي هذا النمط من الاحتفالات الجماهيرية يصبح النحيب والبكاء وسيلة ظاهرة لتأمين مناسبة اجتماعية يستطيع الفرد من خلالها تخفيف التوتر المتراكم لديه.
وقد ظهر إرباك كبير في العمران البشري، لعدم وضوح الدور المنوط به لبناء الرعاية والرفاه الاجتماعي، وتجاهل مشكلات التلوث البيئي، والاكتظاظ السكاني، والتشوّه الذوقي، وتم ذلك تحت وطأة قوى تجارية تقوم على المضاربات العقارية، وتخالف أبسط المبادئ الإنسانية والخلقية. وقد تجاهلت المقولات الاجتماعية والإنسانية التي نادى بها أنصار الفلسفة الطاوية في الصين الذين شددوا دومًا على أن سعادة الإنسان لا تكتمل إلا بالانسجام والتناغم مع الطبيعة، كما تجاهلوا مقولات ابن خلدون عن ضرورة الاهتمام بالبيئة لضمان الرعاية الاجتماعية، وإشباع الحاجة الجمالية لدى البشر.
البيئة الطبيعية كوثيقة تاريخية مفتوحة
العمران ظاهرة اجتماعية متعددة الغايات، فهي تستجيب لحاجات اجتماعية، ولمتطلبات العلاقات العائلية والطبقية والتراتبية الاجتماعية من جهة، ولتبدّل التقنيات المستخدمة في تصنيع المواد الخام من جهة أخرى، وتعبّر أيضًا عن توق الإنسان لحياة أفضل، وسعيه نحو التنمية البشرية والمادية المستدامة، وشغفه بإبداع ظواهر اجتماعية تخلّد ذكراه. وبهذه الطريقة أبدع الإنسان المفكر أنواعًا متجددة من العمارة كوثائق تاريخية دالة عليه، وذلك في توسع دائم نحو معرفة أكثر توافقًا مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي عاش فيه. وليس من شك في أن الصيغة الأمثل للإنتاج لا علاقة لها بديمومة الشكل التقليدي ولا تقترن بعوامل تصنيعه، وبالتحديد الخصائص الواقعية للإنتاج، وإنما تقترن بعوامل اجتماعية أخرى، كالسياسة أو العقيدة أو العاطفة. ومن الصعب الاعتماد على الحرف التقليدية الموروثة، أو الإصرار على الحفاظ عليها في إقامة العمارة المعاصرة. وهذه مسألة نظرية وتقنية مهمة لا علاقة لها بالحفاظ على مكوّنات التراث الحرفي وموجوداته، وكيفية صياغة معالمه وفق أحدث الطرق العلمية الحديثة.
حماية البيئة علم قائم بذاته، بالإضافة إلى كونه واجبًا إنسانيًا ملقى على عاتق البشرية بأسرها وليس فقط على الدول التي تحتضن أمكنة تراثية كثيرًا ما أصبحت اليوم عاجزة عن ترميمها أو صيانتها أو الحفاظ على معالمها. والهدف الإنساني من التوثيق العمراني هو الحفاظ على العمارة كوثيقة تاريخية تتحول إلى كتاب مفتوح لجميع الناس. ولا تتضمن هذه العملية أي أهداف اقتصادية على الإطلاق. فالحفاظ على المعالم التراثية هو المدخل الحقيقي للتأكيد على هوية المجتمع وخصوصيته. أما الترويج لبعض المعالم التراثية لأسباب دينية أو سياحية فمسألة فرعية. ففي هذه الحالة لا يعاد ترميم البناء التراثي أو تأهيله للحفاظ عليه كوثيقة عمرانية، وإنما لصيانة الشكل بهدف إشباع حاجات شخصية، أو عائلية، أو دينية، أو سياحية، أو تجارية. وهناك فارق كبير بين الحفاظ على التراث كوثيقة عمرانية، وبين صيانتها وإعادة تأهيلها والتلاعب أحيانًا ببعض مكوناتها الأساسية لكي تلعب وظائف جديدة معاصرة تحافظ فقط على الشكل الخارجي للعمران كوثيقة تاريخية. ولابد من التقيد الصارم بالتقنية التقليدية أو بأسلوب متوافق كليا مع التقنية الأصلية. فالهدف هو الحفاظ على التراث العمراني كوثيقة تاريخية، ولا يجوز التحلل بصورة شبه تامة من الضوابط الضرورية عندما يكون الهدف إشباع حاجات سياحية أو تجارية معاصرة.
وعندما تعجز المراكز الحضرية عن حماية حركة العمران المتنامية في داخلها، تتعرض لانهيار سريع أو تدريجي، فالعمران البشري بحاجة إلى قوى حضرية مؤمنة به وقادرة على حمايته من أي اعتداء خارجي. والقائد السياسي المتنور، الذي كان يطلق عليه فقهاء المسلمين صفة «المستبد العادل» هو الحارس الذي لا غنى عنه للعمران الحضري، وللحفاظ على أمن المجتمع واستقراره.
والعمران البشري هو من صنع الإنسان، ولا يجوز أن يقوم بناء الفكر التاريخي على توصيف عملية البناء أو الترميم دون تحليل الأسباب الكامنة وراءها. وهنا تبرز أهمية تحليل العلاقة بين الإنسان والمادة في عملية العمران، وإبراز العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات الأخرى، ومع التقاليد السائدة في بناء الأعمال العمرانية التي أنتجتها الإنسانية عبر الحقب التاريخية.
علم البيئة بخصائص معاصرة
تتمحور مقولات علم البيئة المعاصر حول معايير ثلاثة: المعرفة الوصفية لخصائص العمارة العصرية، وإبراز العلاقات الاجتماعية التي تحدد هوية المجتمع وخصوصيته والتراتبية الاجتماعية والطقوس الدينية والعادات الاجتماعية، والمنهج العلمي الذي يحدد مقاييس الظواهر الطبيعية والعمران الاجتماعي، ويلعب الذوق الجمالي دورًا بارزًا في تأمين التناغم بين حاجات الإنسان وجمال البيئة بهدف تأمين حاجات ثلاث: الوظيفة النفعية للعمارة المعاصرة، والوظيفة الرمزية التي تظهر هوية الفرد والجماعات، وتشمل العقائد والعادات والتقاليد المتوارثة، والوظيفة الجمالية للعمارة التي تبرز لوحة بصرية وفنية تؤمِّن للناظر إليها المتعة الحسية والنفسية.
فالعمران - إذن - ظاهرة اجتماعية وجمالية معا ويمكن إخضاعها للتحليل العلمي من خلال التعرف إلى ركائزها السكانية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والنفعية. وهي تتطلب استنباط مفاهيم علمية، وصياغة مناهج دقيقة لمقاربة الظاهرة الفنية المعمارية من مختلف جوانبها الجمالية والنفعية معًا.
لكل ظاهرة اجتماعية، ومن ضمنها ظاهرة العمران، بنية خاصة بها، ويتم النظر إلى الجانب المرئي من العمارة المعاصرة كتعبير عن تفاعل إبداعي بين الأهداف الاجتماعية للعمارة وتطور التكنولوجيا العصرية التي ساهمت في إنجازه. بحيث يتحول علم العمران إلى فن جمالي يعبّر عن مشاعر إنسانية تجعل من العمارة جاذبًا للمتعة والأحاسيس الوجدانية. مردُّ ذلك إلى أن العمران ينطلق من تحويل المادة الخام إلى تفاعل إبداعي خلاّق بين الفكر الإنساني والمادة الخام من خلال توظيفها في بيئة جمالية تلبي حاجات الإنسان. وهناك إحساس طبيعي لدى الإنسان بالحاجة إلى البيئة، والوعي بأهميتها، وتوظيف الفكر في إبداع صيغة فنية تتلاءم مع جمال الطبيعة الخارجية.
أخيرًا، بدأت الدول الصناعية الكبرى تحذر من مخاطر تلوث البيئة على شعوب العالم. فتنبه قادة الصين إلى مخاطر تلوث البيئة على الإنسان، والاقتصاد، وجميع مناحي الحياة فيها. ويعود اهتمام القيادة الصينية الجديدة بالبيئة إلى الخسائر الفادحة التي تكبّدتها الصين منذ بداية مرحلة الانفتاح والإصلاح في العام 1978.
وأوصت المؤتمرات العالمية لحماية البيئة على الدوام بضرورة اعتماد أفضل الطرق لجعل النشاطين الاقتصادي والاجتماعي صديقين للبيئة، ويحققان التناغم بين الإنسان والطبيعة. بات علم البيئة اليوم يحتضن نشاطات مكثفة ومتنوعة تقوم بها قوى بشرية، ومنظمات وأحزاب شعارها الأساسي الحفاظ على البيئة. وذلك يتطلب تعاون جميع الشعوب والدول لحماية البيئة والحفاظ على سلامتها، لكي تكون قادرة على احتضان الأجيال المتعاقبة.
في إطار عولمة أكثر إنسانية، يمكن لعلم البيئة أن يتحول إلى نظام إنساني متكامل يلزم جميع الناس بحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بصفتهم أفرادًا في نظام بيئي كوني. وهناك تصوّر خاطئ لدى من يعتبر أن هدف علم البيئة هو حماية الطبيعة وحدها دون البشر العاملين عليها. في حين أن استراتيجية علم البيئة المعاصر تقوم على رعاية الثقافة البيئية التي تجمع بين الناس والطبيعة في وحدة إيكولوجية وحضارية متكاملة.
لابد إذن من فهم شمولي لعلم البيئة، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. فهدفه تعزيز ونشر ثقافة البيئة من خلال الاهتمام بالتنمية البشرية والاقتصادية، وتحقيق تنمية مستدامة في إطار السعي لتحقيق تناغم بين الإنسان والطبيعة. ولابد من زيادة الوعي البيئي بين الناس. إذ من المستحيل أن نتوقع من الفرد الذي ينقصه الوعي بأهمية البيئة أن يتصرف بطريقة تحقق أقل ضرر ممكن بها. وهناك دور إيجابي لزيادة التشجير وتنمية الغابات على المستوى الكوني. مع الأخذ في الاعتبار مشكلات التربة، وشح المياه، وعدم الإفراط في استغلال المياه الجوفية. بالإضافة إلى إطلاق استراتيجية شاملة لتعزيز الوعي بأهمية البيئة عند وضع خطط التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية.
عندما يمتلك الشعب ثقافة بيئية سليمة تزدهر المدن والمناطق ذات السكن الصحي والجمالي في آن معًا. فعالم اليوم تهيمن عليه النفعية المادية، وقد حان الوقت للعودة إلى تعاليم الفلسفات القديمة التي تبشّر بأن الإنسان والطبيعة مندمجان في بيئة كونية واحدة ومتكاملة، وإصلاح النظم الاقتصادية لمنع استغلال موارد البيئة واستنزافها.
ملاحظات ختامية
يقدم تاريخ العمارة أو علم العمران فرصة ثمينة للتعرف على المقومات الاجتماعية والروحية والدينية التي تكمن في معرفة الظروف المادية لبناء العمارة بأشكال جمالية متعددة، بالإضافة إلى إبراز معرفة مباشرة بالتقنيات المادية، والنشاط الصناعي، وطرائق الإنتاج، والمكننة الاقتصادية، والتنظيم الاجتماعي، وأدوات الإنتاج التي استخدمت في بنائها. ويستند التكوين الداخلي للظاهرة العمرانية إلى تفحّص مختلف العلاقات بين مقوماتها وترابط تأثير كل منها بالآخر، ومدى القبول والاستجابة للتأثيرات الخارجية أو رفضها. وهي تبرز عملية الانسجام أو التناقض بين عناصر العمارة من خلال تشكّلها في نماذج عمرانية.
وبات واضحًا أن البيئة ظاهرة طبيعية متوارثة منذ ملايين السنين، لكن ظاهرة العمران من صنع الإنسان. ولا يقتصر دور علم العمران على اكتشاف أنواع العمارة أو ترميمها، بل أيضًا إبراز الأسباب الكامنة وراء نشوئها وتطورها. وهي تنقسم إلى أربعة أشكال: علاقات الفرد الاجتماعية مع الأفراد الآخرين، ومع المجتمعات الأخرى، ومع التصورات المتخيلة، ومع الإنتاج الصناعي الذي عبّر بدقة عن الأعمال التي أنتجها الإنسان عبر التاريخ.
ما يميز تلك الظواهر الطبيعية أنها نتاج أعمال لا يد للإنسان فيها. في حين أن العمران ظاهرة اجتماعية من صنع الإنسان، وهي الظاهرة الأكثر رسوخًا لأنها صنعت من مواد صلبة ومستمرة منذ قرون طويلة. وخلال تاريخها الطويل تطورت العمارة الحديثة على المستوى الكوني من خلال ثورات تقنية متتالية. وحين تجاهلت الخصوصيات المحلية تحولت البيئة الحاضنة للعمارة في كثير من المدن الحديثة إلى أماكن للبؤس والتعاسة، وتحتضن الإجرام. ومع تكاثر الأعداد السكانية وتمركزها في أماكن جغرافية ضيقة، ظهر تلوث البيئة الاجتماعية والطبيعية بصورة بشعة، في ظل غياب أي رادع سياسي أو ديني، أو أخلاقي قادر على التصدي لمشكلات تسيء إلى إنسانية الإنسان. وزاد في تلوّث البيئة الطبيعية التصنيع الممكنن بصورة غير عقلانية، إلى جانب هاجس الربح السريع، وعدم التزام المهندس المعماري أحيانًا بالمبادئ الخلقية في تقديم سكن مريح يليق بالبشر ولا ينتقص من كراماتهم بصفتهم كائنات إنسانية ذات حقوق مكتسبة يجب الحفاظ عليها.
وتزامن انتشار العمران العشوائي في المرحلة الراهنة مع رغبة عارمة في تجاهل مشكلات التلوث البيئي والاكتظاظ السكاني وتشويه الذائقة الفنية. وذلك تحت رأسمالية طفيلية وريعية تقوم على المضاربات العقارية بهدف الربح السريع، وتخالف أبسط المبادئ الإنسانية والخلقية, فولدت أشكالاً بشعة من عمارة ما بعد الحداثة تتجاهل الحاجات الإنسانية الأساسية، ولا تهتم بالرعاية الاجتماعية.
ختامًا، أطلق ابن خلدون في مقدمته مقولات لثقافة كونية الطابع تحت عنوان «علم العمران الحضري»، ثم طوّر مهندسو العمران تباعًا خصائص العمارة المعاصرة بصورة مذهلة لدرجة لم تعد معها الأشكال السابقة قادرة على تجاهل فنون العمارة المتنوعة في عصر العولمة. وليس بمقدور عرب اليوم عزل فن العمارة العربي عن فنون العمارة في المجتمعات الأخرى تحت ستار الحفاظ على الهوية، والخصوصية، ونقاوة التراث المعماري العربي. فقد انفتحت آفاق الثقافة والفنون، ومنها فن العمارة، على متطلبات المرحلة الراهنة. وباتت المواجهة الثقافية بحاجة إلى المزيد من معرفة ثقافات العولمة، بهدف التفاعل الإيجابي معها، والتخفيف من سلبياتها الكثيرة. وذلك يتطلب من مهندسي العمران العرب بذل كثير من الجهود النظرية والتطبيقية للاستفادة القصوى من مقولات «علم العمران» الخلدوني وفن العمارة العصرية، مع الاحتفاظ بجماليات عربية أصيلة ومتميزة .