نازك الملائكة والريادة النسوية
يعرِّف سايمون بلاكبيرن الفيلسوف الإنجليزي المذهب النسوي، بأنه منهج دراسة الحياة الاجتماعية والفلسفة وعلم الأخلاق، من خلال العمل على تصحيح انحرافات التحيز التي تؤدي إلى إحلال المرأة مكانة المهمش والتابع الثانوي، وإلى الحط من قيمة الخبرة الخاصة بالنساء واستصغار تجاربهن، ومن ثم فإن علم الأخلاق النسوي الحديث يركز على ضرورة مقاومة الانحياز للرجل مسلطا الأضواء على فكره وتجاربه وطروحاته، كاشفا عن رؤاه في الدراسات والنظريات الفلسفية وعن خبراته المتوارثة جيلا بعد جيل, كما يؤكد محمد عناني.
فالنسوية حركة تعددت مرجعيتها، لكنها اتفقت على ضرورة الدفاع عن حقوق المرأة ورفض الاضطهاد الذي لحق بها عبر التاريخ من خلال الحرمان الذي عانته في ميادين الحياة كافة، تعليما وعملا واستقلالا اقتصاديا، وتعتيما على مواهبها وقدراتها من خلال حجرها في البيت, وحجبها عن فضاء الحياة الخارجي، وما يموج فيه من تجارب خلاقة، ومنعها من المشاركة في صنع القرار الشخصي والسياسي، فضلا عن اقتصار الرؤى الإنسانية وخبرات الحياة على الانفراد برؤية الرجل وقواه الذكورية واعتماد منهجه الأبوي منفردا ومهيمنا في توجيه العلم وكتابة التاريخ وتفسير الأديان، وتدعو هذه الحركة إلى الاهتمام بتصورات المرأة وبقيمة خبراتها ورؤاها في جوانب الحياة كافة، لأن الكتابة الذكورية لم تسع إلى الكشف عن الاستغلال الموجه ضدها ولا دانت سيطرة الرجل عليها, وغبنها في ميادين العمل وفي إهمال إبداعها الأدبي والفنون التي أنتجتها. ما يعني أنهم أهملوا طاقة نصف المجتمع البشري، فالحركة النسوية من معطيات مرحلة ما بعد الحداثة التي كانت نتاج التطورات التي مر بها المجتمع الغربي وصيرورته الثقافية، انطلقت من تطور منظمات وحركات الدعوة لتحرير المرأة التي بدأت بالحراك قبل زمن طويل، فقضية الاضطهاد والحرية لم يكونا غائبين كلياً عن ذهن النساء، بل كانا كامنين كمونا متأهباً بمرور الزمن لشرارة اليقظة. وما شدة الحماس الذي قوبلت به هذه الحركة في النصف الثاني من القرن الماضي إلا تأكيداً لهذا الرأي المدعوم بأمثلة واقعية في عموم أقطار الدنيا. ولم يكن الوطن العربي والعراق ونساؤهما في منأى عن هذا التطور التنويري، فقد هبت النساء, وكذا حَمَلة الفكر التقدمي من الرجال في مصر والعراق واليمن والمغرب العربي وباقي أقطار العرب بالدعوة إلى ضرورة توفير الفرص لتحرير المرأة من الجهل أولا، وتوفير فرص العمل لها ليتسنى دخولها إلى مجالات الحياة الأخرى، وكان لهذه الهبة نماذج نسوية في ميدان الكتابة التي تعد أخطر تعبير عن الهوية، وأهم تحقق للوجود، وأقدر على الكشف عن كوامن الذات والمواقف، فكانت الشاعرة عائشة التيمورية في مصر أولًا، ثمّ نازك الملائكة في العراق، وفدوى طوقان في فلسطين علامات دالة تمكنت من تسجيل حضور مميز في ميدان الشعر والأدب عن غيرهن من الرائدات. لكن حضور الشاعرة الرائدة نازك الملائكة ظل وسيظل الأكثر تميزا في الميدان، لما حُبيت به هذه السيدة من وعي وشجاعة ومواهب وقدرات هيأتها للريادة الحداثية في أكثر من ميدان، فالحداثة الشعرية التي نهضت بها مع مجموعة من زملائها بالانعطافة المهمة التي أحدثوها في الشعر العربي المعاصر من العمود إلى التفعيلة في جانبي الإيقاع البصري والرؤيا لم تكن لتحدث من فراغ، فالحداثة مفهوم كلي لا يمكن تجزئته، ولذلك سيحيلنا التأمل في حياة نازك الملائكة على تأكيد هذه المقولة، فنازك كانت من صغرها منهمكة في قراءة الشعر وعلوم اللغة العربية، ومن الأوائل اللواتي واصلن التعليم الجامعي المختلط، فقد دخلت دار المعلمين العالية عام 1940، إذ لم يكن للمرأة فضاء متاح غير البيت، ودخلته سافرة دون حجاب، وهذا خرقٌ آخر للسائد والأعراف الراسخة، تكتب الشعر وتسهم في إنشاده بمحافل الجامعة إلى جانب زملائها الشباب، وقد دفعها حبها للعلم والفن إلى ارتياد مجالات أخرى كالموسيقى والتمثيل والضرب على العود، وذلك ما طالبت به النسوة من أهمية إقبال المرأة على تحقيق الذات، وأكدت عليه بوصفه حقا للمرأة وليس منحة لها، ثم السفر إلى الولايات المتحدة لإكمال دراستها، صانعة قراراتها الذاتية برؤيتها ورؤى عائلتها المتنورة في وقت كانت فيه كل هذه الأمور غريبة على الجو الاجتماعي والثقافي الذي تحكمه الهيمنة الذكورية، ومنظومات قيم لا تؤمن إلا بمقولة واحدة هي قصور المرأة عقلا ودينا. ولذا فليس من حقها أن تسهم مع الرجل في صنع أي قرار، فكيف وهذه القرارات التي شكلتها نازك رؤية وسلوكا، والتي تلامس قضايا في صميم الموروث وسلطة الأعراف المتجذرة في الحياة الاجتماعية والمعرفية معا وتدحضها، وتطرح وتسلك بثقة باذخة ما يخرق أصولها الحاجبة والمعيقة، فهي فضلا عن كتابتها قصيدة الكوليرا, أول قصيدة تفعيلة نُشرت قبيل قصيدة السياب بفترة، فقد كانت لها الريادة التامة في مجال التنظير لأهمية الخروج على عمود الخليل بتراتبية أبياته وأشطره إلى الارتكاز على التفعيلة والأسطر والتحرر من الالتزام بقافية واحدة تُفرض على القصيدة بكاملها، في مقدمتها الرائدة لديوان «شظايا ورماد»، حيث افتتحت المقدمة بمقولة برنارد شو المهمة «اللا قاعدة هي القاعدة الذهبية»، مما فتح للشعر باب التحرر من ركوده الذي دام طويلا، معللة ذلك بكون الشعر وليد أحداث الحياة، ولا يمكن سجن الحياة ووليدها بأنماط ثابتة. إن الطروحات النقدية التي دونتها نازك في مقدمتها نالت لأهميتها دراسة الكثير من النقاد والباحثين، لأنها استندت إلى وعي عميق بالأدبين العربي والغربي، ووعي بنقدهما كذلك، كما آزرها في خطورة ما طرحت دقة علمها بعروض الشعر العربي وبطاقاته الكامنة، وبما مدَّتها به خبرتها في كتابة الشعر، محققة هدف الحركة النسوية في أهمية خبرة النساء، وما يمكن أن تضيفه للمعرفة الإنسانية من غنىً وثراء.
ولابد من التأكيد هنا أن دعم الأسرة الواعية المتعلمة، والمحبة للشعر والأدب، كان له الدور الساند لوعي الفتاة الحاد وجرأتها في مقاومة سلبيات واقعها المتخلف بكل الطرائق الممكنة، وفي تصميمها على العمل من أجل التغيير، أب مدرس وأم شاعرة لها ديوان مطبوع هي أم نزار وأخوال ينظمون الشعر وشقيقات محبات للأدب. كل ذلك دفع الفتاة الشابة إلى الاستجابة لوهج يطلع من صميم روحها التائقة نحو حياة أكثر سموا وبهاء من السجن الذي كان لا يلفُّ النساء من حولها فحسب، بل يخيّمُ على المجتمع بسكونية تحجب عنه نور المعرفة والعلم والتقدم، فلا يرى أو يدرك ما وصل إليه العالم المتحضر من منظومات قيم تمجِّد جوهر الإنسان وتؤَمِّنُ حقوقه، ومن ثورة تحررية نقلت حياته نقلة نوعية، فأطلقت شعرها ثورة عاتية على السكون والركود والموت في الحياة:
لا أريد العيش في وادي العبيدْ
بين أمواتٍ وان لم يدفنوا
جثثٌ ترسفُ في أسر القيود
وتماثيلُ احتوتها الأعينُ
أبدا أُسمعهم عذبَ نشيدي
وهمُ نومٌ عميقٌ محزنُ
إنها ترفض، ورفض الواقع بوعي جديد كان أول طريق النسوية للعمل على تغييره، ودحض القيم التي أرست جذوره من حقب قديمة، جاء أرسطو فدونها لتصير دستورا يُعلي قوة الذكورة وهيمنتها، ويجعل كل ما يخص المرأة دونيًا ليس بذي شأن. إن نازك تدعو المتلقي في هذه الثورة لقراءة ما وراء سطورها، فوراء السطور يكمن ظلم وطغاة، استعبدوا الإنسان وأذلوا كرامة روحه، ووراء الأموات مجرمون قتلوهم، وهي تُدين صانعي القيود الذين أوثقوا القيد على معصم الإنسان، وشلوا حركة يده رمز الفاعلية والبناء والعطاء، وتنتقل إلى واقع المرأة لترفضه رفضا يكشف عن عوراته، ويدون الخطيئات التي لحقت به من قبل، رجل يحقُّ له أن يفعل كل الموبقات دون محاسبة أحد، لكنه يقتل المرأة ويمرِّغها بدمها لأبسط شائعة أو تهمة تلحقها دون بحث عن الحقيقة، فهي تكشف عن جريمة ما يُدعى بغسل العار بقصيدة جريئة في حينها تحمل هذا العنوان المباشر، تأكيدا على مقصدية الدلالة التي تريد ترسيخها، من كون الأعراف لم تكن تتعامل مع المرأة وجودًا إنسانيا كما أقرَّ القرآن الكريم، بل هي ملك تابع للرجل، يسجنها، يضربها، يقتلها وقتما يشاء دون عقاب من أي سلطة، ولذا يعلو صوت المرأة محتجا بسخرية طافحة بالألم من تسلط الرجل على حياة المرأة ورصدها، بينما يتمرغ هو مبتهجا في أحضان الرذيلة.
يا جاراتِ الحارةِ، يا فتياتِ القرية
الخبز سنعجنه بدموع مآقينا
سنقص جدائلنا وسنسلخ أيدينا
لتظلَّ ثيابهمُ بيضَ اللون نقية
لا بسمةَ، لا فرحةَ، لا لفتة فالمدية
ترقبنا في قبضة والدنا وأخينا
وغدا من يدري أي قفارْ
ستوارينا غسلا. للعارْ
وفي قصيدة «النائمة في الشارع» تقدم الشاعرة صورة المرأة المضطهدة، الملقاة في الشارع بلا رحمة، والتي يغتالها المرض والتشرد دون أن يأبه بها أحد، وكذا تناولت قضية استلابها في قصائد أخرى منها «مرثية امرأة لا قيمة لها»، و«الراقصة المذبوحة» معلنة عن إدانتها لمجتمع لا يحفل بإنسانية المرأة ولا يوفر لها الحاجات الأساسية لحياة كريمة، وهذه كلها صرخات نسوية في وجه التحيز ضد النساء الذي لم تكتف بمواجهته شعرا رافضا، بل دونته في مقالاتها التي حملت مضامين اجتماعية في كتابها. «التجزيئية في المجتمع العربي». الصادر عن دار العلم للملايين، في العام 1974، والذي كشف عن سلبيات تنخر في جسد مجتمعنا وفي مقدمتها إقصاء طاقة المرأة عن المشاركة في بناء الحياة، والهجوم على التقاليد التي تعيق مسيرتها في مقالات تضمنها الكتاب منها «المرأة بين الطرفين السلبية والأخلاق» و«مآخذ اجتماعية في حياة المرأة العربية».
ولم تقتصر نازك على الدفاع عن قضية المرأة، لأن وعيها أوسع مدى من ذلك، فضلا عن كونها تدرك أن قضية المرأة ليست قضية شريحة منعزلة عن حركة المجتمع الكلية، بل هي قضية سياسية وطنية قومية إنسانية من الدرجة الأولى، ولذلك نجدها تتناول قضايا سياسية كبرى في شعرها وتُبدي فيها آراء واضحة، كقضايا استغلال الإنسان والجوع والتشرد والفقدان، في حين ينعم مستغلوه بالرفاه والنعيم، كما أنها أعلنت مساندتها شعرا ونقدا لثورات الشعوب العادلة والوحدة العربية الكبرى ونددت بالعدوان الاستعماري على الشعب العربي في الجزائر وفلسطين ولبنان، كاشفة عن مشاعرها وخبرتها النسوية ورأيها في كل ما يحدث من حولها دون تردد أو وجل. وعلى المستوى الإنساني والتأمل في الوجود والمصير، كانت لنازك وقفات مهمة جدا تجلت في تساؤلاتها شعرا عن سر وجود الإنسان، وعن الفناء والقضاء والقدر والعدم وتقلبات الأحاسيس والمصائر، وأسرار الطبيعة، وعلى المستوى الأنثوي والمشاعر الخاصة كانت نازك الملائكة مبدعة في التعبير عن حرمان المرأة الشامل، مؤكدة مقولة النسوية في كون المرأة تعاني الإهمال في مجالات حياتها الشخصية والعامة، قارئين وراء سطور حزنها أن الحب والاهتمام الممنوحين للأنثى لا يكفيان حاجتها التواقة ولا يطفئان أشواقها المتوهجة، ولاسيما وأن المرأة تحب وتمنح بلا حدود، فكانت قصائدها عارمة بالحلم والحزن والحيرة والرعب من انطفاء المنى:
أهكذا داستْ علينا الحياةْ
لم تُبقِ منا صدى
لم تبقِ إلا الندمَ الأسودا
وصوتَ: واخيبتاه .