تفكيك الصورة في فضاء الإنترنت

تفكيك الصورة في فضاء الإنترنت

ليس هناك جديد اليوم إذا قلنا إننا نعيش عصر الصورة بامتياز. فالصورة أصبحت واحدًا من أحد أبرز مصادر الأخبار والمعلومات، ووسائل التعبير الفني، والتوثيق السياسي والعلمي والتاريخي، وهي أيضا، بعد انتشار الأجهزة الحديثة المجهزة بالحاسوبات الشخصية، أصبحت تجسد وسيلة خطاب مختلفة ومختزلة.

 فمع برامج التواصل الشخصي مثل «واتسآب» WhatsApp، و«فايبر» Viber، وسواهما، إضافة إلى التوسع الرهيب في استخدام وسائط التواصل الاجتماعي، أصبحت الصورة موضوعا للحوار أو الاتصال؛ تقوم بدور نقل المعلومة والفكرة أو المعنى أو الجملة أو الخبر على جسد الصورة الرقمية؛ بديلا للنص المكتوب. فبفضل الأجهزة الحديثة، أصبح بإمكان الشخص مثلا أن يصور نفسه باستخدام كاميرا جهاز الهاتف النقال أو الآيباد الخاص به، ونقل الصورة على الفور على صفحته في أحد وسائط الاتصال الاجتماعي المعروفة، مثل الـ«فيس بوك» أو «تويتر» أو «إنستجرام» مثلا؛ لإعلام محيط أو دائرة أصدقائه عن نشاط اجتماعي يقوم به، أو مشاركتهم ذكرى مناسبة شخصية أو عائلية، أو حتى لبث صورة من موقع حدث معين، سواء كان حدثا مباشرا تصادف أن يكون الشخص شاهدا عليه، أو واكبت وجوده في مكان ما لمتابعة نشاط فني أو ثقافي، يرغب في توسيع دائرة الاهتمام به من حيز المكان الواقعي المحدود إلى مساحة الفضاء الافتراضي التي لا حدود لها. 
هذه الإمكانية الأخيرة تندرج في إطار توسع دائرة استخدام الصورة في الواقــــع اليـــومي بديلا للكلام، أو النص المكتوب، يختزل بها مستخدم شبكة الإنترنت أو الوسائل الاجتماعية الكثير مما قد رغب في قوله ولا يجد الوقت الكافي لذلك، أو لأنه حتى ربما يفتقر إلى التعبير. 

غرِّد بصورة 
غرِّد بصورة... هذا الهاشتاج Hashtag (هاشتاج: كلمة مختصرة تأتي بعد الرمز #، مثل هاشتاج #أخبار أو #الكويت، أو غيرهما، وهي إمكانية في «تويتر» تتيح للمستخدمين تعميم الاهتمام بموضوع معين، يقابلها لمن يبحث عن خبر محدد أو قضية أن يبحث عن الهاشتاج الخاص بهذا الخبر أو الموضوع). أعود للقول إن هاشتاج مثل «#غرد _ بصورة»، يعد واحدا من أشهر وأكثر الرموز شيوعا في «تويتر»، لأنه يقدم الاختزال المطلوب في أكثر صوره تكثيفا وإيجازا، فمن الممكن أن يشارك مستخدم الهاشتاج الصورة للفت الانتباه للوحة فنية محددة، أو لصورة شخصية له، أو لذكرى خاصة به، أو لنشر صورة لها معنى رمزي يقصده الكاتب ولا يريد أن يعبر عنه بالقول بشكل مباشر...، أو حتى للإعلام بحدث أو خبر.  من البديهي القول إن الصورة اليوم أصبحت مثار دراسات عميقة، بعد أن بدأ الاهتمام الجماهيري بها يأخذ حيزا واسعا، سواء كانت صورة فوتوغرافية، أو صورة فنية، أو حتى صورة متحركة، تلفزيونية أو فيلمية، وصولا للصورة المنتجة اليوم على أيدي الأفراد في البيوت والشوارع وفي مجالات الحياة اليومية كجزء من توثيق تفاصيل هذه الحياة. لكني لا أود هنا الدخول في الموضوع الفلسفي للصورة، ومدى ما تمثله كانعكاس للواقع أو باستخدامها كرمز أو مجاز أو لغاية دعائية، وإن كانت بعض الإشارات لمثل هذه الاستخدامات ستعبر حتما في متن ما أود التركيز عليه، ولا حتى محاولة الإجابة عن أسئلة خاصة حول مدى واقعية ما تعبر عنه الصورة أو مدى زيفها، أو مدى إمكانية الوثوق بها، ولا حتى من حيث علاقتها بالزمن وقدرتها على تثبيته أو تصويره أو توثيقه، وحفظه في المستقبل، وغير ذلك من جوانب تدخل في نطاق التحليلات الفلسفية والاجتماعية والفنية والإعلامية، بقدر ما أود إلقاء الضوء على الزوايا الجديدة أو المختلفة التي أسهمت فيها وسائط التواصل الاجتماعي والفضاء الإلكتروني بشكل عام في استخدام الصورة. 

بحار الصورة 
وبديهي طبعا أن حجم ما يحتويه الفضاء الإلكتروني اليوم من مخزون الصور أصبح شاسعا بشكل قد يكون غير قابل للقياس. وأي محاولة للبحث عن أي صورة تحت أي موضوع أو اسم شخصية أو قضية على أحد محركات البحث، مثل جوجل، أو غيره، تكشف لنا كيف أن الإنترنت تعد بالفعل فضاء شاسعا للصورة بكل تصنيفاتها: بورتريهات الشخصيات، صور الأماكن، الصور التاريخية، صور المشاهير، والمنتجات الصناعية، الخيال العلمي والفنون والجسد، الفن بمدارسه المختلفة، الخرائط والعلامات التجارية والأيقونات الفنية، وغيرها.  
ولعل جانبا رئيسا من أي دراسة  تخص موضوع الصورة يبدأ بطبيعة الحال من فرز الصور، والتقاط ما يفي منها بالهدف من بين مقتنيات هذا المخزن الهائل، أو المنجم الشاسع لمنتجات الصورة، لتحديد ما يتناسب مع موضوع الاهتمام. 
لكن لنر مثلا بعض أوجه استخدامات الصورة على صفحات التواصل الاجتماعي في الـ«فيس بوك» على سبيل المثال: 
هناك الاستخدام العادي من المستخدمين للصور، وهي متنوعة ولا يمكن أن تصنف في تصنيفات محددة بصرامة، لأنها تتنوع ما بين الصور الشخصية، وصور المناسبات، أو الصور المركبة، لاستخدامها في أطر ذات طابع سياسي أو اجتماعي بالتعليق على حدث أو إثارة الانتباه إلى قضية محددة، أو إعادة التذكير بذكرى شخصية عامة، أو لمجرد إهداء التهاني إلى دائرة من الأصدقاء... إلخ. 
وبالتأكيد من بين هذا الفضاء الواسع لاستخدام الصور يمكن الانتباه إلى ظاهرة استخدام الصور المركبة بواسطة برامج مثل «فوتو شوب»، والتي تعتمد على استخدام صورة من الواقع الحقيقي، واللعب عليها بإضفاء مسحة تناقض حقيقتها للسخرية من شخصية سياسية مثلا، كما يشيع اليوم في فضاء الـ«فيس بوك»، وهي الظاهرة التي تزداد انتشارا لتواكب أحداثا سياسية  معينة، مثل عمليات الانتخابات السياسية، أو لنقد ظاهرة اجتماعية سلبية مثل التحرش بالسيدات، أو نقد أداء بعض الإعلاميين أو ممارسات شخصيات عامة. وقد تأخذ الصورة شكل لقطة من أحد الأفلام الشهيرة التي يردد فيها الفنان أو بطل العمل جملا بعينها لها مدلولات سياسية أو اجتماعية نقدية ساخرة.

كاريكاتير فوتوغرافي
هذه الصيغ الجديدة لاستخدام الصورة إلكترونيا ربما تكون مستمدة من فكرة الكاريكاتير السياسي والاجتماعي، لكن الرسوم في هذه الحالة تستبدل الصورة الفوتوغرافية الحقيقية بها، ربما لمواكبة تغيرات اجتماعية وشعبية فرضتها وسائل التواصل الاجتماعي، ومن بينها محاولة الأفراد تكسير الهيراركيات العتيقة وقيم التراتبية التقليدية التي نشأت عليها المجتمعات العربية. ولذلك فهي حين ترغب اليوم في الانتقاد، لا تميل للتلميح من بعيد باستخدام الرموز أو حتى الرسوم الكاريكاتيرية، بل تذهب مباشرة إلى المستهدف بالنقد - أيا  كان - باستخدام الصورة الفوتوغرافية التي تبنى فكرتها على كونها انعكاس الشخص الواقعي بذاته، وبصورته الحقيقية، ما يعطي تأثيرا أقوى في النقد المباشر.

صفحات الفن الإلكتروني  
في مستوى تالٍ لاستخدام الصور في صفحات التواصل الاجتماعي، هناك عدد من الصفحات التي يؤسسها أفراد أو مؤسسات، تختص بنشر الصور وتختلف باختلاف توجه الصفحة أو الغرض الذي أنشئت لأجله.  فهناك مجموعات أو صفحات تختص في نشر الصور الفنية الكلاسيكية لرواد وكبار الفنانين من أرجاء العالم ومن حقب فنية وتاريخية مختلفة، بهدف رفع الوعي الفني، أو إثراء الثقافة البصرية، وخصوصا ما يتعلق بالفن التشكيلي. 
في مجال الفن الخالص، نجد أيضا بعض الصفحات التي تركز على الصور الفوتوغرافية الفنية التي تقترب من الفن التشكيلي، لكن باستخدام عناصر من الواقع وتكوينها تكوينات فنية مقصودة ومحددة قبل التصوير، وبعضها مختص بالصور المصورة بالأبيض والأسود، أو بالألوان، وبعضها يميل لتركيب عناصر من الواقع على عناصر سريالية مختلقة وغيرها. ومن أمثلة هذه الصفحات صفحة Artied، وهي صفحة تنشر أبرز إنتاج الفنانين الفوتوغرافيين في أرجاء العالم، وتشجع الفنانين على إرسال منتجهم الفني لبثه على صفحته التي يصل عدد المستخدمين المتابعين لها إلى 168 ألف شخص. وهناك عشرات الصفحات الشبيهة مثل صفحة Art Global collection، وصفحة فن تشكيلي، وصفحة فن وجمال... وغيرها.
على الـ«فيس بوك» كذلك يمكن أن نتابع صفحات تختص بالتوثيق الفوتوغرافي، من بينها مثلا صفحة بعنوان الملك فاروق الأول ملك مصر، وهي صفحة تهتم بنشر كل الوثائق والصور والأعمال الفنية واللقطات السينمائية التي تكشف جانبا واسعا من الحياة في مصر خلال القرنين الماضيين. وهي صفحة أيضا يمكن اعتبارها صفحة تاريخية، ولكنها لا تعلق على الصور بقدر ما تجعل من الوثيقة في حد ذاتها نصا مصورا يعبر بالصورة عن المضمون. 
وهناك بعض الأفراد الذين يستخدمون الصور الفنية، والشخصية، والمقتطفات المصورة من سطور الكتب، أو من الأفلام وغيرها، بحيث يكونون من الصفحات الخاصة بهم صفحات ذات طابع فني، تعد في حد ذاتها منتجا فنيا جديدا له سماته الخاصة. أي يمكن التعامل مع ما تنشره مثل تلك الصفحات، باعتبارها شكلا جديدا من أشكال الإنتاج الفني، لأن كل صورة يمكن أن يصحبها تعليق يمنح الصورة بعدا أعمق مما قد يبدو للمتلقي في الوهلة الأولى، وبتنويعات من عناصر فنية متعددة. 
وهذه التنويعات الأخيرة من الصفحات هي في تقديري ما تشكل إحدى ظواهر ما أسميه محاولة تفكيك الصورة، أي إعادة قراءتها وتأويلها، باعتبارها مصدرا يتضمن قيما تعبيرية وأحيانا تاريخية أو فنية أو حتى اجتماعية، وفي الكادر المصاحب نموذجان لتفكيك الصورة.