وثيقة نادرة عن الحروب الصليبية... الرسوم الجدارية في قرية كريساك الفرنسية

وثيقة نادرة عن الحروب الصليبية... الرسوم الجدارية  في قرية كريساك الفرنسية

في جنوب غربي فرنسا في محافظة الشارانت، وفي منطقة لانغوميه، وبالتحديد في قرية كريساك Cressac، توجد كنيسة صغيرة بناها فرسان المعبد (الداوية) في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، تكريمًا لأحد أسياد المنطقة، الذي ساهم مع فرسان آخرين في الحملة الصليبية الثانية (1146-1149)، وزينها رسامون يحتمل أنهم شاركوا في تلك الحملة بعد عودتهم إلى بلادهم برسوم جدارية ملونة (فريسك)، تعد من أقدم الرسوم المعاصرة لتلك الحروب المقيتة، وهي  تشكل وثيقة تاريخية مهمة.

تتألف هذه الجدارية من شريطين يبلغ طول كل منهما ستة عشر مترًا، وهما يحتلان المساحة الفارغة من الجدار الجنوبي للكنيسة.
نرى في الشريط العلوي جماعة من فرسان الفرنجة يقودهم أسياد منطقة لانغوميه، وجماعة من فرسان المعبد الذين يحاربون إلى جانب زملائهم من فرسان المشفى (الاسبتارية)، وهم يخرجون من قلعة الحصن، قرب مدينة حمص، لملاقاة جيش نور الدين زنكي، ونتبين ذلك من ملابسهم وشعاراتهم، كما نشاهد في الخلفية جماعة من المحاربين يقفون خلف أسوار القلعة، يراقبون المعركة التي جرت في سهل البقيعة أسفل القلعة.
ووفقًا لتحليلات علماء الآثار والمؤرخين المختصين، فإن رسامي الجدارية أرادوا أن يمجدوا النصر الساحق الذي ألحقوا فيه هزيمة قاسية بالسلطان نور الدين بن محمود بن زنكي في عام 558هـ/1163م في المعركة المعروفة باسم معركة سهل البقيعة (boque)، وهي وثيقة نادرة واستثنائية كما يقول أولئك المحللون، لأنها من الرسوم الجدارية  القليلة التي تبين لنا أسلوب الفرنجة في القتال وصور فرسانهم وأسلحتهم وألبستهم، وهم ينحدرون من القلعة مسلحين برماح طويلة وعلى رأس كل واحد منهم خوذة معدنية عليها واقية أنف، وكانوا مسربلين بدروع من الزرد مع واقيات للعنق والساقين، وهم يحتمون بتروس متطاولة، ويرافقهم شاب يعزف على آلة تشبه الكمان لإثارة حماستهم.
أما في وسط المشهد فنرى فارسًا فرنجيًا يهاجم فارسًا من السراقنة (هكذا كان الفرنجة يسمون العرب والمسلمين)، ونعرف من لباسه العسكري والشعار المرسوم على ترسه أنه «جوفروا مارتل» شقيق كونت آنغوليم غليوم الرابع قطّاع الحديد (Fer-taille), الذي أشارت الجدارية إلى شجاعته وبطولته.
وعلى الرغم من التلف الذي أصاب بعض الرسوم,  فتمكن رؤية الاختلاف بين تجهيزات الفارس الفرنجي والفارس العربي، فهذا الأخير تحميه درقة صغيرة مستديرة ذات سرّة بارزة ومحدبة في وسطها، وسرجه مزود بمقبض  مدور، أما سرج خصمه الفرنجي الذي يقوم بمهاجمته فهو مرتفع من الخلف, ليسند ظهر الفارس في حميا المعركة.
 كما تمكن رؤية الفرسان العرب والمسلمين يفرون باتجاه مدينة ما، للاحتماء بأسوارها، وهذا ما تصوره الجدارية خلافًا للواقع، لأن الفرنجة بعد انتصارهم لم يجرؤوا على اللحاق بنور الدين، إما لقلة عددهم وإما لانشغالهم بجمع الغنائم والقبض على الأسرى، وإما خوفًا من كمين ينصب لهم، وإما لخوفهم من نور الدين وقد أقسم أمام قواده كما يقول المؤرخ أبوشامة (والله لا أستظل بجدار حتى آخذ بثأر الإسلام وثأري)، ذلك أن هذا البطل رفض نصائح بعض قواده باللجوء إلى قلعة حمص لنصب معسكره، كما يقول المؤرخ ابن الأثير، على بعد فرسخ من المدينة، قريبًا من بحيرة قادش (قطينة)، سادًا الطريق على هجوم محتمل لم يجرؤ المنتصرون على تنفيذه، ونجد التفاصيل الكاملة لهذه المعركة لدى المؤرخين العرب كابن الأثير وابن كثير وأبوشامة وغيرهم.
كان زنكي، ابن الأتابك أق سنقر، من أتباع سلاطين السلاجقة الكبار، وهو سيد الموصل وأرجاء أخرى من الجزيرة العليا، وبدأ زنكي، بعد والده حاكم حلب، معارك التحرير، بهدف إيقاف توسع أسياد الرها مؤسسي أول إمارة فرنجية في شمالي بلاد الشام والجزيرة، واستطاع أن يستعيد ثقة الجماهير الشعبية وتوج انتصاراته عام 1144م، وأخذ يهاجم الفرنجة في الشمال، حيث استعاد الرها للمرة الثانية وبدأ بمهاجمة إمارة أنطاكية النورماندية، وبهذا بدأ ميزان القوى بالتغيير لمصلحة العالم العربي، فقد وحد بلاد الشام الشمالية وبدأ يمد يد المساعدة لدمشق التي يحكمها أتابكة السلاجقة... وكان الفرنجة يحاولون فصل بلاد الشام الشمالية عن الجنوبية بمهاجمة حمص وحماة، للحيلولة دون وصول نور الدين إلى بعلبك ودمشق وحوران، وهي التي اجتاحها الفرنجة عدة مرات وفرضوا صلحًا مذلًا على أتابكة دمشق، الأمر الذي جعل أهلها ينفضون عن دعمهم للأتابكة، وينظرون بإعجاب وأمل لهذا السلطان الشجاع.
 في عام 558هـ/ 1163م انطلق نور الدين محمود جنوبًا بعد أن أوقف تهديد أمراء أنطاكية وحلفائهم لحلب عاصمة المقاومة.
ثم توجه غربًا باتجاه قلعة الحصن (قلعة الفرسان) أقوى قلاع الإسبتارية وأشدها تهديدًا لحمص وحماة. 
وكان سبب الهزيمة هو الثقة الزائدة بالنفس والاستهانة بالعدو، لكن السبب الأهم كما توضحه الرسوم الحائطية وترويه كتب التاريخ هو وصول فرسان المعبد قادمين من الحصن الأبيض (كاستل بلان أو قلعة صافيتا)، كما يتبين ذلك من أعلامهم وملابسهم التي كانت تميزهم عن ملابس وشعارات فرسان المشفى، فأحاطوا بمعسكر نور الدين وكانت الهزيمة. 
ويدور موضوع رسوم الشريط الأسفل حول تبادل للأسرى بين الطرفين العربي والإفرنجي في موقع يقول المحللون إنه يمثل معسكرين متقابلين من الخيام، بالقرب من قلعة يحتمل أن تكون قلعة الحصن، في زمن لاحق لمعركة حارم التي انتصر فيها نور الدين، وفي هذه الرسوم نميز شيئًا لافتاً للنظر هو مجموعة من الرجال غير المسلحين يحيط بهم عدد من الجنود العرب المسلحين بالسيوف يتجهون نحو معسكر الفرنجة.
المشهد يمثل بشكل جلي تبادلًا للأسرى من كبار قادة الفرنجة.. فما هي قصة هذا التبادل؟
 وقع عدد من قادة نور الدين في أسر الفرنجة في معركة البقيعة عام 1163م، وانتصر فيها الفرنجة على جيش نور الدين، فكان الرد حاسمًا بعد ثلاثة أشهر في معركة حارم، وفيها تم سحق جيوش الفرنجة المتحالفين وتم أسر عدد كبير من قادتهم وأمرائهم وفرسانهم، فكان لا بد من إجراء تبادل للأسرى بين الطرفين، فما هي قصة هذه المعركة وهذا الانتصار وما تبعه من تبادل للقادة والأمراء الأسرى؟! ولماذا تم رسمه على هذا الشريط في هذه الكنيسة الصغيرة بالذات؟ وهل كان بين الأسرى أحد فرسان هذه المنطقة حتى تم رسم هذه الواقعة على جدران هذه الكنيسة تخليدًا لهذا الحدث وتمجيدًا لهذا الفارس ونحن نرجح ذلك ؟!
 بعد هزيمة البقيعة لم يتجرأ فرسان الفرنجة المنتصرون، لأنهم عجزوا عن متابعة نور الدين والتوغل في عمق إمارة حمص وحماة، ولم يكن باستطاعتهم وحدهم أن يتابعوا هجومهم، إنما دعوا بقية القادة الفرنجة فيما بعد لاستثمار انتصارهم، لاعتقادهم بأن نور الدين كان في أضعف حالاته، ومعنويات جنده منهارة ولن يجد من ينجده من الأمراء، وهذا يفسر وجود هذا العدد الكبير من قادة الإمارات الفرنجية المختلفة، الذين سقطوا في أسر نور الدين والذين تشير المصادر العربية إلى أبرزهم.
وهكذا فقد جمعوا حشودهم في سهل العمق وفي نيتهم مهاجمة حلب وانتزاعها من نور الدين وساروا إليها عبر مضائق (الأبواب السورية)، فما كان من نور الدين إلا أن جمع قواه وفاجأهم من خلفهم عند أقدام حصن حارم الشهير حيث جرت هذه المعركة.
تقول المصادر العربية إن الفرنجة تجمعوا في حارم حين علموا بأن نور الدين سيقوم بمهاجمة أنطاكية عاصمة الإمارة النورماندية، التي كان يرأسها آنذاك بوهمند الثالث (1162-1201) والذي نراه يخالف بعض الشيء ما يرويه هؤلاء المؤرخون الغربيون.
فاجتماع هذا العدد الكبير من زعماء الفرنجة والبيزنطيين الذين احتشدوا في إمارة أنطاكية لم يكن مصادفة، ولأن نور الدين لم يكن يستطيع مهاجمة أنطاكية بعد ثلاثة أشهر فقط من هزيمته في البقيعة، وفي هذه الفترة تشاور قادة الفرنجة من مملكة بيت المقدس وبرنس طرابلس وأمراء أنطاكية مع حلفائهم البيزنطيين الذين كانوا يملكون اللاذقية وجبلة، وقرروا التخلص من نورالدين، ظانين أنه في أضعف حالاته، فتجمعوا عند مدخل مضائق الأبواب السورية عند قرية عم (مركز الحدود التركية في لواء الاسكندرونة حاليًا) لمهاجمة حلب.
 لم يكن نور الدين قائدًا عسكريًا ماهرًا فحسب، بل كان سياسيًا متميزًا، تشهد بذلك سيرته، فأرسل رسله يستنهضون الهمم، مستعينًا بالشعراء والقصاص والدعاة والفقهاء واستنجد بإخوته في الموصل والجزيرة العليا، وفاجأ الفرنجة من خلفهم، فجرت معركة حارم الفاصلة وكانت هزيمة ساحقة.
يقول العماد الكاتب في تاريخه، المعروف باسم خريدة القصر وجريدة العصر:  «وكسر الفرنج على حارم بعد ثلاثة أشهر من هزيمته عند البقيعة وقتل منهم في معركة واحدة عشرين ألفًا وأسر فما نجا أحد، وأخذ القومص والبرنس والدوقس وجميع ملوكهم».
وهكذا أتيحت لنور الدين الفرصة لإجراء التبادل ولتحرير عدد من قادته الذين أسروا في معركة البقيعة بهذا العدد الكبير من قادة الفرنجة، مجبرًا الفرنجة على دفع فدية كبيرة.
ويصف المؤرخون العرب هذه المعركة بالتفصيل وكيف تمت فيها إبادة كامل جيش الحلف الفرنجي - البيزنطي المؤلف من أكثر من ثلاثين ألف جندي بجر فرسانهم إلى هجوم ابتعدوا فيه عن المشاة، فتم سحقهم وأسر عدد كبير من قادتهم قبل أن يُسحق مشاتهم.
وما يهمنا هنا التفاصيل التي أعطاها المؤرخون العرب لأسماء الأسرى من كبار القادة: بوهمند سيد أنطاكية، وكونت (قومص) طرابلس من آل سان جيل، وابن جوسلين الثاني، وقائد الجيش البيزنطي (دوقوس)، ومن الأسرى قومص (كونت) طرابلس وبعض زعماء الإسبتارية، كما أن من بينهم فيما نرى بعض سادة أنغوليم وكريساك الذين كانوا من أتباع قومص طرابلس.
  تروي هذه الرسوم  قصة تبادل كبار زعماء الفرنجة الأسرى بمن فيهم (الدوقس) أي القائد البيزنطي الذي شاركهم مع جنوده في المعركة... ولا يشير المؤرخون إلى مكان تبادل الأسرى وإن كانوا يرجحون أنه تم عند قلعة الحصن. وأصبح رينودو شاتيون العدو الشرس والوصي على إمارة أنطاكية، والذي تزوج أم بوهمند بعد مقتل زوجها جوسلين، وصيًا على ابنهما بوهمند، ولعل عددًا من قادة فرسان منطقة اللانغومية كانوا بين هؤلاء الأسرى المحررين، وهو ما دعا الرسامين إلى رسم قصة التبادل هذه على جدران كنيسة قرية كريساك.
ملاحظة أخيرة: إن أسلوب رسم هذه الجدارية معاصر للجداريات القليلة التي تركها الفرنجة في بلاد الشام، ومنها تلك المعروضة في متحف طرطوس، والتي انتزعت من كنيسة قلعة الحصن، ومنها تلك التي لاتزال موجودة في غرفة الاعتراف في كنيسة قلعة المرقب، وإن كانت من حيث الموضوع جداريات دينية تختلف عن كنيسة كريساك.