جدلية العلاقة بين العمران الخلدوني وعلم البيئة المعاصر

جدلية العلاقة بين  العمران الخلدوني وعلم البيئة المعاصر

تقدم‭ ‬مقولات‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬الدليل‭ ‬القاطع‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬العمران‭ ‬يختزن‭ ‬ثقافة‭ ‬عقلانية‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬مثيلاتها‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المتطورة‭. ‬وتعتبر‭ ‬‮«‬المقدمة‮»‬‭ ‬قمة‭ ‬العقلانية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬التاريخين‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬اجتماعية،‭ ‬وبأسلوب‭ ‬علمي‭ ‬متميز‭. ‬فهاجم‭ ‬البداوة‭ ‬المتوحشة‭ ‬بشدة‭ ‬ودعاها‭ ‬إلى‭ ‬التحضّر‭ ‬الذي‭ ‬يشكّل‭ ‬غاية‭ ‬العمران‭ ‬البشري‭. ‬

حظـــــيت‭ ‬المــــوضــــوعات‭ ‬التـاريخـــية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬‮«‬المقدمة‮»‬‭ ‬باهتمام‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الباحثين،‭ ‬العرب‭ ‬وغير‭ ‬العرب‭. ‬لكن‭ ‬موضوع‭ ‬‮«‬العمران‭ ‬البشري‮»‬‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬و«العمران‭ ‬الحضري‮»‬‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬حظيا‭ ‬باهتمام‭ ‬قلة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬الذين‭ ‬درسوا‭ ‬نظرية‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬العمران،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬يخترق‭ ‬معظم‭ ‬فصول‭ ‬‮«‬المقدمة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أكّدت‭ ‬مكانته‭ ‬كمؤرخ‭ ‬مجدد‭ ‬قدَّم‭ ‬نظرية‭ ‬متطورة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬العمران‭ ‬بشكليه‭ ‬الحضري‭ ‬والبشري‭.‬

شكَّل‭ ‬‮«‬علم‭ ‬العمران‮»‬‭ ‬الخلدوني‭ ‬منطلقًا‭ ‬مهمًا‭ ‬لقيام‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع،‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬علم‭ ‬الإناسة‭ ‬أو‭ ‬الأنطروبولوجيا‭ ‬الثقافية‭. ‬وفي‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر‭ ‬تم‭ ‬ربط‭ ‬علم‭ ‬العمارة‭ ‬بالتطور‭ ‬الفكري‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬شهدته‭ ‬بعض‭ ‬مناطق‭ ‬العالم،‭ ‬وخاصة‭ ‬أوربا،‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬فجاءت‭ ‬العمارة‭ ‬الأوربية‭ ‬الحديثة‭ ‬وليدة‭ ‬عصر‭ ‬النهضة،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بدوره‭ ‬وليد‭ ‬إحياء‭ ‬العقل‭ ‬الإغريقي‭ ‬المتفاعل‭ ‬بصورة‭ ‬عقلانية‭ ‬وإبداعية‭ ‬مع‭ ‬الحضارة‭ ‬العربية‭ ‬والحضارات‭ ‬الآسيوية‭ ‬الأخرى‭. ‬وأُسست‭ ‬العمارة‭ ‬العصرية‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬إحياء‭ ‬الثقافة‭ ‬العقلانية‭ ‬ونبذ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غير‭ ‬عقلاني‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الكوني‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬من‭ ‬تجاوز‭ ‬جماليات‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬التقليدية،‭ ‬فبات‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬مواجهة‭ ‬متطلبات‭ ‬عصر‭ ‬العولمة‭ ‬وثقافتها‭ ‬الكونية‭.‬

على‭ ‬المستوى‭ ‬الكوني،‭ ‬تطور‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬عبر‭ ‬مختلف‭ ‬حقب‭ ‬التاريخ‭ ‬بفعل‭ ‬الإرادة‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬عبّر‭ ‬عنها‭ ‬الفرد‭ ‬المبدع‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬الجماعة‭ ‬الراعية‭ ‬للإبداع،‭ ‬وتعتبر‭ ‬إرادة‭ ‬القوى‭ ‬البشرية‭ ‬المحرّك‭ ‬الأساسي‭ ‬والمباشر‭ ‬للتفاعل‭ ‬الجدلي‭ ‬بين‭ ‬المواد‭ ‬الخام‭ ‬وتحولاتها‭ ‬اللاحقة‭ ‬إلى‭ ‬قصور‭ ‬جميلة،‭ ‬أو‭ ‬معابد‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬حصون‭ ‬وقلاع‭ ‬عسكرية،‭ ‬أو‭ ‬أسوار‭ ‬وأبراج،‭ ‬وأقنية‭ ‬مياه،‭ ‬ومسارح،‭ ‬وحلبات‭ ‬مصارعة‭ ‬وغيرها‭. ‬فالعمارة‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬فهم‭ ‬معمّق‭ ‬للمقولات‭ ‬الجمالية‭ ‬الدائمة‭ ‬التطور‭. ‬ولا‭ ‬يجوز‭ ‬تفسيرها‭ ‬فقط‭ ‬بالأوضاع‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بصورة‭ ‬ميكانيكية‭ ‬دون‭ ‬إعطاء‭ ‬النزعة‭ ‬الجمالية‭ ‬لدى‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات،‭ ‬ومعها‭ ‬إرادة‭ ‬القوى‭ ‬الحية‭ ‬والفاعلة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬الدور‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬قيام‭ ‬ما‭ ‬أسماه‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬‮«‬علم‭ ‬العمران‭ ‬الحضري‮»‬‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬البداوة‭ ‬المترحلة‭ ‬التي‭ ‬يغلب‭ ‬عليها‭ ‬طابع‭ ‬الخشونة‭ ‬والتوحش‭ ‬وعدم‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالعمران،‭ ‬وتهديم‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬منه‭.‬

أخيرًا،‭ ‬بلور‭ ‬الدكتور‭ ‬رفعة‭ ‬الجادرجي‭ ‬مقولات‭ ‬نظرية‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المميز‭ ‬‮«‬في‭ ‬سببية‭ ‬وجدلية‭ ‬العمارة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬نال‭ ‬جائزة‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬للكتاب‭.‬‭ ‬وقد‭ ‬علّل‭ ‬فيه‭ ‬غياب‭ ‬الدراسات‭ ‬العربية‭ ‬المتميزة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬المعاصرة‭ ‬بوجود‭ ‬معيقات‭ ‬فكرية‭ ‬ولغوية‭ ‬منعت‭ ‬تبلور‭ ‬منهجية‭ ‬متكاملة‭ ‬لدراسة‭ ‬الظاهرة‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭. ‬فلجأ‭ ‬الباحثون‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬إلى‭ ‬مصطلحات‭ ‬مثالية‭ ‬كالإبداع،‭ ‬والإحساس‭ ‬المرهف،‭ ‬وجمالية‭ ‬الشكل‭ ‬وغيرها‭. ‬لذا‭ ‬وصف‭ ‬تلك‭ ‬المعضلة‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الفكر‭ ‬الكامن‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬لم‭ ‬ينفض‭ ‬عنه‭ ‬بعد‭ ‬هيمنة‭ ‬ظاهرة‭ ‬الفن‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬التي‭ ‬تخصه‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الحوار‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬يهيئ‭ ‬لغة‭ ‬التنظير،‭ ‬قد‭ ‬أهمل‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬عشر،‭ ‬حيث‭ ‬أنهى‭ ‬عهد‭ ‬الفلاسفة‭ ‬العرب،‭ ‬بسبب‭ ‬تعارض‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬مع‭ ‬الغيبيات‭ ‬الدينية‮»‬‭.‬

 

العمران‭ ‬الحضري‭ ‬غاية‭ ‬البداوة

عرفت‭ ‬البداوة‭ ‬منازعات‭ ‬داخلية‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬والمرعى‭ ‬والسلطة،‭ ‬لكنها‭ ‬أنتجت‭ ‬تقاليد‭ ‬الفروسية،‭ ‬وقيم‭ ‬المروءة،‭ ‬والكرم،‭ ‬والشجاعة،‭ ‬وكانت‭ ‬تندرج‭ ‬جميعها‭ ‬ضمن‭ ‬عصبية‭ ‬قبلية‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬رابطة‭ ‬النسب‭ ‬والدم‭.‬

لذا‭ ‬ركّز‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬‮«‬المقدمة‮»‬،‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬العمران‭ ‬الحضري‭ ‬أو‭ ‬تحضر‭ ‬البدو‭ ‬واستقرارهم‭. ‬فحمل‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬منها‭ ‬العنوان‭ ‬التالي‭: ‬‮«‬في‭ ‬طبيعة‭ ‬العمران‭ ‬في‭ ‬الخليقة‭ ‬وما‭ ‬يعرض‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬البدو‭ ‬والحضر‭ ‬والتغلّب‭ ‬والكسب‭ ‬والمعاش‭ ‬والصنائع‭ ‬والعلوم‭ ‬ونحوها،‭ ‬وما‭ ‬لذلك‭ ‬من‭ ‬العلل‭ ‬والأسباب‮»‬‭. ‬وشدد‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬معرفة‭ ‬‮«‬طبائع‭ ‬العمران‮»‬،‭ ‬والربط‭ ‬بين‭ ‬‮«‬العمران‭ ‬البشري‭ ‬والاجتماعي‭ ‬الإنساني‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬الاجتماع‭ ‬الإنساني‭ ‬ضروري‭ ‬للعمران‭. ‬وشرح‭ ‬العلاقة‭ ‬الوثيقة‭ ‬بين‭ ‬العمران‭ ‬وطبيعة‭ ‬الأرض،‭ ‬وما‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الأشجار،‭ ‬والأنهار،‭ ‬والمناخ‭. ‬ولاحظ‭ ‬أن‭ ‬الربع‭ ‬الشمالي‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬أكثر‭ ‬عمرانا‭ ‬من‭ ‬الربع‭ ‬الجنوبي‭. ‬واستفاض‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬دور‭ ‬الجغرافيا‭ ‬والبيئة‭ ‬والمناخ‭ ‬على‭ ‬الإنسان،‭ ‬وتأثير‭ ‬الهواء‭ ‬في‭ ‬ألوان‭ ‬البشر‭ ‬وفي‭ ‬أحوالهم‭ ‬وأخلاقهم‭.‬

ثم‭ ‬استعرض‭ ‬أحوال‭ ‬البداوة‭ ‬والأمم‭ ‬أو‭ ‬القبائل‭ ‬الوحشية،‭ ‬فالقبائل‭ ‬التي‭ ‬توغل‭ ‬في‭ ‬القفار‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تستقر‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬معينة‭ ‬وتمارس‭ ‬الفلاحة‭ ‬والمعاش‭ ‬الطبيعي‭ ‬هي‭ ‬قبائل‭ ‬متوحشة،‭ ‬‮«‬فكانوا‭ ‬أشد‭ ‬الناس‭ ‬توحشا،‭ ‬وينزلون‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الحواضر‭ ‬منزلة‭ ‬الوحش‭ ‬غير‭ ‬المقدور‭ ‬عليه،‭ ‬والمفترس‭ ‬من‭ ‬الحيوان‮»‬‭. ‬ويقصد‭ ‬بذلك‭ ‬القبائل‭ ‬المترحّلة‭ ‬على‭ ‬الإبل‭ ‬فقط‭. ‬أما‭ ‬الأجيال‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬البداوة‭ ‬فلديهم‭ ‬فطرة‭ ‬طبيعية‭ ‬للتحضّر‭ ‬والعمران،‭ ‬فهؤلاء‭ ‬البدو‭ ‬هم‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الخير،‭ ‬وإلى‭ ‬الشجاعة‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الحضر‭. ‬لكن‭ ‬سكنى‭ ‬البدو‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬للقبائل‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬العصبية‭ ‬التي‭ ‬تتكون‭ ‬من‭ ‬الالتحام‭ ‬بنسب‭ ‬الدم‭.‬

انطلق‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬من‭ ‬مقولات‭ ‬نظرية‭ ‬سليمة‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬حضري‭ ‬بطبعه،‭ ‬لأنه‭ ‬ميّال‭ ‬بالفطرة‭ ‬إلى‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬العائلي،‭ ‬والعمل‭ ‬الجماعي،‭ ‬والعيش‭ ‬المشترك،‭ ‬والتعاون‭ ‬الجماعي‭ ‬لمواجهة‭ ‬أخطار‭ ‬الطبيعة،‭ ‬والبيئة،‭ ‬والحيوانات‭ ‬الضارية،‭ ‬والدفاع‭  ‬عن‭ ‬المصالح‭ ‬المشتركة‭ ‬لعائلته‭ ‬أو‭ ‬جماعته‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬تعديات‭ ‬جماعات‭ ‬أخرى‭. ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬مرحلة‭ ‬البداوة‭ ‬المتوحشة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬الإنسان‭ ‬البدائي‭ ‬لقرون‭ ‬طويلة،‭ ‬تركت‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬سمات‭ ‬التوحش‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬التخلص‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬ضمن‭ ‬بيئة‭ ‬حضرية‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الدعة،‭ ‬والعيش‭ ‬المستقر‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬ثابتة‭ ‬يمارس‭ ‬عليها‭ ‬مختلف‭ ‬أنواع‭ ‬الحرف‭ ‬والصناعات،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الزراعة‭ ‬التي‭ ‬شكّلت‭ ‬العمود‭ ‬الفقري‭ ‬للعمران‭.‬

وتبعًا‭ ‬للمقولات‭ ‬الخلدونية‭ ‬يشكّل‭ ‬استقرار‭ ‬البدو‭ ‬المدخل‭ ‬الأساسي‭ ‬للعمران‭ ‬الحضري‭. ‬فالبداوة‭ ‬تحقق‭ ‬غايتها‭ ‬بالاستقرار،‭ ‬لتبدأ‭ ‬معها‭ ‬مرحلة‭ ‬العمران‭ ‬الحضري‭ ‬وما‭ ‬يرتبط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬عادات،‭ ‬وتقاليد،‭ ‬وأنماط‭ ‬عيش‭ ‬مشترك،‭ ‬وسلوكيات‭ ‬فردية‭ ‬وجماعية،‭ ‬وإظهار‭ ‬القابلية‭ ‬للتطور‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والسياسي،‭ ‬فالاستقرار‭ ‬بداية‭ ‬العمران،‭ ‬أما‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬البداوة‭ ‬المتوحشة‭ ‬وتقاليدها‭ ‬فمنذر‭ ‬بخراب‭ ‬العمران‭ ‬وانهيار‭ ‬الدول‭. ‬

وحيث‭ ‬يزدهر‭ ‬العمران‭ ‬ينتعش‭ ‬العلم‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع،‭ ‬ويكثر‭ ‬العلماء،‭ ‬وغالبًا‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬المراكز‭ ‬الحضرية‭ ‬المحصّنة‭ ‬والمحمية‭ ‬من‭ ‬غزوات‭ ‬البداوة‭ ‬المتوحشة‭ ‬تصبح‭ ‬موئلا‭ ‬للنخب‭ ‬الثقافية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬تتحلق‭ ‬حول‭ ‬قيادة‭ ‬سياسية‭ ‬عسكرية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬ديمومة‭ ‬العمران‭ ‬الحضري‭.‬

نخلص‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬بنى‭ ‬مقولاته‭ ‬عن‭ ‬‮«‬طبائع‭ ‬العمران‭ ‬البشري‮»‬‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬‮«‬عمران‭ ‬الأرض‮»‬‭ ‬و«إسعاد‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬دنياهم،‭ ‬وتهيئة‭ ‬ما‭ ‬يسعد‭ ‬آخرتهم‮»‬‭. ‬ونظرًا‭ ‬للترابط‭ ‬الوثيق‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬والبيئة‭ ‬المحيطة‭ ‬بهم،‭ ‬أصبح‭ ‬العمران‭ ‬ضرورة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬ونفسية،‭ ‬واقتصادية،‭ ‬وجمالية،‭ ‬ونفسية‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭. ‬فالعمران‭ ‬الحضري‭ ‬ضرورة‭ ‬اجتماعية‭ ‬على‭ ‬مستويين‭:‬

الأول‭:‬‭ ‬لتطمين‭ ‬التعامل‭ ‬اليومي‭ ‬للحاجة‭ ‬الجمالية‭.‬

والثاني‭:‬‭ ‬تعزيز‭ ‬التفاعل‭ ‬الخلاق‭ ‬بين‭ ‬المادة‭ ‬الخام‭ ‬والفكر‭ ‬الإنساني‭.‬

وتكمن‭ ‬أهمية‭ ‬العمران‭ ‬الحضري‭ ‬في‭ ‬وفرة‭ ‬ما‭ ‬ينتجه‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬عمرانية‭ ‬عبر‭ ‬التعامل‭ ‬اليومي‭ ‬والدائم‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والمادة‭. ‬ويشكّل‭ ‬أيضًا‭ ‬البديل‭ ‬النفسي‭ ‬المريح‭ ‬الذي‭ ‬يمكّن‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬تخفيف‭ ‬توتراتهم‭ ‬النفسية‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬رتابة‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭.‬

وتقدم‭ ‬المقولات‭ ‬الخلدونية‭ ‬أيضًا‭ ‬تفسيرًا‭ ‬عقلانيا‭ ‬لدراسة‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬تكمن‭ ‬وراء‭ ‬ظاهرة‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬الأعياد،‭ ‬والمهرجانات،‭ ‬والكرنفالات‭ ‬لدى‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬وغير‭ ‬العربية‭. ‬فالهدف‭ ‬الأساسي‭ ‬منها‭ ‬هو‭ ‬كسر‭ ‬الرتابة‭ ‬وإعادة‭ ‬الحيوية‭ ‬لنشاط‭ ‬الفرد‭ ‬والجماعة‭. ‬فالأعياد‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬في‭ ‬الأصل،‭ ‬هدفها‭ ‬جمع‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬محدد‭ ‬مسبقًا‭ ‬وبموجب‭ ‬تقويم‭ ‬معتمد‭. ‬والغاية‭ ‬من‭ ‬جمعهم‭ ‬هي‭ ‬تحقيق‭ ‬وظيفة‭ ‬اجتماعية‭ ‬تتم‭ ‬بموجبها‭ ‬تهيئة‭ ‬الظروف‭ ‬المناسبة،‭ ‬ليتمكن‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬تخفيف‭ ‬التوتر‭ ‬النفسي‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬الرتابة‭. ‬وهناك‭ ‬سلوكيات‭ ‬مختلفة‭ ‬لدى‭ ‬التجمعات‭ ‬البشرية‭ ‬تمنح‭ ‬الفرد‭ ‬فرصة‭ ‬الاسترخاء‭ ‬لتطمين‭ ‬الحاجة‭ ‬الجمالية‭ ‬والنفسية‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬المرح‭ ‬في‭ ‬المهرجانات‭ ‬العامة،‭ ‬أو‭ ‬تطمينها‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الحزن‭ ‬الظاهري‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬الاحتفالات‭ ‬الجماهيرية‭ ‬يصبح‭ ‬النحيب‭ ‬والبكاء‭ ‬وسيلة‭ ‬ظاهرة‭ ‬لتأمين‭ ‬مناسبة‭ ‬اجتماعية‭ ‬يستطيع‭ ‬الفرد‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تخفيف‭ ‬التوتر‭ ‬المتراكم‭ ‬لديه‭.‬

وقد‭ ‬ظهر‭ ‬إرباك‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬العمران‭ ‬البشري،‭ ‬لعدم‭ ‬وضوح‭ ‬الدور‭ ‬المنوط‭ ‬به‭ ‬لبناء‭ ‬الرعاية‭ ‬والرفاه‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتجاهل‭ ‬مشكلات‭ ‬التلوث‭ ‬البيئي،‭ ‬والاكتظاظ‭ ‬السكاني،‭ ‬والتشوّه‭ ‬الذوقي،‭ ‬وتم‭ ‬ذلك‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬قوى‭ ‬تجارية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المضاربات‭ ‬العقارية،‭ ‬وتخالف‭ ‬أبسط‭ ‬المبادئ‭ ‬الإنسانية‭ ‬والخلقية‭. ‬وقد‭ ‬تجاهلت‭ ‬المقولات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والإنسانية‭ ‬التي‭ ‬نادى‭ ‬بها‭ ‬أنصار‭ ‬الفلسفة‭ ‬الطاوية‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬الذين‭ ‬شددوا‭ ‬دومًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬سعادة‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬تكتمل‭ ‬إلا‭ ‬بالانسجام‭ ‬والتناغم‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة،‭ ‬كما‭ ‬تجاهلوا‭ ‬مقولات‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬عن‭ ‬ضرورة‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالبيئة‭ ‬لضمان‭ ‬الرعاية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وإشباع‭ ‬الحاجة‭ ‬الجمالية‭ ‬لدى‭ ‬البشر‭.‬

 

البيئة‭ ‬الطبيعية‭ ‬كوثيقة‭ ‬تاريخية‭ ‬مفتوحة

العمران‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬متعددة‭ ‬الغايات،‭ ‬فهي‭ ‬تستجيب‭ ‬لحاجات‭ ‬اجتماعية،‭ ‬ولمتطلبات‭ ‬العلاقات‭ ‬العائلية‭ ‬والطبقية‭ ‬والتراتبية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ولتبدّل‭ ‬التقنيات‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬تصنيع‭ ‬المواد‭ ‬الخام‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬وتعبّر‭ ‬أيضًا‭ ‬عن‭ ‬توق‭ ‬الإنسان‭ ‬لحياة‭ ‬أفضل،‭ ‬وسعيه‭ ‬نحو‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية‭ ‬والمادية‭ ‬المستدامة،‭ ‬وشغفه‭ ‬بإبداع‭ ‬ظواهر‭ ‬اجتماعية‭ ‬تخلّد‭ ‬ذكراه‭. ‬وبهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬أبدع‭ ‬الإنسان‭ ‬المفكر‭ ‬أنواعًا‭ ‬متجددة‭ ‬من‭ ‬العمارة‭ ‬كوثائق‭ ‬تاريخية‭ ‬دالة‭ ‬عليه،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬توسع‭ ‬دائم‭ ‬نحو‭ ‬معرفة‭ ‬أكثر‭ ‬توافقًا‭ ‬مع‭ ‬الواقع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭. ‬وليس‭ ‬من‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الصيغة‭ ‬الأمثل‭ ‬للإنتاج‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بديمومة‭ ‬الشكل‭ ‬التقليدي‭ ‬ولا‭ ‬تقترن‭ ‬بعوامل‭ ‬تصنيعه،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬الخصائص‭ ‬الواقعية‭ ‬للإنتاج،‭ ‬وإنما‭ ‬تقترن‭ ‬بعوامل‭ ‬اجتماعية‭ ‬أخرى،‭ ‬كالسياسة‭ ‬أو‭ ‬العقيدة‭ ‬أو‭ ‬العاطفة‭. ‬ومن‭ ‬الصعب‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الحرف‭ ‬التقليدية‭ ‬الموروثة،‭ ‬أو‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬الحفاظ‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬العمارة‭ ‬المعاصرة‭. ‬وهذه‭ ‬مسألة‭ ‬نظرية‭ ‬وتقنية‭ ‬مهمة‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالحفاظ‭ ‬على‭ ‬مكوّنات‭ ‬التراث‭ ‬الحرفي‭ ‬وموجوداته،‭ ‬وكيفية‭ ‬صياغة‭ ‬معالمه‭ ‬وفق‭ ‬أحدث‭ ‬الطرق‭ ‬العلمية‭ ‬الحديثة‭.‬

حماية‭ ‬البيئة‭ ‬علم‭ ‬قائم‭ ‬بذاته،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬كونه‭ ‬واجبًا‭ ‬إنسانيًا‭ ‬ملقى‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬البشرية‭ ‬بأسرها‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تحتضن‭ ‬أمكنة‭ ‬تراثية‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬أصبحت‭ ‬اليوم‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬ترميمها‭ ‬أو‭ ‬صيانتها‭ ‬أو‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬معالمها‭. ‬والهدف‭ ‬الإنساني‭ ‬من‭ ‬التوثيق‭ ‬العمراني‭ ‬هو‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬العمارة‭ ‬كوثيقة‭ ‬تاريخية‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ ‬مفتوح‭ ‬لجميع‭ ‬الناس‭. ‬ولا‭ ‬تتضمن‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬أي‭ ‬أهداف‭ ‬اقتصادية‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭. ‬فالحفاظ‭ ‬على‭ ‬المعالم‭ ‬التراثية‭ ‬هو‭ ‬المدخل‭ ‬الحقيقي‭ ‬للتأكيد‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬المجتمع‭ ‬وخصوصيته‭. ‬أما‭ ‬الترويج‭ ‬لبعض‭ ‬المعالم‭ ‬التراثية‭ ‬لأسباب‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬سياحية‭ ‬فمسألة‭ ‬فرعية‭. ‬ففي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬لا‭ ‬يعاد‭ ‬ترميم‭ ‬البناء‭ ‬التراثي‭ ‬أو‭ ‬تأهيله‭ ‬للحفاظ‭ ‬عليه‭ ‬كوثيقة‭ ‬عمرانية،‭ ‬وإنما‭ ‬لصيانة‭ ‬الشكل‭ ‬بهدف‭ ‬إشباع‭ ‬حاجات‭ ‬شخصية،‭ ‬أو‭ ‬عائلية،‭ ‬أو‭ ‬دينية،‭ ‬أو‭ ‬سياحية،‭ ‬أو‭ ‬تجارية‭. ‬وهناك‭ ‬فارق‭ ‬كبير‭ ‬بين‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬كوثيقة‭ ‬عمرانية،‭ ‬وبين‭ ‬صيانتها‭ ‬وإعادة‭ ‬تأهيلها‭ ‬والتلاعب‭ ‬أحيانًا‭ ‬ببعض‭ ‬مكوناتها‭ ‬الأساسية‭ ‬لكي‭ ‬تلعب‭ ‬وظائف‭ ‬جديدة‭ ‬معاصرة‭ ‬تحافظ‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬الخارجي‭ ‬للعمران‭ ‬كوثيقة‭ ‬تاريخية‭. ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬التقيد‭ ‬الصارم‭ ‬بالتقنية‭ ‬التقليدية‭ ‬أو‭ ‬بأسلوب‭ ‬متوافق‭ ‬كليا‭ ‬مع‭ ‬التقنية‭ ‬الأصلية‭. ‬فالهدف‭ ‬هو‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬التراث‭ ‬العمراني‭ ‬كوثيقة‭ ‬تاريخية،‭ ‬ولا‭ ‬يجوز‭ ‬التحلل‭ ‬بصورة‭ ‬شبه‭ ‬تامة‭ ‬من‭ ‬الضوابط‭ ‬الضرورية‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬الهدف‭ ‬إشباع‭ ‬حاجات‭ ‬سياحية‭ ‬أو‭ ‬تجارية‭ ‬معاصرة‭.‬

وعندما‭ ‬تعجز‭ ‬المراكز‭ ‬الحضرية‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬حركة‭ ‬العمران‭ ‬المتنامية‭ ‬في‭ ‬داخلها،‭ ‬تتعرض‭ ‬لانهيار‭ ‬سريع‭ ‬أو‭ ‬تدريجي،‭ ‬فالعمران‭ ‬البشري‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قوى‭ ‬حضرية‭ ‬مؤمنة‭ ‬به‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬حمايته‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬اعتداء‭ ‬خارجي‭. ‬والقائد‭ ‬السياسي‭ ‬المتنور،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬فقهاء‭ ‬المسلمين‭ ‬صفة‭ ‬‮«‬المستبد‭ ‬العادل‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الحارس‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬غنى‭ ‬عنه‭ ‬للعمران‭ ‬الحضري،‭ ‬وللحفاظ‭ ‬على‭ ‬أمن‭ ‬المجتمع‭ ‬واستقراره‭.‬

والعمران‭ ‬البشري‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الإنسان،‭ ‬ولا‭ ‬يجوز‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بناء‭ ‬الفكر‭ ‬التاريخي‭ ‬على‭ ‬توصيف‭ ‬عملية‭ ‬البناء‭ ‬أو‭ ‬الترميم‭ ‬دون‭ ‬تحليل‭ ‬الأسباب‭ ‬الكامنة‭ ‬وراءها‭. ‬وهنا‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬تحليل‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والمادة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬العمران،‭ ‬وإبراز‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬الأخرى،‭ ‬ومع‭ ‬التقاليد‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الأعمال‭ ‬العمرانية‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها‭ ‬الإنسانية‭ ‬عبر‭ ‬الحقب‭ ‬التاريخية‭.‬

 

علم‭ ‬البيئة‭ ‬بخصائص‭ ‬معاصرة

تتمحور‭ ‬مقولات‭ ‬علم‭ ‬البيئة‭ ‬المعاصر‭ ‬حول‭ ‬معايير‭ ‬ثلاثة‭: ‬المعرفة‭ ‬الوصفية‭ ‬لخصائص‭ ‬العمارة‭ ‬العصرية،‭ ‬وإبراز‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬هوية‭ ‬المجتمع‭ ‬وخصوصيته‭ ‬والتراتبية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والطقوس‭ ‬الدينية‭ ‬والعادات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والمنهج‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬يحدد‭ ‬مقاييس‭ ‬الظواهر‭ ‬الطبيعية‭ ‬والعمران‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬ويلعب‭ ‬الذوق‭ ‬الجمالي‭ ‬دورًا‭ ‬بارزًا‭ ‬في‭ ‬تأمين‭ ‬التناغم‭ ‬بين‭ ‬حاجات‭ ‬الإنسان‭ ‬وجمال‭ ‬البيئة‭ ‬بهدف‭ ‬تأمين‭ ‬حاجات‭ ‬ثلاث‭: ‬الوظيفة‭ ‬النفعية‭ ‬للعمارة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬والوظيفة‭ ‬الرمزية‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬هوية‭ ‬الفرد‭ ‬والجماعات،‭ ‬وتشمل‭ ‬العقائد‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬المتوارثة،‭ ‬والوظيفة‭ ‬الجمالية‭ ‬للعمارة‭ ‬التي‭ ‬تبرز‭ ‬لوحة‭ ‬بصرية‭ ‬وفنية‭ ‬تؤمِّن‭ ‬للناظر‭ ‬إليها‭ ‬المتعة‭ ‬الحسية‭ ‬والنفسية‭.‬

فالعمران‭ - ‬إذن‭ - ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وجمالية‭ ‬معا‭ ‬ويمكن‭ ‬إخضاعها‭ ‬للتحليل‭ ‬العلمي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التعرف‭ ‬إلى‭ ‬ركائزها‭ ‬السكانية،‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬والثقافية،‭ ‬والنفعية‭. ‬وهي‭ ‬تتطلب‭ ‬استنباط‭ ‬مفاهيم‭ ‬علمية،‭ ‬وصياغة‭ ‬مناهج‭ ‬دقيقة‭ ‬لمقاربة‭ ‬الظاهرة‭ ‬الفنية‭ ‬المعمارية‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬جوانبها‭ ‬الجمالية‭ ‬والنفعية‭ ‬معًا‭.‬

لكل‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية،‭ ‬ومن‭ ‬ضمنها‭ ‬ظاهرة‭ ‬العمران،‭ ‬بنية‭ ‬خاصة‭ ‬بها،‭ ‬ويتم‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الجانب‭ ‬المرئي‭ ‬من‭ ‬العمارة‭ ‬المعاصرة‭ ‬كتعبير‭ ‬عن‭ ‬تفاعل‭ ‬إبداعي‭ ‬بين‭ ‬الأهداف‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للعمارة‭ ‬وتطور‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬العصرية‭ ‬التي‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬إنجازه‭. ‬بحيث‭ ‬يتحول‭ ‬علم‭ ‬العمران‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬جمالي‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬مشاعر‭ ‬إنسانية‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬العمارة‭ ‬جاذبًا‭ ‬للمتعة‭ ‬والأحاسيس‭ ‬الوجدانية‭. ‬مردُّ‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬العمران‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬تحويل‭ ‬المادة‭ ‬الخام‭ ‬إلى‭ ‬تفاعل‭ ‬إبداعي‭ ‬خلاّق‭ ‬بين‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬والمادة‭ ‬الخام‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توظيفها‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬جمالية‭ ‬تلبي‭ ‬حاجات‭ ‬الإنسان‭. ‬وهناك‭ ‬إحساس‭ ‬طبيعي‭ ‬لدى‭ ‬الإنسان‭ ‬بالحاجة‭ ‬إلى‭ ‬البيئة،‭ ‬والوعي‭ ‬بأهميتها،‭ ‬وتوظيف‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬صيغة‭ ‬فنية‭ ‬تتلاءم‭ ‬مع‭ ‬جمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬الخارجية‭.‬

أخيرًا،‭ ‬بدأت‭ ‬الدول‭ ‬الصناعية‭ ‬الكبرى‭ ‬تحذر‭ ‬من‭ ‬مخاطر‭ ‬تلوث‭ ‬البيئة‭ ‬على‭ ‬شعوب‭ ‬العالم‭. ‬فتنبه‭ ‬قادة‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬مخاطر‭ ‬تلوث‭ ‬البيئة‭ ‬على‭ ‬الإنسان،‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬وجميع‭ ‬مناحي‭ ‬الحياة‭ ‬فيها‭. ‬ويعود‭ ‬اهتمام‭ ‬القيادة‭ ‬الصينية‭ ‬الجديدة‭ ‬بالبيئة‭ ‬إلى‭ ‬الخسائر‭ ‬الفادحة‭ ‬التي‭ ‬تكبّدتها‭ ‬الصين‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬مرحلة‭ ‬الانفتاح‭ ‬والإصلاح‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1978‭.‬

وأوصت‭ ‬المؤتمرات‭ ‬العالمية‭ ‬لحماية‭ ‬البيئة‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬بضرورة‭ ‬اعتماد‭ ‬أفضل‭ ‬الطرق‭ ‬لجعل‭ ‬النشاطين‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬صديقين‭ ‬للبيئة،‭ ‬ويحققان‭ ‬التناغم‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة‭. ‬بات‭ ‬علم‭ ‬البيئة‭ ‬اليوم‭ ‬يحتضن‭ ‬نشاطات‭ ‬مكثفة‭ ‬ومتنوعة‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬قوى‭ ‬بشرية،‭ ‬ومنظمات‭ ‬وأحزاب‭ ‬شعارها‭ ‬الأساسي‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬البيئة‭. ‬وذلك‭ ‬يتطلب‭ ‬تعاون‭ ‬جميع‭ ‬الشعوب‭ ‬والدول‭ ‬لحماية‭ ‬البيئة‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬سلامتها،‭ ‬لكي‭ ‬تكون‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬احتضان‭ ‬الأجيال‭ ‬المتعاقبة‭.‬

في‭ ‬إطار‭ ‬عولمة‭ ‬أكثر‭ ‬إنسانية،‭ ‬يمكن‭ ‬لعلم‭ ‬البيئة‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬نظام‭ ‬إنساني‭ ‬متكامل‭ ‬يلزم‭ ‬جميع‭ ‬الناس‭ ‬بحل‭ ‬المشكلات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬بصفتهم‭ ‬أفرادًا‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬بيئي‭ ‬كوني‭. ‬وهناك‭ ‬تصوّر‭ ‬خاطئ‭ ‬لدى‭ ‬من‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬هدف‭ ‬علم‭ ‬البيئة‭ ‬هو‭ ‬حماية‭ ‬الطبيعة‭ ‬وحدها‭ ‬دون‭ ‬البشر‭ ‬العاملين‭ ‬عليها‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬استراتيجية‭ ‬علم‭ ‬البيئة‭ ‬المعاصر‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬رعاية‭ ‬الثقافة‭ ‬البيئية‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬والطبيعة‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬إيكولوجية‭ ‬وحضارية‭ ‬متكاملة‭.‬

لابد‭ ‬إذن‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬شمولي‭ ‬لعلم‭ ‬البيئة،‭ ‬ماضيًا‭ ‬وحاضرًا‭ ‬ومستقبلاً‭. ‬فهدفه‭ ‬تعزيز‭ ‬ونشر‭ ‬ثقافة‭ ‬البيئة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالتنمية‭ ‬البشرية‭ ‬والاقتصادية،‭ ‬وتحقيق‭ ‬تنمية‭ ‬مستدامة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬السعي‭ ‬لتحقيق‭ ‬تناغم‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة‭. ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬زيادة‭ ‬الوعي‭ ‬البيئي‭ ‬بين‭ ‬الناس‭. ‬إذ‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬أن‭ ‬نتوقع‭ ‬من‭ ‬الفرد‭ ‬الذي‭ ‬ينقصه‭ ‬الوعي‭ ‬بأهمية‭ ‬البيئة‭ ‬أن‭ ‬يتصرف‭ ‬بطريقة‭ ‬تحقق‭ ‬أقل‭ ‬ضرر‭ ‬ممكن‭ ‬بها‭. ‬وهناك‭ ‬دور‭ ‬إيجابي‭ ‬لزيادة‭ ‬التشجير‭ ‬وتنمية‭ ‬الغابات‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الكوني‭. ‬مع‭ ‬الأخذ‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬مشكلات‭ ‬التربة،‭ ‬وشح‭ ‬المياه،‭ ‬وعدم‭ ‬الإفراط‭ ‬في‭ ‬استغلال‭ ‬المياه‭ ‬الجوفية‭. ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬إطلاق‭ ‬استراتيجية‭ ‬شاملة‭ ‬لتعزيز‭ ‬الوعي‭ ‬بأهمية‭ ‬البيئة‭ ‬عند‭ ‬وضع‭ ‬خطط‭ ‬التنمية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬والاجتماعية‭.‬

عندما‭ ‬يمتلك‭ ‬الشعب‭ ‬ثقافة‭ ‬بيئية‭ ‬سليمة‭ ‬تزدهر‭ ‬المدن‭ ‬والمناطق‭ ‬ذات‭ ‬السكن‭ ‬الصحي‭ ‬والجمالي‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬معًا‭. ‬فعالم‭ ‬اليوم‭ ‬تهيمن‭ ‬عليه‭ ‬النفعية‭ ‬المادية،‭ ‬وقد‭ ‬حان‭ ‬الوقت‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬تعاليم‭ ‬الفلسفات‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬تبشّر‭ ‬بأن‭ ‬الإنسان‭ ‬والطبيعة‭ ‬مندمجان‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬كونية‭ ‬واحدة‭ ‬ومتكاملة،‭ ‬وإصلاح‭ ‬النظم‭ ‬الاقتصادية‭ ‬لمنع‭ ‬استغلال‭ ‬موارد‭ ‬البيئة‭ ‬واستنزافها‭.‬

 

ملاحظات‭ ‬ختامية

يقدم‭ ‬تاريخ‭ ‬العمارة‭ ‬أو‭ ‬علم‭ ‬العمران‭ ‬فرصة‭ ‬ثمينة‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬المقومات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والروحية‭ ‬والدينية‭ ‬التي‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الظروف‭ ‬المادية‭ ‬لبناء‭ ‬العمارة‭ ‬بأشكال‭ ‬جمالية‭ ‬متعددة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬إبراز‭ ‬معرفة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالتقنيات‭ ‬المادية،‭ ‬والنشاط‭ ‬الصناعي،‭ ‬وطرائق‭ ‬الإنتاج،‭ ‬والمكننة‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬والتنظيم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وأدوات‭ ‬الإنتاج‭ ‬التي‭ ‬استخدمت‭ ‬في‭ ‬بنائها‭. ‬ويستند‭ ‬التكوين‭ ‬الداخلي‭ ‬للظاهرة‭ ‬العمرانية‭ ‬إلى‭ ‬تفحّص‭ ‬مختلف‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬مقوماتها‭ ‬وترابط‭ ‬تأثير‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬بالآخر،‭ ‬ومدى‭ ‬القبول‭ ‬والاستجابة‭ ‬للتأثيرات‭ ‬الخارجية‭ ‬أو‭ ‬رفضها‭. ‬وهي‭ ‬تبرز‭ ‬عملية‭ ‬الانسجام‭ ‬أو‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬عناصر‭ ‬العمارة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تشكّلها‭ ‬في‭ ‬نماذج‭ ‬عمرانية‭.‬

وبات‭ ‬واضحًا‭ ‬أن‭ ‬البيئة‭ ‬ظاهرة‭ ‬طبيعية‭ ‬متوارثة‭ ‬منذ‭ ‬ملايين‭ ‬السنين،‭ ‬لكن‭ ‬ظاهرة‭ ‬العمران‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الإنسان‭. ‬ولا‭ ‬يقتصر‭ ‬دور‭ ‬علم‭ ‬العمران‭ ‬على‭ ‬اكتشاف‭ ‬أنواع‭ ‬العمارة‭ ‬أو‭ ‬ترميمها،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬إبراز‭ ‬الأسباب‭ ‬الكامنة‭ ‬وراء‭ ‬نشوئها‭ ‬وتطورها‭. ‬وهي‭ ‬تنقسم‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬أشكال‭: ‬علاقات‭ ‬الفرد‭ ‬الاجتماعية‭ ‬مع‭ ‬الأفراد‭ ‬الآخرين،‭ ‬ومع‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأخرى،‭ ‬ومع‭ ‬التصورات‭ ‬المتخيلة،‭ ‬ومع‭ ‬الإنتاج‭ ‬الصناعي‭ ‬الذي‭ ‬عبّر‭ ‬بدقة‭ ‬عن‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬أنتجها‭ ‬الإنسان‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭.‬

ما‭ ‬يميز‭ ‬تلك‭ ‬الظواهر‭ ‬الطبيعية‭ ‬أنها‭ ‬نتاج‭ ‬أعمال‭ ‬لا‭ ‬يد‭ ‬للإنسان‭ ‬فيها‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬العمران‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الإنسان،‭ ‬وهي‭ ‬الظاهرة‭ ‬الأكثر‭ ‬رسوخًا‭ ‬لأنها‭ ‬صنعت‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬صلبة‭ ‬ومستمرة‭ ‬منذ‭ ‬قرون‭ ‬طويلة‭. ‬وخلال‭ ‬تاريخها‭ ‬الطويل‭ ‬تطورت‭ ‬العمارة‭ ‬الحديثة‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الكوني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ثورات‭ ‬تقنية‭ ‬متتالية‭. ‬وحين‭ ‬تجاهلت‭ ‬الخصوصيات‭ ‬المحلية‭ ‬تحولت‭ ‬البيئة‭ ‬الحاضنة‭ ‬للعمارة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المدن‭ ‬الحديثة‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬للبؤس‭ ‬والتعاسة،‭ ‬وتحتضن‭ ‬الإجرام‭. ‬ومع‭ ‬تكاثر‭ ‬الأعداد‭ ‬السكانية‭ ‬وتمركزها‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬جغرافية‭ ‬ضيقة،‭ ‬ظهر‭ ‬تلوث‭ ‬البيئة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والطبيعية‭ ‬بصورة‭ ‬بشعة،‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬أي‭ ‬رادع‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬ديني،‭ ‬أو‭ ‬أخلاقي‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬التصدي‭ ‬لمشكلات‭ ‬تسيء‭ ‬إلى‭ ‬إنسانية‭ ‬الإنسان‭. ‬وزاد‭ ‬في‭ ‬تلوّث‭ ‬البيئة‭ ‬الطبيعية‭ ‬التصنيع‭ ‬الممكنن‭ ‬بصورة‭ ‬غير‭ ‬عقلانية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬هاجس‭ ‬الربح‭ ‬السريع،‭ ‬وعدم‭ ‬التزام‭ ‬المهندس‭ ‬المعماري‭ ‬أحيانًا‭ ‬بالمبادئ‭ ‬الخلقية‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬سكن‭ ‬مريح‭ ‬يليق‭ ‬بالبشر‭ ‬ولا‭ ‬ينتقص‭ ‬من‭ ‬كراماتهم‭ ‬بصفتهم‭ ‬كائنات‭ ‬إنسانية‭ ‬ذات‭ ‬حقوق‭ ‬مكتسبة‭ ‬يجب‭ ‬الحفاظ‭ ‬عليها‭.‬

وتزامن‭ ‬انتشار‭ ‬العمران‭ ‬العشوائي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الراهنة‭ ‬مع‭ ‬رغبة‭ ‬عارمة‭ ‬في‭ ‬تجاهل‭ ‬مشكلات‭ ‬التلوث‭ ‬البيئي‭ ‬والاكتظاظ‭ ‬السكاني‭ ‬وتشويه‭ ‬الذائقة‭ ‬الفنية‭. ‬وذلك‭ ‬تحت‭ ‬رأسمالية‭ ‬طفيلية‭ ‬وريعية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬المضاربات‭ ‬العقارية‭ ‬بهدف‭ ‬الربح‭ ‬السريع،‭ ‬وتخالف‭ ‬أبسط‭ ‬المبادئ‭ ‬الإنسانية‭ ‬والخلقية‭, ‬فولدت‭ ‬أشكالاً‭ ‬بشعة‭ ‬من‭ ‬عمارة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬تتجاهل‭ ‬الحاجات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الأساسية،‭ ‬ولا‭ ‬تهتم‭ ‬بالرعاية‭ ‬الاجتماعية‭.‬

ختامًا،‭ ‬أطلق‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬مقدمته‭ ‬مقولات‭ ‬لثقافة‭ ‬كونية‭ ‬الطابع‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬علم‭ ‬العمران‭ ‬الحضري‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬طوّر‭ ‬مهندسو‭ ‬العمران‭ ‬تباعًا‭ ‬خصائص‭ ‬العمارة‭ ‬المعاصرة‭ ‬بصورة‭ ‬مذهلة‭ ‬لدرجة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬معها‭ ‬الأشكال‭ ‬السابقة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تجاهل‭ ‬فنون‭ ‬العمارة‭ ‬المتنوعة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬العولمة‭. ‬وليس‭ ‬بمقدور‭ ‬عرب‭ ‬اليوم‭ ‬عزل‭ ‬فن‭ ‬العمارة‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬فنون‭ ‬العمارة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأخرى‭ ‬تحت‭ ‬ستار‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الهوية،‭ ‬والخصوصية،‭ ‬ونقاوة‭ ‬التراث‭ ‬المعماري‭ ‬العربي‭. ‬فقد‭ ‬انفتحت‭ ‬آفاق‭ ‬الثقافة‭ ‬والفنون،‭ ‬ومنها‭ ‬فن‭ ‬العمارة،‭ ‬على‭ ‬متطلبات‭ ‬المرحلة‭ ‬الراهنة‭. ‬وباتت‭ ‬المواجهة‭ ‬الثقافية‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬ثقافات‭ ‬العولمة،‭ ‬بهدف‭ ‬التفاعل‭ ‬الإيجابي‭ ‬معها،‭ ‬والتخفيف‭ ‬من‭ ‬سلبياتها‭ ‬الكثيرة‭. ‬وذلك‭ ‬يتطلب‭ ‬من‭ ‬مهندسي‭ ‬العمران‭ ‬العرب‭ ‬بذل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الجهود‭ ‬النظرية‭ ‬والتطبيقية‭ ‬للاستفادة‭ ‬القصوى‭ ‬من‭ ‬مقولات‭ ‬‮«‬علم‭ ‬العمران‮»‬‭ ‬الخلدوني‭ ‬وفن‭ ‬العمارة‭ ‬العصرية،‭ ‬مع‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بجماليات‭ ‬عربية‭ ‬أصيلة‭ ‬ومتميزة‭ .