مرثيـة بلغــراد

مرثيـة بلغــراد

 نُشرت مرثية بلغراد لأول مرة عام 1956، والترجمة العربية الراهنة عن كتاب
 Simon Simonovic (ed): Milos Crnjanski – Lament Nad Beogradom, Tanesi, Belgrade, Serbia, 2010 وأغلب الهوامش هنا مستقاة من:  Pavic, M. (2011). A Short history of Belgrade, Dereta, Belgrade, Serbia.
يعد ميلوش تسرنيانسكي (1893-1977) من أشهر شعراء صربيا، وينتمي إلى تيار الحداثة، وكان كذلك كاتبًا وروائيًا، ودبلوماسيًا، وصحفيًا. ولد في المجر لعائلة فقيرة، وقد انتقلت عائلته في العام 1896 إلى تيمشوارا برومانيا، حيث ترعرع. تلقى تعليمه بجامعات فيينا وبلغراد.
أمضى معظم وقته أثناء الحرب العالمية الأولى وحيدًا في مستشفى عسكري بالعاصمة النمساوية فيينا. وقبل أن تضع الحرب أوزارها تم إرساله إلى الجبهة الإيطالية، حيث تركت تلك التجربة أثرًا لا يُمحى من ذاكرته. من أهم أعماله: «غنائيات إيثاكا» عام 1918 و«كتاب الهجرة الثاني» عام 1962، ومن مسرحياته: «الأقنعة» عام 1918 و«كوناك»  عام 1958. وتعد «مرثية بلغراد» من أهم أعماله الشعرية، وهي تتألف من  12 مقطعًا، كل منها يضم 10 أبيات، لكننا نلاحظ اختلافًا بينًا بين المقاطع الفردية والمقاطع الزوجية بالقصيدة. ففي المقاطع الفردية نرى التيه، والمنفى، والحروب، والترحال إلى المجهول. ونرى في هذه المقاطع أسماء وأماكن جغرافية مختلفة، لكن وراء كل تلك الأقنعة، ومن كل أصقاع الكون، نرى الطريق نفسه صوب القبر، والموت، والعدم. وحتى الكلمات الأجنبية التي يستعملها الشاعر تحيلنا إلى المعنى ذاته، إلى القاسم المشترك، أي إلى القبر والموت والعدم.
أما المقاطع الزوجية فتمثل نقيض الأبيات الفردية، حيث تمنحنا إحساسًا بخلود المدينة وصمودها أمام التدمير. وهناك اختلاف في النغمة الشعرية كذلك بين المقاطع الفردية والزوجية.
فنغمة الحميمية/الاعتراف تتداخل مع كل ما هو درامي، ولاسيما في المقاطع الختامية. لكن المقاطع الزوجية تتسم بارتفاع النبرة البلاغية. وعلى حين تهيمن على الأبيات الفردية فكرة الإنسان التائه في القرن العشرين، نرى أن المدينة وارتفاعها إلى مصاف الخلود، هي الفكرة التي تهيمن على الأبيات الزوجية. ويثير عنوان القصيدة ذاته نوعًا من الإحالة إلى القدس، لأنه يذكرنا بمرثية القدس في العهد القديم وبمرثية المسيح في العهد الجديد، التي يتنبأ فيها بقدر المدينة المحتوم. لكن بلغراد في قصيدة تسرنيانسكي ليست هي القدس التي قتلت الأنبياء أو رجمت من أتوا لزيارتها (متى 23:7), بل هي القدس السماوية على الأرض. إن عدمية وعبثية هذه القصيدة التي تمثل القدس الصربية لا تعد عملًا متميزًا من الناحية الشعرية فحسب، بل إنها تعد كذلك من أعظم قصائد القرن العشرين.

مرثية بلغراد
صديقي يان ماين، وبلادي أرض الصرب، 
باريس، والموتى من رفاقي، أشجار الكرز بالصين، 
تبدو، كالرؤى، أمام ناظري وأنا أغفو صامتًا أحتضر. 
بارد أنا كجذع شجرة فوق رماد النار.
وحدنا نحن لم نعد من كنا عليه، لم نعد نحيا، لم نعد نجومًا، 
بل أصبحنا كالوحوش، كالحيوانات الرخوة، كالدلافين، 
تترنح، وتمضي، وتتلاشى، 
صائحة: «كل شيء رماد، وغبار، وموت» ـ 
صائحة بالروسية: «عدم» ـ 
وبالإسبانية: «لا شيء».

لكنك تستيقظين، تحت نجم الفجر الساطع، 
وجبال آفالا تبدو زرقاء على مد النظر. 
تتلألأ، عندما تذوي النجوم منتحبة، 
ثم تذيب كالشمس صقيع الدموع وثلج الأعوام الخوالي. 
ما بك من خيلاء فارغة أو موت.
تلمعين لمعان سيف من زمن سحيق.
كل ما بك مفعم بالحياة. 
متجددة أنتِ كالنهار الجديد، كدموع الأطفال.
وعندما يصمت صوتي وتتحجر مقلتاي وأنفاسي أخيرًا، 
تمدين ذراعيكِ حولي بعذوبة.

إسبانيا وجزيرة الهفار
ذلك التعيس الفاني دوبروفيتش، وفي الصحراء شيخ يتشح بالبياض، 
كالرؤى، كالأشباح، كاللهب، كالتهاويم.
لقد جن جنون سيبي صديقي! يفغر فاه، كالسمكة!
وحدنا نحن لم نعد ما كنا عليه، في الصبا والشدة، 
لكن كالببغانات، كالشمبانزي، محض أشياء مشوهة، 
تصيح في وجهي هازئة في وحدتي.
يصيح أحدهم: «جثامين! جثامين! جثامين!»
ويصيح الآخر «جثمان!»
والثالث «جسد ميت! جسد ميت ! جسد ميت!»

لكنك تنثرين النسيان الجميل حولي،
كما تنشر البجعة جناحيها على نهري الدانوب والسافا 
تحيين السعادة الذاوية بداخلي، 
والضحك هنا وسط النواح والعويل.
لا موت بداخلك أو ديدان.
تشرقين كالضحكة وسط الدموع المنهمرة.
وبداخلك يغني الحادي، حتى في الشتاء الرمادي، 
لأن دم الحياة يتدفق بداخلك كالخمر.
ينحني رأسي في سويعاتي الأخيرة، 
وأنت تقبلينني كما تقبِّل الأم وليدها.

أنتِ عالمي والماضي، 
الصبا والحب وجندول فينيسيا يعانق السماء، 
يبدو كل ذلك كالرؤى أمام ناظري، موجة بحرية، زهرة جميلة، 
يرتدون الأقنعة وينادون اسمي.
لم أعد كما كنت، وفينيسيا لم تعد تتشح بالأزرق كما كانت، 
كل شيء أطلال، أشباح، وشواهد قبور، 
ذلك كل ما تبقى من الأرض.
وعلى العشب مكتوب: «هنا يرقد باشا! وهنا فقير! وهنا كلب!»
وصرخة بالفرنسية: «الكل مضى في طريقه».
وبلغتنا: «كل شيء ذوى وانتهى».

لكنك تقفين شامخةً عند النهر، 
كالدرع على السهوب الخصبة.
تحولين الضوء إلى خيط رفيع، وتنشدين ترنيمتك الأبدية، 
كالرعد الآتي من اللانهاية.
لا يصيبك وجل مثلي: 
نظرتك صامتة حادة كنظرة المقاتل.
تتحول إلى دموع، إلى مطر، إلى قوس قزح.
وتلقين عليّ السكينة كأشجار السرو البعيدة.
وعندما تتوقف نبضات قلبي المرتعشة،
تتساقط أزهارك الرقيقة عليَّ فتمنحني السكينة.

لشبونة ورحلتي في الكون، 
قلاع في الهواء وزبد المحيط.
تبدو أمامي كالرؤى، عند ارتجاف لهب شمعتي كورقة شجر. 
في أحلامي تأتي أرض أجدادي.
وحدهم الرجال والنساء والأحياء لم يعودوا هناك، 
بل ضعاف، لا حول لهم ولا قوة، حزانى كالأشباح،
من قال إنهم ليسوا وحوشًا، 
ليس ذلك ذنبهم، فالحياة لم تمنحهم شيئًا.
يصيحون: «كلا، كلا، كلا»
وبلغتنا: «لا، لا، لا»

لكنك تتنفسين بعذوبة في سكينة الليل، 
لتصلين إلى الشهب والشمس في غفوتك.
تصغين إلى رجع صدى أنفاسك، 
تزمجرين كالحجارة في كالمجدان.
كل أحزاننا هي بالنسبة لك كالنمل الصغير.
تلقين على الغبار لآلئك الكريمة، دموعك.
لكن من تلك الدموع تولد شمس زرقاء، 
تنير أعوام صباي.
وعندما يهوى قلبي العليل في منامي، 
أستلقي أخيرًا على وسادتك الوثيرة.

فينيستير، ورغوة البحر، 
زواج، وقُبل، وعاصفة،
تبدو أمامي كالرؤى، كالفراشات، كأزهار التيوليب، كعيدان الذرة، 
وأسمع وقع أقدامها الرقيقة، تأتي من الماضي السحيق.
لم تعد هي، ولم يعد ذلك صوتها المبتسم، 
بل صوت غراب نزق بأجنحة سوداء، 
نعيق يُغرق كل سعادة في مياه البحر، 
ويهمس في أذني: «قبر» و«ظلام»، 
ويتردد الصدى: «ظلال، ظلال!»
وبلغتنا: «مقبرة» و«ظلام حالك».

لكنك تمضين كبجعة خالدة، 
بعيدًا عن الموت والدم صوب النور. 
الزمن يهوي أمام ناظري في أعماق النهر، ويتلاشى.
لكنك تنبلجين مع الفجر يغمرك الضياء.
سوف أقف وحدي في مكان ما بالصحراء
تلك الصحراء التي تمخر عبابها القوافل.
لكن كما تنحني الأم من الطوارق لتقبل ابنها الميت، 
سوف تمنحينني أنتِ الصبر والسلوان عندما أموت، 
ومع أنهم قد كسروا روحي، وقدماي وذراعاي، 
أعرف أنهم لا يستطيعون أن يمسوك بسوء. 

حياة  الإنسان كلها، كلب صيد، 
ورقة شجر ذاوية، نورس، غزال، قمر على بحر، 
تبدو أمامي كالرؤى في النهاية، في النوم، في الموت، 
كما تبدو لكل الممثلين على المسرح، الواحد تلو الآخر.
وحدي أنا، مع تلك الأشياء، لم نكن أبدًا أي شيء، 
بل نحن زبد بحر عابر، أصوات هامسة في الصين، 
تهمس كنبضات قلب باردة ساكنة، 
لم يبق أحد من سلالة المنج أو اليانج 
أو الين، 
لم يعد هناك طاو، أو أشجار كرز أو 
مندرين
لا شيء، ولا أحد.

لكنك مازلت تتوهجين رغم عذاباتي، 
خلال الرماد والغبار والدموع.
دمك، كالندى، يسقط على السهول من جديد، 
ليثلج صدر من اقتربوا من النهاية.
الآن أعانقك، وأعانق صخرك الرمادي من جديد، 
أعانق السافا والدانوب.
تشرق الشمس في أحلامي كالوهج! كالضوء! كالصوت الهادر!
يأتي اسمك كالبرق من السماء الزرقاء الصافية.
وعندما تدق ساعتك القديمة معلنة نهايتي، 
يُولد اسمك على طرف شفاهي 
المحتضرة.

قلعة كالمجدان

جبال آفالا