الفن السابع العربي الصمت وأحوال الفرد والبيئة وأساليب ذاتية في قراءة الواقع ومراراته
هناك مقولة تفيد بأن السينما العربية الجديدة مرهونة باجتهادات بصرية وجمالية ودرامية متقدمة شكلاً ومضموناً على ما عداها من أعمال، يقوم بها (هذه الاجتهادات) شبابٌ عربٌ قدموا، في الأعوام الثلاثة السابقة، أفلاماً روائية ووثائقية طويلة، هي الأولى أو الثانية لهم. تُضيف هذه المقولة أن النتاج الوثائقي الأفضل يأتي من لبنان، والروائي الأجمل والأحسن يظهر في مصر والمغرب العربي وفلسطين.
تبقى تصنيفات كهذه في إطار ضيق. لكنها، مع هذا، قادرةٌ على تحريض مهتمين بالفن السابع على مناقشتها. تصنيفات تبدأ بالجغرافيا، وتتحرر منها سريعاً بهدف تمتين الفعل السينمائي الشبابي العربي الجديد، وجعل السينما حيزا جامعاً أهواء وهواجس واشتغالات تصنع ما يُمكن تسميته بـ «سينما عربية جديدة» فعلياً. تصنيفات لا تُفرق الوثائقي عن الروائي، لأنها، أولاً وأساساً، تتوجه إلى السينما، وتنطلق من السينما، وتكترث بصنيع سينمائي «يؤسس»، بطريقة أو بأخرى، سينما شبابية حية وناضجة وفاعلة ومؤثرة، كركيزة لـ «سينما عربية جديدة»، تستلهم من الواقع والحكاية الفردية والهواجس الذاتية ما يُعينها على ابتكار صُوَر حيوية تبوح من دون كلام غالباً، وتقول بالصُوَر ما يُكمِل الحوار ويُفعله. أي أن هناك نتاجات سينمائية شبابية تميل إلى الصمت، وتدفع حركة الكاميرا إلى كتابة الحكاية بالصُوَر، وتتيح للأداء التمثيلي فرصة التعبير العميق عن انفعالات الشخصيات وأقوالها وتصرفاتها وشجونها. في مقابل هذا، جعلت نتاجات أخرى الحوارَ أساسياً في تكثيف اللحظة، أو في تفكيك الحالة، أو في تحويل الكلمات والتعابير والمفردات إلى مرايا تكشف وتعكس وتفضح، من دون ثرثرة فارغة، أو خطابية جوفاء.
تجديد بصري شبابي ومخضرم
لا يعني هذا أن دولاً عربية أخرى منكفئة عن إنتاج فعل سينمائي شبابي يُشكل امتداداً طبيعياً للحراك الموجود حالياً في قلب المجتمعات العربية. في سورية مثلاً، هناك جود سعيد الذي أنهى تصوير فيلمه الروائي الطويل الثالث في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، بعد «مرة أخرى» (2009) و«صديقي الأخير» (2012)، وهو يُعتَبر، سينمائياً على الأقل، من الساعين إلى تفعيل لغة الصُوَر في بناء عمل سينمائي متكامل، أو شبه متكامل ربما، بعيداً عن المضامين الدرامية والحكائية والسياسية المبطنة، التي تعتمل في جوف النص المكتوب. من العراق، هناك عدي رشيد وفيلماه الروائيان «غير صالح» (2004)، و«كرنتينا» (2009). من فلسطين، هناك مهدي فليفل «عالم ليس لنا»، (2012) وكمال الجعفري «ميناء الذاكرة» (2010)، والأخوان أحمد ومحمد أبو ناصر (المعروفان بعرب وطرزان ناصر) والروائي القصير لهما «كوندوم ليد» (2013)، ولاريسا صنصور «نايشن إستايت» (2013)، وهو روائي قصير أيضاً. من تونس، هناك نجيب بلقاضي «بستاردو» (2013)، وكوثر بن هنية «شلاط تونس» (2013)، وهما الروائيان الطويلان الأولان لهما. من المغرب، هناك هشام لعسري وفيلمه الروائي الطويل الثاني «هُمُ الكلاب» (2013) بعد «النهاية» (2011)، ونور الدين لخماري وفيلمه الروائي الطويل الثالث «زيرو» (2012) بعد «النظرة» (2005)، و«كازانيغرا» (2008). هذه أمثلة لا تُلغي آخرين، ولا تُغيب أعمالاً لم تتسنَ لي مشاهدتها بعد. بعض هؤلاء لايزال متوقفاً عن العمل منذ أكثر من ثلاثة أعوام، لكن ذكر اسمه هنا مرتبط بمعتقد نقدي مفاده أن جيلاً شبابياً عربياً ينمو، شيئاً فشيئاً، في صناعة سينما تجديدية داخل العالم العربي. كما أن شباباً آخرين سبقوا هؤلاء، كالمصريين إبراهيم البطوط وأحمد عبدالله، والشقيقين المغربيين نبيل وهشام عيوش، والمغربي فوزي بنسعيدي، والجزائري لياس سالم، مثلاً، بالإضافة إلى ملاحظة لا يُمكن تجاهلها: التجديد السينمائي العربي الفعلي نابعٌ من اختبارات قام بها سينمائيون سابقون على هؤلاء جميعهم، كالفلسطينيين إيليا سليمان وهاني أبو أسعد واللبنانيين محمد سويد وغسان سلهب مثلاً. فضلاً عن التطور الملحوظ والبديع، المستمر في تمييز أفلام خاصة بمخرجين «مخضرمين»، كالتونسي نوري بوزيد (مانموتش، 2012)، والجزائري مرزاق علواش (السطوح، 2013)، والسوري محمد ملص (سُلَم إلى دمشق، 2013)، والمصري محمد خان (فتاة المصنع، 2013).
عن الصمت لغة حوار
إذا كان الصمت، الفعلي أو البصري على حد سواء (البصري يعني تكثيف الصورة، وجعل المونتاج يتكفل بمنح المتتاليات البصرية إمكان القول والبوح والتعبير بعيداً عن الكلام وكثرته)، ميزة أفلام شبابية عديدة، فإن المواضيع المختارة المتشابهة بكون غالبيتها الساحقة منضوية في التجربة الفردية البحتة كمدخل إلى صناعة صورة سينمائية تمتلك مقومات إبداعها، تجمع أفلاماً ترتكز على الآني البحت كي تُفكك الراهن، وتعود إلى الماضي كي تحاور الحاضر، وتجعل اللحظة مدخلاً ثقافياً فنياً إلى استشراف المقبل من الأيام، أو محاولة استشرافه.
تحويل تجربة شخصية إلى نص سينمائي
يسعى «التحويل» إلى تخزين الحكاية في قالب ينفتح على العام، أو يبقى محاصراً في التجربة نفسها، بجعلها تمريناً على تشييد عمارة سينمائية آسرة. الصمت والمواضيع المختارة مدخلان إلى سينما شبابية عربية تنقلب، سواء شاءت ذلك أم لا، على بهتان إنتاجات كثيرة شوهت جماليات الصورة ونبضها. فأن يعود غسان سلهب إلى العام 1958 ليسرد وقائع ذاتية وعامة في الفيلم الوثائقي الأخير له «1958» (في الربع الأخير من العام 2013، أنهى سلهب تصوير فيلم روائي جديد له بعنوان «الوادي»)، يعني أن السينمائي راغبٌ في جعل الشخصي (ولادته هو في العام نفسه، ووضع والدته أمام الكاميرا لتبوح بالحميم والجماعي) متزاوجاً، والعام (شهد لبنان في تلك السنة صدامات عسكرية بين رئيس الجمهورية آنذاك الراحل كميل شمعون وأنصاره المرتبطين بـ«حلف بغداد» من جهة أولى، والمنضوين في إطار الناصرية الرافضة تعاون شمعون وجماعته مع الغرب الأمريكي تحديداً من جهة ثانية)، وفي وضع ثنائية الذاتي العام في مواجهة التفكيك السينمائي للاجتماعي والسياسي والثقافي والعائلي، وأن يميل سينمائيون لبنانيون كثيرون إلى نهج وثائقي جديد، متمثل بالاستعانة بأحد أفراد العائلة (أب، أم، عم، جدة، وغيرهم) كركيزة درامية أساسية، يعني أن الشخصي الذاتي مفتاح سينمائي لولوج عوالم قد تكون مخفية أو مبطنة، لكنها بالتأكيد مليئة بخفايا لا يريد هؤلاء السينمائيون إبقاءها مغيبة عن الذاكرة الجماعية. ومع هذين النمطين، نشأ توجه روائي وضعه إيليا سليمان في ثلاثيته الروائية الطويلة «سجل اختفاء» (1998) و«يد إلهية» (2002) و«الزمن الباقي» (2009) على السكة اللازمة: أن يكون الشخصي الذاتي محوراً أساسياً لتبيان وقائع ومعطيات متعلقة بالجغرافيا والتاريخ والبيئة والنفس البشرية والحكايات العامة.
لإيليا سليمان ميزة متمثلة بالصمت أيضاً. فالشخصية الرئيسة (يؤديها هو نفسه دائماً) صامتة طوال الوقت، لا تنبس بكلمة واحدة، لكنها تقول وتبوح وتُعبر بحركة أو إيماءة أو سلوك أو انفعال. هذا ما يعثر عليه المهتمون بالسينما في أفلام شبابية جديدة، كالفيلمين المصريين «الخروج للنهار» (2012) لهالة لطفي، و«فرش وغطا» (2013) لأحمد عبدالله. وهو ليس صمتاً مطبقاً، بل تمتين لهذه الحالة القادرة على جعل الصمت لغة (في الفيلم الأول)، أو موقفاً إنسانياً (في الفيلم الثاني). في فيلم لطفي، يسود الصمت كامتداد لحالة الاحتضار التي يعيشها الأب المقعد، ولحالة الانهيار الداخلي المكبوت التي تتسلط على الأم، ولحالة التوهان الخطر التي تغرق فيها الابنة الخارجة إلى عالم يبدأ من عتبة الباب المنزلي، قبل أن تسترسل في انخراطها الملتبس في جوانية اللحظات المأسورة بمرض وتمزق وغضب دفين وشوق إلى خلاص لا يأتي. في فيلم عبدالله، يبدو الصمت جزءاً من لعبة المُشاهدة التي يمارسها «البطل» الخارج لتوه من السجن بعد أيام قليلة على بداية «ثورة 25 يناير»، كأنه بها يُسجل موقفاً سلبياً من السجن والعائلة والبيئة الضيقة والحالة الجديدة والأفق المسدود، هو الذي ينشد خلاصاً لا يأتي أيضاً. معهما، هناك «نايشن استايت» لصنصور: ففي دقائقه التسع فقط، كان الصمت لغة أعادت رسم ملامح غرائبية لفلسطين وناسها ويومياتها، أقرب إلى تفاصيل أفلام الخيال العلمي والمركبات الفضائية، محولة فلسطين إلى مزيج غامض ومعقد بين واقع مفكك وسينما تميل إلى صفاء الصورة بألوانها الغامقة في إيجاد مسوغات بصرية للإشارة إلى راهن صعب.
تعرية بيئة أو كشف المبطن المجتمعي
إلى ذلك، قدم المصريون الثلاثة أيتن أمين وندين خان وشريف القطشة أفلاماً تشي بمكونات درامية وجمالية يُفترض بها أن تنعكس إيجاباً على الاشتغالات اللاحقة. هي أفلام أولى في مجاليها الروائي والوثائقي الطويلين، بعد أفلام متنوعة، قصيرة ووثائقية مشتركة. أمين أنجزت «فيللا 69» (2013) وخان «هرج ومرج» (2012)، وهما روائيان طويلان يغوص أولهما في تداعيات اللحظات الأخيرة لحياة مهندس مُصاب بمرض سرطاني، ويفضح ثانيهما شؤون يوميات أناس قابعين في القهر والتمزق والفقر والحصار المجتمعي والجغرافي معاً. الوثائقي الطويل الأول من نصيب القطشة المولود في الولايات المتحدة الأمريكية، بعنوان «القيادة في القاهرة» (2013)، وهو تغلغل سينمائي عميق ومُكثَف وفاضح للمجتمع المصري، من خلال سائقي السيارات العمومية والخاصة. متابعة التفاصيل اليومية لحياة المهندس، تَوَازن سينمائي لافت للانتباه لشدة تماسكه وحيويته البصرية بين الشكل والمضمون، بتسليط ضوء خفر على متغيرات حاصلة في قلب المجتمع، على صعيدي العمارة والفن. متابعة التفاصيل اليومية لحيوات أناس مقموعين بالقهر والفقر، انعكاس لحالة البؤس والغليان في مستويات العيش كلها تقريباً، كالحب وانسداد الأفق والعلاقات الجسدية والتهويمات والآلام وغيرها. متابعة التفاصيل الحياتية اليومية لبيئة اجتماعية متكاملة من خلال قيادة السيارات، تفكيك لبُنى اجتماعية وإنسانية وقانونية، بالإضافة إلى أحوال الخوف والارتياب المعتملة في نفوس البعض من جراء الفلتان الخطر على الطرقات. كأن الأفلام الثلاثة، في جانب منها على الأقل، تتشارك في تحليل مجتمع منهار وممزق وذاهب إلى خرابه العام، قبل «ثورة 25 يناير»، أو بعيداً عنها بالمطلق.
الأفلام الأربعة التي حققها سينمائيون عرب «مخضرمون» (بوزيد وعلواش وملص وخان) في العامين 2012 و2013 لا تقل أهمية عن تلك التي صنعها الشباب، وإن اختلفت عنها في مسألتين اثنتين: أولاً، هي امتداد لهواجس وأساليب التزمها المخضرمون منذ بدايات أعمالهم قبل سنين بعيدة، واشتغلوا بوحي منها، وسعوا دائماً إلى بلورة آفاقها المتفرقة. ثانياً، تأتي هذه الأفلام من مدارس بدا واضحاً أن سينمائيين شباباً منقلبون عليها، أو طالعون من تأثيراتها باتجاهات مختلفة عنها، أو مغايرة لها، أو متناقضة وإياها. بهذا المعنى، يمكن القول إن التلاقي الثقافي بين «مخضرمين» وشباب أفضى إلى تفعيل مشهد سينمائي عربي مفتوح على أسئلة الصورة والمادة والمعالجة الدرامية. ويمكن القول أيضاً إن مسار «السينمات» العربية لا يزال متوهجاً بأعمال يُعتد بها، ويُفترض بصانعيها أن يستكملوها على مستوى تطوير لغتها وتمتين أسس اشتغالاتها.
واجه بوزيد مرارة الواقع التونسي النابع من حراك بلده منذ نهاية العام 2010، بسبب الانفلات الحاصل على مستوى تنامي ظاهرة التطرف والتزمت الدينيين. وقرأ علواش مرارة الواقع الجزائري، من خلال إطلالة على أحياء العاصمة من سطوح البنايات، لكشف الاهتراء والتمزق والعفن والقلق والفراغ والخوف والضياع، المعتملة كلها في أروقة المدينة وأرواح أبنائها. ورسم ملص مرارة الواقع السوري الشبابي المصطدم بالتحول العنيف الذي أصاب سورية منذ مطلع الحراك الشعبي، من دون أن يتوغل في متاهة الحراك وتحوله الدموي، لرغبة السينمائي في معاينة الواقع بعيداً عن متاهة السياسي والاقتصادي. وغاص خان في مرارة الواقع الاجتماعي المصري الفقير والمهشم والمخادع، من خلال قصة حب وإحباط وخديعة الوهم في تعرية الأكاذيب المنغلقة على ناسها.
لا شك في أن السينما العربية تسير بخطى بطيئة، لكن ثابتة وأكيدة ومُقنِعة ومؤثرة، على الدرب الصعب والمرتبك لصناعة يُراد لها أن تتفوق على ذاتها وسط انهيارات شتى في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلاقات والحكايات.