جوستاف لوبون وحضارة العرب

جوستاف لوبون وحضارة العرب

أدى الغزو النابوليوني لمصر في نهاية القرن الثامن عشر، والتطور الاقتصادي والرأسمالي والعلمي والتكنولوجي والفكري لأوربا ونشاطها الاستعماري إلى تكثيف الدراسات عن حضارات الشرق وثقافاته وأديانه وثرواته الطبيعية. وقد عبّر فيكتور هيجو (1802-1885) أفضل تعبير عن هذا التحوّل المثير بقوله في مقدمة كتابه «الشرقيات» (1829) «Les Orientales» بقوله: «إن الدراسات الشرقية قد وصلت إلى حد لم تبلغه من قبل. ففي عصر لويس الرابع عشر (1643-1715) كنا هلِّينيين، الآن نحن شرقيون، حيث لم يساهم من قبل مثل هذا العدد من العقول في نبش التراث الآسيوي العظيم... إن القارة الأوربية بأكملها تميل نحو الشرق، لدينا اليوم عالم مقيم في كل لغة من لغات الشرق بدءًا من الصين حتى مصر».

إن بحث الأوربيين في التراث الآسيوي العظيم هو ما يطلق عليه حركة الاستشراق. من الطبيعي أن يكون العالم الإسلامي، الشاسع بمداه الجغرافي في آسيا وإفريقيا وأوربا، والواعد بجدواه الاقتصادية، والغني بتراثه العلمي والحضاري والعدو اللدود لأوربا، هو الميدان الرئيس لتلك الدراسات، بعد أن فاق روما إشعاعًا وقوة.
لقد شكّل الإسلام منذ ظهوره في القرن السادس الميلادي حتى بدايات القرن التاسع عشر تحديات دينية وعسكرية وثقافية لأوربا، فكانت الحروب الصليبية الفاشلة (بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر)، وحروب الاسترداد Reconquesta الناجحة عام (1492) التي أدت إلى سقوط غرناطة آخر ممالك المسلمين في الأندلس، من مظاهر ردود فعل الأوربيين على تلك التحديات.
لم يكن الأوربيون يعرفون شيئًا عن حقيقة تعاليم الإسلام وشرائعه الفقهية التي تتناول ما ورد في القرآن من نظم للفكر والممارسة، بالرغم من انقضاء حوالي ألف سنة من المجابهة مع أتباعه، بينما كان لدى المسلمين اطلاع واسع على عقائد المسيحيين واليهود الذين يعيشون بينهم. كان هناك رفض مطلق للإسلام كدين مع أنه عظيم الإجلال للمسيح كنبي ولأمه مريم. نقرأ ذلك - مثلاً - في كتابات باسكال (1623-1662) أو شاتوبريان (1768-1848)، حتى أن وليم وستن W.Whiston خليفة نيوتن في جامعة كمبردج طرد من الجامعة عام (1709) لإشادته بالإسلام. وعلى الرغم من ذلك فإن بعض المؤلفات العلمية والفلسفية العربية المترجمة إلى اللاتينية، وخصوصًا كتب ابن سينا والرازي الطبية ظلت تدرس في كليات الطب الأوربية حتى القرن الثامن عشر، كما أن كتب ابن رشد الفلسفية كان لها تأثير كبير في نشر التيار العقلاني وحريته في الفكر الأوربي الحديث، وكذلك مقدمة ابن خلدون التي كان لها أثر ضخم في الدراسات التاريخية والاجتماعية. لكن هذا الفهم الخاطئ عن العرب والمسلمين لم يمنع تزايد اهتمام الأوربيين بالعالم الإسلامي بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، مع حدوث بعض التغيرات في معنى الأديان وفهمها، بحيث لم يعد باستطاعة الباحثين الأوربيين إنكار دور الإسلام المهم في تاريخ الإنسانية، وخصوصًا في المجال العلمي والتجريبي الذي كان روجر بيكون (1214- 1294) Roger Bacon من أوائل المتأثرين به وناقليه إلى الفكر الأوربي في العصر الوسيط. وكان الفيلسوف كوندورسيه قد ذكّر بعلوم العرب في كتابه: «مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري».

العربية والتبشير
أما الراهب الكاثوليكي المبشر ريمون لول (1234-1316) R.Lull فقد أدرك بعد زيارته لبعض بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط، أهمية معرفة اللغة العربية وتعاليم الإسلام في حركة التبشير، فاقترح لهذه الغاية إنشاء معاهد لتدريس اللغة العربية في أوربا، وهو الاقتراح الذي نفذه المجمع الديني المنعقد في فيينا Concile de Vienne عام (1312)، فأنشأ مجموعة كليات لتدريس اللغة العربية في كل من باريس وأوكسفورد وبولونيا وأفينيون وسلمانكا. إلا أن أول دراسة أوربية منهجية عن العرب والمسلمين وتاريخهم وحضارتهم تعود إلى العام (1587) عندما بدأ تدريس اللغة العربية بانتظام في الكوليج دو فرانس في باريس، ثم في جامعة ليدن بهولندا عام (1613)، وفي جامعة كمبردج عام (1632)، وفي جامعة أوكسفورد عام (1634)، وأدى ذلك إلى الانفتاح على دراسة التراث الديني والعلمي والثقافي العربي والإسلامي بشكل جدي كان من بواكيرها كتاب «نماذج في التاريخ العربي» باللاتينية من تأليف القس إدوارد بوكوك (1604-1691) E.Pocoke أول أستاذ لكرسي اللغة العربية في أوكسفورد. كما أن جورج سيل (1697-1736) G.Sale نشر في عام 1714 أول ترجمة دقيقة للقرآن إلى الإنجليزية، مع مقدمة مهمة أشاد فيها بالنبي محمد وذكائه الخارق.
وفي الفترة نفسها تقريبًا نشر سيمون أوكلي Simon Ockley (1678-1720) كتاب تاريخ العرب Histoire des Sarrasins الذي أشاد فيه بالنبي محمد وبتعاليمه الأخلاقية ذات الأهمية البالغة التي حملها العرب معهم إلى أوربا.

فهم جديد للإسلام
وكان لهذا الكتاب ولمقدمة سيل لترجمة القرآن الكريم أهمية بالغة في اتساع وزيادة الفهم الجديد للإسلام، وفي إيصاله إلى جمهور قارئ خارج أروقة الجامعات.
يضاف إلى هذين العملين كتاب بارتلمي ديربيلو B.dHerbelot «المكتبة الشرقية» الذي نشر عام 1697 بعد وفاة مؤلفه، والذي تضمَّن معلومات تاريخية وجغرافية وأدبية ودينية عن الشعوب الشرقية، كانت حتى ذلك الوقت محجوبة عن الأوربيين، وهو كتاب غني جدًا بالمراجع العربية والفارسية والتركية، كما يقول واضع مقدمة الكتاب المستعرب أنطوان جالان A.Galland (1646-1715) مترجم «ألف ليلة وليلة» إلى الفرنسية (1704-1717)، وقد بقي «المكتبة الشرقية» المرجع الرئيس لمثقفي أوربا عن الإسلام والشرق حتى أوائل القرن التاسع عشر، كما أن إدوارد جيبون E.Gibbon (1737-1794) خصص الفصل الخمسين من كتابه المشهور «انحطاط وانهيار الإمبراطورية الرومانية» (1776-1788) للحديث إيجابيًا عن النبي محمد وصعود الإسلام. وفي العام 1841 أصدر توماس كارليل T.Carlyle (1795-1881) كتاب «الأبطال» الذي كان له تأثير كبير في الناطقين بالإنجليزية والذي يعترف فيه بنبوّة محمد وفقًا لتعريفه النبوّة بأنها «روح عظيمة صامتة». ويجب ألا ننسى في هذا المجال فردريك موريس F.Maurice أحد كبار لاهوتيي إنجلترا، وأستاذ الأدب والتاريخ واللاهوت في Kings College ومؤلف كتاب: «ديانات العالم وعلاقتها بالمسيحية»، وأحد المؤيدين لنظرية كارليل في النبي محمد، في وقت أصبحت إنجلترا دولة استعمارية تُخضع لسلطانها شعوبًا لا تدين بالمسيحية، وظهور تحوّل هائل في المشاعر تجاه الأنظمة الدينية والاهتمام بالفكر الفلسفي والعلمي نتيجة أفكار فلاسفة عصر التنوير، وتساءل موريس: «أليس من الممكن أن زمنًا أفضل بات قريبًا سيحل محل الديانات؟».
كما تساءل عن سبب نجاح الإسلام وبقائه حيًا، بل وازدهاره وانتشاره، وعن الأثر العظيم والدائم لشخصية محمد على البشرية؟ إنها أسئلة تصعب الإجابة عنها - كما يقول - لأن الإسلام دين يشجب كل عبادة للأشخاص. وقد أدى هذا التعاطف مع الإسلام إلى طرده من الجامعة.
اللائحة طويلة في هذا المجال وخاصة إذا عرفنا أن معظم المستشرقين كانوا حتى منتصف القرن التاسع عشر من رجال الدين اليهود والمسيحيين، وهم خبراء في العهدين القديم والجديد، ومبشّرون همهم الوحيد تحطيم صورة الإسلام في نفوس أتباعه ونشر الترهات عنه وتبخيس دور الحضارة العربية والإسلامية في نشوء وتطور الحضارة الأوربية الحديثة، والإشادة بتعاليم الدين المسيحي وبالتالي قيم الحضارة الغربية المسيحية.

العرب أساتذة أوربا
وفي ألمانيا التي لم تشارك في استعمار أي دولة إسلامية، جرت محاولات حقيقية لدراسة الإسلام وفهمه، فأقر ج.فون هيردر J.Von Herder (1744-1803) بأن العرب هم أساتذة أوربا. وفي العام 1774 نشر الشاعر جوته (1749-1832) Goethe قصيدة يمجد فيها النبي محمد، وفي عام (1819) أصدر كتابه المعروف «الديوان الغربي والشرقي» الذي يشيد فيه بالعرب والإسلام.
وبحلول القرن التاسع عشر، أنشئ جهاز دولي لتبادل الآراء والمعلومات عن طريق تأسيس الجمعيات العلمية التي كان لكل منها مجلة تنطق باسمها، والتي كان عملها الرئيس دراسة العربية وتدريسها، إلى جانب تدريس لغات الحضارة الإسلامية الأخرى وإصدار القواميس عنها، ونشر بعض المؤلفات المهمة في الفقه والشريعة والتاريخ والأدب.
الخلاصة، أن هدف الاستشراق في معظمه لم يكن البحث العلمي المنزه، وإنما تذليل العقبات أمام المشاريع التبشيرية أو السياسية أو الاستعمارية لجعل الشرق يتناسب مع رغبات وحاجات السيطرة الغربية، مع الإشارة إلى أن الشيخ الأكبر للاستشراق العلمي لفرنسا وكل أوربا هو سيلفستر دوساسي Sacy de Sylvestre الذي تخرجت على يديه مجموعة من كبار المستشرقين. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا انفصل الاستشراق عن اللاهوت، وأصبح علمًا يهتم بدراسة تاريخ الإسلام وشعوبه وثقافاته ولغاته. ونتيجة لذلك ظهرت علوم جديدة كالأنتروبولوجيا وعلم فقه اللغة (الفيلولوجيا) وعلم الآثار وعلم الأساطير (الميثولوجيا)، وهي العلوم التي اعتمد عليها بعض الدارسين وخاصة ماكس مولر (1823-1900) Max Muller وآرنست رينان (1823-1892) E.Renan الذي لعب دورًا مهمًا في تكوين صورة سلبية عن الإسلام والمسلمين في الفكر الأوربي الحديث، بالرغم من توافر مخطوطات كثيرة عن علوم العرب والمسلمين ونشاطهم الفكري والفلـــسفي في ذلك الوقت في المكتبات والأديرة الفرنسية والأوربية الكبرى.
وفي محاضرة ألقاها في «السوربون» بتاريخ 29 مارس 1883 بعنوان «الإسلام والعلم» ردّد فيها رؤيته العنصرية المليئة بالسلبيات والأخطاء عن علاقة الإسلام بالعلم، فردَّ عليه جمال الدين الأفغاني في صحيفة الديبا Le Debat، عدد 713، عام (1883)، معددًا أخطاءه الكثيرة حول هذا الموضوع.
في هذه الأجواء المعادية للعرب والإسلام والمسلمين، أصدر جوستاف لوبون كتابه الرائع «حضارة العرب» متصــديًا فيه لتلــــك الطروحات العنصرية بروح علمية محايدة نجدها في كل مؤلفاته، فبعد دراسته تاريخ «الإنسان والمجتمعات» في كتابه (1881) L,homme et les societes، قرر أن يكرّس مجلدات عدة لتاريخ الحضارات العظيمة، بدءًا من الحضارة العربية التي فتنته بعناصرها العلمية والفنية والأدبية والدينية، ومن أجــــل تنفيذ هذا المشروع الكبير، قام بجولة استطلاعية في ما بين عامي (1882-1884) إلى معظم الأقطار العربية والإسلامية، فزار بلدان شمال إفريقيا(المغرب والجزائر وتونس) ثم إثيوبيا، لبنان، مصر، فلسطين، ســـــورية، تركـــــيا، بغداد، أصفهان، وسمرقند، ليرى بعينيه بعض مظاهر هذه الحضارة، وليبطل الادعاءات العنصرية التي أذاعها المبشرون، وأرنست رينان وغيرهم عن العرب والمسلمين.
نشر لوبون هذا الكتاب عام (1884) مزوّدًا برسوم فوتوغرافــيــة كـــــثيرة صوّر معظمها بنفسه، ما أحدث ضجة كبرى في الأوساط العلمية والتبشيرية، واعتبره الباحثون المحايدون أهم كتاب أوربي ينصف حضارة العرب والمسلمين بالبراهين القاطعة، التي تناقض النظريات العرقية والعنصرية والاستشراقية السائدة يومئذ في فرنســـا والغرب، وفي طليعتها نظريات أرنست رينان، وجوبينو وجبريل هانوتو G.Hanotaux وغيرهم. ولهذا السبب لم ينظر إليه الأوربيون نظرة التقدير التي يستحقها، فحذفوا اسمه من قــواميس لغاتهم، مع أنه من ألمع علماء الاجتماع والتاريخ في القرن التاسع عشر ومن أعظم المفكرين الرؤيويين Visionnaires الأحرار الذين أنجبتهم فرنسا في ذلك القرن. وقد تساءلت الكاتبة الأمريكية أليس وايدنر Alice Widener في كتابها «جوستاف لوبون وأعماله»: «كيف تبقى أعمال عبقري مثل لوبون مجهولة إلى هذا الحد؟». أما البروفيسور سيرج موسكوفتشي Serge Moscovici  فكان أول من حــــاول إعادة الاعتبار لأفكار لوبون في كتابه «عصر الجماهير» Lage des foules (1981)، وتساءل: كيف يمكن تجاهل رجل يعد بين العشرة أو الخمسة عشر الذين أثرت أفكارهم من وجهة نظر اجتماعية تأثيرًا حاسمًا في مجمل القرن العشرين؟
لا يمكننا في هذا المجال تناسي البريطاني توماس أرنولد T.W.Arnold وكتابه «الدعوة إلى الإسلام» (1896)
 The Preaching of Islam الذي بيّن فيه عظمة التسامح الديني الإسلامي، ما حمل معظم المستشرقين المتعصبين - وخصوصًا المبشرين منهم - على الطعن به واتهامه بمحاباة المسلمين.
ومهما يكن، فإن لكتاب حضارة العرب قيمة تاريخية وعلمية تجب المحافظة عليها ونشرها بين الأجيال العربية والإسلامية المعاصرة كشاهد على ما أنجزه أجدادهم العظماء.