يوميات رمضانِيَّـة في نيودلهي

يوميات  رمضانِيَّـة  في نيودلهي

في‭ ‬نيودلهي‭, ‬رمضان‭ ‬ناسك‭ ‬زاهد‭ ‬مختبئ‭, ‬نادرا‭ ‬ما‭ ‬تسمع‭ ‬صوته‭ ‬يعلو‭ ‬بالأذان‭ ‬أو‭ ‬القرآن‭, ‬لن‭ ‬تتعثر‭ ‬بلافتات‭ ‬ترحيب‭ ‬بالشهر‭ ‬الكريم‭ ‬أو‭ ‬فوانيس‭ ‬معلقة،‭ ‬ولن‭ ‬تجد‭ ‬شوارع‭ ‬شبه‭ ‬فارغة‭ ‬وقت‭ ‬الإفطار‭ ‬أو‭ ‬مسحراتيا‭ ‬يفاجئك‭ ‬بأنه‭ ‬لايزال‭ ‬يحفظ‭ ‬اسمك‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كنت‭ ‬صغيرا‭ ‬ويناديك‭ ‬لتقوم‭ ‬وتتناول‭ ‬سحورك‭. ‬رمضان‭ ‬هنا‭ ‬صعب‭ ‬المنال‭ ‬لا‭ ‬يفترش‭ ‬الطرقات‭ ‬ولا‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بأغان‭ ‬تقليدية‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬رمضان‭ ‬جانا‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬لسه‭ ‬بدري‭ ‬بدري‮»‬‭, ‬لكن‭ ‬إحساس‭ ‬إيجاده‭ ‬لا‭ ‬يوصف‭, ‬فقط‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تذهب‭ ‬لـ«جاما‭ ‬مسجد‮»‬‭ (‬المسجد‭ ‬الجامع‭) ‬في‭ ‬دلهي‭ ‬القديمة‭ ‬وتقبل‭ ‬يد‭ ‬الشهر‭ ‬الكريم‭ ‬الذي‭ ‬اختبأ‭ ‬في‭ ‬زوايا‭ ‬المسجد،‭ ‬وتدعو‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬يعيدك‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬فرصة‭.‬

دلهي‭ ‬القديمة‭ ‬والطريق‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬جاما‭ ‬مسجد‮»‬

الرحلة‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬محطة‭ ‬مترو‭ ‬Chowndi‭ ‬chowk‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬تستغرق‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬دقائق‭ ‬وهي‭ ‬قصة‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭.‬

كلفت‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬محطة‭ ‬المترو‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬20‭ ‬روبية‭ ‬بالريكشا‭, ‬وهي‭ ‬عجلة‭ ‬مثبت‭ ‬إليها‭ ‬كرسي‭ ‬من‭ ‬الخلف‭. ‬بقيت‭ ‬ممسكة‭ ‬بذراعي‭ ‬الكرسي‭ ‬بإحكام‭ ‬طول‭ ‬الطريق‭ ‬الوعر‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬يرج‭ ‬أفكاري‭ ‬ويخلط‭ ‬مشاعري‭ ‬كزجاجة‭ ‬مياه‭ ‬غازية‭ ‬وأنا‭ ‬أنظر‭ ‬حولي‭ ‬وأفكر‭ ‬في‭ ‬الشهرين‭ ‬اللذين‭ ‬قضيتهما‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬حتى‭ ‬وقتها‭, ‬متسائلة‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬سأعتاد‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬هنا‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬أم‭ ‬لا‭.  ‬المكان‭ ‬يبدو‭ ‬وكأنه‭ ‬منسي‭, ‬المباني‭ ‬قديمة‭ ‬ومتهالكة‭ ‬ومحاطة‭ ‬بأسلاك‭ ‬وكأنها‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬على‭ ‬إعدام‭ ‬صعقا‭ ‬بالكهرباء‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬دلهي‭ ‬القديمة‭ ‬هي‭ ‬المكان‭ ‬المثالي‭ ‬الذي‭ ‬سيدلك‭ ‬عليه‭ ‬أغلب‭ ‬الهنود‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الأجهزة‭ ‬العصرية‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬كهربائية‭ ‬وكاميرات‭ ‬وهواتف‭ ‬نقالة‭ ‬بأرخص‭ ‬الأسعار‭.‬

بدأت‭ ‬مآذن‭ ‬وقباب‭ ‬‮«‬جاما‭ ‬مسجد‮»‬‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬كمارد‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬مصباح‭ ‬أنتظره‭ ‬ليحقق‭ ‬لي‭ ‬أمنية‭ ‬الشعور‭ ‬بلحظات‭ ‬رمضانية‭ ‬اشتاق‭ ‬قلبي‭ ‬إليها‭. ‬لحظات‭ ‬حاولت‭ ‬استحضارها‭ ‬في‭ ‬غرفتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬بإشعال‭ ‬البخور‭ ‬وقراءة‭ ‬القرآن‭ ‬وأشعار‭ ‬للرومي،‭ ‬ولكن‭ ‬الشهر‭ ‬الكريم‭ ‬أبي‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭.‬

أمام‭ ‬جاما‭ ‬مسجد‭ ‬افترش‭ ‬التجار‭ ‬الشارع‭ ‬ببضائعهم‭ ‬من‭ ‬سجاجيد‭ ‬للصلاة‭ ‬وملابس‭ ‬وآيات‭ ‬قرآنية‭ ‬وحلوى‭ ‬وتمر‭ ‬ومن‭ ‬كل‭ ‬الأسعار‭ ‬ومن‭ ‬كل‭ ‬بلد‭ ‬ينتج‭ ‬التمر‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬هنا‭ ‬المسلمون‭ ‬لهم‭ ‬وطن‭ ‬مصغر‭ ‬يشعرهم‭ ‬بالألفة‭ ‬والترابط‭ ‬في‭ ‬الشهر‭ ‬الكريم‭.‬

 

جاما‭ ‬مسجد

بني‭ ‬المسجد‭ ‬في‭ ‬1650‭-‬1658م‭ ‬على‭ ‬الطراز‭ ‬الموغالي‭  ‬بتكليف‭ ‬من‭ ‬الإمبراطور‭ ‬المغولي‭ ‬شاه‭ ‬جاهان،‭ ‬وهو‭ ‬أكبر‭ ‬وأشهر‭ ‬مسجد‭ ‬في‭ ‬الهند‭, ‬المسجد‭ ‬له‭ ‬عدة‭ ‬بوابات‭, ‬ويشير‭ ‬اسم‭ ‬جاما‭ ‬إلى‭ ‬صلاة‭ ‬الجمعة‭. ‬يحتوي‭ ‬المسجد‭ ‬على‭ ‬آثار‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬البوابة‭ ‬الشمالية،‭ ‬منها‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬مكتوبة‭ ‬على‭ ‬جلد‭ ‬الغزال‭. ‬يتوسط‭ ‬المسجد‭ ‬حوض‭ ‬كبير‭ ‬مُلئ‭ ‬بالماء‭ ‬خصص‭ ‬للوضوء‭, ‬لونه‭ ‬أسود‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬الظل‭ ‬أو‭ ‬الذنوب‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭. ‬التف‭ ‬الناس‭ ‬بأعداد‭ ‬وفيرة‭ ‬حوله‭ ‬وأخذوا‭ ‬يتوضأون‭ ‬رجالا‭ ‬ونساء‭ ‬مشمري‭ ‬الأكمام‭ ‬ومقرفصين‭.‬

لم‭ ‬أستطع‭ ‬الانخراط‭ ‬معهم‭, ‬ولكنني‭ ‬توضأت‭ ‬بنسمات‭ ‬مسجد‭ ‬جاما‭, ‬وغسلت‭ ‬روحي‭ ‬وعينيّ‭ ‬بابتسامات‭ ‬الفتيات‭ ‬الصغيرات‭ ‬ورق‭ ‬قلبي‭ ‬بجري‭ ‬الفتيان‭ ‬وراء‭ ‬أسراب‭ ‬الحمام‭ ‬التي‭ ‬امتلأ‭ ‬بها‭ ‬المسجد‭ ‬وارتسمت‭ ‬حول‭ ‬رأسي‭ ‬هالة‭ ‬لم‭ ‬تتركني‭ ‬حتى‭ ‬رحيلي‭ ‬عن‭ ‬المكان‭. ‬

 

دعوة‭ ‬على‭ ‬الإفطار

كنت‭ ‬أنوي‭ ‬الإفطار‭ ‬مع‭ ‬مسيرة‭ ‬تدعى‭ ‬Delhi Walks‭ ‬تقوم‭ ‬بجولة‭ ‬على‭ ‬مطاعم‭ ‬دلهي‭ ‬القديمة‭ ‬وأعدت‭ ‬برنامج‭ ‬مخصوصا‭ ‬في‭ ‬رمضان،‭ ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أقاوم‭ ‬دعوة‭ ‬الإفطار‭ ‬من‭ ‬فتاة‭ ‬هندية‭ ‬تعرفت‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬المسجد‭, ‬إفطار‭ ‬بسيط‭ ‬أقامته‭ ‬عائلتها‭ ‬مكون‭ ‬من‭ ‬فاكهة‭ ‬وحمص‭ ‬والمشروب‭ ‬الشهير‭ ‬‮«‬روح‭ ‬حافظة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬شراب‭ ‬الورد‭ ‬مع‭ ‬اللبن‭, ‬يقدم‭ ‬باردا‭ ‬ويشتهر‭ ‬تناوله‭ ‬على‭ ‬الإفطار‭ ‬في‭ ‬رمضان‭, ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬اسمه‭ ‬فهو‭ ‬غذاء‭ ‬للروح‭ ‬وإكسير‭ ‬لها‭ ‬يحميها‭ ‬ويمدها‭ ‬بالطاقة‭.‬

 

 

العيون‭ ‬المكحلة‭ ‬

‭ ‬حصون‭ ‬منيعة‭ ‬تلتف‭ ‬حول‭ ‬أعينهن‭ ‬ورموشها‭ ‬أسلحة‭ ‬تحيط‭ ‬بأسوارها‭. ‬جميل‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الكحل‭ ‬الذي‭ ‬أحاط‭ ‬بأعين‭ ‬الفتيات‭ ‬المسلمات‭ ‬اللاتي‭ ‬أفصحت‭ ‬لي‭ ‬إحداهن‭ ‬أنه‭ ‬صناعة‭ ‬منزلية‭ ‬بيد‭ ‬جدتها‭. ‬الزي‭ ‬التقليدي‭ ‬الهندي‭ ‬كاشف‭ ‬البطن‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬المسجد‭, ‬فمعظم‭ ‬الفتيات‭ ‬والسيدات‭ ‬يرتدين‭ ‬الكولتا‭ ‬والسروال‭ ‬الفضفاض‭ ‬ويغطين‭ ‬رؤوسهن‭.‬

بعضهن‭ ‬أكثر‭ ‬تشددا‭ ‬متشحات‭ ‬بالسواد‭ ‬مغطيات‭ ‬وجوههن‭, ‬مما‭ ‬يجعلنى‭ ‬أتهمهن‭ ‬أحيانا‭ ‬بخيانة‭ ‬روح‭ ‬الهند‭ ‬التي‭ ‬بهرتني‭ ‬ألوانها‭ ‬وانعكست‭ ‬على‭ ‬روحي‭ ‬عندما‭ ‬عدت‭ ‬لوطني‭. ‬

 

العودة

غابت‭ ‬الشمس‭ ‬خلف‭ ‬قباب‭ ‬جاما‭ ‬مسجد‭ ‬وتجلت‭ ‬الأضواء‭ ‬الصناعية‭ ‬الباهرة‭ ‬التي‭ ‬أحاطته‭ ‬كلآلئ‭ ‬صغيرة‭ ‬تلمع‭ ‬وتنذر‭ ‬بموعد‭ ‬رحيلي‭. ‬شققت‭ ‬طريقي‭ ‬بصعوبة‭ ‬وسط‭ ‬الأعداد‭ ‬الغفيرة‭ ‬التي‭ ‬ارتصت‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬والتي‭ ‬سيبقى‭ ‬معظمها‭ ‬حتى‭ ‬موعد‭ ‬السحور‭.‬

باب‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬جاما‭ ‬مسجد‭ ‬كان‭ ‬مدخلي‭ ‬لعالم‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬رأيته‭ ‬عند‭ ‬دخولي‭, ‬تأكدت‭ ‬من‭ ‬إحساسي‭ ‬عندما‭ ‬رأيت‭ ‬المباني‭ ‬المخيفة‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الرحلة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬بأعين‭ ‬جديدة‭ ‬وقد‭ ‬نفضت‭ ‬عنها‭ ‬الغبار‭, ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬أنا‭ ‬من‭ ‬نفضت‭ ‬عن‭ ‬عيني‭ ‬الغبار‭, ‬واستحالت‭ ‬بألوان‭ ‬الذهب‭ ‬وكسيت‭ ‬ببريق‭ ‬بعث‭ ‬الراحة‭ ‬والطمأنينة‭ ‬في‭ ‬قلبي‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬‮«‬تاج‭ ‬محل‮»‬‭ ‬منحي‭ ‬إياه‭. ‬

سيظل‭ ‬علــيك‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬أن‭ ‬تنفض‭ ‬الغبار‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الهند‭, ‬ستدخلك‭ ‬شوارع‭ ‬ضيقة‭, ‬غير‭ ‬مريحة‭, ‬ستهابها‭, ‬ستتمنى‭ ‬لو‭ ‬تعود‭ ‬أدراجك‭, ‬ستـــــشعر‭ ‬بالـــــسوء‭ ‬من‭ ‬كآبة‭ ‬المنظر‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬ينبثق‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬ينسيك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يعيد‭ ‬غربــــلة‭ ‬أحاسيسك‭ ‬ويعدك‭ ‬بذكرى‭ ‬لن‭ ‬تنسى‭ .