حكاية الدرهم والدينار

حكاية الدرهم والدينار

 كان العرب يعتمدون في عصر ما قبل الإسلام على العملات البيزنطية والفارسية في تعاملاتهم، وبامتزاج قد يبدو للبعض غريبًا، حيث كانت الدراهم الفضية فارسية، أما العملات النحاسية فكانت رومية.

الخطوة الأولى 
بدأ التفكير الجدي بضرب عملة خاصة زمن الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، عندما توسع أفق الفتوحات وبات الاقتصاد جزءًا لا يتجزأ من كيان الدولة الفتية الناشئة، ولكن ربما لعدم وجود الخبرة الكافية يومها، وخصوصا أن الدولة لاتزال في طور الإنشاء ولاتزال الفتوحات قائمة، فقد  اقتصرت المسألة في بادئ الأمر على محو ما في العملات الفارسية والرومية من علامات شركية، ومن رموز تشير للنار والدلالات الرومانية.

 الخطوة الثانية
بعد فترة وجيزة ظهر تطور آخر في السكة، ففضلا عن محو الرموز والدلالات من السكة الرومية والفارسية، فقد بدأ بإضافة عبارة التوحيد (لا إله إلا الله), والبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)، ولا يمكن - بشكل دقيق - تحديد متى ابتدأ ذلك، ولكن قد يعود إلى أواخر عهد عمر وأوائل عهد عثمان بن عفان (رضي الله عنهما).

الخطوة الثالثة 
مع مرور الزمن تبدل الوضع وبدأ الولاة ينظرون إلى العملة على أساس أنها رمز ودلالة للسيطرة على جزء ما، فظهرت دراهم شبيهة بدراهم عمر (رضي الله عنه) وهي المأخوذة عن الفارسية مع محو دلالاتها الشركية، ولكن مع ضرب اسم الحاكم أو الوالي عليها، فظهرت دراهم عليها اسم عبدالله بن الزبير وأخوه مصعب, وعبيد الله بن زياد والمهلب بن أبي صفرة وغيرهم.

الخطوة الرابعة
بعد أن استتب الأمن وتماسك في دولة عبدالملك بن مروان الفتية، أدرك أنه لابد أن يتم بناء هيكل دولة راسخ ومعتمد على نفسه، فكان الاعتماد والاستقلالية الاقتصادية هما العمود الفقري في بناء هذا الهيكل، ولكن لابد من خطوات لتأمين هذا الاقتصاد، وأولى هذه الخطوات كانت تتمثل في تعريب الدواوين التي كان أغلبها باللغة الفارسية، تلت ذلك خطوة كبيرة أدت إلى تعريب العملة،  وهو تعريب البردي الذي كان يمثل الورق في تلك الفترة، حيث يمكن القول إن أكبر مصانع البردي (الورق) كانت في مصر، وكانت تلك الصناعة تحت أيدي البيزنطيين عندما كانت مصر تحت السيطرة البيزنطية، وكانت تنقش على أوراق البردي نقوش رومانية، وهو ما كان ينظر إليه عبدالملك على أنه جزء من البقايا البيزنطية، فأمر بوضع عبارات التوحيد العربية، وهو الأمر الذي أثار استياء إمبراطور بيزنطة جستنيان الثاني، فهدد بضرب العملة بشكل يسيء للمسلمين، وبالطبع لم يكن جستنيان هذا سياسيًا وإلا لما أقدم على مثل هذا التهديد ممهدًا الفرصة لعبدالملك بن مروان للرد بالمثل وتعريب العملة، بعد أن كان عبدالملك في بادئ الأمر ينهج نهج من سبقوه في محو الدلالات والشعارات من الدراهم الفارسية والفلوس الرومية، وبعد استشارة البعض وفي مقدمتهم خالد بن يزيد، وقد لعب الحجاج بن يوسف الثقفي دورا في هذه العملية, وبعد حروب وسجال ومد وجزر ظهرت إلى الوجود العملات العربية الثلاث الأولى: الفلس  والدرهم والدينار. 
وهكذا تجمعت كل الخطوات الأولى والثانية والثالثة في تشكيل العملة العربية في الخطوة الرابعة.

الفلس
لغة: القشرة على ظهر السمكة، يقال إن أول من ضربه كان الحجاج بن يوسف سنة 77 للهجرة في واسط، وقد انتحى منحى الفلس البيزنطي (وقد كانت الروم تسميه فولس)، وقد ضرب من النحاس بقطر يقارب 16 مللم وسمك حوالي المللي ونصف المللي، وقد اختلف في مكان ضرب أول فلس هل كان في واسط أم في الشام؟ وكانت تقدَّرُ بسُدس الدرهم وكان نقش «محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» على أحد الوجهين، ونقش «لا إله إلا الله وحده» على الوجه الآخر, ولإعطاء صورة تقريبية عن أبعاد الفلس سنقارنه بالصورة ببعض العملات العربية المستخدمة على الأقل في القرن العشرين.

الدرهم 
الدرهم من اليونانية القديمة الدراخما أو الدراكما.
ويقول صاحب «مختار الصحاح» إنها كلمة فارسية مستعربة، ومهما يكن من أمر فلا شك في أن للكلمة روابط عربية لورودها في القرآن الكريم في سورة يوسف، حيث قال الله تعالى{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} (٢٠).
وفي آية أخرى {وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ  نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ  عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ  بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (سورة الشعراء: 192-195).
وفي هاتين الآيتين دلالة على أن للكلمة دلالات أو روابط عربية،  أو حتى قد يكون أصلها عربيًا، كما أن الدرهم - وواضح من الآية الكريمة- كان يستخدم في بلاد الشام منذ زمان سيدنا يعقوب (عليه السلام)،  ولهذا قد يكون أصل الكلمة من الكلمات العربية الجامدة التي لا اشتقاق لها مثل كلمة «سكين»، والله أعلم. 

كانت قريش تزن الفضة بوزن تسميه درهما
ضرب في العام 77 للهجرة، وقد انتحى منحى الدرهم الفارسي حتى من ناحية الأبعاد، حيث كان قطره 27 مللم وسمكه مللم واحد، وعلى أحد الوجهين نقش «الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» وعلى الآخر «لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، وقد أحيط بثلاث دوائر كإطار ودائرة رابعة خارجية وهي لاتزال مُستعملة في الإمارات وقطر وليبيا والمغرب وموريتانيا والعراق.
ولفهم أبعاد الدرهم سنقوم بمقارنته ببعض العملات العربية المستخدمة على الأقل في القرن العشرين.
ونلاحظ تقارب حجم الدرهم مع القرشين السعوديين والعشرة قروش الأردنية والمائتي دينار الجزائرية.

الدينار
 أصل الكلمة لاتيني وتعني دينايوس، وكانت قريش تزن الذهب بوزن تسميه الدينار،  وكانت الدراهم الأولى بقطر 16 مللم وسمك 2 مللم، وقد انتهج نهج السوليدس البيزنطي، وقيمَةُ الدينار الواحد تُكافِئُ اثني عشر درهما، وقد وضعت على وجهيه العبارات نفسها، المنقوشة على الدرهم.  والاستنتاج هنا أن العرب في عملتهم الأولى مزجوا بين الفارسية والبيزنطية.
استمرت الصكة الأموية على المنوال نفسه طيلة العهد الأموي، ولا نجد منذ عهد عبدالملك بن مروان أي حاكم يضرب اسمه على العملة، والملاحظة الأخرى أنها خلت من اسم الخليفة نفسه، وهو أمر يجعل من الصعب أحيانا إرجاعها لأي خليفة، وخصوصا عند تعاقب 3 من الخلفاء في عام واحد، كما حدث مع يزيد بن الوليد – إبراهيم بن الوليد فمروان الثاني. 

في العهد العباسي 
مع انتهاء الدولة الأموية في دمشق بعد معركة «الزاب»، تولى بنو العباس مقاليد الحكم وظهرت بعض التغييرات في شكل العملة، وخصوصا الدرهم، وصارت الصكة النقدية ترمز بالإضافة لقيمتها إلى السلطان وحتى الخروج عن الحكم والاستقلالية، فهذا أبومسلم الخراساني يضرب فلسًا وينقش عليه اسمه بعد أن استتب له الأمر بخراسان.  واستمرت الحال هكذا، حيث باتت النقود تمثل نوعا من الاستقلالية واستتباب بالأمر، كما حصل مع أسماء ضربت على النقود كالبرامكة وطاهر بن الحسين.. إلخ. وقد بدأ في تلك الفترة ظهور أسماء الخلفاء على العملة، كما في الدراهم المضروبة أيام الأمين بن الرشيد، وقد يعود هذا لسببين:
الأول: لإعطائه صفة الخليفة الشرعي في صراعه مع أخيه المأمون.
ثانيا:  لتمييزها عن تلك الدراهم المضروبة في الأندلس التي باتت دولة مستقلة بحد ذاتها.  
وبالحديث قليلا عن الدراهم المضروبة في الأندلس فإنها كانت أول عهدها شديدة الشبه بتلك المضروبة في العصر الأموي، ومن ثم تنوعت وتعددت أشكالها حتى باتت مربعة الشكل في عهد الموحدين.
ومن ذلك الحين بدأ اسم الخليفة يظهر على العملة، وارتبطت النقود بالسياسة أكثر، بعد أن كان اسم الخليفة ربما يظهر أحيانا، فظهرت في ما بعد دراهم ضرب عليها اسم المعتصم والواثق والمتوكل.. وهلمَّ جرَّا.
امتاز ما يسمى بالعصر العباسي الثاني الذي بدأ بمقتل المتوكل ومع ظهور الدويلات في العصر العباسي بثلاثة أمور بالنسبة للنقد:
الأول: وضع اسم الحاكم الفعلي للخلافة مع الإشارة لاسم الخليفة، كما حدث في عهد البويهيين بالنسبة لما كان يضرب من نقود في الأقاليم الواقعة تحت السيطرة المباشرة للعباسيين.
ثانيا: بالنسبة لتلك الأقاليم التي كانت لا تخضع لسيطرة مباشرة من الخلافة، وكان يسود عليها مبدأ من تغلَّب بقوة السيف وضع اسم حاكم أو والي الإقليم، مع الإشارة إلى اسم الحاكم العباسي أحيانا، كنوع من الشرعية أحيانا أو عدم الإشارة إليه تارة أخرى عند فتور العلاقات وضعف الخلافة، كما حصل في أواخر عهد الغزنويين وأواخر عهد الخوارزميين، في حين أن  معظم الأيوبيين استمروا بولائهم للخلافة، وكانوا يشيرون بأسمائهم في سكتهم. 
ثالثا: مع ضعف خزانة الدولة المركزية بظهور الولايات نلاحظ بدء انكماش حجم العملة، ففي حين كان قطر الدرهم الأول حوالي 27 مللم  بلغ حوالي 25 مللم في أيام المتوكل  و17 مللم أيام الغزنويين.
وكذلك أهمل اسم الخلفاء العباسيين أثناء قيام دولة الفاطميين في مصر. 
وكانت قطعة النقد هذه ترمز بشكل كبير إلى قوة الخليفة، فنجد في عصر بعض الأقوياء من الخلفاء العباسيين المتأخرين (أمثال الناصر لدين الله) فلا تكاد تخلو سكة ضربت في عهده من اسمه، حتى في الأقاليم البعيدة نسبيا عن بغداد، وهو إشارة إلى قوة ذلك الخليفة وتمكنه من الأمر، في حين لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لكثير ممن سبقه من الخلفاء.
ومع نهاية دولة بني العباس في 656 هـ ومقتل آخر خلفاء بغداد المستعصم, اختفى اسم الخليفة من العملة، وإن استمرت الخلافة العباسية وإن بشكل صوري في مصر أيام المماليك.