الاقتراضُ اللُّغَوي والسَّيادَة

الاقتراضُ اللُّغَوي والسَّيادَة

الاقتراض اللغوي Borrowing هو مصطلح يستخدم في علم اللغة المقارن، وعلم اللغة التاريخي يشير إلى الشكل اللغوي المأخوذ من لغة ما أو لهجة ما، ومثل هذا الاقتراض يسمى عادة «اقتراض الألفاظ loan words»، والاقتراض الأقل شيوعاً اقتراض الأصوات والبُنى النحوية.

وقد ترجمه محمد علي الخولي: الاقتباس بمعنى «أن تقتبس لغة ما كلمات أو تعابير من لغة أخرى بتعديل أو من دون تعديل»، وقد علق تراسك على مصطلح «الاقتراض Borrowing» بقوله: هذه العملية يطلق عليها - بتحفظ - «الاقتراض», ونقول «بتحفظ» لأن اللغة المقترضة لا تفقد استعمال ألفاظها التي أقرضتها، واللغة المقترضة لن تعيد ما اقترضته من ألفاظ، ولعل الأفضل أن نقول (اقتباس، نسخ) Copying، ولكن شاع استعمال مصطلح الاقتراض منذ زمن طويل، والألفاظ التي دخلت في اللغة عن طريق الاقتراض تسمى الألفاظ المقترضة loan word.
بعد الفتوحات الإسلامية لبلاد الفرس والروم، اتسعت الدولة الإسلامية وتطور نظامها الإداري والاقتصادي، ووجد العرب أنفسهم أمام أمم متطورة في مؤسساتها الإدارية، كما وجدوا أنهم لابد أن يتولوا إدارة تلك الأمم، فأخذ العرب من تلك البلاد، خاصة الفرس، نظمها الإدارية، باصطلاحاتها، والتي دخلت العربية بوساطة الاقتراض، لخلو العربية من ألفاظ توازيها في الدلالة، بسبب ما كان عليه العرب من بداوة وتواضع في النظامين الإداري والاقتصادي، لذلك اقترضت «العربية» الكثير من ألفاظ النظام الإداري الفارسي، بسبب تلك الطفرة المفاجئة في الحضارة المعمارية والإدارية والاقتصادية والعسكرية، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك لفظ «ديوان»، فأول من وضع الديوان في الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسببه أن أبا هريرة قدم عليه بمال من البحرين، فقال له عمر: ما جئت به؟ قال خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر، وقال: أتدري ما تقول؟ قال نعم، مائة ألف خمس مرات، فقال عمر: أطيب هو؟ قال لا أدري، فصعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا، وإن شئتم عددنا لكم عدا، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، رأيت الأعاجم يدونون ديوانا، فدون أنت لنا ديوانا.
ومن خلال الحادثة التاريخية السابق ذكرها يتبين لنا أن الحاجة لوضع النظام الإداري الخاص بالدواوين، هو السبب في اقتراض الكلمة الفارسية «ديوان»، فدخل اللفظ في استعمال العربية، وعُرّب، قال الجواليقي: «والديوان بالكسر، قال الأصمعي: قال أبو عمرو: و«ديوان» بالفتح خطأ، ولو جاز ذلك لقلت في الجمع «دياوين»، ولا يكون إلا «دواوين»، قال الأصمعي: وأصله فارسي، وإنما أراد «دپانْ» و«ديوان» أي الشياطين، أي كتّاب يشبهون الشياطين في نفاذهم، و«الدّيو» هو الشيطان».
وعملية الاقتراض اللغوي تكون أحيانا من جهتين، أو لغتين متقابلتين في الحضارة، فمثلما اقترضت العربية من الفارسية ألفاظ الحضارة الفارسية، اقترضت الفارسية من الحضارة العربية ألفاظاً عربية، منها «كاتب»، كذلك اقترضت الإنجليزية من العربية «الجبر» (Algebra from Arabic).
وعلى الرغم من أن الصراع اللغوي بين العربية وغيرها من اللغات موجود منذ قرون طويلة، ورغم أن الكثير من الوظائف الإدارية في العصر الفاطمي والعصر المملوكي كانت بالفارسية، فإن اللغة العربية تمسكت بمكانتها، حيث كانت لغة العلم والوجاهة الاجتماعية، وللعالم تراسك trask المتخصص في علم اللغة الاجتماعي رأي حول لغة الوجاهة الاجتماعية، حيث قال حول استعمال الإنجليز لألفاظ من الفرنسية: «لماذا يلجأ المتحدثون بالإنجليزية إلى الدخول في مشكلات الاقتراض من اللغة الفرنسية لأشياء لها ألفاظها التي تعبر عنها أحسن تعبير في الإنجليزية؟ لسبب واحد بسيط هو: الوجاهة الاجتماعية prestige، إذ كانت الفرنسية لعقود هي لغة الوجاهة والدبلوماسية».
وعلى الرغم من أن الفرس والأتراك كانوا من موظفي الإدارة العليا لعقود طويلة، وأن لغتهم قد أثرت في أسماء الوظائف الإدارية والمعاملات، فإن «العربية» احتفظت بمكانتها لتكون لغة الوجاهة الاجتماعية في العصور الوسطى، مثلما كانت لغة العلم والعلماء، والدليل على ذلك أن ما كان يمنح من ألقاب رسمية لكبار موظفي الدولة من عرب وأعاجم كانت عربية في معناها ومبناها، والتاريخ يؤكد أن اللغة العربية كانت في صراع لغوي مع الفارسية والتركية والمغولية، بسبب خضوع الخلافة الإسلامية لنفوذ جماعات من الفرس والأتراك والمغول، وسيطرتهم على مقاليد الحكم في شتى بقاع الأمة الإسلامية.
ومن الألفاظ الفارسية التي دخلت العربية لفظ «أستاذ» وأصله بالفارسية (أستاد) بالدال، جاء في المعجم الفارسي التاريخي «لغت نامه»: فارسية، ومعربها أستاد أيضا وأستاذ، أوستاد. أُستا أوستا هي أستاد مخففة. ويبدو من النص السابق المأخوذ من المعجم الفارسي التاريخي (لغت نامه) أن هذا اللفظ دخل في العصر العباسي بمعنى كبير العمال المستخدمين في إدارة قصر الخلافة، ولكنها عُربت صوتياً، بقلب الدال ذالاً، كما تغيرت صرفيا في العصر الفاطمي، حيث أصبح لفظ (أستاذون) اسماً لكبار موظفي الدولة في الشؤون الإدارية والمالية، واستمر اللفظ بمعناه، أي كبير موظفي الدولة المملوكية في الشؤون الإدارية، ولكن اللفظ تغير في بنيته الصوتية والصرفية، حيث أصبح «أُستادار»، وتغير دلاليا وصرفيا في العصر العثماني ليصبح «أُستا» بمعنى كبير أرباب الصنعة مثل: الأستا في البناء، والأستا في الغناء، والأستا في النجارة، وتدنى استعمال هذه الكلمة، لتصبح من لغة العامة في مصر، فهي الكلمة «أُسطى» أي العامل المبتدئ في مهنة من المهن المتدنية اقتصادياً واجتماعياً».
ومن الألفاظ التي دخلت العربية عبر السيادة والسيطرة، الكلمة «ألوس» Alus، أي الشعب أو الأمة، وجاء في المعجم التاريخي الفارسي (لغت نامه): ألوس: تركية، في التركية تطلق على القوم، واستعملت في عصر المغول بمعنى الوطن أو البلد، وهذا يعني أن كلمة «ألوس» اقترضت من التركية لتدخل المغولية التي حكمت المشرق الإسلامي لفترة طويلة بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد، واستعمل المغول هذه الكلمة المقترضة بإضافة ياء النسب في بنيتها الصرفية لتصبح «ألوسي»، وتعني: أمير، وقد انتهى استعمال اللفظ إدارياً وسياسياً ولكنه بقي في الاستعمال ضمن أسماء الأعلام، كغيره من الأسماء لبعض العوائل العربية التي احتفظت بأسماء مهنها وألقابها، حيث نجد هذا الاسم «الألوسي» شائعاً بين أهل العراق.
ومن الألفاظ التي اقترضتها «العربية» من المغولية في فترة سيطرة المغول على العراق بعد سقوط الخلافة العباسية، اللفظ «دمغة»: «مغولية الأصل (تمغ) بمعنى الخاتم دخلت التركية، ثم عربت فأصبحت (طمغة أو تمغة أو دمغة)».
وجاءت في سياق كلام القلقشندي عن طريقة الكتابة إلى ملوك المغول في إيران «ويطمغ بالذهب بطمغات عليها ألقاب سلطاننا تكون على الأوصال، يبدأ بالطمغة على اليمين في أول وصل ثم على اليسار في ثاني وصل»، ونلاحظ أنه قال: «طمغة» بالطاء، مما يعني تغير الكلمة صوتياً، لتصبح «دمغة» بالدال، وقد رأيت بعض الوثائق العثمانية تكتبها بالتاء «تمغة»، ما يعني أن هذه الكلمة تغيرت صوتياً من طمغة إلى تمغة ثم دمغة، وتستعمل في لغة الإدارة المعاصرة في مصر فقط، وهو الطابع البريدي الرسمي الذي يدل على دفع الرسوم الضريبية من الدولة.
ومن الألفاظ التي دخلت «العربية» مع سيطرة الإنجليز على الوطن العربي كلمة «سكرتير»، التي عربت واستعملت في العربية للدلالة على الكاتب، الذي تُملى عليه الأوامر والقرارات السياسية والإدارية في الدولة.
ظاهرة الاقتراض اللفظي ظاهرة لغوية تكشف عن أهل القوة والسيادة المتحكمين بمقدرات العالم، كما تكشف عن انقلاب موازين القوى في العالم، وذلك من خلال قياس شيوع استعمال ألفاظ معينة في لغة الإدارة والسياسة والاقتصاد، وكذلك استعمال هذه اللغة بوصفها لغة الوجاهة، فذلك دليل قوي على السيادة والسيطرة لأهل تلك اللغة، واليوم، اللغة الإنجليزية هي لغة العلم والوجاهة الاجتماعية والسيطرة السياسية، ولا عزاء للعربية التي كانت لغة العلم والوجاهة في العصور 
الوسطى.