ربيعة جلطي: أكتب باتجاه الإنسان وتحرير أحلامه

ربيعة جلطي:  أكتب باتجاه الإنسان  وتحرير أحلامه

تُعدُّ ربيعة جلطي أحد أهم الأسماء الأدبية في الجزائر اليوم، ومن أكثرها قيمةً. استطاعت الترسيخ لتجربتها التي بدأتها شعرياً في السبعينيات، منذ ديوانها الأول «تضاريس لوجه غير باريسي»، ثم تتالت دواوينها «شجر الكلام»، «حجر حائر»، «بحار ليست تنام»، «من التي في المرآة»، وغيرها، لافتةً الأنظار إلى شعريةٍ حقيقية، ومحققةً بها انتشاراً  كبيراً، وقد حفرت لمسارها الشعري وجوداً حقيقياً في المشهد العربي، ترجمها عبد اللطيف اللعبي، ورشيد بوجدرة إلى الفرنسية، قبل أن تقتحم عالم الرواية، فترسّخ فيها تجربةً حيَّةً وحقيقية تناولت الواقع الجزائري، ومحطات تاريخه، وتفاصيله الاجتماعية، متطرقةً إلى قضايا المرأة والمجتمع المدني ومسألة الرجعية والتخلف، ومواجهة أيضاً، الواقع وتفاصيله، اليومي الملتحم بالتاريخي والرمزي.

 علـى الــرغم  مــن هجــرتها إلى الغرب الأوربي لبضع سنوات، فإنها ظلَّت على وفائها لقضايا بلدها، وعادت تشتبك مع الواقع في الجزائر، محللةً قضاياه ومشكلاته الكبرى، كمبدعةٍ مخلصةٍ وذات قضية  كما فعلت في رواياتها «عرش معشّق» و«نادي الصنوبر»، و«الذروة» وغيرها، وهي روايات نالت مقروئية عالية في الجزائر والوطن العربي ككل. 
تبدو في الكثير من آرائها في هذا الحوار مُحلِّقةً خارج السرب، سرب التنميط في الثقافة العربية، واللعب على أوتار الجوائز، والرغبة في الظهور والشهرة كغايةٍ لا نتيجةٍ طبيعية، وهو ما لا تستطيع ربيعة الإيمان به. سربها الوحيد الذي تتبعه هو قناعاتها الخاصة وفق رؤيتها لمعنى الأدب وأن يكون أداةَ تحريرٍ للإنسان وتنويره وتثوير واقعه.
 مبدعة استثنائية... تتقاسم الحياة مع شريك رحلتها د.أمين الزاوي، الروائي الجزائري اللامع والأستاذ بـ «السوربون»، إلا أن لكلٍ منهما خصوصيته الإبداعية الواضحة، أدخلتني أبهاء عالمها الإبداعي الرحب في هذا الحوار. 
< تعرفين أنك إحدى أهم كاتبات جيلك، إحدى المبدعات القليلات اللواتي استمررن في الإنتاج الأدبي دون السقوط في فخاخ الأيديولوجيا، أو الانخراط في السؤال السياسي المباشر، رغم ولائك لقضايا بلدك وانحيازك لظواهره الاجتماعية... كيف استطعت المحافظة على هذا التوجه وسط تقلبات الاتجاهات الإبداعية وانتقالها يمنةً ويسرةً بين متطلبات الحداثة ومعاييرها؟
- نعم، أنت على حق، لم أغيِّر صوتي ولا اتجاهي على الرغم من السنين والتجربة، فمنذ البدء لم تأسرني موجات الانضمام لحزب ما والتبعية له ولبرامجه ولخطه السياسي والغناء داخل قفصه في جلساته السرية منها والعلنية، حيث إن الانضمام إلى حزب آنذاك، سواء حزب الباكس (اليساري) أو حزب جبهة التحرير (السُلطَة) كان يعدُّ بمنزلة سند حقيقي للكاتب المنتسب إليه ووسيلة للشهرة في المنشورات وبين المنتسبين. لم تُصِبني تلك الحمى فبقيت سالمة، لم أقبل أن أكون ناطقةً رسميةً باسم حزبٍ مُعيَّن، ظللتُ أغني خارج السرب، أكتب قصائدي وقصصي ونصوصي الإبداعية على هدي بوصلتي التي تحفر عميقاً في أعماق الإنسان وهمومه وأحلامه بحُريَّة وأريحية. طبعاً لم يكن ذلك يعجب زملائي الكُتَّاب، فأنتِ بالنسبة إلى المنتسبين للحزب اليساري بورجوازية، وبالنسبة إلى المنتسبين إلى حزب الأفلان شيوعية. لم يكن يهمني رأيهم. كان ذلك مؤسفاً ومُسليَاً في الوقت نفسه، ظللت أكتب بشكل مختلف وحر وأقرأ باللغات التي تعلمتها، فتشربت من الثقافة والآداب العربية والفرنسية والإسبانية، ومنها بالثقافة الإنسانية إلى اليوم، لم أغير جلدي ولا صوتي ولا اتجاهي وظل قلبي في مكانه. 
< أنتِ شاعرةٌ بالأساس، لكِ مجموعات شعرية عدة، ماذا يمثل لك الجمع بين الشعر والرواية، وهل ترين في التقائِهما تراسلاً وتلاقيا للأجناس، أم أن الشعر قادرٌ بأدواته ورؤيته المختلفة للعالم على تناول ما لا تستطيع الرواية التقاطه بأدواتها المباشرة؟
- نعم، كتبتُ الكثير من الشعر ولم أنشر كل ما كتبت. ولأنني امرأة خجولة ولا أعرف التحدث عن نفسي، فكُلَّمَا حاولت الإجابة عن سؤال كهذا تلعثمت، لكنني سأتشجع هذه المرة لأقول إن الشعر كبر معي وترعرعت في عشه الذي هو من قطن وشوك، قرأت إلى جانب أهم الشعراء في الوطن العربي ومنابر شعرية عدة في  العالم، فأعجبوا كما فعل الجمهور بتجربتي، مثل محمود درويش وأدونيس و«وول سوينكا» وبريتن بريتنباخ  وف. يرريرا وشوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين وطاهر رياض وأحمد عبد المعطي حجازي وعبد اللطيف اللعبي ورياض صالح حسين وسهام الشعشاع والشاعر الكبير البردوني، الذي كان لي الحظ في لقائه في دمشق وفي مهرجان جرش، وغيرهم الكثير،  إلا أنني آمنتُ منذُ البداية بأن الشاعر الجيد  قد يكون روائياً جيِّداً، والتاريخ الأدبي العربي والإنساني يدل على ذلك، فجميع التجارب،  الإبداعية الكبيرة في العالم من علاماتها البارزة أنها كتبت الشعر إلى جانب الرواية والقصة، إضافة إلى فنون أخرى من «والتر سكوت» إلى «فيكتور هوجو راغون»، إلى «إدغار ألان بو» وغيرهم الكثير، فلماذا كلما أراد الكاتب العربي المعاصر أن يحلّق  في سماءات إبداعية مختلفة عن عاداته يتعلق البعض بأجنحته ويريدون تسميرها بالأرض بحجة أن ذلك «عيب» أو «لا يجوز»؟ المبدع لا يملك سوى حريته، لذلك تجده أحياناً لا يأبه لما يقال، فيفردُ أجنحتهُ ويُحلِّقُ ويبدع للقراء وللتاريخ. أنا امرأةٌ مسكونة بألوان عديدة من الإبداع، لكنني أجمع شهدها في الشعر حين أفضي بأصداء أحاسيس الذات في أوجاعها وأفراحها المستمدة من أوجاع وأفراح الغير، وفي الرواية حين أحكي حيوات الناس وما جرى وما هو جارٍ وربما ما سيجري من خلال توحدي بهم وأحوالهم والإنصات إلى نبضهم العميق، ومحاولَة فهم وجس نبض الذات والواقع والتاريخ في جدلية معقدة. إن كتابتي للشعر والسير الخطير على حبله المشدود بقوة، علّماني أن الكلمة ذات حمولة قوية، والسرد الجيد مثل الشعر الجيد لا يقبل المط ولا التكرار، فالرواية برغم سخاء القماش الذي تقدمه لك ليس من حقك التطريز عليه كما اتفق، بل عليك أن تتفنن في كل جزء منه وتعطيه ما استطعت من فن السرد في اللون والصورة والحركة والشخوص والأمكنة والأزمنة والرموز والموسيقى والتاريخ والمعنى.
مساحة الرواية الممتدة خطر حقيقي على الروائي إن لم يعرف كيف يشد قارئه منذ أول كلمة حتى ما بعد النهاية التي يشركه فيها، وبالتالي تسكن الرواية وأحداثها وشخوصها ذاكرته إلى الأبد. لا يختلف الشعر عن السرد من وجهة نظري، سوى في كون الشعر هو بوح مفرد من خلال حالة تتبدى وكأنها نسغ رواية مقتضبة، أما الـــروايـــــة فــــــإنــهــا حالة شعرية تتسلل لفتح النوافذ على حيوات العديد من نماذج  الناس والمخلوقات في المجتمعات عبر المدن والقرى من خلال الأحداث والأحاسيس والأفكار.
 إن كاتب الرواية حين يبتعد عن «جوَّانية» الناس فلن يعيد سوى إنتاج نفسه ويعبد ذاته الضيقة التي لا تهم القراء في شيء. 
< حاولتِ في رواية «نادي الصنوبر» أن تصوري تباين البيئات الجزائرية بين الطوارق والمدينة (الحضر) عبر نموذج إنساني هو شخصية «الحاجة عذرا»، التي تنتقل من جفاف الطوارق وخشونة الحياة بها إلى حياة المدن المرهفة المحكومة بالسرعة والعلاقات العابرة والرفاهية... ما الباعث الذي دفعك إلى تناول هذه القضية، التباين بين البداوة والحضر، الصحراء والمدينة، التكامل والتباين بينهما؟ هل المكان يخلق إنسانه أم العكس؟
-  الطوارق جزء من المجتمع الجزائري والمغاربي، كما هم جميع الأمازيغ والميزابيين وغيرهم، المجتمعات المغاربية من المفروض أن تستمد قوتها من هذا الثراء الثقافي والإثني واللغوي والتاريخي الذي تزخر به المنطقة. ثم إن للصحراء الشاسِعة دَيْنَاً على الشمال، فمن كنوزها المكنونة تصِلُ اللقمة إلى معظم سكان الشمال الذي يُرادُ له الخمول والكسل. في رواية «نادي الصنوبر»، ينطلق حوار الجغرافيات بين الجنوب والشمال؛ بين الطارقية «الحاجة عذرا» من جهة، الآتية من رائحة صهد الرمال المترامية وعطر الواحات ونشيد التنقل والرحيل، ويتجلَّى معنى الحرية في التفاصيل وفي غناء الصمت على إيقاع الوتر الوحيد لآلة «الإمزاد» التي لا توأم لها في العالم، ومن جهة أخرى تبدو بقية العالم- بما فيه الشمال المنتكس المليء بالعاهات السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية وبقايا الصحارى المتحولة الناضحة عنها - ثوب الجمال والصدق مع الذات.
لي جدتان مثل باقي الخلق، وإن كانت جدتي لأبي من الشمال الجزائري تزهو بأصولها الأندلسية وبما ورثته من حزن دفين  لتاريخ إنساني راقٍ لا يضاهى في تسامحه وما يزخر به من جمال وموسيقى وعين لاقطة لكل نور. إن جدتي لأمي هي بنت الصحراء سليلة الملكة «تينيهينان» التي عبرت المغرب والجزائر. فمن التقاء البرودة والحرارة جاء الرعد وجاءت «الحاجة عذرا» وجاءت رواية «نادي الصنوبر» بشخوصها  العديدة وأصواتها المختلفة لتطلق حواراً ليس فقط بين الجغرافيات الجزائرية باختلاف مميزاتها وأشكالها، بل تتجاوز ذلك إلى أصوات أخرى في الجغرافية العربية، في علاقاتها وهي تبحث عن التوازن المفقود.
< في روايتك «عرش معشّق»، تتناولين عالم الأنثى وفق مفاهيم ورؤية المجتمع الذكورية، التي لا تتجاوز الظاهر، وفق أفكار تختزل قيمة المرأة في شكلها، وخُضتِ ذلك الصراع المنافح عن المرأة وقيمتها الحقيقية، لا ظاهِرها المراوغ... كيف تستطيعين تناول قضايا اجتماعية مثل هذه القضية وسط استعراض تاريخ المجتمع الجزائري، دون أن تقعي في فخ المباشرة أو التأريخ السياسي والاحتفاظ بمرونة السرد؟
- ربما لأنني لا أطلق أحكاماً قِيميَّة من خارج السرد، أترك للأحداث المتشابكة العمل على الإقناع. «زليخا» بطلة رواية «عرش معشّق» قبيحة الشكل، تشنُّ بهدوءٍ وذكاء حرباً ضَروساً على القبح العام الحقيقي المستشري في المجتمع، القبح بكل أشكاله وطبائعه، القبح الاجتماعي والسياسي والعنف العقائدي، وتضع سبَّابتها المعقوفة على ما يُرادُ له أن يُغطَّى، فتفضح الكذب، كل ذلك عبر الأحداث المتتالية ومن خلال شبكة علاقاتها مع بقية الشخصيات وعبر الذاكرة الجماعية التي تؤثث لها عوالم  «المجاهدة نورة» وابنها «بوعلاَّم» ابن الشهيد، وبقية الشخوص الحية التي تعيش داخل الرواية.
رأيكَ في رواية «عرش معشّق» سرَّني، كما سرَّتني الأصداء العديدة التي تأتيني من قرائها يومياً. ربما حدثَ ذلك لأنني تركت الرواية تنضج فكرتها من الداخل ومن التفاعل العميق والداخلي للشخصيات ولم أتدخل كسارِدة وحيدة، ولم أستعمل سطوة الراوي الأوحد تجاه شخصية أو حدث داخلها. كأنما كنت أتفرج عليهم وهم ينضجون بين يدي، يتحركون بحرية ويسردون ويتصرفون ويحبون ويكرهون ويجنون ويقولون ويصمتون كما شاءوا. لم أكن السارِدة الطاغية فألوي أعناق شخصيات «عرش معشّق» كما يحلو لي، كانوا أحراراً ومسؤولين عن آرائهم ورغباتهم وحركاتهم وسكناتهم. الحرية رائعة حتى وإن كانت في عالم افتراضي وعلى الورق... لعل هذا ما جعل شخوص الرواية قريبين من عالم القراء.
< حققت روايتك «نادي الصنوبر» مقروئيةً عاليةً، وتفوَّقَت على الروايات الأخرى التي صدرت في العام  2012 متقدمةً على أسماء مكرسة وأعمال أصحابها، في استبيان مباشر - ومُحكَم - على الإنترنت. في تصورك، لماذا تنحاز «النجومية» في كثير من الأحيان على حساب «القيمة» في انتشار عمل أدبي ما أو ذيوع أديب. وأنت حقَّقت هذه المعادلة الصعبة بالجمع بين العاملين؟
- لو أن الجائزة كانت من لجنة قراءة ما، أو جهة ما  لما سُرِرت، فالجوائز- كما تعلم ويعلم الجميع- لها سراديبها المظلمة وأسرارها وانزلاقاتها وكيمياؤها الخاصة، السرية منها والعلنية، أما أن يختار القرّاء على العلن رواية «نادي الصنوبر» بالتصويت الفردي الحر عبر الإنترنت ومن مدن وقرى وبلدان مختلفة بعد أن حققت مبيعات كبيرة في مختلف المعارض الدولية للكتاب فهذا جعلني أعتز أيما اعتزاز، ويحقق المقولة بأن الجائزة الحقيقية لأي كاتب هي جائزة القراء.
من حسن الحظ أن القارئ العربي لم يعد غريراً. أصبح بالغا وتطورت ذائقته ونما حسه النقدي، فلم يعد بالإمكان الضحك عليه بالدعاية، فهو حين يكتشف عالمك الروائي المختلف سيبحث عن جديدك حيثما كان، ولعل الحادثة التي روتها صاحبة الدار التي نشرت «نادي الصنوبر» لدليل، حين جاء شاب لشراء «نادي الصنوبر» بعد أن نفدت من المعرض فصرفتْه بلباقة، ولكنه ظل واقفاً ثم اقترب منها ليفضي إليها أن خطيبته التي أعجبت برواية «الذروة» أوصته أن يأتي لها برواية نادي الصنوبر، وأسرّ لها أنه يخشى أن يعود إليها فارغ اليدين، فما كان من صاحبة الدار إلا أن باعته إحدى النسختين الباقيتين الخاصتين بمكتبتها، فبقدر ما تأثرت لهذه الواقعة سررت بها، وأحسست بمسؤوليتي كمبدعة حيال القارئ المتابع المنتظر بلهفة لما أنشره.
وأوافقك القول في ما ذهبت إليه من اللاتوازن القائم غالباً بين «نجومية» الكاتب و«قيمة» عمله، فأنت أدرى أن الإعلام يصنع النجوم، ولكن النجوم تموت ولو بعد حين ليظل الأثر.
 وصحيح قولك أيضاً إن هناك بعض الأسماء التي نالت الشهرة ومازالت تسعى بكل ما أوتيتْ من جهد وصداقات ومعارف لتكثيف اللقاءات والمقابلات المرئية والمسموعة والمكتوبة والحوارات المطولة التي  تنشر على  شكل كتب كاملة، كأن الكاتب يريد من خلالها ملء فراغ لم تملأه كتاباته، فيسعى لتحقيق النجومية،  فينسج ضمن حواراته العديدة قصصاً خرافية حول أصوله و«دونكيخوتيته»، وهكذا يسعى لكي يصبح هو نفسه البطل في غياب قوة أبطال مؤلفاته.
بالنسبة لي لا وقت لديَّ لفعل ذلك، فأنا أريد لأبطال رواياتي أن يعيشوا بين الناس، أن يتمردوا على الخيال. أصارحك أنه كم يسعدني حين يحدثني القراء عن شخصيات رواياتي مثل «عذرا الطارقية» ورقصة طلاقها، و«مسعود» وشخصية «بوعلام» و«عبدقا» و«زليخا» وغيرهم، أصبح لهم مكانهم في أحاديث القراء أكثر من الحديث عن ربيعة.
 سعدت  أيضاً بحضور «أندلس» بطلة روايتي «الذروة» الصادرة عن دار «الآداب» والتي كتبتها سنة  2009. ولأن اسم «أندلس» لم يكن موجوداً في الواقع قبل صدور «الذروة»، فقد أخبرني بعض القراء والقارئات أنهم سمُّوا بناتهم حديثات الولادة بـــــــ «أندلس» إعجاباً بهذه الشخصية المركزية في رواية «الذروة».
< في روايتك «الذروة» كأنما حاولتِ رسم مشهدٍ متعدد الأبعاد لكل مقوِّمَات التراجع والتخلف في مجتمعاتنا المشرقية عامة، وفي الجزائر خاصةً، وتناولتِ الصِراع بين العلم والجهل، والسُلطَة والمَقموعين... واجهتِ الجهل وفضحتِ المحاولات المستمرة لإقصاء المرأة، وفشل المجتمع المدني، وتناقضات بلادنا مع طموحاتها... إلخ. هل تؤمنين بأن هذه القضايا المصيرية في حياة بلادنا أولوية للكتابة الأنثوية، باعتبار المرأة إحدى معضلاتها؟ أم أنك كتبتها دون تفكير في تصنيف ما بين كتابة نسوية أو ذكورية؟
- أولاً السياسة قدر الجميع. إننا جميعاً نساء ورجالاً مواد قابلة للتسييس، سواء بوعي منا أو من غيرنا. أؤمنُ بأن الكاتب  الذي لا يدرك بوعي حقيقي ما يحدث في مطابخ السياسة غير قادر على معرفة خصمه التاريخي من نصيره، فتظل كتاباته آنيةً دون أن تصب في نهر التاريخ، إلا أنني - انطلاقاً من تجربتي - أؤمن بأن دور المثقف بما فيه الأديب والفنان هو المحافظة على قدسية المسافة بينه وبين السياسي، أو بالأحرى بينه وبين التنظيمات السياسية الحزبية حتى تكون رؤيته حرة ومستقلة، وبقدر ما يكون حريصاً على هذه المسافة تجاه الأحزاب، عليه أن يكون قريباً من المجتمع المدني عبر المتلقي للمنتج الفكري والجمالي. 
ثم إن رواية «الذروة» جعلت المرأة والرجل معا سواسية في ميزان النقد، وقد استنتج النقاد الذين كتبوا عنها في الصحف والمجلات العربية، أنها لم تنبع من الأنثوية التبسيطية، فليست  رواية نسوية ولا أنثوية تدافع عن المرأة بالطريقة الكلاسيكية المعروفة، بل أكَّدَت الدراسات أن المرأة في رواية الذروة لم تكن الضحية دائماً، بل تقوم أحياناً بدور الظالم المستبد، القامع للحريات والقاتل للأحلام، القامع للمرأة والرجل معاً. 
< لعل في «الذروة» يتبدَّى البحث عن إنسانية الإنسان رجلاً وامرأةً على السواء، في مجتمع مستلب متخلف مظلوم ومحبط؟
- صحيح، فــ «الذروة» تتعدى المحلية الجزائرية إلى العربية، ربما لأنني تعرفت إلى  المجتمعات العربية وعايشت شعوبها والعديد من مثقفيها وسياسييها عن قرب وتجربة. لم يكن خافياً الوجع الذي كان يسري في مفاصل هذه المجتمعات، إلى أن جاء الغضب، الغضب/ الانفجار الذي أودى بالأخضر واليابس... الغضب الذي لا يحسب حساباً عقلانياً غير الاندفاع العفوي للتخلص من القيد دون حساب التبعات... في النهاية المفتوحة لرواية «الذروة» فإن من يقوم بالانقلاب على الحاكم الأوحد «ذو الغلالة» هو شخصٌ مثليٌّ من خُدَّام القصر، يقوم بتغيير الحاشية وكل شيء حوله في السلطة، ناسيا لوحة «أندلس» العصيَّة على الطاعة. فالحلم بالتغيير إذن يظل قائماً طالما تظل لوحة الفنانة «أندلس» معلقة على رأس سرير الحاكم الأوحد، وهو الحلم بالتغيير الحقيقي لحالة الاستبداد والاستغلال بشتى أنواعه والجهل والفقر والإقصاء.
< هل تؤمنين بالأساس بفكرة الكتابة الأنثوية أو الأدب النسوي؟
- لا حساسية مفرطة لديَّ حِيال المصطلحات... أؤمنُ بأن الكتابة تنبع من ذاتٍ، ذات حساسية تمتلك خصوصيات وبصمات متفردة، فـــ «كل كاتب بما فيه ينضح». ليس عيباً أن تكتب المرأة منطلقةً مما تعرفه، وقد سبق لي أن كتبت عن تجربة الطلْق والولادة، لا أعتقد أن الطبيب النسائي المولِّد يشعر بما تحس به مريضته وهو يولِّدُها، ذاك وذاك شيء آخر.
لكن يختلف الأمر حين تصنف ما تكتبه المرأة على أنه جنس كتابة آخر، بمعنى أن يُزجى الحديث عن الكاتبات في خانة واحدة... تُجمع كُتُبهن في قفة واحدة على هامش الحديث النقدي، لا أستسيغ أن يُصنَّف الأدب صنفين، فيكون «الأدب»  أولاً، وهو ما يكتبه الذكور بغثه وسمينه، ثم ثانياً ما يُطلِقون عليه «الأدب النسائي»، ليكون الأدب بأقلام النساء هو أدب «خارج التصنيف»، بمعنى «خارج الأدب الرسمي المعترف به»، وهذا ما لا أتفق معه، لأنني أؤمِنُ بأنَّ الإبداع إبداع سواء كان في  الأدب أو السينما أو المسرح أو الفن التشكيلي أو الغناء أو الموسيقى، لا يمكن أن نذكِّره أو نؤنِّثه. إنه لا يدخل ضمن مسابقات رفع الأثقال.
 فكما هو من العيب أن نصنِّف الأدب بمقاييس جسدية- حتى ضمن كتابات الذكور- تصنيفات غريبة مثل «أدب العميان» و«أدب العرجان» و«أدب الطرشان» و«أدب الطوال» و«أدب القصار» و«أدب النِحاف» و«أدب السمان» و«أدب المخنثين» و«أدب الفحول»، فمن العيب كذلك أن تُصنِّف ما تكتبه الأديبات على أساس جنسي. ما الذي يصيبهم بالذعر منه يا ترى؟ 
< من الشعر ومرآويته المقارِبة للحياة، إلى متن الحياة بكل ما فيها من ثِقل وتفاصيل، إلى الرواية... بعد ثماني مجموعات شعرية، من «تضاريس لوجه غير باريسي»، و«التهمة»، و«شجر الكلام»، و«حجر حائر»، وغيرها... هل ترين أن الشعر مازال يواكب مسار الإنسان العربي ويبشر بمستقبله، أم أن المسافة اتسعت إلى حدها الأقصى بينهما في الظرف الحضاري الراهن الذي يضع هذا الإنسان بين خياري المقاومة أو الفناء؟
- الشعر مبثوث في كل شيء حولنا، لكن البشر بِهِمْ حوَلُ، وهذا محزن فعلاً. ابتُلي الإنسان بالكراهية منذ زمن، ثم بدا لمن يريد استغلاله أن يتفنن في إيجاد عوامل التفرقة بكل أشكالها، العقائدية منها والعنصرية واللغوية والجهوية.
يكفي أن يلتفت الإنسان حوله ليرى الجمال والخير والطيبة ويتعلم كيف يحب الآخر المختلف عنه ديناً ولوناً ولغةً ويمد له يده. ستفنى الأيدي جميعها بعد حين، ولكن طاقة المصافحة ستظل في الكون إلى الأبد.
 هذا هو الشعر، الشعر نبض جوَّاني وإحساس لا لغة نهائية تحتويه، لا يقدّره سوى الناس الطيبين البسطاء. حدث كثيراً أن قرأتُ أشعاري في بلدان لا تعرف اللغة العربية فاهتز وجدان الجمهور وصفقوا طويلاً واستزادوا قبل أن تُقرَأ الترجمة... إنهم يحبون الرموز التي تخبرهم أننا نتشابه، وأننا إخوة في الإنسانية خارج دفة الحروب اللئيمة والسياسات الجشعة التي لا عين لها سوى على ما في بطن الأرض وليس ما فوقها. حدث ذلك في أمريكا اللاتينية والصين وأوربا، الشعوب طيِّبَة تبحث عن الخبز والحياة الكريمة وفرح الأولاد. 
نعم، الشعر مازال قادراً على أن يحرك ما لا يُحرّك في الإنسان المعاصر. وعلى الإنسان العربي, خصوصاً الذي يدرَّب يوميا على أن يحمل معول هدم ذاته, أن يراجع نفسه.
لكنني من داخل هذا الكساد العام ترن في علبة رأسي كلمة تعلمتها في المدارس: «العرب أمةُ شِعر». لعلها كذبة... كذبة بزعانف حادة إلى أن يُثبت العكس، الشِعر ملك الإنسان الذي يشعر بأخيه الإنسان كيفما كان لونه أو دينه أو لغته أو جغرافيته. وفي انتظار ذلك أعمل ومنذ أشهر عدة على رواية جديدة، وكذا على إصدار مجموعة شعرية بعنوان «في وضح الليل»... لعل نهار الإنسانية يطلع قريباً.

الكاتبة الجزائرية أثناء تلقيها التكريم في  إحدى المناسبات الأدبية