الترجمةُ والحقُّ في المعلومَة... جدليَّةُ العلاقة

الترجمةُ والحقُّ في المعلومَة... جدليَّةُ العلاقة

يثير الحديث عن الحق في الحصول على المعلومة جدلا واسع النطاق، وإن تركز في المقام الأول بارتباطه بحق الفرد في حرية الرأي والتعبير، وفي محاربة الفساد وكشف المخالفات، والعمل على توسيع مساحة المشاركة السياسية، إلا أنه لم يشر بصورة صريحة إلى ارتباط هذا الحق بقضية الترجمة، وإن كان هذا لا ينفي الارتباط الفعلي المتضمن في ما تتناوله العلاقة بين هذا الحق والحقوق الأخرى.

فحينما يرتبط الحق في المعلومة بالحق في حرية الرأي والتعبير فهو إنما يتضمن في جوهره حق المواطن في الاطلاع على الكــــتابات والأفكار والمعلومات الواردة في مختلف الثقافات والحضارات والنهل منها بما يزيد من رؤيــــته للواقع المعيش، ويساعده بالتالي في المطالبة بالحقوق التي لم يكن لها وجود في مجتمعه، مثال ذلك، الحق في البيئة لم يكن موجودًا بهذه الصورة في كثير من البلدان النامية قـــــبل الألفيــــة الثالثــــة، وساهمت الترجمة بلا شك في التوعــــية بهذا الحــــق، وهو ما ينطبق على كثير من الحالات الأخرى التي ساهمت الترجمة فيها بدور كبير في توسيع ونشر المعــــرفة بمختلف صورها الأدبية والعلمية والسياسية والإدارية والاقتصادية.
ولكن ما نود التركيز عليه في هذه النقطة هو أن الحق في المعلومة قد يتعارض مع بعض الحقوق الأخرى التي تثيرها قضية الترجمة، ونعني بها في المقام الأول حقوق الملكية الفكرية أو حقوق المؤلف بصفة خاصة، حيث نكون إزاء تعارض حقين أساسيين من حقوق الإنسان، حق الأفراد في الوصول إلى المعلومات وتداولها، وحقوق المؤلف من جانب آخر. بما يطرح حزمة من التساؤلات في هذا الخصوص، منها: لمن تعطى الأولوية؟ هل تعطى للحق في المعلومة أم لحماية حق المؤلف؟ وهل يمكن التوفيق بينهما؟ وكيف؟ 
يمكن الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال نقطتين: 

حقوق المؤلف المادية والمعنوية 
تُعتبر الملكية الفكرية إحدى صور الملكية بمفـــهومها الواسع والــــتي حمـــتــــها المعـــــاهدات الدولية والتشريعات الوطنية كافــة باعتبارها أحد الأركان الرئيسة التي يقوم عليها النظام الاقتصادي، واستقرار المعاملات في المجتمعات والدول. وتتركز مشكلة الملكية الفكرية في أنها تدخل في نطاق الملكية المعنوية، على اعتبار أنها تقع دائمًا على نتاج الذهن والعقل والإبداع، ولا خلاف على ضرورة حماية ما ينتجه العقل البشري من صــور الإبداع الفكري في شتى المجالات العلمية والفنـية والأدبـية والتكــــنولوجية، وخاصة مع قيام الثورة المعلوماتية التي لعبت دورًا كبيرًا في هذا المجال، ما جعل لزامًا على أهل التشريع تحديد الأطر التي تحمي هذه الحقوق بصفة عامة وحقوق المؤلف والحقوق المجاورة على وجه التحديد، خاصة إذا تــــم ذلـــــك من خلال ترجمة المؤلفات والمصنفات، فكان لابد من إيجاد إطار دولي قانوني للحماية، ومن هنا جاءت «اتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية»، وإذا ما طبقنا تلك الأطر على ترجمة المصنـــفات الأدبية والفنية المكتوبة والمسموعة فسنجد أنها محمية بهذه الاتفاقيات والقوانين، فنجد أن المادة رقم 8 من هذه الاتفاقية تنص على «يتمتع مؤلفو المصنفات الأدبية والفنية الذين تحميهم هذه الاتفاقية بحق استئثاري في ترجمة أو التصريح بترجمة مصنفاتهم طوال مدة حماية ما لهم من حقوق في المصنفات الأصلية». وإذا ما طبقنا هذه القواعد على أصول الترجمة فسنجد أنه يجب على المترجم أن يراعي قواعد حماية حق المؤلف عن طريق نسبة العمل لصاحبه ونسبة الترجمة لمن قام بها. 
وفي هذا الإطار نستعرض نوعي الحقوق الواردة على حق المؤلف، وهما:

أ- الحقوق المادية:
 هي التي تمنح للمؤلف وحده الحق في استغلال العمل ماديًا، وله في سبيل ذلك الحق الحصري في إجازة أو منع ما يأتي:
< نسخ وطبع وتسجيل وتصوير العمل بجميع الوسائل المتوافرة، بما فيها التصوير الفوتوغرافي أو السينمائي أو على أشرطة وإسطوانات الفيديو أو الأشرطة والإسطوانات والأقراص مهما كان نوعها، أو بأي طريقة أخرى. 
< ترجمة العمل إلى لغة أخرى أو اقتباسه أو تعديله أو تحويره أو تلخيصه أو تكييفه أو إعادة توزيعه، وهنا نجد أن ترجمة أي عمل تخضع لإجازة أو منع صاحب حق التأليف الأصلي فإن مُنع المترجم من ذلك امتنع عليه القيام بعملية الترجمة. 
< بيع وتوزيع وتأجير العمل. 
< استيراد نسخ من العمل مصنوعة في الخارج. 
< أداء العمل. 
< نقل العمل إلى الجمهور، سواء كان ذلك سلكيًا أو لاسلكيًا وسواء كان ذلك عن طريق الموجات الهرتزية أو ما شابهها أو عن طريق الأقمار الاصطناعية المرمزة وغير المرمزة، ويشمل ذلك التقاط البث التلفزيوني والإذاعي العادي أو الآتي عن طريق القمر الاصطناعي وإعادة إرساله إلى الجمهور بأي وسيلة تتيح نقل الصوت والصورة.
وقد اعتبرت الحقوق المادية للمؤلف حقًا منقولاً يمكن التفرغ عنه كليًا أو جزئيًا.

ب- الحقوق المعنوية
إضافة إلى الحقوق المادية السابق الإشارة إليها، ثمة مجموعة من الحقوق المعنوية للمؤلف وتشمل ما يلي: 
< حق إشهار العمل وتحديد طريقة إشهاره ووسيلتها. 
< حق المطالبة بأن ينسب العمل إليه كمؤلف وبأن يذكر اسمه على كل نسخة من نسخ العمل في كل مرة يستعمل فيها العمل استعمالاً علنيًا. 
< الحق بأن يستعمل اسمًا مستعارًا أو أن يبقي اسمه مغفلاً. 
< مــنع أي تحوير أو تطوير أو تعـــديل أو تغيير فــي العمل قد يـــــسيء إلى شرفه أو سمعته أو شهرته أو مكانته الفنية والأدبية والعلمية. 
< التراجع عن عقود التنازل أو التصرف بالحقوق المادية حتى بعد نشرها إذا كان ذلك التراجع ضروريًا للمحافظة على شخصيته وسمعته لتغيير في معتقداته أو ظروفه، شرط تعويض الغير عن الضرر الناتج عن هذا التراجع.
بيد أنه لا يجوز التصرف بحقوق المؤلف المعنوية ولا يجوز إلقاء الحجز عليها، إنما يجوز انتقال تلك الحقوق إلى الغير عن طريق الوصية أو قوانين الإرث.
< محاولة إقامة توازن منصف وعادل بين حقوق المؤلف والحق في المعلومة: 
ليست مبالغة القول إن إقامة توازن منصف بين الحق في المعلومة وحقوق المؤلفين هي بحق مسألة معقدة وشائكة وتسببت في العديد من المشكلات بما استلزم تدخل التشريع والقضاء على حد سواء. 
في الوقت الذي أقر فيه التشريع الدولي حتمية السعي إلى تحقيق هذا التوازن (اتفاقية برن، التربس TRIPS) معترفًا بالمبدأ وتاركًا الحرية لكل دولة في إقرار الاستثناءات التي تراها ملائمة. وفي ضوء ذلك تأتي التشريعات محاولة من خلال ما تضعه من استثناءات تحقيق التوازن بين حماية حق الإبداع والتأليف من جانب، وبين ضمانات مصالح الجمهور وحقه في المعلومة والمعرفة من جانب آخر، حيث تسمح للبعض في حالات معينة باستعمال المصنف الأدبي أو الفني دون الحصول على ترخيص مسبق من صاحبه، وقد يجد ذلك تبريره في غياب ضرر اقتصادي أو أدبي يلحق بالمؤلف بالإضافة إلى المتطلبات الاجتماعية لانسياب المعلومات. 
وفي هذا الإطار، يمكن التمــــيـــيز بين حدود الاستثناءات الواردة على حقوق المؤلف بين الأنظمة القانونيــــة التي تتبــــعها مخـــتلف الدول، حيث يمكن التمييز بيــــن الاستثناءات في النظام القــــانون في اللاتـــيــني والنظام القانوني الأنجلوسكسوني، وذلك على النحو التالي: 
< النظام القانوني اللاتيني (كما هي الحال في فرنسا وألمانيا ومصر والجزائر والمغرب ولبنان والأردن...)، يتم وضع قائمة حصرية تشمل جميع الاستثناءات القانونية التي تحقق هذا التوازن، مميزًا بين نوعين من هذه الاستثناءات: 
< الاستثناءات القانونية بمقابل مالي، تلك الاستثناءات التي يقرها القانون - في حالات معينة - ويشترط دفع مقابل مالي للمؤلف مثال ذلك: الرخصة الإجبارية، النسخة الخاصة.
< الاستثناءات القانونية دون مقابل مالي، تلك الاستثناءات التي يقرها المشرع في حالات محددة ولا تتطلب الحصول على إذن المؤلف أو ترخيصه المسبق ولا حتى دفع مقابل مالي عن الاستغلال، مثال ذلك: الاستعمال في الدائرة العلمية، وضع نسخ في المكتبات الوطنية ودور الأرشيف والوثائق. 
< النظام القانوني الأنجلوسكسوني، (كما هي الحال في الولايات المتحدة، بريطانيا، أستراليا، الهند...) يختلف هذا النظام في خصائصه عن النظام اللاتيني، حيث إنه لا يولي اهتمامًا بالغًا بالحق المعنوي للمؤلف بقدر اهتمامه بحماية المصالح المادية والاستثمارات، حيث يقر ما يعرف «بالاستعمال المشروع»، الذي جاء كاستثناء عن كل الحقوق الاستئثارية للمؤلف، شريطة أن يتطلب شروطًا أساسية، وهي: 
< يجب أن يكون الهدف من الاستعمال تلبية أغراض تربوية لا تهدف لتحقيق الربح المالي.
< طبيعة المصنف المستعمل.
< حجم الجزء المستعمل وأهميته بالنسبة للمصنف المحمي ككل.
< أثر الاستعمال على قيمة المصنف وعلى تسويقه. 
وتعتبر هذه الشروط أحكامًا عامة تكتفي برسم الخطوط العريضة التي تساعد في تحديد أمانة الاستعمال ومشروعيته، بحيث يتولى القضاء دراسة كل حالة بحالتها، متمتعًا بحرية تقدير واسعة، وهو ما يعطي ثمة مرونة كبيرة في الاطلاع على الإبداع الذي يعطي له الأولوية على الحق في المعلومات.  بالإضافة إلى نظام الحدود والاستثناءات القانونية الذي يلعب دورًا رئيسًا في تحقيق التوازن بين حقوق المؤلف والحق في الحصول على المعلومات، ثمة عوامل أخرى يمكن أن تسهم في تحقيق هذا الهدف، منها ما يلي: 
< الدور الرئيس للقضاء من خلال أحكامه واجتهاداته والتي تنتصر دائمًا للحق في المعلومة. 
< نظام الإيداع القانوني الذي يلزم كل شخص طبيعي أو اعتباري له إنتاج فكري أو فني بإيداع نسخ ونماذج كاملة ومطابقة للأصل – مجانًا - من هذه المصنفات لدى المؤسسات الوطنية المؤهلة لذلك (المكتبات الوطنية ودور الوثائق القومية على سبيل المثال). فوفقًا لهذا النظام يتم جمع الإنتاج الفكري والفني الوطني وإحصاؤه والسماح للأفراد بالاطلاع عليه، وهو ما يمثل تكريسًا فعليًا وحقيقيًا على أرض الواقع لحق الفرد في الحصول على المعلومة، فبمقتضى هذا النظام يتمكن كل أفراد المجتمع على علم بكل ما ابتدع من مصنفات أدبية وفنية، بالإضافة إلى الاطلاع على الرصيد المعرفي الوطني والاستفادة منه. 

شروط حماية المصنفات الفكرية
ويعني بذلك أنه من المبادئ المستقرة عليها في هذا المجال هو عدم حماية الأفكار، بل فقط  التعبير المادي عنها وبشروط تمنع هذا التعبير بالأصالة. بمعنى أن الأصالة هي الشرط أو العامل الذي يحدد توافره من عدمه سبغ الحماية القانونية على المصنف من عدمه. 
إذ ليست كل المصنفات محل حماية، بل فقط تلك المتمتعة بالأصالة، أي التي تجد عليها آثار وبصمة صاحبها وانعكاس شخصيته عليها. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن هذا الشرط يمنح المواطن فرصة أكبر في الحصول على المعلومات ويضيق من دائرة احتكار المؤلف على حساب المجال الحر الذي يباح فيه استعمال أو استغلال المصنفات المختلفة. أضف إلى ذلك أن الحماية القانونية للحقوق المادية للمؤلف ليست أبدية مهما اختلفت هذه المدة من تشريع لآخر، فإنه بعد انتهائها يسقط المصنف في الملكية العامة ويصبح حرًا متاحًا للإنسانية جمعاء الحق في الاستفادة منه.
من الجدير بالإشارة إليه عند الحديــــث عن هذه الإشكالية المتعلقة بالحــــق في المعلومة وكيفية تحقــــيق التــوازن بينها وبين حق المؤلف، أن نضيف بعدًا جديدًا ظهر إلى الوجود مع عصر تقنية المعلومات وثورة الاتصالات، حيث برز ما يعرف بالترجمة الآلية بأنــــواعــــها كلها, إذ أصبح من المستحيل للمترجـــم البشري أن يقوم بعملية الترجمة في ظل هذه التحولات السريعة من دون استخدام تقنية الترجمة الآلية. 
فالإنسان ربما يحتاج إلى أكثر من شهرين لترجمة كتاب واحد، في حين أن الترجمة الآلية تستطيع ترجمة هذا الكتاب في جزء من الثانية. ورغم أن الترجمة الآلية بها أخطاء كثيرة، فإنه لا غنى عنها, ويمكن استخدامها كمسودة قابلة للتصحيح والتنقيح من قبل المترجم. ولا شك في أن هذا النوع من الترجمة يثير إشكالية أخرى تستوجب البحث عن حلول جدية لتحقيق التوازن بين الحقين: الحق في المعلومة والحق في الإبداع. 
نهاية القول إن الإشــــكالية بأبـــعادها المختلفة التي تواجه العلاقة بين الحق في المعلومات والترجمة، والتي تتضح في قضية حقوق المؤلف، تستوجب أن يعاد النظر في هذا القيد عن طريق التخفـــــيف من حـــــدة كــــل القيود التي تعيق حق الفرد في الوصول إلى المعلومات، وخاصة إذا علمنا أن أكثر من 70 في المائة من سكان العالم يعيشون في الدول النامية، وهم بحق في أمسِّ الحاجة للوصول إلى المعلومة الجديدة، لكونها السبيل الوحيد والخطوة الأولى التي من شأنها أن تدفع بهم إلى تغيير واقعهم المأساوي والانتقال إلى أوضاع أفضل. 
ومن هنا يبرز دور الترجمة في عصرنا الحاضر الذي يشهد الثورة المعرفية والتكنولوجية التي لا ترأف بالمتخلفين عنها أو الغافلين عن أهميتها في خضم عالم مليء بمعطيات جديدة أفرزتها متغيرات عديدة ومتنوعة، حيث تعد الترجمة إحدى أدواتها الرئيسة والتي من دونها ستظـــل الشعوب رهينة الانغلاق والانكـــــفاء على ذاتـــها إلى أن تضمحل وتتلاشى، فبفضل الترجمة تصبح هذه الشعوب قادرة على حرق المسافات ومسابقة الزمن، بالاستفادة من تجارب الآخرين في مواجهة متطلبات عملية التنمية. فلم يعد دور الترجمة قاصرًا - إذن - على تسهيل التواصل كما هي الحال في المراسلات والتبادلات التجارية، بل تعداه لمّا هو أهم من ذلك وأوسع، فالترجمة إحدى الأدوات الأساسية في عملية تأهيل القوى البشرية وتدريبها على حسن الإدارة والاستثمار، واستخدام آخر ما توصلت إليه النظريات الحديثة في مختلف مجالات المعرفة وشؤونها التي توصل إليها العالم المتقدم، ذلك من خلال نقل خلاصة تجاربهــــم وثمــرة خبراتهم.