أنا و«كافكا على الشاطئ»

أنا و«كافكا على الشاطئ»

بدأت رحلتي مع «كافكا على الشاطئ» بخطوات ليست مريحة، إذ كلما دخلت إلى عالمه وجدتني أهرب إلى مكان آخر، راميا إياه على أحد رفوف ذاكرتي. كان مزعجًا، فقد أصر على ألا يترك عقلي يرتاح من التفكير به، حتى تمكن من إرغامي أخيرًا على الارتحال معه في عوالمه الفيزيقية والميتافيزيقية.

تعرفت على كافكا في ربيع 2009، ولا أعلم ما الذي جذبني إليه، لكنني وكعادتي يصعب عليَّ أن أعود من أي رحلة دون الحصول على صديق جديد، كان هو الصديق الوحيد الذي لفت نظري، لا أستطيع أن أغفل كم كان لاسمه وقع غرائبي عليَّ، حيث إني أول ما سمعته تذكرت الكاتب التشيكي رائد الكتابة الكابوسية فرانس كافكا.
لم يشترك صديقي الفتى كافكا ذو الخامسة عشرة مع الكاتب التشيكي في الاسم فقط، بل تشابهت تفاصيل حياتهما حد التطابق في بعض الأحيان.
فحياة فرانس كافكا كانت مليئة بالحزن والمعاناة، بما في ذلك علاقته بوالده. كان مثقفا حساسا وقع تحت حكم والد مستبد. تتضح هذه العلاقة في رسالته الطويلة المعنونة «رسالة لأب». الأمر الذي يبرز صورة خاصة في كتابه «الحكم»، حيث يقبل الشاب حكم الموت الذي أصدره عليه والده ويغرق. كان كافكا نباتيا يعاف أكل اللحوم، وهنالك من يربطون هذا بمهنة جده الذي كان جزارًا. كما عرف عنه أنه شخص يصعب عليه إتمام الأمور، وهذا تحديدًا ما منح كتابته سمتًا خاصًا، حيث كان يجد صعوبة في إنهاء إنتاجاته.
تعلقت كثيرًا بالفتى كافكا ورفاقه، بعد عناد كبير مني، لكي لا أدخل نفسي في وسط قصته المعقدة التي حاولت أن أتعايش معها لفترة وأتركها وأنساها. لكن عقلي لم يكن جاهزًا لهذه الحكاية. تركته وتجاهلته. ولم أعره أي اهتمام إلى أن حل علينا ربيع 2013. وجدته أمامي يناظرني بنظرات عتب.
اعترف لي كافكا باسمه الحقيقي الذي كان «تامورا». نسفت هذه المفاجأة مقارنتي له بالكاتب التشيكي فرانس كافكا. لكنه أكد لي أن اختياره لاسم كافكا لم يكن عبثيًا، بل لتشابه الكثير من أوجه حياتهما، هذا أولاً، ولبعض المصادفات التي حلت في حكايته، تاليًا.
حكى وحكى، تململت، أردت أن أتركه، لكن إحساسًا بالذنب انتابني، تركته يكمل، بعد مرور أسبوع أو عشرة أيام بدأت أتعلق به وبحكايته ورفاقه في الحكاية «كافكا على الشاطئ»، وراويها هاروكي موراكامي.
بأسلوب ولغة وتنويع في الزمن والحكايات الغرائبية أبدع هاروكي موراكامي في سرد روايته «كافكا على الشاطئ»، الرواية التي ما إن وصلت إلى حروفها الأخيرة حتى انتابني شعور طاغ من الكآبة والحزن، الذي بررته لي عبارة خرجت مني أول ما انتهيت من الرواية، وكانت العبارة «كم سأفتقد أبطال هذه الرواية».
هاروكي موراكامي الروائي الياباني المعاصر الذي سرق أنفاسي وإحساسي تجاه شخصياته التي كانت غامضة وغير منطقية، والذي رسم في روايته «كافكا على الشاطئ» ملحمة شاب قرر أن يكون أقوى فتى في الخامسة عشرة. لا أستطيع أن أخفيكم أن تجربتي مع هذه الرواية لم تكن سهلة بتاتا. فلقد رحلت معي من البحرين إلى الكويت إلى صربيا وإسطنبول. وتجاوزت علاقتي الزمنية بهذه الرواية وكاتبها ما يزيد على الأربع سنوات بين شد وجذب. وأعترف بأني لم أكن جاهزًا لدخول عالم هذه الرواية التي سحرتني بعد مرور 200 صفحة. وكأن كاتبها لا يفتح أبوابه لكل قارئ، بل يستهدف قراء من نوعية خاصة، قراء لهم قدرة على التحمل كبطل الرواية الذي أراد أن يكون الأقوى بين نظرائه في السن. وقد احتجت إلى طاقة كبيرة لدخول عوالمها. لا أنكر أيضا أنني لعنت كاتبها ومترجمها وحتى ناشرها، لكن اليوم، وبعد أن أتممت قراءتي للرواية أعترف بأنه لم تقع تحت يدي أي رواية تعلقني بها كهذه الرواية، حتى الروايات الأخرى لموراكامي التي لهثت وراءها لم تعطني الإحساس الذي أعطتني إياه رواية «كافكا على الشاطئ» الساحرة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
ربما يستغرب البعض، لماذا بدأت مقالي هذا بقصة صداقتي بكافكا، سوف أجيبكم بكل بساطة، ومن دون أي مبالغة بأن هذا إحساسي وعلاقتي بأبطال الرواية وخصوصًا «كافكا وناكاتا». كانت الرواية ومازالت على لساني في حديثي مع أصدقائي الذين تعلقوا بالأبطال مثلي. كنت أقرأ عليهم الرواية، أرويها لهم بطريقتي إذا كان الكتاب ليس بين يدي. حتى لا أخفيكم بأن بعض زملائي في العمل الذين لا تستهويهم القراءة، كانوا يتصلون بي بعد فترة العمل ليسألوني عن أحداث الرواية، كأن يتصل أحدهم ليسأل: «ماذا حدث لناكاتا؟»، «هل وصلت إلى ما يكشف أن كافكا هو من قتل والده؟». الحكاية والحبكة كانتا تشغلان كل من حولي. وأريد أن أعترف لكم بأني في فترة قراءة الرواية تحمَّل زملائي كل مهامي الوظيفية وكلفوني فقط بأن أروي الرواية لهم. صارت «كافكا على الشاطئ» باختصار حياتي.
عندما بحثت عن هاروكي موراكامي لأتعرف عليه أكثر، اكتشفت أنه حالة يابانية فريدة، أي رواية جديدة له تصبح في اليابان أولاً وفي العالم الغربي ثانيا، ظاهرة يتسابق على قراءتها القراء.
موراكامي تعتبر قراءته تجربة مسلية من الطراز الرفيع، إذ إنها في الوقت نفسه توسع آفاق الوعي بصورة مذهلة.. وتعد «كافكا على الشاطئ» بداية ممتازة لاستكشاف عالمه الذي هو عالمنا نفسه، إنما مع بعض المفاجآت الكبرى، كما جاء في «شيكاغو تريبيون» بقلم آلن شوز.
وفي صحيفة «ذي غلوب آند مايل» ذكر تشارلز فورن «إن مقدرة موراكامي على جعل القصة محيرة جذابة ومؤثرة إلى هذا الحد هي شهادة على عبقريته. وكما في أعماله الأخرى فإن جزءًا من الروعة يأتي من الإحساس بأن الكاتب لا يعرف إلى أين تمضي أحداث روايته، مثل القارئ تماما».
أما لورا ميلر فذكرت في «ذي نيويورك تايمز بوك ريفيو» أنه «بينما يستطيع أي كاتب أن يخبر قصة تشبه الحلم، وحده الفنان النادر، مثل موراكامي، يجعلنا نشعر بأننا نحلم هذه القصة بأنفسنا». ولم يذهب بعيدًا تيم آدامز من «ذي غارديان»، عندما قال إن «متعة أسلوب موراكامي السردي تكمن في أنك لا تعرف أبدًا أين تنتهي الأحلام ويبدأ الواقع. فموهبة موراكامي ترتكز على مقدرته على خلق مشهديات أقرب إلى الهلوسة، حيث كل ما يحدث له منطقه الخاص ويتمتع بالكثافة الإيروسية للفانتازيا».
حلم، واقع، فانتازيا، لا يدري أين تمضي به أحداث الرواية، «ما هي خلطتك السرية يا هاروكي موراكامي؟!»، سألتني. وجاوب صوت من رأسي «روائي كورقة بمهب الريح!». والمفاجأة التي «نرفزت» توقعاتي هي اكتشافي أن السيد موراكامي «لا يحلم». وبسبب هذه المشكلة التي واجهته منذ صغره قرر موراكامي أن يكتب أحلامه بنفسه.
وما اكتشفته أيضا أن عالم السيد موراكامي الفانتازي والحلمي ليس هو مصدر قوته الوحيد، بل بقوته التي تكمن في أسلوب روايته للحكاية، وخياله وقدرته على استدراج القارئ إلى عالمه الخيالي. فقراءته تحتاج إلى التزام ووعي فائقين. ما لاحظته أيضا أن له قدرة خيالية على إخراجك من العالم الذي يحيط بك. فكلما أمضيت وقتًا أكثر معه تشعر بنشوة غرائبية. ولأنني عادة ما أحول الروايات التي أقرأها إلى فيلم سينمائي في خيالي، إلا أن هذه الرواية صورها لي خيالي كفيلم من أفلام الرسوم المتحركة.. ربما بسبب العالم المختلف الذي تصوره.
أثارت رواية «كافكا على الشاطئ» سيلا من التعليقات والحوارات، وكان لافتا الجو الغرائبي، الميتافيزيقي، الفلسفي الذي يسود الرواية التي تدخل الموسيقى والأدب والفلسفة و«ألف ليلة وليلة» كهامش يبني أفكار المتن.

ومضات من الحكاية
هناك فتى في الخامسة عشرة من عمره  أطلق على نفسه اسم كافكا، بعد أن كان اسمه الحقيقي تامورا. استشار غرابه وهجر بيته ليفارق والده في يوم ميلاده الخامس عشر، غيَّر اسمه وتنقَّل إلى أماكن ومدن عدة بحثا عن مكان يستقر به لا يعرف فيه أحدًا ولا يتعرف عليه أحد. انتهى به المطاف إلى مكتبة أهلية صغيرة اشتغل فيها عاملا ومعاونا وقارئا. وبسبب عشق كافكا أو تامورا للقراءة وحرصه على الرياضة استطاع أن يتواءم مع حياته الجديدة، قامت صداقة بينه وبين أمين المكتبة (أوشيما)، الذي كان يظن أنه شاب، ولكنه اكتشف لاحقا أنه مزدوج الجنس، ولم يؤثر هذا الاكتشاف في علاقتهما بشيء.
يُقتل والد كافكا بأسلوب غريب وغامض، تبدأ الشرطة في البحث عن الابن الهارب، الذي لم يكن موجودًا وقت وقوع الجريمة، ربما يسهم في كشف لغز مقتل أبيه الذي كان نحاتًا مشهورًا، والذي تنبأ لابنه (تامورا - كافكا) بأنه سيتزوج أمه ويقتل أباه.
هل لهذا السبب قرر الفتى الهروب من منزله ولعنته وقدره؟!
نعلم أثناء الرواية أن للأب طقوسًا شاذة. فلقد كان الأب يصطاد القطط ويقتلها ويحتفظ برؤوسها في ثلاجة كبيرة، ليأخذ أرواحها بغية صناعة أطول ناي في العالم، يؤثر به في سامعيه.
تظهر منذ بداية الرواية شخصية العجوز ناكاتا ذي الذكاء المحدود الذي يعيش على معونة المحافظ، والذي يتحدث مع القطط ويفهم لغتها وإشاراتها، فتكلفه إحدى العائلات البحث عن قطتهم التي تغيبت عن البيت، فتبدأ رحلة البحث والحديث مع القطط، لنتعرف من خلال ذلك على منطق القطط التي تعتقد أنها تعرف كل شيء في هذا العالم، حتى يصل ناكاتا إلى بيت النحات.
وفي مشهد درامي، يستفز النحات (والد كافكا) العجوز ناكاتا فقتله، ليخلص العالم من شروره، وتعود القطة التائهة إلى حضن العائلة، وأمام توسلات النحات الغريبة يقوم ناكاتا بقتله، وفي اللحظة نفسها يجد الابن كافكا غائبا عن الوعي، وتوجد دماء على كتفه لا يتعرف على مصدرها.
لم يكن فقدان الوعي لكافكا هو الوحيد في الرواية، فقد ذكر فيها حكاية فقدان بعض الأطفال وعيهم أيام الحرب العالمية الثانية في اليابان، خلال رحلة في الغابات، حيث سجلت حالات فقدان وعي جماعي لبعض أطفال الرحلة لدقائق معيَّنة، أو تنويم مغناطيسي جماعي لهم، ثم عودة الوعي دون أن يعرف أحد شيئا عما حدث لهم، ودون أن يتذكر الأطفال أنفسهم ماذا جرى لهم أثناء تلك اللحظات، وكأن عقولهم وذاكرتهم شاشات بيضاء مرت على العقل أو الوعي، وهو ما لجأ إليه المؤلف من خلال عدة فصول صاغها بطريقة تسجيلية أو أرشيفية من سجلات التحقيقات التي نشطت خلال تلك الفترة لمعرفة الأسباب وراء هذا الحدث، فربما تكون من نتائج الحرب الأمريكية على اليابان.
طفل وحيد هو الذي استمر غيابه عن الوعي إلى شهور، وعندما عاد إليه وعيه كان قد فقد ذاكرته، وأصبح أقل ذكاء، وأميا لا يعرف القراءة والكتابة. هذا الطفل هو الذي سيصبح في الرواية في ما بعد «العجوز ناكاتا» قليل الذكاء، والذي اكتشف في نفسه القدرة على الحديث مع القطط، بعد أن عاد إليه وعيه الجزئي. المثير في الأمر أن المدرِّسة التي كانت تصاحب التلاميذ في رحلتهم الخلوية، كانت السبب وراء كل ما حدث للفتى ناكاتا، وأدى إلى إصابته بعاهة عقلية مستديمة، وأن هذه المدرِّسة كذبت في التحقيقات التي أجراها الجيش الأمريكي لمعرفة أسباب فقدان التلاميذ وعيهم أثناء الحرب العالمية الثانية، وتعددت التحقيقات ما بين غاز سام، ونباتات أو حشائش معينة في الغابة، أو تنويم مغناطيسي.. إلخ. تكشف المدرِّسة السبب بعد سنوات وسنوات من خلال رسالة خاصة لأحد الأطباء المشاركين في محاولة فك لغز انهيار التلاميذ وفقدان وعيهم للحظات، إلا الفتى ناكاتا، محاولة بذلك إراحة ضميرها وفك اللغز أو الشفرة أو السر الذي ظل سنوات يعذبها، وكأنها بذلك تفتح حجرة الأسرار المغلقة منذ سنوات، وتعطي تفسيرات وإجابات فشل العلم في الوصول إليها بعد كثير من الترجيحات.
يبحث العجوز ناكاتا، بعد أن يقتل النحات، عن حجرة ما ليفتحها، محاولا بذلك فك بعض الطلاسم والأسرار التي يدهش لها القارئ، مثل استطاعته في لحظات معينة أن يجعل السماء تمطر أسماكًا، وأن يتنبأ بحالة الطقس، وغير ذلك من أحوال لا يعرف أسبابها أو سر قوتها لديه.
ومن خلال صحبة ناكاتا لسائق شاب (هوشينو) الذي ترك كل شيء في حياته ليرتبط مصيره بمصير ناكاتا في أحد الفصول الأخيرة من الرواية، يصلان إلى المكتبة مصادفة بعد أن ظلا يبحثان عن مفتاح الحجرة لعدة أيام، ويدخل ناكاتا حجرة صاحبتها لنفاجأ أنها المدرِّسة وأنها تنتظره منذ سنوات.
ولكنها قبل أن تسلم روحها للموت تعطي العجوز ناكاتا مذكراتها وما دونته أثناء سنوات الانتظار، طالبة منه ألا يطلع عليها أحد، وأن يحرقها على الفور، وينفذ ناكاتا وصية المرأة، وسط اندهاش السائق هوشينو.
أخيرا، يذكر أن الطبعة الأولى للرواية في نسختها العربية صدرت عن دار «كلمة» والمركز الثقافي العربي في العام 2007 من ترجمة إيمان حرزالله.