نازك الملائكة والريادة النسوية

نازك الملائكة والريادة النسوية

يعرِّف‭ ‬سايمون‭ ‬بلاكبيرن‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإنجليزي‭ ‬المذهب‭ ‬النسوي،‭ ‬بأنه‭ ‬منهج‭ ‬دراسة‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والفلسفة‭ ‬وعلم‭ ‬الأخلاق،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تصحيح‭ ‬انحرافات‭ ‬التحيز‭ ‬التي‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إحلال‭ ‬المرأة‭ ‬مكانة‭ ‬المهمش‭ ‬والتابع‭ ‬الثانوي،‭ ‬وإلى‭ ‬الحط‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الخبرة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالنساء‭ ‬واستصغار‭ ‬تجاربهن،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬علم‭ ‬الأخلاق‭ ‬النسوي‭ ‬الحديث‭ ‬يركز‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬مقاومة‭ ‬الانحياز‭ ‬للرجل‭ ‬مسلطا‭ ‬الأضواء‭ ‬على‭ ‬فكره‭ ‬وتجاربه‭ ‬وطروحاته،‭ ‬كاشفا‭ ‬عن‭ ‬رؤاه‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬والنظريات‭ ‬الفلسفية‭ ‬وعن‭ ‬خبراته‭ ‬المتوارثة‭ ‬جيلا‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭, ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬محمد‭ ‬عناني‭.‬

فالنسوية‭ ‬حركة‭ ‬تعددت‭ ‬مرجعيتها،‭ ‬لكنها‭ ‬اتفقت‭ ‬على‭ ‬ضرورة‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬ورفض‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬بها‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الحرمان‭ ‬الذي‭ ‬عانته‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬الحياة‭ ‬كافة،‭ ‬تعليما‭ ‬وعملا‭ ‬واستقلالا‭ ‬اقتصاديا،‭ ‬وتعتيما‭ ‬على‭ ‬مواهبها‭ ‬وقدراتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حجرها‭ ‬في‭ ‬البيت‭, ‬وحجبها‭ ‬عن‭ ‬فضاء‭ ‬الحياة‭ ‬الخارجي،‭ ‬وما‭ ‬يموج‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬خلاقة،‭ ‬ومنعها‭ ‬من‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭ ‬الشخصي‭ ‬والسياسي،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬اقتصار‭ ‬الرؤى‭ ‬الإنسانية‭ ‬وخبرات‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬الانفراد‭ ‬برؤية‭ ‬الرجل‭ ‬وقواه‭ ‬الذكورية‭ ‬واعتماد‭ ‬منهجه‭ ‬الأبوي‭ ‬منفردا‭ ‬ومهيمنا‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬العلم‭ ‬وكتابة‭ ‬التاريخ‭ ‬وتفسير‭ ‬الأديان،‭ ‬وتدعو‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بتصورات‭ ‬المرأة‭ ‬وبقيمة‭ ‬خبراتها‭ ‬ورؤاها‭ ‬في‭ ‬جوانب‭ ‬الحياة‭ ‬كافة،‭ ‬لأن‭ ‬الكتابة‭ ‬الذكورية‭ ‬لم‭ ‬تسع‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬الاستغلال‭ ‬الموجه‭ ‬ضدها‭ ‬ولا‭ ‬دانت‭ ‬سيطرة‭ ‬الرجل‭ ‬عليها‭, ‬وغبنها‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬العمل‭ ‬وفي‭ ‬إهمال‭ ‬إبداعها‭ ‬الأدبي‭ ‬والفنون‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها‭. ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أنهم‭ ‬أهملوا‭ ‬طاقة‭ ‬نصف‭ ‬المجتمع‭ ‬البشري،‭ ‬فالحركة‭ ‬النسوية‭ ‬من‭ ‬معطيات‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬نتاج‭ ‬التطورات‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬المجتمع‭ ‬الغربي‭ ‬وصيرورته‭ ‬الثقافية،‭ ‬انطلقت‭ ‬من‭ ‬تطور‭ ‬منظمات‭ ‬وحركات‭ ‬الدعوة‭ ‬لتحرير‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬بالحراك‭ ‬قبل‭ ‬زمن‭ ‬طويل،‭ ‬فقضية‭ ‬الاضطهاد‭ ‬والحرية‭ ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬غائبين‭ ‬كلياً‭ ‬عن‭ ‬ذهن‭ ‬النساء،‭ ‬بل‭ ‬كانا‭ ‬كامنين‭ ‬كمونا‭ ‬متأهباً‭ ‬بمرور‭ ‬الزمن‭ ‬لشرارة‭ ‬اليقظة‭. ‬وما‭ ‬شدة‭ ‬الحماس‭ ‬الذي‭ ‬قوبلت‭ ‬به‭ ‬هذه‭ ‬الحركة‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬إلا‭ ‬تأكيداً‭ ‬لهذا‭ ‬الرأي‭ ‬المدعوم‭ ‬بأمثلة‭ ‬واقعية‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬أقطار‭ ‬الدنيا‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬والعراق‭ ‬ونساؤهما‭ ‬في‭ ‬منأى‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬التطور‭ ‬التنويري،‭ ‬فقد‭ ‬هبت‭ ‬النساء‭, ‬وكذا‭ ‬حَمَلة‭ ‬الفكر‭ ‬التقدمي‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬والعراق‭ ‬واليمن‭ ‬والمغرب‭ ‬العربي‭ ‬وباقي‭ ‬أقطار‭ ‬العرب‭ ‬بالدعوة‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬توفير‭ ‬الفرص‭ ‬لتحرير‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬الجهل‭ ‬أولا،‭ ‬وتوفير‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬لها‭ ‬ليتسنى‭ ‬دخولها‭ ‬إلى‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة‭ ‬الأخرى،‭ ‬وكان‭ ‬لهذه‭ ‬الهبة‭ ‬نماذج‭ ‬نسوية‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬أخطر‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الهوية،‭ ‬وأهم‭ ‬تحقق‭ ‬للوجود،‭ ‬وأقدر‭ ‬على‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬كوامن‭ ‬الذات‭ ‬والمواقف،‭ ‬فكانت‭ ‬الشاعرة‭ ‬عائشة‭ ‬التيمورية‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أولًا،‭ ‬ثمّ‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬وفدوى‭ ‬طوقان‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬علامات‭ ‬دالة‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬تسجيل‭ ‬حضور‭ ‬مميز‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الشعر‭ ‬والأدب‭ ‬عن‭ ‬غيرهن‭ ‬من‭ ‬الرائدات‭. ‬لكن‭ ‬حضور‭ ‬الشاعرة‭ ‬الرائدة‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬ظل‭ ‬وسيظل‭ ‬الأكثر‭ ‬تميزا‭ ‬في‭ ‬الميدان،‭ ‬لما‭ ‬حُبيت‭ ‬به‭ ‬هذه‭ ‬السيدة‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬وشجاعة‭ ‬ومواهب‭ ‬وقدرات‭ ‬هيأتها‭ ‬للريادة‭ ‬الحداثية‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ميدان،‭ ‬فالحداثة‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬نهضت‭ ‬بها‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬زملائها‭ ‬بالانعطافة‭ ‬المهمة‭ ‬التي‭ ‬أحدثوها‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬من‭ ‬العمود‭ ‬إلى‭ ‬التفعيلة‭ ‬في‭ ‬جانبي‭ ‬الإيقاع‭ ‬البصري‭ ‬والرؤيا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتحدث‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬فالحداثة‭ ‬مفهوم‭ ‬كلي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجزئته،‭ ‬ولذلك‭ ‬سيحيلنا‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬على‭ ‬تأكيد‭ ‬هذه‭ ‬المقولة،‭ ‬فنازك‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬صغرها‭ ‬منهمكة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬الشعر‭ ‬وعلوم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬ومن‭ ‬الأوائل‭ ‬اللواتي‭ ‬واصلن‭ ‬التعليم‭ ‬الجامعي‭ ‬المختلط،‭ ‬فقد‭ ‬دخلت‭ ‬دار‭ ‬المعلمين‭ ‬العالية‭ ‬عام‭ ‬1940،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬للمرأة‭ ‬فضاء‭ ‬متاح‭ ‬غير‭ ‬البيت،‭ ‬ودخلته‭ ‬سافرة‭ ‬دون‭ ‬حجاب،‭ ‬وهذا‭ ‬خرقٌ‭ ‬آخر‭ ‬للسائد‭ ‬والأعراف‭ ‬الراسخة،‭ ‬تكتب‭ ‬الشعر‭ ‬وتسهم‭ ‬في‭ ‬إنشاده‭ ‬بمحافل‭ ‬الجامعة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬زملائها‭ ‬الشباب،‭ ‬وقد‭ ‬دفعها‭ ‬حبها‭ ‬للعلم‭ ‬والفن‭ ‬إلى‭ ‬ارتياد‭ ‬مجالات‭ ‬أخرى‭ ‬كالموسيقى‭ ‬والتمثيل‭ ‬والضرب‭ ‬على‭ ‬العود،‭ ‬وذلك‭ ‬ما‭ ‬طالبت‭ ‬به‭ ‬النسوة‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬إقبال‭ ‬المرأة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الذات،‭ ‬وأكدت‭ ‬عليه‭ ‬بوصفه‭ ‬حقا‭ ‬للمرأة‭ ‬وليس‭ ‬منحة‭ ‬لها،‭ ‬ثم‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لإكمال‭ ‬دراستها،‭ ‬صانعة‭ ‬قراراتها‭ ‬الذاتية‭ ‬برؤيتها‭ ‬ورؤى‭ ‬عائلتها‭ ‬المتنورة‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬غريبة‭ ‬على‭ ‬الجو‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والثقافي‭ ‬الذي‭ ‬تحكمه‭ ‬الهيمنة‭ ‬الذكورية،‭ ‬ومنظومات‭ ‬قيم‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬إلا‭ ‬بمقولة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬قصور‭ ‬المرأة‭ ‬عقلا‭ ‬ودينا‭. ‬ولذا‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬حقها‭ ‬أن‭ ‬تسهم‭ ‬مع‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬أي‭ ‬قرار،‭ ‬فكيف‭ ‬وهذه‭ ‬القرارات‭ ‬التي‭ ‬شكلتها‭ ‬نازك‭ ‬رؤية‭ ‬وسلوكا،‭ ‬والتي‭ ‬تلامس‭ ‬قضايا‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬الموروث‭ ‬وسلطة‭ ‬الأعراف‭ ‬المتجذرة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والمعرفية‭ ‬معا‭ ‬وتدحضها،‭ ‬وتطرح‭ ‬وتسلك‭ ‬بثقة‭ ‬باذخة‭ ‬ما‭ ‬يخرق‭ ‬أصولها‭ ‬الحاجبة‭ ‬والمعيقة،‭ ‬فهي‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬كتابتها‭ ‬قصيدة‭ ‬الكوليرا‭, ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬تفعيلة‭ ‬نُشرت‭ ‬قبيل‭ ‬قصيدة‭ ‬السياب‭ ‬بفترة،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬الريادة‭ ‬التامة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التنظير‭ ‬لأهمية‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬عمود‭ ‬الخليل‭ ‬بتراتبية‭ ‬أبياته‭ ‬وأشطره‭ ‬إلى‭ ‬الارتكاز‭ ‬على‭ ‬التفعيلة‭ ‬والأسطر‭ ‬والتحرر‭ ‬من‭ ‬الالتزام‭ ‬بقافية‭ ‬واحدة‭ ‬تُفرض‭ ‬على‭ ‬القصيدة‭ ‬بكاملها،‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬الرائدة‭ ‬لديوان‭ ‬‮«‬شظايا‭ ‬ورماد‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬افتتحت‭ ‬المقدمة‭ ‬بمقولة‭ ‬برنارد‭ ‬شو‭ ‬المهمة‭ ‬‮«‬اللا‭ ‬قاعدة‭ ‬هي‭ ‬القاعدة‭ ‬الذهبية‮»‬،‭ ‬مما‭ ‬فتح‭ ‬للشعر‭ ‬باب‭ ‬التحرر‭ ‬من‭ ‬ركوده‭ ‬الذي‭ ‬دام‭ ‬طويلا،‭ ‬معللة‭ ‬ذلك‭ ‬بكون‭ ‬الشعر‭ ‬وليد‭ ‬أحداث‭ ‬الحياة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬سجن‭ ‬الحياة‭ ‬ووليدها‭ ‬بأنماط‭ ‬ثابتة‭. ‬إن‭ ‬الطروحات‭ ‬النقدية‭ ‬التي‭ ‬دونتها‭ ‬نازك‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬نالت‭ ‬لأهميتها‭ ‬دراسة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثين،‭ ‬لأنها‭ ‬استندت‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬عميق‭ ‬بالأدبين‭ ‬العربي‭ ‬والغربي،‭ ‬ووعي‭ ‬بنقدهما‭ ‬كذلك،‭ ‬كما‭ ‬آزرها‭ ‬في‭ ‬خطورة‭ ‬ما‭ ‬طرحت‭ ‬دقة‭ ‬علمها‭ ‬بعروض‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬وبطاقاته‭ ‬الكامنة،‭ ‬وبما‭ ‬مدَّتها‭ ‬به‭ ‬خبرتها‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬الشعر،‭ ‬محققة‭ ‬هدف‭ ‬الحركة‭ ‬النسوية‭ ‬في‭ ‬أهمية‭ ‬خبرة‭ ‬النساء،‭ ‬وما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تضيفه‭ ‬للمعرفة‭ ‬الإنسانية‭ ‬من‭ ‬غنىً‭ ‬وثراء‭.‬

ولابد‭ ‬من‭ ‬التأكيد‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬دعم‭ ‬الأسرة‭ ‬الواعية‭ ‬المتعلمة،‭ ‬والمحبة‭ ‬للشعر‭ ‬والأدب،‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬الدور‭ ‬الساند‭ ‬لوعي‭ ‬الفتاة‭ ‬الحاد‭ ‬وجرأتها‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬سلبيات‭ ‬واقعها‭ ‬المتخلف‭ ‬بكل‭ ‬الطرائق‭ ‬الممكنة،‭ ‬وفي‭ ‬تصميمها‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التغيير،‭ ‬أب‭ ‬مدرس‭ ‬وأم‭ ‬شاعرة‭ ‬لها‭ ‬ديوان‭ ‬مطبوع‭ ‬هي‭ ‬أم‭ ‬نزار‭ ‬وأخوال‭ ‬ينظمون‭ ‬الشعر‭ ‬وشقيقات‭ ‬محبات‭ ‬للأدب‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬دفع‭ ‬الفتاة‭ ‬الشابة‭ ‬إلى‭ ‬الاستجابة‭ ‬لوهج‭ ‬يطلع‭ ‬من‭ ‬صميم‭ ‬روحها‭ ‬التائقة‭ ‬نحو‭ ‬حياة‭ ‬أكثر‭ ‬سموا‭ ‬وبهاء‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يلفُّ‭ ‬النساء‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يخيّمُ‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬بسكونية‭ ‬تحجب‭ ‬عنه‭ ‬نور‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلم‭ ‬والتقدم،‭ ‬فلا‭ ‬يرى‭ ‬أو‭ ‬يدرك‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬العالم‭ ‬المتحضر‭ ‬من‭ ‬منظومات‭ ‬قيم‭ ‬تمجِّد‭ ‬جوهر‭ ‬الإنسان‭ ‬وتؤَمِّنُ‭ ‬حقوقه،‭ ‬ومن‭ ‬ثورة‭ ‬تحررية‭ ‬نقلت‭ ‬حياته‭ ‬نقلة‭ ‬نوعية،‭ ‬فأطلقت‭ ‬شعرها‭ ‬ثورة‭ ‬عاتية‭ ‬على‭ ‬السكون‭ ‬والركود‭ ‬والموت‭ ‬في‭ ‬الحياة‭: ‬

لا‭ ‬أريد‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬وادي‭ ‬العبيدْ‭ ‬

بين‭ ‬أمواتٍ‭ ‬وان‭ ‬لم‭ ‬يدفنوا

جثثٌ‭ ‬ترسفُ‭ ‬في‭ ‬أسر‭ ‬القيود‭ ‬

وتماثيلُ‭ ‬احتوتها‭ ‬الأعينُ

أبدا‭ ‬أُسمعهم‭ ‬عذبَ‭ ‬نشيدي‭ ‬

وهمُ‭ ‬نومٌ‭ ‬عميقٌ‭ ‬محزنُ

إنها‭ ‬ترفض،‭ ‬ورفض‭ ‬الواقع‭ ‬بوعي‭ ‬جديد‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬طريق‭ ‬النسوية‭ ‬للعمل‭ ‬على‭ ‬تغييره،‭ ‬ودحض‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬أرست‭ ‬جذوره‭ ‬من‭ ‬حقب‭ ‬قديمة،‭ ‬جاء‭ ‬أرسطو‭ ‬فدونها‭ ‬لتصير‭ ‬دستورا‭ ‬يُعلي‭ ‬قوة‭ ‬الذكورة‭ ‬وهيمنتها،‭ ‬ويجعل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬المرأة‭ ‬دونيًا‭ ‬ليس‭ ‬بذي‭ ‬شأن‭. ‬إن‭ ‬نازك‭ ‬تدعو‭ ‬المتلقي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬لقراءة‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬سطورها،‭ ‬فوراء‭ ‬السطور‭ ‬يكمن‭ ‬ظلم‭ ‬وطغاة،‭ ‬استعبدوا‭ ‬الإنسان‭ ‬وأذلوا‭ ‬كرامة‭ ‬روحه،‭ ‬ووراء‭ ‬الأموات‭ ‬مجرمون‭ ‬قتلوهم،‭ ‬وهي‭ ‬تُدين‭ ‬صانعي‭ ‬القيود‭ ‬الذين‭ ‬أوثقوا‭ ‬القيد‭ ‬على‭ ‬معصم‭ ‬الإنسان،‭ ‬وشلوا‭ ‬حركة‭ ‬يده‭ ‬رمز‭ ‬الفاعلية‭ ‬والبناء‭ ‬والعطاء،‭ ‬وتنتقل‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬المرأة‭ ‬لترفضه‭ ‬رفضا‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬عوراته،‭ ‬ويدون‭ ‬الخطيئات‭ ‬التي‭ ‬لحقت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬رجل‭ ‬يحقُّ‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬كل‭ ‬الموبقات‭ ‬دون‭ ‬محاسبة‭ ‬أحد،‭ ‬لكنه‭ ‬يقتل‭ ‬المرأة‭ ‬ويمرِّغها‭ ‬بدمها‭ ‬لأبسط‭ ‬شائعة‭ ‬أو‭ ‬تهمة‭ ‬تلحقها‭ ‬دون‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة،‭ ‬فهي‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬جريمة‭ ‬ما‭ ‬يُدعى‭ ‬بغسل‭ ‬العار‭ ‬بقصيدة‭ ‬جريئة‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬تحمل‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬المباشر،‭ ‬تأكيدا‭ ‬على‭ ‬مقصدية‭ ‬الدلالة‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬ترسيخها،‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬الأعراف‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬المرأة‭ ‬وجودًا‭ ‬إنسانيا‭ ‬كما‭ ‬أقرَّ‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬ملك‭ ‬تابع‭ ‬للرجل،‭ ‬يسجنها،‭ ‬يضربها،‭ ‬يقتلها‭ ‬وقتما‭ ‬يشاء‭ ‬دون‭ ‬عقاب‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬سلطة،‭ ‬ولذا‭ ‬يعلو‭ ‬صوت‭ ‬المرأة‭ ‬محتجا‭ ‬بسخرية‭ ‬طافحة‭ ‬بالألم‭ ‬من‭ ‬تسلط‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬المرأة‭ ‬ورصدها،‭ ‬بينما‭ ‬يتمرغ‭ ‬هو‭ ‬مبتهجا‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬الرذيلة‭. ‬

‭ ‬يا‭ ‬جاراتِ‭ ‬الحارةِ،‭ ‬يا‭ ‬فتياتِ‭ ‬القرية

‭ ‬الخبز‭ ‬سنعجنه‭ ‬بدموع‭ ‬مآقينا

سنقص‭ ‬جدائلنا‭ ‬وسنسلخ‭ ‬أيدينا

لتظلَّ‭ ‬ثيابهمُ‭ ‬بيضَ‭ ‬اللون‭ ‬نقية

لا‭ ‬بسمةَ،‭ ‬لا‭ ‬فرحةَ،‭ ‬لا‭ ‬لفتة‭ ‬فالمدية

ترقبنا‭ ‬في‭ ‬قبضة‭ ‬والدنا‭ ‬وأخينا

وغدا‭ ‬من‭ ‬يدري‭ ‬أي‭ ‬قفارْ

ستوارينا‭ ‬غسلا‭. ‬للعارْ

وفي‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬النائمة‭ ‬في‭ ‬الشارع‮»‬‭ ‬تقدم‭ ‬الشاعرة‭ ‬صورة‭ ‬المرأة‭ ‬المضطهدة،‭ ‬الملقاة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬بلا‭ ‬رحمة،‭ ‬والتي‭ ‬يغتالها‭ ‬المرض‭ ‬والتشرد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يأبه‭ ‬بها‭ ‬أحد،‭ ‬وكذا‭ ‬تناولت‭ ‬قضية‭ ‬استلابها‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬أخرى‭ ‬منها‭ ‬‮«‬مرثية‭ ‬امرأة‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها‮»‬،‭ ‬و«الراقصة‭ ‬المذبوحة‮»‬‭ ‬معلنة‭ ‬عن‭ ‬إدانتها‭ ‬لمجتمع‭ ‬لا‭ ‬يحفل‭ ‬بإنسانية‭ ‬المرأة‭ ‬ولا‭ ‬يوفر‭ ‬لها‭ ‬الحاجات‭ ‬الأساسية‭ ‬لحياة‭ ‬كريمة،‭ ‬وهذه‭ ‬كلها‭ ‬صرخات‭ ‬نسوية‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬التحيز‭ ‬ضد‭ ‬النساء‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تكتف‭ ‬بمواجهته‭ ‬شعرا‭ ‬رافضا،‭ ‬بل‭ ‬دونته‭ ‬في‭ ‬مقالاتها‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬مضامين‭ ‬اجتماعية‭ ‬في‭ ‬كتابها‭. ‬‮«‬التجزيئية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العربي‮»‬‭. ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬العلم‭ ‬للملايين،‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1974،‭ ‬والذي‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬سلبيات‭ ‬تنخر‭ ‬في‭ ‬جسد‭ ‬مجتمعنا‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬إقصاء‭ ‬طاقة‭ ‬المرأة‭ ‬عن‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الحياة،‭ ‬والهجوم‭ ‬على‭ ‬التقاليد‭ ‬التي‭ ‬تعيق‭ ‬مسيرتها‭ ‬في‭ ‬مقالات‭ ‬تضمنها‭ ‬الكتاب‭ ‬منها‭ ‬‮«‬المرأة‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬السلبية‭ ‬والأخلاق‮»‬‭ ‬و«مآخذ‭ ‬اجتماعية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‮»‬‭.‬

‭ ‬ولم‭ ‬تقتصر‭ ‬نازك‭ ‬على‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬المرأة،‭ ‬لأن‭ ‬وعيها‭ ‬أوسع‭ ‬مدى‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬كونها‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬قضية‭ ‬المرأة‭ ‬ليست‭ ‬قضية‭ ‬شريحة‭ ‬منعزلة‭ ‬عن‭ ‬حركة‭ ‬المجتمع‭ ‬الكلية،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬قضية‭ ‬سياسية‭ ‬وطنية‭ ‬قومية‭ ‬إنسانية‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى،‭ ‬ولذلك‭ ‬نجدها‭ ‬تتناول‭ ‬قضايا‭ ‬سياسية‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬شعرها‭ ‬وتُبدي‭ ‬فيها‭ ‬آراء‭ ‬واضحة،‭ ‬كقضايا‭ ‬استغلال‭ ‬الإنسان‭ ‬والجوع‭ ‬والتشرد‭ ‬والفقدان،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬ينعم‭ ‬مستغلوه‭ ‬بالرفاه‭ ‬والنعيم،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬أعلنت‭ ‬مساندتها‭ ‬شعرا‭ ‬ونقدا‭ ‬لثورات‭ ‬الشعوب‭ ‬العادلة‭ ‬والوحدة‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى‭ ‬ونددت‭ ‬بالعدوان‭ ‬الاستعماري‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الجزائر‭ ‬وفلسطين‭ ‬ولبنان،‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭ ‬مشاعرها‭ ‬وخبرتها‭ ‬النسوية‭ ‬ورأيها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬دون‭ ‬تردد‭ ‬أو‭ ‬وجل‭. ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الإنساني‭ ‬والتأمل‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬والمصير،‭ ‬كانت‭ ‬لنازك‭ ‬وقفات‭ ‬مهمة‭ ‬جدا‭ ‬تجلت‭ ‬في‭ ‬تساؤلاتها‭ ‬شعرا‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬وجود‭ ‬الإنسان،‭ ‬وعن‭ ‬الفناء‭ ‬والقضاء‭ ‬والقدر‭ ‬والعدم‭ ‬وتقلبات‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والمصائر،‭ ‬وأسرار‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الأنثوي‭ ‬والمشاعر‭ ‬الخاصة‭ ‬كانت‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬مبدعة‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬حرمان‭ ‬المرأة‭ ‬الشامل،‭ ‬مؤكدة‭ ‬مقولة‭ ‬النسوية‭ ‬في‭ ‬كون‭ ‬المرأة‭ ‬تعاني‭ ‬الإهمال‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬حياتها‭ ‬الشخصية‭ ‬والعامة،‭ ‬قارئين‭ ‬وراء‭ ‬سطور‭ ‬حزنها‭ ‬أن‭ ‬الحب‭ ‬والاهتمام‭ ‬الممنوحين‭ ‬للأنثى‭ ‬لا‭ ‬يكفيان‭ ‬حاجتها‭ ‬التواقة‭ ‬ولا‭ ‬يطفئان‭ ‬أشواقها‭ ‬المتوهجة،‭ ‬ولاسيما‭ ‬وأن‭ ‬المرأة‭ ‬تحب‭ ‬وتمنح‭ ‬بلا‭ ‬حدود،‭ ‬فكانت‭ ‬قصائدها‭ ‬عارمة‭ ‬بالحلم‭ ‬والحزن‭ ‬والحيرة‭ ‬والرعب‭ ‬من‭ ‬انطفاء‭ ‬المنى‭:‬

أهكذا‭ ‬داستْ‭ ‬علينا‭ ‬الحياةْ

لم‭ ‬تُبقِ‭ ‬منا‭ ‬صدى

لم‭ ‬تبقِ‭ ‬إلا‭ ‬الندمَ‭ ‬الأسودا

وصوتَ‭: ‬واخيبتاه‭ .