ما صنعته نازك الملائكة ... محايثًا لتجربتها الشعرية
عرفت نازك الملائكة بالشعر، وتحديدًا بالشعر الحديث الموصوف - في خطأ شائع - بأنه «الشعر الحر»، واشتبك حضورها مع أمر الريادة فيه، فقدمت على سواها في تاريخيتها، وأخرت عن السياب، حين يكون الأمر مرهونًا بخصوبة تلك الريادة وتواصل منجزها والتمسك بروح التجديد ووعيه حتى أشواط متقدمة فيها، والتأثير وخلق مريدين وأتباع. وفي ذلك الكثير الذي لم يكن لنازك الملائكة نصيب منه كله أو معظمه، ولاسيما حين يكون الأمر عند تناول ريادة السياب مقارنة بها.
وإذ تغيب تجربة نازك الملائكة الشعرية عن التأثير الفاعل في المشهد الجمالي الراهن - حين تقارن بتجارب سواها من الرواد - فإن في حقول معرفية متعددة ما يمكن لنازك -حين إبراز جهدها فيها - أن يستتب لها حضور ثقافي متوهج في عطائه، ومعلن عن محتوى من المثاقفة الخصيبة التي لا يكون قولًا مدعى حين نرى أن شاعرية نازك - المتداولة جهدًا أساسًا لحضور شخصيتها - لم تغيّب ذلك الحضور، ولم تتركه في الظل من تناول جهودها المعرفية فحسب، بل لقد أضرت بشخصية نازك الثقافية، وحددت لها. في بعدها الذي نتلقاه. مساحة مبتسرة لا تتجاوزها وحجمتها إلى ما دون الذي هي عليه حقًا من وعي واهتمامات ثقافية ومنجز معرفي يعلن عن إمكانات فكرية متعددة المآلات ومتسعة الاشتغال.
ولنعد لتأمل المسألة من بعدها المشخص في تجربة نازك الشعرية مرة أخرى، إذ لا يكاد يختلف أحد من حيث المبدأ على أن نازك شاعرة مجددة، وأن تجربتها الشعرية تنضوي في التداول التاريخي الذي تحقق للشعرية العربية المعاصرة أن تدلفه، وتعلن عن مثاله الجديد.
ولكن السؤال المهم الذي يحتاج إلى جرأة موضوعية في طرحه، وجرأة أكثر من موضوعية في تبني الإجابة الصريحة عنه هو: هل يمكننا أن نتحدث عن منجز نازك الملائكة الشعري أبعد من «مسألة الريادة» وأسس التجديد التي قامت عليها؟
إن الإجابة عن ذلك تستوجب تقصي ما تحقق لنازك من حصة - في الإنجاز وسماته، فضلًا عن تاريخيته - وهو ما يستدعي تأشير متحقق نازك الشعري وتجليات حضوره، والمساحة التي تجري استعادته فيها.
لعل أول ما سيند الحديث عن نازك فيه هو أمر الريادة. التي أشرنا إليها. وقلنا عنها إنها الريادة في بعدها التاريخي. تلك التي لم تحسم لها بإجماع. وما يحسب لها منها أنها عززت تجربتها في التجديد بوعي تنظيري مبكر راحت تبشر به ومن خلاله. ولكنها لم تواصل المسعى، بل تجافت عن كثير من طروحاتها فيه، ليصار الأمر إلى مراجعة تجديدها الشعري، فيؤشر عليها نقضها لوعيها الذي انطلقت منه في الوجهة التجديدية، والقول بنكوصها عنه، وتبنيها لمواقف تقنينية راحت تحاكم باشتراطاتها ذلك التجديد وتسحب عنه كثيرًا من قناعاتها فيه،. فلما وقفت - والقول لبنت الشاطئ - لم ترد لزملائها أن يستمروا في محاولات التنمية، وكتبت كتابًا نقديًا حاولت فيه أن تفرض عليهم من القواعد ما يلزمهم بالثبات على ما وصل إليه جهدها الشخصي، ويحرّم عليهم أن يزيدوا عليه انطلاقًا، واحتجت لمحاولتها هذه بحجج غريبة، لو طبقناها لرفضنا جهدها نفسه «(د. جلال الخياط، الشعر العراقي الحديث. مرحلة وتطور، ص168. وينظر مصدره).
أما حين يصير أمر التناول إلى حيث متحقق نازك الشعري بسماته الفكرية والجمالية، فلعل ما تجمع عليه الدراسات التي قرأته أنه قد تميز بانغلاقه على خصوصيات له، لا يكاد يغادرها حتى يعود ليجد طمأنينته الأدائية فيها. فما يهيمن عليه جملة من الانشغالات الشعرية المغرقة في الذاتية، وبما انتهجت فيه - ومنذ دواوينها الثلاثة الأولى، ولم تنأ عنه في الغالب على دواوينها اللاحقة - مسارًا من التخير الشعري صار دالًا عليها وحدها «قوامه - طبقًا لقراءة الدكتور جلال الخياط - اليأس والألم، واستعادة الماضي وإثارة ذكرياته والبحث عن حرية لا تجد لها تفتحًا إلا في الشعر». (المصدر نفسه، ص 166).
وجود ثقافي
يستجلي انتزاع الوجود الثقافي لنازك الملائكة خارج تجربتها الشعرية وجوها مهمة وجديرة بالتناول في شخصيتها، تنعكس من خلالها مساحة الوعي الثقافي، والنزوع المعرفي الناضج الذي تهيأت لها مراميه ومقدراته، وذلك كله ما تكشفه المراجعة المتمعنة في ما تهيأ لنازك من أسباب الثقافة، وأعلنت عنها في تناولات قرائية قدمتها عبر دراسات وأبحاث وكتابات ومواقف تشهد لشخصيتها - بوصفها ذاتًا مثقفة - بعلو الإمكانات والتوافر المعرفي والعطاء الذي يستشرف مناطق لم تكن مأهولة كتابيًا في المرحلة التي كانت نازك الملائكة تتداولها فيها. ولعل ذلك كله ما يؤكد لدينا اليقين بأن تجربتها الشعرية لا تعكس سمات شخصيتها في أبعادها الثقافية كلها، ولا مؤهلات خطابها وما تحقق له من مجادلات معرفية رصينة. فهي لم تستجب تمامًا لما تهيأ لصاحبتها من تشكيل وعي، وتمثل لتخير قرائي جاد، وتأمل لكثير من الظواهر الثقافية، وإبداء الرؤية الناضجة في تأملها واستنطاق قيمها.
لقد توافرت لنازك الملائكة بيئة عائلية تكرس للثقافة وأسبابها جانبًا من اهتمامها، لتواصل هي ذاتها - لاحقًا- دأبها فيها، عبر الانهماك المعرفي الحصيف والمثاقفة العالية التي لاحقت أسبابها من مصادر عدة، فيها ما كان تواصلًا حقيقيًا مع التراث العربي والإنساني، وفيها ما نهل من ثقافة العصر بسبلها الحديثة. وهي لم تنقطع في ذلك إلى الثقافة المكتوبة، أو الاكتفاء بالجانب الأدبي منها. لقد عمقت ثقافتها اللغوية عبر مسعى تعلم أكثر من لغة غربية (اللغة الإنجليزية - الفرنسية - اللاتينية)، مثلما اهتمت بالفنون الجميلة فدرست الموسيقى، كما دخلت فرع التمثيل في معهد الفنون الجميلة ببغداد. ثم واصلت دراستها الأكاديمية خارج العراق، فذهبت إلى أمريكا لتدرس «الأدب المقارن» هناك، تلك الدراسة التي قالت عنها في مذكراتها إن ثقافتها قد تضاعفت بها عشر مرات (انظر مجموعتها القصصية: الشمس التي وراء القمة، ص8). وحين عادت إلى العراق انضوت في السلك الأكاديمي، فمارست التدريس الجامعي الذي عززت فيه قدراتها المعرفية والفكرية، وبما شرع أمامها آفاق البحث والتدارس والعمق المنهجي الذي سيتجلى في مؤلفاتها النقدية والثقافية التي عالجت فيها الأدب بفنونه والمسرح وقدمت جهدًا رائدًا في الدراسات الثقافية، ما يؤهلها لأن تكون من رواد النقد الثقافي العربي بامتياز.
وهكذا تكاملت أبعاد نضج معرفي ورؤيوي متميز لشخصية نازك، تؤشر جانبًا كبيرًا منه «حدة وعيها بما حولها، وتشربها عوامل القوة في بيئتها الاجتماعية والثقافية، تلك البيئة المغلقة، لكنها الأكثر تأثيرًا في صياغة وعيها النقدي التساؤلي الذي منحها مجالًا سريًا لأن تراقب وتتلصص وتغامر. وهذا ما أسهم أيضًا لأن تذهب بعيدًا في تعرُّفها على بيئات لغوية أخرى ... وقراءتها لمتون الأدب الإنجليزي وتجاربه القديمة والمحدثة» (علي الفواز، الشعرية العراقية - أسئلة ومقترحات للقراءة، ص113).
ثلاثة مقتربات
يمكن لنا أن نؤشر منجز نازك الملائكة غير الشعري وتجليات خطابها من خلاله في ثلاثة مقتربات من التداول، نقف عندها بإيجاز، آملين أن نقاربها - في قراءة لاحقة - بتفصيل هي جديرة به، وتتمثل في:
أولًا: أعمالها السردية - متمثلة في مجموعتها القصصية «الشمس التي وراء القمة» (القاهرة 1997). أشار الدكتور عبدالهادي محبوبة (زوج الشاعرة) في مقدمة تلك المجموعة إلى أن لنازك رواية عنوانها «ظل على القمر» لم نطلع عليها.
وربما سيكون من المعتاد قوله في مثل هكذا نشاط إبداعي محايث أن نازك، وحين وجدت الشعر غير كاف لاستيعاب كل قدراتها في الكتابة الإبداعية فقد سعت إلى استنبات شكل سردي لكتاباتها التي لم تكن بعيدة عن الإعلان عن قيم خطابها الثقافي ذاتها، ولاسيما حين نجد أن وجهة السرد لديها تأخذ - في الغالب عليها- شكلًا أقرب إلى السيرة الذاتية، وهو ما أشار إليه الدكتور عبدالهادي محبوبة في تقديمه لهذه المجموعة القصصية (ص7)، مؤكدًا أن وجهة الخطاب الذي نادت به الملائكة متجذر الحضور فيها: «فإن اهتمامات الأديبة وطموحاتها وأهدافها التي كتبت عنها ونظمت فيها، تكشف عن صاحبتها ... فإن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، والوحدة العربية، وحرية المواطن، ومقاومة الاستعمار بكل أشكاله الاقتصادية والثقافية والسياسية، وإنقاذ فلسطين من براثن الصهيونية العنصرية اللاإنسانية، وأمثالها، كل هذه لا تغيب عن ذهن صاحبة هذه المجموعة القصصية، ولكنها تتردد على ألسنة أشخاص ابتكرت أسماءهم. وكان للمرأة النصيب الأوفر بين تلك الأسماء».
ثانيًا: كتاباتها النقدية التي تمثلت في كتبها الثلاثة: «قضايا الشعر المعاصر»، (بيروت 1962م) و«الصومعة والشرفة الحمراء»، (القاهرة 1965م) و«سيكولوجية الشعر ومقالات أخرى»، (بغداد1993م) وما حملته من قراءات تنظيرية وأخرى تندرج في مجال النقد التطبيقي، وفيها تهيأ لنازك أن تقف عند جملة من القضايا التي ينهمك في معاينتها المشهد النقدي العربي المعاصر، لتقف عندها عبر وعيها وحساسيتها الخاصين، مثيرة في ما حولها كثيرًا من الكتابات والأسئلة وردود الأفعال، ولاسيما تلك التي ناوأتها، ووقفت بالضد منها، ولكنها لم تستطع إنكار ما لنازك من مقدرة على أن ترد آفاقًا جديدة ومثيرة أطلت من خلالها على ما سيطيل النقد العربي لاحقًا وقوفه عندها من مثل «التعاطي مع مفاهيم نظرية وفكرية في قراءة البنية الشعرية تلك التي قال عنها الدكتور صلاح فضل إنها كانت أول جهد بنيوي في النقد العربي». (الفواز، ص106، وينظر مصدره).
ثالثًا. كتاباتها الثقافية. متمثلة في مجموعة من دراساتها التي ضمها كتابها «التجزيئية في المجتمع العربي»، (بيروت 1974م) الذي لا يتردد قارئه في أن ينظر إليه بوصفه تجربة رائدة في التناولات الثقافية التي تندرج في آفاق النقد الثقافي وانشغالاته الراهنة التي قدمتها نازك بوعي متقدم عن مرحلتها.
لقد تبدت في هذا الكتاب جملة من الخصائص الدالة على النضج الحصيف في وعي نازك الملائكة ومنجزها الكتابي عبر فاعلية عميقة من التأمل، والتحليل الاجتماعي والنفسي للظواهر المرصودة وبمقدرة عالية من المصارحة والكشف، واستحضار للمقولات والوقائع، مدعومة بأفكار الآخرين وأسمائهم ومواقفهم، مبينة للعلل الفكرية والسلوكية وصورها في الواقع العربي بأبعاده كلها. وكان منطلقها الفكري في التناول نزعة عروبية متدفقة وتبنٍ للدعوات الجادة في تغيير الواقع الاجتماعي والثقافي في حياتنا الراهنة. أما عَنْونات المضامين وانشغالاتها فلعلها ذاتها التي تشخصت في قصصها القصيرة.
ومع تباعد تاريخ مقالات كتاب «التجزيئية ...» فإنها تقدم مشهدًا متكاملًا من الوعي المنظم الذي توافرت عليه شخصية نازك الثقافية، حتى أن تلك المقالات لتكمل بعضها البعض.
وكما في قصصها التي أعلنت عن انهماك بيّن بقضية المرأة، حتى ليجد القارئ - طبقًا لمقدمة تلك القصص - فيها «ثراء يصل بها إلى صف الأدب النسائي العالمي، إذ إنها تقدم وجهة نظر نسائية معاصرة» (ص16) فإن كتابها «التجزيئية...» أبدى ما لنازك من الاهتمام المبكر بالشؤون النسوية، وبما يؤهلها لأن تكون رائدة للدرس الثقافي النسوي ومشكلاته الاجتماعية والنفسية، فضلًا عن هويته الأدبية المؤشرة من خلال شخصية الكاتبة ووجهة الإبداع الأدبي المتمثلة فيها والناضحة في آنية كتاباتها.
وإذا كنا لا نستطيع أن نفي هذا الكتاب ما هو جدير به من التناول في حيز قراءتنا هذه، فلنا أن نقول إنه قد استوفى في مضامينه جملة من القراءات التي أثرت مساحة الوعي المعرفي والثقافي وعمق المعاينة والرصد الذكي لبعض كشوفات الواقع الإنساني والعربي، وصولًا إلى تأمل تفوهات البيئة الشعبية في معتقداتها وأشعارها وغنائها.
وعودة على بدء نقول: لقد أنجزت نازك الملائكة - ومنذ الخمسينيات - جملة من الممارسات الكتابية ذات الطبيعة المعرفية وبوعي ثقافي ناضج في مدركاته وتحسسه، وفي ذلك الجهد المتميز كله فإنها تدعونا اليوم - وبعد أكثر من نصف قرن - إلى أن نعيد تشكيل مشهد وجودها الثقافي، وألا نكتفي بقراءتها شاعرة فقط، لنصدر الأحكام عنها وفق ذلك وحده.