أطفال الكويت وبصمات الحرب

الكويت وتضميد الجراح

كان الغزو زلزالا مدمراً، دخل عالم الطفولة البريئة في الكويت فعذبها وقسا عليها.. وجرحها وأصابها بالمرض النفسي.. وبالبتر العضوي.. وبالخوف الدائم من كل الأغراب، والأعراب.

أصابت الحرب طفولة الكويت بالحزن والاكتئاب وبالاغتراب النفسي. لم تعد اللعبة تشكل لدى الطفل الوسيلة المثلى لقضاء وقت الفراغ بعد أزمة الاحتلال، فقد كانت أسلحة الدمار والفتك على شكل عرائس وألعاب للأطفال، بل إن بعض الألغام التي كانت تملأ ساحة الكويت من كل فج عميق على هيئة طيور مزركشة، وعلى شكل أعلام، وسلاسل للمفاتيح، وكريات ملونة، ما أن يلتقطها الطفل حتى تصيبه بالهلاك بدلاً من السعادة. وكانت معظم الألغام المفخخة على هيئة ألعاب بهلوانية، هكذا فعلت الحرب والتكنولوجيا المتقدمة بأطفال الكويت الأبرياء. عرف الطفل الكويتي معنى الدمار ورأى أشلاء الجنود تدخل إلى وجدانه وعقله وعالمه دون رحمة به، بل إن أطفال الكويت بعد الخلاص من المحنة أصبح زيهم المفضل هو ملابس الحرب التي كان يرتديها جنود العراق رغبة منهم في الثأر مما حدث لهم.

إن هذه الطفولة ما زالت تعيش المأساة بكاملها.

الطفولة لن تنسى

وعندما تسأل أي طفل كويتي ماذا تريد أن تعمل بعد أن تكبر: يقول لك دون تردد: أريد أن أكون طيارا، أو أريد أن أكون ضابطا. وعندما تسأله لماذا؟ يرد عليك بتلقائية: حتى أدافع عن "ديرتي" وبيتي. هذا النمط من السلوك ما زال سائدا بعد انتهاء الحرب، فالأطفال لم يتمكنوا للآن من النسيان وتعلق على هذه الظاهرة أول طبيبة نفسية كويتية درست علم النفس وحصلت على الدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي من القاهرة، وتدرس بجامعة الكويت الآن، بالإضافة إلى عملها في مستشفى الطب النفسي وإشرافها على بعض العيادات النفسية المتخصصة بالكويت، تقول د. نجمة الخرافي:

إن التخلص من هذه الجوانب أصبح مهمة الأسرة وأجهزة الإعلام. فلابد أن نشعر الأطفال بالانتصار وبانتهاء المرحلة الوحشية التي عاشتها الطفولة الكويتية سواء بالداخل أم بالخارج، لأن مجتمع الكويت ارتبط بالحدث. فالأهل في الخارج كانوا يرابطون أمام أجهزة الإعلام - من تليفزيون وإذاعة - ليستمعوا إلى الأهوال التي تحدث داخل الكويت، وبالتالي كان يرابط معهم أطفالهم ويعيشون المأساة، وبالداخل كانت الأسرة الكويتية تعاني من جسامة الأحداث، ومن انعكاسات هذه الأحداث على الطفولة البريئة.

الآن لابد من التخفيف من انعكاسات العنف الذي ارتبط به مجتمع الكويت في أثناء الغزو. إن الطفل كما يوجه يتحرك فعلينا بالتخفيف عن أطفالنا، وألا نفتعل أمامهم الأحداث، وجعل اللعبة متنفسا يعبر الطفل عن طريقه عن الغضب والغيظ اللذين بداخله، لأن ذلك سيولد بداخلهم ميولاً سلبية ورغبة دائمة في العنف والتدمير، وبعدها لا يمكن خلاصهم من العنف، فبلدنا عانى من الحرب والدمار، والآن نحتاج إلى إعادة البناء الاجتماعي والنفسي وخلاصنا من آثار الأزمة وهذا يقتضي توجيه الأطفال إلى الدرس والتحصيل، وإلى غرس الرياضة والهوايات المفيدة وإحياء الأمل فيمن فقد الأمل بالحياة الهادئة والاستقرار.

ماذا حدث؟

وتقول السيدة سبيكة غانم الجاسر عضو مجلس إدارة جمعية المعوقين عن عالم الطفولة وما حدث: إن الطفل بعد التجربة المريرة التي مر بها بلدنا يحتاج إلى توفير الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية وبالجهود الذاتية تمكنا من فتح العيادة النهارية لكي يتردد عليها كل من يرغب في عرض طفلة على الأطباء المختصين، أو الإخصائيين الاجتماعيين والنفسانيين. وتقول السيدة سبيكة:

إن هذه العيادة النهارية جزء من نشاط جمعية المعوقين، وهذه العيادة تقوم بإرشاد الأسر التي لديها حالات مسجلة في العيادة، وتقدم في بعض الحالات الإيواء الكامل لمن يحتاج إلى ذلك.

وتضيف قائلة: بين الجهات الحكومية وجمعيات النفع العام تنسيق كامل لمعالجة الأزمة والانعكاسات على الطفولة والمعوقين في الكويت.

العيادة النفسية

وتشير السيدة سبيكة إلى أن العيادة بصدد توسيع وفتح مراكز جديدة تضاف إلى ما هو قائم الآن لمعالجة الحالات المستعصية. وتقول: كان لدينا منذ عام 83 مركز للتعليم الخاص للأطفال، تسجل في هذا المركز الحالات التي يتعذر قبولها في مكان آخر، ولدينا فصول دراسية ذات مستويات ثلاثة حسب المستويات العقلية، ويتلقى المنتسب لهذا المركز التعليم الذاتي والتعليم الخاص والتدريب والتأهيل. ويتلقى أيضا الطفل في هذا المركز الخدمات الصحية والاجتماعية والنفسية والترفيهية.

جيل لن ينسى

وتضيف السيدة سبيكة قائلة: لقد عانينا الكثير في فترة الغزو، والآن نعاني أكثر لمحو آثار الغزو من عقول ونفسيات أطفالنا. إن الطفولة تعرضت لكثير من الدمار النفسي، وجيل كامل من أطفال الكويت لن ينسى ما حدث له.

وتضيف قائلة: نتيجة لازدياد الحالات المسجلة في الجمعية نعتزم إنشاء مركزين في محافظتي الجهراء والأحمدي لتوصيل الخدمات لأبناء هذه المناطق.

دلال العجمي

وعندما تشاهد الطفلة دلال باني العجمي، وهي تضحك وتحرك مقعدها بكل سهولة تفهم أن الحرب انتهت وأن مرحلة البناء قد بدأت، فدلال من اسمها تدرك أنها إحدى بدويات الكويت التي تعرضت للدمار النفسي من آلة الحرب، لكنها تخلصت بسرعة من مرحلة العجز النفسي والجسدي وبدأت رحلة سعيدة مع الكويت المحررة، حيث العناية الفائقة بها والتدريب المستمر على الهوايات المتحضرة وحيث تكاتف أهل الكويت لمحو المأساة من ذهن أطفال وزهور الكويت.

وطفولة الكويت لم تفقد الأمل في عروبتها، فهناك قلوب حانية تعاطفت معها ومع أزمتها.

فالإخصائي النفسي عدنان الأسدي لم يترك هذه الطفولة تعاني بمفردها من آثار الغزو بل جند نفسه لخدمتهم ولمحو آثار الدمار والعدوان. ويتحدث عدنان عن فترة الغزو فيقول: لقد كانت فترة عصيبة، لكن تغلبنا على آثارها بالصبر، ومازلنا نكافح نتائج ما حدث، والطريق ما زالت طويلة.

إن العمى هو الصفة المميزة للجنون!!
"الفيلسوف الألماني هيجل"

نعم إن الذي اتخذ قرار الغزو للكويت كان مصاباً بالعمى الذي أوصله إلى حافة الجنون فلم ير الصحراء الجرداء التي تحولت في خلال ربع قرن إلى واحة خضراء، ولم ير الشوارع الناعمة ولم ير العلم الذي انتشر في الكويت وحول أغلبية السكان إلى قراء دائمين للثقافة، وإلى متذوقين وناقلين لكل الحضارات.

إن قضية الجنون هذه التي وصفها هيجل حولت جوهر الحضارة في الكويت إلى عجز، ولذلك كان الجنون من نصيب الإنسان وحده وهو الذي يستطيع أن يحول الحضارة إلى دمار وأمراض، ويستطيع أن يحول الرماد والدمار إلى حضارة. وهكذا حول الغزو الكويت إلى رماد والآن تعيد الكويت الحضارة إليها.