في وداع جوزيف حرب وأنسي الحاج

في وداع  جوزيف حرب وأنسي الحاج

في غضون أسبوع واحد خلال شهر فبراير 2014، فقدت ساحة الكلمة العربية فارسين لبنانيين ترجلا، كان أولهما جوزيف حرب، الذي كان انسكاب شاعريته الفذة في لغته الفصحى والمحكية اللبنانية سببا في  أن يسرع الرحبانية وفيروز إلى شعره المتوهج وكلماته المحلقة لتصبح غناء وشدوا وعزاء للملايين كلما أطربهم صوت فيروز, وثانيهما هو الشاعر أنسي الحاج أحد مؤسسي مجلة شعر، الذي لم يركض قط وراء جائزة أو لقب مخلصا للشعر  وملهماً لأجيال من شعراء العرب.

كما أتيح لقلمه المبدع أن ينسج من خطوط الحرير عديدًا من ألوان الدراما الإذاعية والتلفزيونية، ورائع المسرح واللوحات والصور الغنائية والكتابات الأدبية النادرة يزاحم فيها نثره شعره.
وفي دواوينه بالفصحى: «شجرة الأكاسيا»، «مملكة الخبز والورد» «الخصر والمزمار» و«السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية» و«المحبرة» و«رخام الماء» و«وكلك عندي إلا أنت» و«شيخ الغيم وعكازه الريح»... وفي دواوينه بالمحكية اللبنانية «مقص الحبر» و«سنونو تحت شمسية بنفسج»، و«طالع على بالي فل»، و«زرتك قصب فليت ناي»، (فل وفليت بالمحكية اللبنانية معناها أهرب). وكان جوزيف حرب يمنح الشعر اللبناني المعاصر أوج سفارته إلى وطن النجوم لبنان وإلى الوطن العربي كله.
هذا هو راهب الشعر الذي رحل عن عالمنا صبيحة الإثنين 10 فبراير 2014، راهب الشعر المتجرد له والمصلي دائمًا في محرابه.
وكانت مصر تملأ وجدان جوزيف حرب، وكثيرًا ما بادر إلى تلبية دعواتها لإلقاء شعره فيها، ولايزال جمهور معرض الكتاب الدولي بالقاهرة يذكر رائعته في ذكرى «أمل دنقل» وقصيدته البديعة عن «شوقي وحافظ» في ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي، وسيبقى صوته يتردد في أسماعنا وعبر سطور دواوينه شاهدًا على شاعرية متفرّدة وجمــال إنساني.
ونعى الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب الشاعر الكبير جوزيف حرب الرئيس الأسبق لاتحاد الكتّاب اللبنانيين، وقال عنه: «لقد فقدت الحياة الثقافية واللبنانية خاصة الشاعر الذي يعد من أبرز شعراء لبنان». وأثرى المكتبة العربية بإبداعاته المتنوعة شعرًا ونثرًا طوال نصف قرن ويزيد. كما كان أحد الفاعلين في نشاط الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب بحكم موقعه كرئيس لاتحاد الكتّاب اللبنانيين.
وقد اشتهر حرب بقصائده التي غنتها فيروز، منها «حبيتك تنسيت النوم»، «لمّاع الباب»، «ورقو الأصفر»، «أسامينا»، «إسوارة العروس»، «زعلي طوّل»، «بلبل وشتى»، «خليك بالبيت»، «رح نبقى سوا»، «فيكن تنسوا»، «البواب»، «ياقونة شعبية»، وقصيدة لبيروت التي يقول في مطلعها:
«لبيروت من قلبي سلام لبيروت، وقُبَلٌ للبحر والبيوت، لصخرة كأنها وجه بحّار قديم».
وبعده في 20 فبراير 2014، شيّع يوم الخميس في إحدى كنائس بيروت الأديب والشاعر اللبناني أنسي الحاج، الذي توفي عن عمر 77 عامًا، والذي كان قد بدأ ينشر قصصًا قصيرة وقصائد منذ عام 1954 في المجلات الأدبية، وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، ثم دخل عالم الصحافة اليومية عبر صحيفة «الحياة»، ثم «النهار»، مسؤولاً عن الصفحة الأدبية التي حوّلها في «النهار» إلى صفحة يومية. ثم انتقل منها للعمل في صحيفة «الأخبار»، وساهم في عام 1957 مع الشاعرين اللبناني يوسف الخال والسوري أدونيس في تأسيس مجلة «شعر»، وفي عام 1960 أصدر في منشوراتها ديوانه الأول «لن»، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية.
لم يلتقط المعزون أنفاسهم ولا تضاءلت أحزانهم التي لازمتهــــم منذ وفاة جوزيف حرب، والتي تزامنت مع تدهور صحـــة أنسي الحاج، الذي عانى سرطان القولون وافتقده قرّاء مقالاته في «النهار» الــــلبنانية لشـــهور قبل الرحيل، وأخيرًا حسم المرض معركته وحصل على الغنيمة، جسدين ناحلين تركا خلفهما ميراثا من الشعر الذي يحيا في صدور المحبين. ومن بينه رثاء «الحاج» لنفسه:
«لن أكون بينكم
لأن ريشة من عصفور في اللطيف الربيع
ستكلل رأسي
وشجر البرد سيكويني
وامرأة باقية بعيدًا ستبكيني
وبكاؤها كحياتي جميل»
رحل أنسي الحاج الذي لم يركض وراء جائزة قط ولا لقب. ولم يحتمل ضيق الحياة:
«ما عدت أحتمل الحياة
ما عدت أحتمل الأرض
فالأكبر من الأرض لا يحتملها
ما عدت أحتمل الأجيال
فالأعرف من الأجيال يضيق بها
ما عدت أحتمل الجالسين
فالجالسون دفنوا».
وأنسي الحاج (1937-2014) هو صاحب ديوان «لن» الأشهر في الأدب العربي المعاصر، والذي صدره بمقدمة كانت بمنزلة بيان حول رؤيته لقصيدة النثر، وكان مما كتبه: «لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر، أي قصيدة حقًا لا قطعة نثر فنية أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز (أو الاختصار)، التوهج، والمجانية، فالقصيدة - أي قصيدة - لا يمكن أن تكون طويلة. وما الأشياء الأخرى الزائدة كما يقول «بو» سوى مجموعة من المتناقضات. يجب أن تكون قصيدة النثر قصيدة لتوفر عنصر الإشراق ونتيجة التأثير الكلي المنبعث من وحدة عضوية راسخة، وهذه الوحدة العضوية تفقد لازميتها إن هي زحفت إلى نقطة معينة تبتغي بلوغها أو البرهنة عليها، إن قصيدة النثر عالم بلا مقابل».
تلقى أنسي ابن الصحـــــفي والمترجم اللبناني «لويس الحاج» علومه في مدرسة الليسيه الفرنسية ثم في معهد الحكمة ببيروت، وبدأ ينشر قصصًا قصيرة وأبحاثًا وقصائد منذ عام 1954 في المجلات الأدبية، قبل أن يدخل عالم الصحافة اليومية عام 1956 عن طريق جريدة «الحياة» ثم «النهار» التي استقر بها، حيث حرر الزوايا السياسية لسنوات ثم حوّل الزاوية الأدبية إلى صفحة أدبية يومية. وفي عام 1964 أصدر الملحق الثقافي الأسبوعي وظل يصدره حتى عام 1974.
وفي عام1957 ساهم الحاج مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة «شعر» قبل أن يصدر ضمن إصداراتها عام 1960 ديوانه الأول «لن» الذي تلاه «الرأس المقطوع» 1963، «ماضي الأيام التالية» 1965، «ماذا صنعت بالذهب»، «ماذا فعلت بالوردة» 1970، «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» 1975، «الوليمة» 1994. وله كتاب مقالات في ثلاثة أجزاء، هي «كلمات كلمات كلمات» 1978، و«خواتم في التأمل الفلسفي والوجداني».
وترجم إلى العربية منذ عام 1963عددًا من المسرحيات لشكسبير ويوجين يونيسكو ودورنمات وألبير كامي وبريخت وغيرهم. وقد ترجمت بعض قصائده إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية والبرتغالية والأرمينية والفنلندية.
لقد غاب أنسي الحاج بعد أن بشر بهذا الغياب:
«الشاعر هو المتوحش ليحمي طفولتنا/ الملحن هو الأصم لكي يسمع/المصور هو الأعمى لكي يرى/الراقص هو المتجمد لكي نطير/لا يحضر إلا ما يغيب/ولا يغيب إلا ما يحضر، فلأغب في شرود المساء/فلتبتلعني هاوية عيني».